منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٤

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٧١

الّذي صار مؤدى لها هو (١) دليل الحجية بدلالة الاقتضاء (**) لكنه (٢)

______________________________________________________

عن اللغوية يقتضي اتصاف الحكم الإنشائي بوصف كونه مؤدى الأمارة (*).

(١) خبر قوله : «ان الدليل» وضمير «لها» راجع إلى الأمارة.

(٢) يعني : لكن ما ذكرناه من إثبات فعلية الحكم بدلالة الاقتضاء ، وغرضه المناقشة في ما أفاده من وجه التصحيح ، توضيحه : أن دلالة الاقتضاء انما تثبت الفعلية إذا لم يكن للأحكام الإنشائية أثر أصلا. وأما إذا كان لها أثر ـ ولو بملاحظة العنوان الثانوي كالنذر ونحوه ـ فلا يبقى مجال لدلالة الاقتضاء ، لعدم لزوم اللغوية حينئذ ، لكفاية مثل هذا الأثر في الحجية.

__________________

(*) أقول : ليس المقصود دعوى دلالة الاقتضاء على ارتفاع محذور الاستحالة ـ وهو تقدم الشيء على نفسه ـ كما عرفت الإشارة إليه ، بل المقصود أن دلالة الاقتضاء توجب تعدد الدال والمدلول ، فلدليل الحجية دلالتان : إحداهما كون المؤدى هو الواقع ، والأخرى فعلية هذا الواقع الّذي قام عليه الأمارة.

(**) الحق أن يقال : ان نفس دليل حجية الأمارة ـ بعد وضوح انسداد باب العلم بالاحكام مع تنجزها على المكلف بالعلم الإجمالي ولزوم امتثالها وعدم جواز إهمالها وفرض عدم العلم التفصيليّ بها ، وعدم إمكان الاحتياط أو عدم لزومه ـ يقتضي فعلية مؤديات الأمارات وتنجزها ، وعليه فلا حاجة إلى التشبث بدلالة الاقتضاء لإثبات فعليتها حتى يستشكل عليها بما في المتن من ترتيب الأثر على إنشائية مؤديات الأمارات قبل بلوغها مرتبة الفعلية أيضا ، فلا يلزم اللغوية في إنشائها حتى يتمسك بدلالة الاقتضاء في دفعها ، فان تنزيل دليل الحجية على مثل النذر من الآثار النادرة من قبيل حمل المطلق على الفرد النادر.

فالنتيجة : كفاية نفس دليل حجية الأمارات في إثبات فعلية مؤدياتها.

٢٤١

لا يكاد يتم إلّا إذا لم يكن للأحكام بمرتبتها الإنشائية أثر أصلا ، وإلّا (١) لم يكن لتلك الدلالة مجال ، كما لا يخفى.

وأخرى (٢)

______________________________________________________

(١) أي : وان كان للأحكام بمرتبتها الإنشائية أثر كالنذر ونحوه ، بأن يقول : «ان قامت الأمارة على إنشائية حكم ، فلله على أن أتصدق بدرهم» فلا يبقى مجال لدلالة الاقتضاء أصلا.

(٢) معطوف على قوله : «تارة بعدم لزوم الإتيان حينئذ» وهو إشارة إلى ثاني الإشكالين الواردين على جعل الأحكام الواقعية إنشائية كما تقدم في كلام الشيخ ، وحاصل الإشكال : احتمال اجتماع المتنافيين ، حيث ان المحتمل فعلية الحكم الواقعي الّذي يكون في مورد الأصل أو الأمارة ، والمفروض فعلية الحكم الظاهري أيضا ، فيلزم اجتماع الحكمين الفعليين المتنافيين ، واحتمال المتنافيين كالقطع بثبوتهما محال. ولازم هذا الإشكال عدم جواز الرجوع إلى الأمارات والأصول الا مع القطع بعدم فعلية الحكم الثابت في موردهما ، ودعوى هذا القطع مما لا وجه لها ، لاحتمال تمامية مقتضى الحكم وعدم مانع له ، إذ لا إحاطة لنا بمقتضيات الأحكام وموانعها ، فاحتمال وجود المقتضي وعدم المانع بالنسبة إلى الحكم الواقعي المساوق لفعليته لا دافع له ، ومعه لا يمكن الرجوع إلى الأمارات والأصول (*).

