منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٤

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٧١

مستحقاً للوم [للذم] أو المدح بما يستتبعانه (١) كسائر الصفات والأخلاق الذميمة أو الحسنة.

وبالجملة (٢) : ما دامت فيه صفة كامنة لا يستحق بها الا مدحاً أو لوماً [أو ذماً] وانما يستحق الجزاء بالمثوبة أو العقوبة مضافاً إلى أحدهما (٣) إذا صار بصدد الجري على طبقها والعمل على وفقها (٤) وجزم وعزم (٥) ، وذلك (٦) لعدم صحة مؤاخذته بمجرد سوء سريرته من

______________________________________________________

(١) الضمير راجع إلى «ما» الموصول المقصود به العزم على الموافقة أو المخالفة ، ومرجع ضمير الاثنين هو سوء السريرة أو حسنها والباء للسببية ، يعني : أن سبب اللوم والمدح ليس نفس هاتين الصفتين ، بل ما يترتب عليهما من العزم على المخالفة وتمرد المولى ، والعزم على الموافقة والانقياد للمولى.

(٢) هذا حاصل ما أفاده آنفاً من عدم ترتب المثوبة أو العقوبة على مجرد سوء السريرة أو حسنها.

(٣) أي : الذم والمدح. وقوله : «مضافاً» حال من الجزاء بالمثوبة أو العقوبة.

(٤) هذا الضمير وضمير «طبقها» راجعان إلى الصفة الكامنة.

(٥) هما من مقدمات الإرادة ، والجزم حكم القلب بأنه ينبغي صدور الفعل بدفع الموانع ، والعزم هو الميل السابق على الشوق المؤكد ، فالعزم مترتب على الجزم ، كما أن الجزم مترتب على التصديق بغاية الفعل ، والتصديق بالغاية مترتب على العلم بها ، وسيأتي مزيد توضيح لهذه الأمور إن شاء الله تعالى.

(٦) تعليل لعدم صحة المؤاخذة بمجرد سوء السريرة وصحتها مع العزم على المخالفة ، وحاصله : أن الوجدان الّذي هو الحاكم في باب الإطاعة والعصيان

٤١

دون ذلك (١) وحسنها [وحسنه] معه ، كما يشهد به (٢) مراجعة الوجدان الحاكم بالاستقلال في مثل باب الإطاعة والعصيان ، وما يستتبعان من (٣) استحقاق النيران أو الجنان ولكن ذلك (٤) مع بقاء الفعل المتجري به أو المنقاد به على ما هو عليه من الحسن أو القبح أو الوجوب [والوجوب]

______________________________________________________

وتوابعهما يشهد بصحة المؤاخذة على العزم على المخالفة ، وعدم صحتها على مجرد سوء السريرة.

(١) أي : من دون العزم ، وحسن المؤاخذة مع العزم ، وضميرا «مؤاخذته سريرته» راجعان إلى العبد.

(٢) أي : بعدم صحة المؤاخذة إلّا مع العزم.

(٣) بيان للموصول في «وما يستتبعان» فان استحقاق النيران والجنان مترتب على العصيان والإطاعة ، وهذه الأحكام كلها عقلية كما ثبت في محله.

(٤) يعني : ما ذكرنا من عدم صحة المؤاخذة إلّا مع العزم يكون مع بقاء الفعل المتجري به ... إلخ ، وهذا إشارة إلى الجهة الثانية في جهات البحث في التجري أعني الجهة الأصولية ، وهي أن القطع بوجوب فعل أو حرمته هل يوجب حدوث مصلحة أو مفسدة فيه تقتضي وجوبه أو حرمته شرعاً أم لا؟ وحاصل ما أفاده المصنف أن الفعل المتجري به باقٍ على ما كان عليه واقعاً من المحبوبية أو المبغوضية ، ولا يتغير عنه بسبب تعلق القطع به ، فلا يحدث فيه عنوان المحبوبية أو المبغوضية بتعلقه به ، وليس كالضرر والاضطرار من العناوين المغيرة للأحكام الأولية وعليه ، فلا يصير شرب الماء مبغوضاً للشارع بسبب تعلق قطع العبد بخمريته ، كما لا يصير قتل ولد المولى محبوباً له بسبب تعلق علم العبد بكونه عدواً للمولى وهكذا.

٤٢

أو الحرمة (١) واقعاً بلا حدوث (٢) تفاوت فيه بسبب تعلق القطع بغير ما هو عليه من الحكم (٣) والصفة (٤) ، ولا يغير (٥) حسنه أو قبحه بجهة أصلا ،

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى الجهة الفقهية التي هي ثالثة جهات البحث عن التجري ، وحاصل ما أفاده المصنف (قده) فيها : أن تعلق القطع بالمحبوبية أو المبغوضية لا يوجب اتصاف الفعل بالوجوب أو الحرمة ، فالقطع بهما لا يؤثر في صفة الفعل المتجري به واقعاً من الحسن أو القبح ، ولا في حكمه الشرعي من الوجوب أو الحرمة ، وكذا القطع بالحكم كوجوب شيء مثلا ، فانه لا يؤثر في حكمه الواقعي.