__________________

(*) أقول : هذا الإشكال بعينه وارد على المصنف أيضا ، لاحتمال وجود مقتضى البعث والزجر وعدم مانع منه ، والفعلية بمعنى البعث والزجر الكاشفين عن الإرادة والكراهة لا تجتمع مع فعلية مؤديات الأمارات والأصول ، لتنافي الحكمين الفعليين وان جعل المصنف انقداح الإرادة والكراهة منوطاً بعدم الاذن والترخيص ، فالفعلية المعلقة على عدم الاذن تساوق الإنشائية التي تستفاد من

٢٤٢

بأنه كيف يكون التوفيق (١) بذلك (٢) مع احتمال أحكام فعلية بعثية أو زجرية في موارد الطرق والأصول العملية المتكفلة لأحكام فعلية (٣) ، ضرورة (٤) أنه كما لا يمكن القطع بثبوت المتنافيين كذلك لا يمكن احتماله ،

______________________________________________________

(١) أي : الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

(٢) أي : بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الأمارات والأصول فعلياً.

(٣) يعني : فيلزم حينئذ ـ ولو احتمالا ـ اجتماع حكمين فعليين متنافيين ، واحتمال اجتماع المتنافيين محال كالقطع به.

(٤) تعليل للإنكار المستفاد من قوله : «كيف يكون» وضمير «احتماله» راجع إلى ثبوت المتنافيين.

__________________

كلام الشيخ (قده) وإلّا فيكون من الحكم الشأني وهو الاقتضائي باصطلاح المصنف ، إذ الفعلية اما بمعنى البعث والزجر ، واما بمعنى التنجز ، وفقدانها بالمعنى الثاني مع الجهل وعدم قيام الحجة عليه واضح ، وفقدانها بالمعنى الأول ليس إلّا الإنشاء.

وبالجملة : فلم يظهر فرق بين الفعلية التي ادعاها المصنف هنا وهي توقف انقداح الإرادة والكراهة على عدم الاذن في الارتكاب وبين الإنشائية المستفادة من كلام الشيخ حتى يرد الإشكال المزبور عليه ولا يرد على المصنف قدس‌سرهما هذا.

ثم انه لا سبيل إلى الالتزام بهذا الجمع ـ أعني حمل الحكم الواقعي على الإنشائي ـ من جهة أخرى وهي عدم كون الإنشائي حكماً حقيقة ، إذ الحكم الحقيقي هو الحاكي عن الإرادة والكراهة ، وبدونهما لا حكم حقيقة ، كما لا يخفى.

٢٤٣

فلا يصح (١) التوفيق بين الحكمين بالتزام كون الحكم الواقعي الّذي يكون في مورد الطرق والأصول العملية إنشائياً غير (٢) فعلي.

كما لا يصح التوفيق بأن الحكمين ليسا في مرتبة واحدة (٣)

______________________________________________________

(١) هذه نتيجة ما ذكره من عدم لزوم الالتزام بما أفاده الشيخ (قده) في إمكان التعبد بالأمارات غير العلمية ، لورود الإشكالين السابقين عليه ، يعني : فبعد توجه هذين الإشكالين عليه لا يصح ما ذكره (قده) في الجمع بين الحكمين الواقعي والظاهري بالتزام كون الحكم الواقعي ... إلخ.

(٢) خبر «كون» و «إنشائياً» خبر «يكون» و «بالتزام» متعلق بـ «التوفيق».

(٣) هذا جمع آخر بين الحكم الواقعي والظاهري قد ينسب إلى السيد المحقق المسدد السيد محمد الأصفهاني (قده) ويظهر أيضا من كلمات الشيخ (قده) في أول مبحث البراءة وأول مبحث التعادل والترجيح ، فراجع.