واعلم : أن المصنف استظهر من كلام شيخنا الأعظم في الرد على قبح التجري أن النزاع بحسبه في المسألة الفرعية ، قال في حاشية الرسائل : «ويمكن أن يكون ـ أي النزاع ـ بالنظر إلى أنه بهذا العنوان هل يحكم عليه بالوجوب والحرمة شرعاً ، فيكون مسألة فرعية كما جعله (قده) هكذا على ما هو صريح كلامه ـ أي الشيخ ـ : والحاصل : أن الكلام في كون هذا الفعل غير المنهي عنه واقعاً مبغوضاً للمولى من حيث تعلق اعتقاد المكلف بكونه مبغوضاً».

(٢) تفسير لقوله : «مع بقاء الفعل المتجري به ...» وقوله : «بسبب» متعلق بـ «حدوث» وضمائر «قبحه ، حسنه ، فيه» راجعة إلى الفعل المتجري به أو المنقاد به.

(٣) كما إذا قطع بحرمة شرب ماء الثلج مثلا مع كونه مباحاً واقعاً.

(٤) كالقطع بمحبوبية شيء مع عدم كونه كذلك واقعاً.

(٥) يعني : ولا يغير تعلق القطع بغير ما عليه الفعل المتجري به من الحكم والصفة حسن الفعل المتجري به أو قبحه أصلا.

٤٣

ضرورة (١) أن القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات التي بها يكون (٢) الحسن والقبح عقلا ، ولا ملاكاً (٣) للمحبوبية والمبغوضية شرعاً ، ضرورة (٤) عدم تغير الفعل عما هو عليه من المبغوضية والمحبوبية للمولى بسبب قطع العبد بكونه محبوباً أو مبغوضاً له ،

______________________________________________________

(١) هذا برهان لما ادعاه من عدم كون القطع مغيِّراً لحسن الفعل وقبحه ، ولا لحكمه من الوجوب أو الحرمة أو غيرهما ، وحاصل ما أفاده يرجع إلى وجهين :

أحدهما : حكم الوجدان بعدم تأثير القطع في الحسن أو القبح والوجوب أو الحرمة ، إذ ليس القطع من الوجوه والاعتبارات الموجبة للحسن أو القبح عقلا ، وعدم كونه ملاكاً للمحبوبية والمبغوضية شرعاً ليغير الحكم الواقعي بسبب تعلق القطع بخلافه. وأما حكم الوجدان بذلك فلما نجده من قبح قتل ابن المولى وان قطع العبد بكونه عدواً له ، وحسن قتل عدوه وان قطع العبد بأنه صديقه.

(٢) يعني : يثبت الحسن والقبح فـ «يكون» هنا تامة.

(٣) معطوف على محل قوله : «من الوجوه» يعني : أن القطع بالحسن أو القبح لا يكون ملاكاً للمحبوبية والمبغوضية شرعاً.

(٤) هذا برهان إنّي على عدم كون القطع بالحسن أو القبح من الوجوه والاعتبارات المحسنة والمقبحة عقلا وعدم كونه ملاكاً للمحبوبية والمبغوضية شرعاً. توضيحه : أن تغير الفعل المتجري به عما هو عليه واقعاً معلول لتعلق القطع به ، فعدم تغيره مع تعلق القطع به ـ كما هو المفروض ـ يكشف إنّاً عن عدم كون القطع من تلك الوجوه والاعتبارات ، وعن عدم ملاكيته للمحبوبية والمبغوضية.

٤٤

فقتل (١) ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضاً له ولو اعتقد العبد بأنه عدوه ، وكذا قتل عدوه مع القطع بأنه ابنه لا يخرج عن كونه محبوباً أبداً ، هذا. مع أن (٢) الفعل المتجري به أو المنقاد به بما هو

______________________________________________________

(١) هذا مزيد بيان لعدم كون القطع من العناوين المحسنة والمقبحة.

(٢) هذا ثاني الوجهين ، وحاصله : أنه لو سلمنا كون عنوان «مقطوع المبغوضية» من العناوين المغيرة للواقع وموجباً للقبح ، لكنه في خصوص المقام لا يصلح لتغيير الواقع ، وذلك لأن اتصاف فعل بالحسن أو القبح الفعليين منوط بالاختيار ـ وان لم يكن اتصافه بالحسن أو القبح الاقتضائيين منوطاً به ـ فان الحسن والقبح من الأحكام العقلية المترتبة على العناوين والأفعال الاختيارية ، وهذا الشرط ـ وهو الاختيار ـ مفقود هنا ، إذ العنوان الّذي يتوهم كونه مقبحاً هو القطع بالحكم كالحرمة أو الوجوب ، أو بالصفة كالقطع بخمرية مائع ، ومن المعلوم أن القاطع لا يقصد ارتكاب الفعل الا بعنوانه الواقعي ، لا بعنوان كونه مقطوعاً به ، فإذا قطع بخمرية مائع وشربه فقد قصد شرب الخمر ولم يقصد شرب مقطوع الخمرية ، ومع انتفاء هذا القصد الكاشف عن عدم الاختيار لا يتصف هذا الشرب بالقبح ، لانتفاء مناط القبح فيه وهو قصد شرب معلوم الخمرية. بل يمكن أن يقال : بانتفاء الالتفات إلى هذا العنوان الطارئ ـ أعني معلوم الخمرية ـ بعد وضوح كون القطع كالمرآة طريقاً محضاً إلى متعلقه ، ومع عدم الالتفات إلى هذا العنوان يستحيل القصد إليه ، ومع امتناعه لا يتصور القصد المقوم للاختيار.

وبالجملة : فلا يصلح عنوان «مقطوع المبغوضية» لأن يكون موجباً لقبح الفعل ، لكونه غير اختياري للفاعل المتجري على كل حال ، اما للغفلة عن عنوان المقطوعية ، واما لعدم تعلق غرض عقلائي بقصد عنوان المقطوعية.

٤٥

مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختيارياً ، فان (١) القاطع لا يقصده إلّا بما قطع أنه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي (٢) لا بعنوانه الطاري الآلي (٣) ، بل (٤) لا يكون غالباً بهذا العنوان مما يلتفت إليه ، فكيف يكون (٥) من جهات الحسن أو القبح عقلا ، ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعاً؟ ولا يكاد (٦) يكون صفة موجبة لذلك إلّا إذا كانت اختيارية (٧).

______________________________________________________

(١) تعليل لقوله : «لا يكون اختيارياً» وقد عرفت توضيحه.

(٢) كعنوان الخمرية ، وقوله : «من عنوانه» بيان للموصول في «بما قطع» وضمائر «عنوانه ، أنه ، لا يقصده» راجعة إلى الفعل المتجري به أو المنقاد به ، وضمير «عليه» راجع إلى الموصول في «بما قطع»

(٣) وهو كونه مقطوعاً به كشرب معلوم الخمرية ، والتعبير بالآلية لأجل أن العلم آلة للحاظ متعلقه وطريق إليه في قبال لحاظه مستقلا ، وضمير «بعنوانه» راجع إلى الفعل المتجري به أو المنقاد به.

(٤) يعني : بل لا يكون الفعل المتجري به أو المنقاد به بعنوانه الطارئ الآلي مما يلتفت إليه ، فلا يكون ارتكابه بهذا العنوان اختيارياً له ومراده (قده) بذلك : أن انتفاء الاختيار غالباً يستند إلى أمرين : أحدهما انتفاء القصد ، والآخر انتفاء الالتفات ، وقد يكون من وجه واحد وهو انتفاء القصد فقط.

(٥) يعني : فكيف يكون الفعل المتجري به أو المنقاد به بهذا العنوان الطارئ الآلي ـ مع كونه مغفولاً عنه ـ من جهات الحسن أو القبح؟

(٦) الواو للحال ، يعني : والحال أنه لا يكاد يكون صفة موجبة لذلك ـ أي للحسن والقبح أو الوجوب والحرمة ـ إلّا إذا كانت تلك الصفة اختيارية لا غير اختيارية كما في المقام.

(٧) وحيث كان عنوان «المقطوع به» مغفولا عنه فلا يترتب عليه حسن ولا

٤٦

ان قلت (١) : إذا لم يكن الفعل كذلك (٢) ، فلا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفة القطع ، وهل كان العقاب عليها (٣) الا عقاباً على ما ليس بالاختيار.

قلت (٤) : العقاب

______________________________________________________

قبح ، ولا وجوب ولا حرمة ، لعدم كونه اختيارياً.

(١) هذا الإشكال ناظر إلى قوله : «ولا يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلّا إذا كانت اختيارية» وحاصله : أن الالتزام بعدم كون الفعل المتجري به ـ بعنوان كونه معلوم الوجوب أو الحرمة ـ اختيارياً وبقائه على ما هو عليه واقعاً من الملاك ينافي ما اعترف به سابقاً من استحقاق العقوبة عليه ، إذ من لوازم عدم اختيارية عنوان معلوم الحرمة أو الوجوب عدم استحقاق العقوبة على الفعل المتجري به المتصف بهذا العنوان غير الاختياري ، والمفروض أيضا عدم كون الفعل بنفسه موجباً لاستحقاق العقوبة ، وعليه فلا بد من رفع اليد عما تقدم من استحقاق العقوبة على الفعل المتجري به ، أو الالتزام بصحة العقوبة على الأمر غير الاختياري.

(٢) أي : بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب اختيارياً.

(٣) أي : على مخالفة القطع.

(٤) هذا دفع الإشكال ، وحاصله : أن استحقاق العقاب ليس على نفس الفعل المتجري به حتى يورد عليه : بأن الفعل لا يكون اختيارياً لأجل الغفلة ، فكيف يوجب استحقاق العقوبة عليه؟ بل استحقاقها انما يكون على قصد المخالفة والطغيان والخروج عن رسوم العبودية ، فلا أساس لهذا الإشكال أصلا ، إذ لو كان الاستحقاق على نفس الفعل توجه إشكال المنافاة المتقدم بيانه. وأما إذا ترتب

٤٧

انما يكون على قصد العصيان (*)

______________________________________________________

الاستحقاق على مجرد القصد لم يلزم منافاة بين الاستحقاق وبين عدم اختيارية عنوان «معلوم الوجوب أو الحرمة» مثلا.