وهذا الجمع في قبال الجمعين المزبورين ، وحاصله : أن محذور اجتماع المتنافيين مختص بما إذا كانا في رتبة واحدة دون ما إذا كانا في رتبتين كالمقام. توضيحه : أن موضوع الحكم الواقعي هو نفس الذات مع الغض عن تعلق العلم أو الجهل به ، وموضوع الحكم الظاهري هو الشيء بوصف أنه مشكوك في حكمه الواقعي ، وحينئذ فالحكم الظاهري متأخر عن الشك في الحكم الواقعي تأخر الحكم عن الموضوع والشك في الحكم الواقعي متأخر أيضا عن نفس الحكم الواقعي تأخر العارض عن المعروض والوصف عن الموصوف ، فيكون الحكم الظاهري متأخراً عن الحكم الواقعي بمرتبتين : إحداهما تأخره عن موضوعه ، وثانيتهما تأخر موضوعه ـ وهو الشك ـ عن الحكم الواقعي الّذي هو متعلق الشك ، ولا محذور في اجتماع حكمين فعليين مع تعدد رتبتهما.

وبالجملة : فمناط هذا الجمع هو تعدد الرتبة مع فعليتهما معاً ، لا حمل

٢٤٤

بل في مرتبتين ، ضرورة (١) تأخر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين ، وذلك (٢) لا يكاد يجدي ، فان الحكم الظاهري وان لم يكن في تمام مراتب الواقعي ، إلّا أنه يكون في مرتبته (٣) أيضا ، وعلى تقدير المنافاة لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة (٤) (*) فتأمل فيما ذكرنا من التحقيق في التوفيق ، فانه دقيق وبالتأمل حقيق.

______________________________________________________

الحكم الواقعي على الإنشائي كما هو مناط الجمع السابق ، هذا.

(١) هذا بيان لإثبات تعدد رتبة الحكمين ، وقد عرفت توضيحه.

(٢) أي : والجمع المزبور باختلاف الرتبة لا يكاد يجدي ، وحاصل ما أفاده في رده : أن الحكم الظاهري ـ لمكان تأخر موضوعه عن الحكم الواقعي ـ وان لم يكن مع الواقعي في جميع المراتب ، لكن الواقعي يكون معه في رتبة الشك ، إذ المفروض إطلاق الحكم الواقعي ووجوده في كلتا صورتي العلم والجهل به ، وإلّا لزم التصويب لو اختص الواقعي بالعالم به ، ففي هذه المرتبة يجتمع الحكمان المتنافيان ، فهذا الجمع لا يرفع محذور اجتماع الحكمين المتنافيين.

(٣) أي : أن الحكم الواقعي يكون في مرتبة الحكم الظاهري ، كما أنه موجود قبل رتبة الحكم الظاهري.

(٤) أي : مرتبة الحكم الظاهري.

__________________

(*) وفي حاشية المحقق القوچاني تلميذ المصنف (قدهما) تقريب الجمع المزبور بنحو لا يرد عليه إشكال المتن ، قال : «لأن موضوع الحكم الظاهري الشيء بما هو مشكوك الحكم ، ولا ريب أن الشك في الحكم كالعلم به متأخر عن نفس الحكم المتأخر عن موضوعه ، فكيف يكون مجتمعاً معه ، مع وضوح

٢٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أنه لا يكاد يكون كذلك الا مع فرض كون الشيء الواحد موضوعاً لحكمين.

وبالجملة : فالحكم الواقعي ثابت للشيء بعنوانه الواقعي ، وهو ليس متعلقاً للحكم الظاهري ، ضرورة أنه ثابت له عند فرض كونه مشكوك الحكم ، والحكم الظاهري ثابت له بما هو مشكوك الحكم ، وهو ليس مورداً للحكم الواقعي ، بداهة أن الحكم الواقعي ، لم يثبت للشيء إلّا بما له من العنوان ، وليس بمطلق بالنسبة إلى حالتي العلم بحكمه وعدمه ، لوضوح أن الإطلاق انما يتأتى مع فرض صحة التقييد ، ولا شك في امتناع الحكم على الشيء بقيد كونه مشكوك الحكم بنفس هذا الحكم ، لاستلزامه الخلف احتمالا كاستلزام أخذ القطع به في موضوعه ذلك قطعاً واقعاً أو اعتقاداً ، فاذن لا اجتماع بين الحكمين ، لتغاير موضوعهما».