__________________

(*) بل استحقاق العقوبة انما يكون على عنوان الهتك المنطبق على الفعل المتجري به ، لا على مجرد سوء السريرة ، ولا على العزم على الطغيان ، ولا على كون الفعل معلوم الوجوب أو الحرمة ، ولا على كونه مقطوع الخمرية ، أو مقطوع المحبوبية أو المبغوضية ، فان شيئاً من هذه العناوين لا يوجب استحقاق العقاب ، بل الموجب له هو هتك حرمة المولى الّذي لا يصدق إلّا على الفعل الصادر من العبد بقصد التمرد والطغيان ، فلا يبقى مورد للإشكال على كون العقاب على قصد العصيان عقاباً على أمر غير اختياري.

والمناقشة في ذلك بأن الهتك أيضا خارج عن الاختيار ، فلا يحسن إناطة استحقاق العقوبة به ، حيث ان شرب الماء الّذي قطع بخمريته لم يقصد ، وما قصد وهو شرب الخمر لم يحصل ، فالهتك المقصود غير حاصل ، والحاصل وهو شرب الماء غير مقصود. وبالجملة : فالهتك كقصد العصيان غير اختياري لا يصح أن يكون مناطاً لاستحقاق العقاب.

مندفعة بالقطع بأن شرب معلوم الخمرية مع كونه ماء واقعاً ليس من الحركة القسرية ولا الطبعية ، بل من الحركة الإرادية والفعل الاختياري المتصف بالقبح عقلا ، لوضوح أنه يصدق على الفعل المتجري به كونه صادراً بالإرادة والاختيار ، ومجرد الخطاء في تطبيق الماء على الخمر لا يخرج هذا الشرب عن الأفعال الاختيارية الموجبة لحسن العقوبة عليها نظير ضرب زيد باعتقاد أنه عمرو ، فان الخطاء في التطبيق لا يخرج هذا الضرب عن كونه فعلا إرادياً وان لم يصدق عليه الفعل العمدي الموضوع في باب الجنايات لأحكام خاصة.

٤٨

والعزم (١) على الطغيان ، لا على الفعل الصادر بهذا العنوان (٢) بلا اختيار (٣).

ان قلت (٤) : ان القصد والعزم انما يكون من مبادئ الاختيار ، وهي ليست باختيارية وإلّا لتسلسل.

______________________________________________________

(١) المراد به إرادة الطغيان والمخالفة ، لا ما هو من مبادئ الإرادة ، كالعلم بالغاية والتصديق بها ، لكونه أجنبياً عن المقام.

(٢) أي : بعنوان معلوم الوجوب أو الحرمة.

(٣) متعلق بقوله : «الصادر» والمراد بعدم الاختيار هو عدم الالتفات والقصد معاً ، أو عدم القصد فقط كما تقدم.

(٤) حاصل هذا الإشكال : أنه لا بد أن يكون استحقاق العقوبة على نفس الفعل المتجري به لا على قصد العصيان كما قلتم ، لأنه عقاب على أمر غير اختياري ، حيث ان القصد من مبادئ الفعل الاختياري الّذي يتوقف على العزم والإرادة اللذين ان كانا اختياريين احتاجا إلى عزم وإرادة آخرين ، فان كانت الإرادة الثانية اضطرارية لزم أن تكون الإرادة الأولى أيضا اضطرارية ، لأنهما مثلان ، وحكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد فيكون العقاب بالاخرة على أمر غير اختياري.

__________________

فالنتيجة : أن تعنون الفعل المتجري به بعنوان هتك الحرمة صدر عن الاختيار بواسطة إحراز الحكم ولو كان مخالفاً للواقع ، وهذا الإحراز جهة تعليلية لصدور الفعل عن النّفس بإرادة واختيار ، وهتك الحرمة ظلم على المولى ، بخلاف قصد العصيان ، فانه قصد للظلم لا نفسه ، فلا يحسن إناطة استحقاق العقاب به.

والحاصل : أن النّفس بقيّوميتها وفاعليتها تختار الهتك ، فهو معلول للنفس ، لا للإرادة بمعنى الشوق المؤكد ، نعم قد ترجح النّفس بسببها الفعل على الترك.

٤٩

قلت (١): ـ مضافاً إلى أن الاختيار وان لم يكن بالاختيار ، إلّا أن

______________________________________________________

وان كانت اختيارية احتاجت إلى إرادة أخرى ، فان كانت هذه الإرادة هي الأولى لزم الدور ، وان كانت غيرها لزم التسلسل.

والحاصل : أنه لا يصح العقاب على القصد.

(١) دفع المصنف الإشكال المزبور بوجهين أحدهما حلي والآخر نقضي ، وقد أشار إلى الوجه الأول بقوله : «مضافاً» وحاصله : أن الاختيار وان لم يكن بجميع مباديه اختيارياً ، لاستلزامه الدور أو التسلسل كما تقدم ، إلّا أنه لما كان بعض مباديه اختيارياً صحت إناطة الثواب والعقاب به ، وتوضيحه : أن ما يرد على القلب قبل صدور الفعل في الخارج أمور :

الأول : حديث النّفس ، وهو خطور العمل كشرب الخمر ويسمى بالخاطر.

الثاني : خطور فائدته.

الثالث : التصديق بترتب تلك الفائدة عليه.

الرابع : هيجان الرغبة إلى ذلك الفعل وهو المسمى بالميل.

الخامس : الجزم وهو حكم القلب بأن هذا الفعل مما ينبغي صدوره بدفع موانع وجوده أو رفعها عنه.

السادس : القصد ، وقد يعبر عنه بالعزم وهو الميل أعني عقد القلب على إمضاء صدور الفعل كما تقدم.

السابع : أمر النّفس وتحريكها للعضلات ـ التي هي عوامل النّفس ـ نحو صدور الفعل.

والأربعة الأول ـ أعني حديث النّفس وتصور الفائدة والتصديق بترتبها والميل ـ ليست باختيارية. وأما الجزم والقصد فهما من حيث الاختيار والاضطرار مختلفان بحسب اختلاف حالات الإنسان في القدرة على الصرف والفسخ بسبب

٥٠

بعض مباديه (١) غالباً يكون وجوده بالاختيار ، للتمكن من عدمه بالتأمل فيما يترتب على ما عزم عليه (٢) من تبعة العقوبة واللوم والمذمة ـ يمكن أن يقال (٣):

______________________________________________________

التأمل فيما يترتب عليه من التبعات ، وفي عدم القدرة على الفسخ لشدة ميله إلى الفعل بحيث لا يلتفت إلى تبعاته ، أو لا يعتني بها ، والمؤاخذة تحسن على الاختياري منه دون الاضطراري.

وبالجملة : فالمتجري والمنقاد انما يعاقب ويثاب على بعض مقدمات الاختيار من الجزم والقصد ، لا على نفس العمل.

(١) أي : مبادئ الاختيار ، وضميرا «وجوده ، عدمه» راجعان إلى «بعض مباديه» المراد به الجزم والقصد.

(٢) هذا الضمير راجع إلى الموصول في قوله : «على ما عزم» و «من تبعة» بيان للموصول في قوله : «فيما يترتب».

(٣) هذا إشارة إلى الوجه الثاني وهو الجواب النقضي ، وحاصله يرجع إلى منع قبح استحقاق العقاب على ما لا يرجع إلى الاختيار ، وتوضيحه : أن استحقاق العقوبة من تبعات بُعد العبد عن مولاه ، وهذا البعد معلول للتجري كما في المعصية الحقيقية ، فان حسن المؤاخذة فيها معلول للبعد الناشئ عن العصيان الّذي لا يكون اختيارياً ، حيث انه عبارة عن المخالفة العمدية ـ كما ذكره في حاشيته على المقام ـ والعمد ليس باختياري ، بل الاختياري هو نفس المخالفة التي لا يترتب عليها استحقاق العقوبة.

وبالجملة : فالعقاب في كل من التجري والمعصية معلول للعبد المعلول لإرادة المخالفة والطغيان ، وهي تنشأ عن العزم المعلول للجزم الناشئ من

٥١

ان (١) حسن المؤاخذة والعقوبة انما يكون من تبعة بعده عن سيده بتجريه (٢) عليه كما كان من تبعته (٣) بالعصيان في صورة المصادفة ، فكما أنه يوجب البعد عنه كذلك (٤) لا غرو في أن يوجب حسن العقوبة ،

______________________________________________________

الميل إلى القبيح لمعلول للشقاوة وهي سوء السريرة المستند إلى ذاته ، ومن المعلوم أن الذاتيات ضرورية الثبوت للذات ، وبعد انتهاء الأمر إلى الذاتي ينقطع السؤال بِلمَ ، فلا يقال : «ان الكافر لم اختار الكفر ، ولم اختار العاصي المعصية» وكذا الإطاعة والإيمان ، فان كل ذلك لما كان منتهياً إلى الخصوصية الذاتيّة ، فلا مجال للسؤال عنه ، لأنه مساوق للسؤال عن «أن الإنسان لم صار ناطقاً والحمار لم صار ناهقاً» فكما لا مجال لمثل هذا السؤال ، فكذا لا مجال للسؤال عن اختيار الكفر والإيمان والإطاعة والعصيان.

(١) هذا تقريب الجواب ، وقد عرفت توضيحه.

(٢) الباء للسببية ، يعني : أن سبب بعد العبد عن سيده هو تجريه على سيده.

(٣) أي : كما كان حُسن العقوبة من تبعة بعده عن سيده بسبب العصيان.

(٤) يعني : فكما أن التجري يوجب البعد عن السيد ، فكذلك لا غرو في أن يكون التجري موجباً لحسن المؤاخذة ، هذا.

فالمتحصل من مجموع ما أفاده المصنف في المتن وحاشيته عليه هو دفع الإشكال بوجهين :

أحدهما : الحل ، ببيان : أن العقوبة والمثوبة من لوازم سوء السريرة وحسنها الراجعين إلى نقصان الذات وكمالها اللذين هما من الذاتيات التي لا تفارق الذوات ، وليسا بالجعل ، لعدم جعل تأليفي بين الشيء وذاتياته ، كما تقدم في أول مباحث القطع ، فليس العقاب على ارتكاب المعاصي للتشفي المستحيل في

٥٢

فانه (١) وان لم يكن باختياره (*) إلّا أنه بسوء (٢) سريرته وخبث باطنه بحسب نقصانه واقتضاء استعداده ذاتاً وإمكاناً (٣) [وإمكانه]

______________________________________________________

حقه تبارك وتعالى ، بل لما يقتضيه ذات العاصي ، وإذا انتهى الأمر إلى ذاتي الشيء ارتفع الإشكال وانقطع السؤال بأنه لم اختار العاصي المعصية ... إلى آخر ما تقدم بيانه.