لكن فيه : أن المراد بالإطلاق ليس هو الدليلي اللحاظي الإثباتي ، بل الإطلاق النتيجي الثبوتي الناشئ عن امتناع الإهمال الثبوتي ، بمعنى استلزام عدم لحاظ شيء مع الذات المأخوذة موضوعاً للحكم الشرعي لإطلاق الحكم لجميع الحالات الطارئة على الموضوع من العلم بموضوعيته للحكم الفلاني والشك فيها ، فموضوعية الذات للحكم الواقعي محفوظة في جميع تلك الحالات التي لا دخل لها في موضوعية الذات له وان كانت دخيلة في موضوع الحكم الظاهري ، فكل حكم ثبت للذات مقيدة بالشك في حكمها الواقعي يستلزم اجتماع الحكمين : أحدهما الواقعي الثابت لنفس الذات ، والآخر الظاهري الثابت للذات بقيد الشك في حكمها الأولى. ويكفي في إثبات هذا الإطلاق الثبوتي مضافاً إلى إطلاق أدلة تشريع الأحكام ـ الاخبار المدعى تواترها الدالة بإطلاقها على اشتراك الأحكام بين العالمين والجاهلين.

٢٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والحاصل : أن موضوعية نفس الذات توجب اجتماع الحكمين حال الشك وان لم يجتمعا في رتبة الذات ، لتأخر موضوع الحكم الظاهري عن تلك الرتبة ، هذا.

مضافاً إلى : أن إنكار الحكم الواقعي حال الشك مساوق للتصويب ، وهو خلاف الفرض.

وبالجملة : فإشكال المصنف وارد على هذا الجمع ، كوروده على الجمعين السابقين.

وهناك وجوه أخرى للجمع بين الحكم الواقعي والظاهري :

منها : ما عن الشيخ الأعظم (قده) فانه ـ بعد الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري باختلاف الرتبة في الأصول العملية ـ قد جمع بينهما في الأمارات بوجه آخر ، وهو : أن المجعول في الأمارات هي الهوهوية بين المؤدى والواقع ، ففي صورة إصابة الأمارة يكون مؤداها هو الواقع حقيقة ، وفي صورة الخطاء لا حكم للأمارة أصلا ، فلا يلزم اجتماع الضدين ولا المثلين.

وفيه : أن ذلك متجه بناء على حجية الأمارات غير العلمية ببناء العقلاء الذين لا يعملون بغير العلم العادي من الظن والشك ، فحينئذ تكون الأمارة مع الإصابة منجزة للواقع ومع الخطاء معذرة. وأما بناء على التعبد في حجية الأمارات كما هو صريح كلامه (قده) في دليل الانسداد «أو ما حكم حكماً جعلياً بأنه نفس المراد» فلا بد من ترتيب الأثر الشرعي على حجية الأمارات ، لأنه كسائر التنزيلات الشرعية كتنزيل الطواف منزلة الصلاة ، فحجية الأمارة شرعاً عبارة عن ترتيب الأثر الشرعي عليها ، وهذا مستلزم لاجتماع الحكمين الواقعي

٢٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والظاهري الّذي هو مقتضى حجية الأمارة.

ومنها : ما في تقرير بحث شيخ مشايخنا المحقق النائيني (قده) وحاصله : «أن الموارد التي توهم وقوع التضاد فيها بين الأحكام الواقعية والظاهرية على أنحاء ثلاثة : أحدها : موارد الطرق والأمارات. ثانيها : موارد الأصول المحرزة. ثالثها : موارد الأصول غير المحرزة.

أما الطرق فالمجعول فيها هو الحجية والوسطية في الإثبات من دون أن تكون منتزعة عن حكم تكليفي حتى يقع إشكال التضاد بينه وبين الحكم الواقعي ، فحال الأمارة المخالفة للواقع حكم القطع المخالف له في التنجيز والتعذير في صورتي الإصابة والخطاء.

وبالجملة : ففي موارد الطرق والأمارات ليس حكم تكليفي حتى يشكل الجمع بينه وبين الحكم الواقعي.

وأما الأصول المحرزة المعبر عنها بالتنزيلية أيضا فالمجعول فيها ليس مغايراً للواقع ، بل هو وجوب الجري العملي على المؤدى على أنه هو الواقع كما يرشد إليه قوله عليه‌السلام في بعض أخبار قاعدة التجاوز : «بلى قد ركع» وحينئذ فان كان المؤدى هو الواقع فهو ، وإلّا كان الجري واقعاً في غير محله من دون أن يتعلق بالمؤدى حكم على خلاف الواقع.