ثانيهما : النقض بالمعصية الحقيقية كشرب الخمر ، حيث انه يصدر عن العاصي بإرادته التي ليست بجميع مباديها اختيارية ، فما يتخلص به عن إشكال استحقاق العقوبة على العصيان يتخلص به عن ذلك في التجري.

(١) أي : فان التجري وان لم يكن باختياره إلّا أنه ناش عن الشقاوة الذاتيّة.

(٢) الباء للسببية ، وضمير «أنه» راجع إلى التجري وضمائر «سريرته ، باطنه ، نقصانه ، استعداده» راجعة إلى العبد. وقوله (قده) : «بحسب» قيد لقوله : «خبث باطنه» يعني : أن تجري العبد انما هو بسبب سوء سريرته وخبث باطنه بسبب نقصانه الذاتي واقتضاء استعداده للتجري ذاتاً ، فالتجري ناش عن نقصان في ذات العبد وغير منفك عنه كسائر ذاتيات الأشياء. وبناء على ما في بعض النسخ من «إمكانه» بدل «إمكاناً» فهو عطف على «استعداده» والمعنى واضح.

(٣) أي : اعتباراً ، إذ الإمكان من الأمور الاعتبارية ، والمراد بالاستعداد الذاتي هو النقصان ماهية ، يعني : أن النقصان ماهوي واعتباري.

__________________

(*) كيف لا وكانت المعصية الموجبة لاستحقاق العقوبة غير اختيارية ، فانها هي المخالفة العمدية وهي لا تكون بالاختيار ، ضرورة أن العمد إليها ليس باختياري ، وانما تكون نفس المخالفة اختيارية ، وهي غير موجبة للاستحقاق ، وانما الموجبة له هي العمدية منها ، كما لا يخفى على أولى النهي.

٥٣

وإذا انتهى الأمر إليه (١) يرتفع الإشكال وينقطع السؤال بلِمَ ، فان الذاتيات ضروري (٢) الثبوت للذات ، وبذلك (٣) أيضا ينقطع السؤال عن أنه لم اختار الكافر والعاصي الكفر والعصيان والمطيع والمؤمن الإطاعة والإيمان؟ فانه يساوق السؤال عن أن الحمار لِمَ يكون ناهقاً والإنسان لِمَ يكون ناطقاً (*)؟

______________________________________________________

(١) أي : إلى الذاتي.

(٢) الصواب «ضرورية الثبوت».

(٣) يعني : وبانتهاء الأمر إلى النقصان الذاتي ينقطع السؤال أيضا بأن المؤمن والمطيع والعاصي والكافر لِمَ اختاروا الإيمان والإطاعة والكفر والعصيان ، لانتهاء الأمر في جميعها إلى الكمال والنقصان الذاتيين اللذين لا ينفكان عن الذات كناطقية الإنسان وناهقية الحمار ، هذا.

ولا يخفى أن هذا الكلام مناف لأصول مذهبنا ، إذ هو مساوق للجبر الّذي لا يقول به الإمامية ، وقد سمعتُ غير مرة من بعض أعاظم تلامذة الماتن : أن ما ذكره هنا وفي مبحث الطلب والإرادة كان جرياً على مذاق الفلاسفة ، وبعد أن طبعت الكفاية أظهر المصنف التأثر من طبع هذين الموضعين. وكيف كان فهو أجل من أن يكون معتقداً بما ذكره في المقامين ، ولتحقيق ما هو الموافق لأصول المذهب من عدم الجبر والتفويض وإثبات الأمر بين الأمرين مقام آخر. وقد ذكرنا شطراً من هذا الكلام في الجزء الأول في مبحث الطلب والإرادة ، فراجع.

__________________

(*) لا يخفى أن مرجع ما ذكره دعويان لا يمكن الالتزام بشيء منهما :

الأولى : أن الفعل الصادر تجرياً ليس بعنوان كونه مقطوع الحرمة اختيارياً لأنه بهذا العنوان مغفول عنه.

٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الثانية : أن مناط استحقاق العقوبة ـ وهو العزم على التمرد والطغيان ـ غير اختياري ، لانتهائه إلى الشقاوة الذاتيّة التي لا تعلل.

وفي كلتا الدعويين ما لا يخفى ، إذ في الأولى : أن الملتفت إليه أولا وبالذات هو نفس القطع ، والالتفات إلى المقطوع به انما يكون بواسطته ، فالقطع كالنور في كونه هو المرئي أولا وبالذات وأن الأشياء ترى بسببه ، ومع أصالته في إضاءة الأجسام كيف يغفل عنه؟ نعم لا بأس بإنكار الالتفات التفصيليّ غالباً ، لكنه ليس إنكاراً لأصل الالتفات ولو إجمالاً ، بل الالتفات التفصيليّ في بعض الموارد كالاحكام الشرعية مما لا يقبل الإنكار.

وبالجملة : فالفعل المتجري به من جهة مصداقيته لهتك حرمة المولى قبيح عقلا ، ومنع قبحه لعدم كونه بعنوان مقطوع الحرمة اختيارياً حيث انه بهذا العنوان مغفول عنه غير سديد ، لما مر آنفاً.