وأما الأصول غير المحرزة كأصالتي الاحتياط والبراءة فالمجعول فيها يكون في طول الواقع ، بمعنى أنه اما متمم لقصور محركيته وموجب لمنجزيته ان كانت مصلحة الواقع مهمة جداً بحيث لا يرضى الشارع بفوتها حتى في ظرف الجهل كما في إيجاب الاحتياط فانه في صورة المصادفة عين الحكم الواقعي ،

٢٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وفي صورة عدمها ليس له جعل أصلا.

واما مؤمن من تبعة التكليف الواقعي على فرض وجوده ان لم تكن مصلحته بتلك المثابة من الأهمية كما في أصالتي الحل والبراءة ، فانهما ترفعان تنجز التكليف في ظرف الشك فيه.

وبالجملة : فليس في الأصول مطلقاً حكم حتى يضاد الحكم الواقعي ويشكل الجمع بينهما». هذا ملخص ما في تقرير بحث المحقق النائيني (قده) في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

أقول : ان أريد بالحجية المجعولة في الأمارات ما يحتج به المولى على العبد وبالعكس فهو متين ، لأنها حينئذ حكم وضعي متأصل غير ناش عن حكم تكليفي ولا مستتبع له. وان أريد بها تتميم ما للأمارات من الكشف الناقص وجعلها وسطاً لإثبات متعلقاتها ـ كما هو ظاهر عبارة التقرير بل صريحها ـ ففيه : أن تتميم الكشف تكويناً بالتشريع غير معقول ، فلا بد أن يراد به تنزيل غير العلم منزلة العلم في الآثار الشرعية ، ومرجعه إلى ترتيب الأثر الشرعي على الأمارة كترتيب آثار المتيقن على المشكوك فيه في الاستصحاب.

وعليه فإذا أخبر العادل بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلا فمعنى تتميم كشفه وجوب العمل به ، فلو كان الدعاء عند رؤية الهلال واجباً واقعاً لزم اجتماع الحكمين المثلين الواقعي والظاهري ، ولو كان مستحباً لزم اجتماع الضدين ، ولزم أيضا بطلان حكومة الأمارات على الاستصحاب ، لاتحاد مفادهما وهو لزوم ترتيب الأثر كما عرفت في التعليقة المتقدمة.

فالحق أن يقال : ان الأمارات حجة ببناء العقلاء لا بالتعبد ، ومن المعلوم

٢٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أن بناءهم ليس على العمل بالشك أو الظن بل على الاطمئنان المسمى بالعلم العادي الّذي يدور عليه رحى نظامهم ، والشارع لم يردع عن هذا البناء.

وعليه فلا حكم في الأمارات بل هي منجزة للحكم الواقعي مع الإصابة وموجبة للعذر مع الخطاء ، هذا في الأمارات.

وأما الأصول مطلقاً فليس فيها أيضا حكم مجعول مغاير للحكم الواقعي حتى يكون هناك حكمان واقعي وظاهري ، بل الحكم منحصر في الواقعي ، والمجعول في الأصول اما متمم لقصور محركيته وداعويته في ظرف الشك فيه لأهمية ملاكه الداعية إلى تتميم محركيته بجعل إيجاب الاحتياط ، فان كان هناك حكم واقعاً كان إيجاب الاحتياط عينه لا غيره ، لوحدة المناط التي هي ملاك وحدة الحكم فيهما وان تعدد الخطاب ، وان لم يكن انكشف عدم جعل لوجوب الاحتياط حينئذ وأنه كان حكماً صورياً.

واما مؤمن من تبعة الحكم الواقعي ، لعدم الاهتمام بحفظ مصلحته في ظرف الشك كما في الأصول النافية سواء أكانت بلسان الرفع كحديثي الحجب والرفع أم بلسان الوضع والإثبات كقاعدتي الحل والطهارة. بل دعوى كون الأصول المؤمنة مطلقاً إرشاداً إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان قريبة جداً ، إذ مرجع التأمين إلى نفي تنجز الواقع وعدم محركيته حال الشك ، لعدم قيام حجة وبيان عليه.