وفي الثانية : أن مناط استحقاق العقوبة هو نفس الفعل المتجري به الّذي هو فعل صادر بإرادة الفاعل واختياره ، لما في نفسه من القيومية والقدرة على الفعل والترك ، فهذه الإرادة من أفعال النّفس ، وقائمة بها نحو قيام صدوري ، فان الله تعالى شأنه خلقها مختارة فيما تشاء من فعل شيء أو تركه ، وليس المراد بالإرادة هنا هو الشوق المؤكد التي هي صفة نفسانية قائمة بها قياماً حلولياً وخارجة عن الاختيار ومنتهية إلى الشقاوة الذاتيّة.

والحاصل : أن مناط اختيارية الفعل هو صدوره عن إرادة ناشئة من قيومية النّفس التي هي بحسب خلقتها قادرة على الفعل والترك ، ومتعلق التكاليف هو الفعل الصادر عن هذه الإرادة ، لا الإرادة المنتهية إلى الشقاوة الذاتيّة كما

٥٥

وبالجملة : تفاوت أفراد الإنسان في القرب منه جل شأنه وعظمت كبرياؤه ، والبعد عنه سبب لاختلافها في استحقاق الجنة ودرجاته والنار ودركاتها ، وموجب لتفاوتها في نيل الشفاعة وعدمها [وعدمه] وتفاوتها في ذلك بالاخرة يكون ذاتياً ، والذاتي لا يعلل.

ان قلت : على هذا (١) فلا فائدة في بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ والإنذار.

قلت : ذلك (٢) لينتفع به من حسنت سريرته وطابت طينته لتكمل

______________________________________________________

(١) أي : على تقدير كون النقصان ذاتياً يكون بعث الرسل وإنزال الكتب لغواً ، إذ المفروض ذاتية الخبث والشقاوة ، والذاتي لا يزول ولا ينفك عن الذات ، فلا يؤثر إرسال الرسل في ارتفاع النقصان الذاتي.

(٢) أي : ما ذكر من بعث الرسل وإنزال الكتب لا يكون لغواً ، بل تترتب عليه فائدتان :

إحداهما : انتفاع من حسنت سريرته به ، لتكمل به نفسه.

__________________

ذكره المصنف (قده) وأوقع نفسه الشريفة في حيص وبيص ، هذا.

مضافاً إلى : أن الإرادة المتوقفة على مباديها لا توجب خروج النّفس عن قدرتها على كل من الفعل والترك بحيث يصدر الفعل قهراً كصدور الإحراق من النار ، بل قيومية النّفس باقية أيضا ، غايته أن هذه الإرادة قد تكون مرجحة للفعل على الترك فتختاره النّفس لأجلها على الترك ، وقد لا تكون مرجحة له فلا تختاره فهذه الإرادة ـ بعد تسليم كونها مرادة هنا ـ لا تسلب قدرة النّفس وفاعليتها كما هو ظاهر.

٥٦

به (١) نفسه ، ويخلص مع ربه أنسه (٢) ، ما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله ، قال الله تبارك وتعالى : «فذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين» وليكون (٣) حجة على من ساءت سريرته وخبثت طينته ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة كيلا يكون للناس على الله حجة ، بل كان له حجة بالغة.

______________________________________________________

ثانيتهما : إتمام الحجة على من ساءت سريرته وخبثت طينته لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، بل كان له الحجة البالغة (*).

(١) هذا الضمير وضمير «به» المتقدم راجعان إلى بعث الرسل وإنزال الكتب.

(٢) هذا الضمير وضمائر «طينته ، نفسه ، سريرته» راجعة إلى «من» الموصول المراد به القاطع وهو العبد.

(٣) معطوف على قوله : «لينتفع به» وهذا إشارة إلى الفائدة الثانية المتقدمة

__________________

(*) لا يخفى أن الفائدة الثانية لا تترتب على بعث الرسل ، إذ المفروض كون الشقاوة ذاتية ، والذاتيات ضرورية الثبوت للذات ، فيمتنع زوال الخبث الذاتي بإرسال الرسل ، فتنحصر فائدة البعث في انتفاع المؤمن وتلغو بالنسبة إلى الكافر والعاصي ، وهذا مما لا يمكن التفوه به فضلا عن الاعتقاد به ، للمفاسد الكثيرة المترتبة على ذلك عصمنا الله تعالى عن الزلات.

إلّا أن يقال : ان المراد بالذاتي هو المقتضي لا العلة التامة ، ومن المعلوم إناطة ترتب الأثر على المقتضي بعدم المانع ، ومع القدرة على إيجاد المانع ينتفع الكافر والفاسق أيضا ببعث الرسل فلا تلزم لغوية الفائدة الثانية هذا.

لكنك خبير بأن تنظير المقام بناطقية الإنسان وناهقية الحمار يأبى عن إرادة المقتضي من الذاتي ، فتدبر.

٥٧

ولا يخفى أن في الآيات (١) والروايات (٢) شهادة على صحة ما حكم

______________________________________________________

المترتبة على بعث الرسل.

(١) كقوله تعالى : «ان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء» (١) وقوله عزوجل : «ولا تقف ما ليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا» (٢) وقوله جل وعلا : «لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم» (٣) وقوله تبارك وتعالى : «وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم» (٤) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على المؤاخذة على الخطرات القلبية العمدية ، فتكون دليلا على استحقاق المتجري للعقاب.

(٢) كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نية الكافر شر من عمله» (٥) والتعليل الوارد في خلود أهل النار من عزمهم على البقاء على الكفر لو خلدوا في الدنيا (٦) وما رواه في الفقيه وغيره : «القضاة أربعة ثلاثة في النار وواحد إلى الجنة ، رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بحق [بالحق خ] وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة» (٧) فان القسم الثالث بل القسم الثاني

__________________

(١) البقرة : ٢٨٤.

(٢) الإسراء : ٣٦.

(٣) البقرة : ٢٢٥.

(٤) الأحزاب : ٥.

(٥) الوسائل ج ١ ص ٣٥ الحديث ٣.

(٦) الوسائل ج ١ ص ٣٦ الحديث ٤.

(٧) الوسائل ج ١٨ ص ١١ الحديث ٦.

٥٨

به الوجدان (١) الحاكم على الإطلاق في باب الاستحقاق للعقوبة والمثوبة ، ومعه (٢) لا حاجة إلى ما استدل على استحقاق المتجري للعقاب بما حاصله «أنه لولاه مع استحقاق العاصي له (٣) يلزم إناطة استحقاق

______________________________________________________

أيضا متجرّ ، وغير ذلك من الروايات الدالة على المؤاخذة على نية السوء (١). لكن بإزائها روايات تدل على عدم المؤاخذة على نية السوء (٢) ، وقد جمع بينهما بوجوه مذكورة في محلها من أراد الوقوف عليها فليرجع إليها.

(١) من استحقاق المتجري للعقاب كاستحقاق العاصي له ، لوحدة المناط فيهما.

(٢) أي : ومع الوجدان الّذي يشهد بصحته الآيات والروايات.

(٣) أي : للعقاب ، وضمير «لولاه» راجع إلى استحقاق المتجري للعقاب ، وهذا إشارة إلى برهان المحقق السبزواري ، وقد نقله الشيخ الأعظم عنه بقوله : «وقد يقرر دلالة العقل على ذلك بأنا إذا فرضنا ... إلخ» ولما كان تقرير كل من المصنف والشيخ مغايراً لما ظفرنا عليه في الذخيرة ، كان الأحسن حكاية عين كلامه ، ثم توضيح المتن ، فنقول : قد ذكر هذا الدليل في صور مسألة الصلاة جاهلا بالوقت بما لفظه : «وأما الجاهل ، والمراد به الجاهل بالوقت أو بوجوب المراعاة ، والمشهور بطلان صلاته ... إلى أن قال : وان قصدنا به الجاهل بوجوب رعاية الوقت ، ففيه إشكال ، ورجح بعض أفاضل المتأخرين (قده) الصحة ، لصدق الامتثال ، وقال أيضا : كل من فعل ما هو في نفس الأمر وان لم يعرف كونه كذلك ما لم يكن عالماً بنهيه وقت الفعل حتى لو أخذ المسائل من أحد

__________________

(١) الوسائل ج ١ ص ٤١ الحديث ٢ و ٣ و ٤.

(٢) الوسائل ج ١ ص ٣٦ الحديث ٦ و ٧ ، وص ٣٧ الحديث ٨ و ١٠ وغيرهما.

٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وظنها كذلك فانه يصح ما فعله وكذا في الاعتقادات ... إلى أن قال : وعندي أن ما ذكره منظور فيه مخالف للقواعد المقررة العدلية ، وليس المقام محل تفصيله.

لكن أقول إجمالا : ان أحد الجاهلين ان صلى في الوقت والآخر في غير الوقت ، فلا يخلو اما أن يستحقا العقاب أو لم يستحقا أصلا أو يستحق أحدهما دون الآخر.

وعلى الأول يثبت المطلوب ، لأن استحقاق العقاب انما يكون لعدم الإتيان بالمأمور به على وجهه (*).

__________________

(*) الظاهر اندراج مفروض كلام الذخيرة بكلا شقيه في المعصية الحقيقية وأجنبيته عن موضوع التجري ، وكون استحقاق العقاب حينئذ بديهياً ومسلماً عند الكل حتى من ينكر استحقاقه على التجري ، توضيحه : أنه ـ بناء على اعتبار دخل العلم بدخول الوقت شرعاً في الصلاة كما هو ظاهر كلام الذخيرة وبعض النصوص (١) لا عقلا ، لقاعدة الاشتغال القاضية بلزوم تحصيل العلم بدخول الوقت مقدمة للعلم بوقوع الصلاة المنوط به إحراز الامتثال ـ يكون الإتيان بالصلاة مع الجهل بدخول الوقت أو باعتباره مع احتمال دخله في الصلاة إخلالا عمدياً بقيدها الشرعي من غير فرق في ذلك بين صورتي وقوع الصلاة في الوقت وخارجه ، لعدم الإتيان بالمأمور به فيهما على وجهه كما هو صريح كلامه (قده) في تعليله لاستحقاق كليهما للعقاب بذلك ، بداهة صدق هذه العلة على كلتيهما ، غاية الأمر أن الصلاة في إحداهما فاقدة لشرطين : أحدهما عدم

__________________

(١) الوسائل ج ٣ الباب ٥٨ من أبواب المواقيت ، روايات عبد الله بن عجلان وعلي بن مهزيار وعلي بن جعفر عليه‌السلام ، ١ و ٣ و ٤.

٦٠