واما حكم ببقاء تنجز الواقع تعبداً في ظرف الشك كما في الاستصحاب ، فان المستفاد من مثل «لا تنقض اليقين بالشك» إبقاء المعلوم سابقاً حال الشك

٢٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

في بقائه ، فان كان المعلوم سابقاً باقياً حال الشك فهو الحكم الوحيد ، وإلّا فلا حكم للاستصحاب.

والحاصل : أن مفاد أدلة الاستصحاب ليس إلّا حفظ الواقع المنجز في ظرف الشك في بقائه ، فلو ارتفع المعلوم السابق حقيقة فالحكم الاستصحابي صوري ، وليس بحكم ، وإجزاؤه محتاج إلى الدليل ، إذ الأصل عدمه لعدمه حقيقة.

وإما حكم بسقوط الواقع كالأصول الجارية في وادي الفراغ ، فانها توسع دائرة المفرغ ، ومرجعه إلى الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي والتصرف في حكم العقل بتعين الإطاعة العلمية كما هو مقتضى الاشتغال اليقيني.

وبالجملة : شأن هذا القسم من الأصول كقواعد التجاوز والفراغ والحيلولة توسعة دائرة المفرغ والمسقط ، وليس فيه حكم في قبال الواقع.

وعليه فالأصول العملية ناظرة إلى الواقع اما بتتميم محركيته ، واما بالتأمين من تبعته ، واما بإسقاطه بالامتثال الاحتمالي ، واما بإثباته في مرحلة الشك في البقاء بعد العلم بحدوثه ، فليس في الأصول العملية حكم في قبال الواقع حتى يلزم اجتماع الحكمين الواقعي والظاهري.

فتلخص من جميع ما ذكرنا : أن الحكم واحد وهو الواقعي ، والأصول العملية ناظرة إليه بأحد الأنظار المتقدمة في ماهية الأصول المقررة لوظيفة الشاك ، فليس فيها حكم في قبال الحكم الواقعي حتى يشكل الجمع بينهما.

وقد ظهر : أنه ان أريد بالبناء العملي الّذي أفاده المحقق النائيني (قده) في

٢٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الأصول التنزيلية ما بيناه من إبقاء الواقع المعلوم سابقاً حال الشك في بقائه ـ كما هو الظاهر ـ فهو متين ، وكذا ان أريد ذلك من جعل المماثل وان كان خلاف الظاهر.

وأما ان أريد به وجوب مستقل مغاير الواقع المتيقن سابقاً ، ففيه : أنه يلزم محذور اجتماع الحكمين ويقع الإشكال في الجمع بينهما.

وأما ما أفاده من جعل إيجاب الاحتياط متمماً لقصور محركية الحكم الواقعي فهو أيضا صحيح كما بيناه. ولا يرد عليه ما في تقرير بعض الأعاظم مد ظله من قول المقرر : «أما أولا فلان ما ذكره من اختصاص وجوب الاحتياط بصورة المصادفة يدفعه ـ مضافاً إلى كونه خلاف أدلة الاحتياط من كونها ظاهرة في وجوب الاحتياط بما أنه أخذ بالحائطة للدين ، فيكون واجباً مطلقاً صادف الواقع أم خالفه ، نعم وجوبه كذلك انما هو لأجل التحفظ بملاك الواقع والتحرز عن هلكته على تقدير وجوده واقعاً على ما هو مفاد روايات التثليث ، فيكون نظير وجوب الاعتداد على المرأة لأجل التحرز عن اختلاط المياه على تقدير وجود حمل واقعاً ـ أنه غير صحيح في نفسه ، لأن الغرض من الاحتياط انما هو إيجاد الداعي إلى حفظ الواقع عند الجهل به ، ومن الظاهر أن الاحتياط المصادف أيضا غير إلى حفظ الواقع عند الجهل به ، ومن الظاهر أن الاحتياط المصادف أيضاً غير معلوم للمكلف ، فيكون حاله حال نفس الحكم المجهول في عدم صلاحيته للداعوية ، فلا يمكن التوصل به إلى الغرض ، فيصبح لغواً في جعله».

وذلك لما فيه أولا : من أن إطلاق الوجوب لا بد أن يكون بمقدمات الحكمة التي منها عدم القرينة أو الصالح للقرينية ، ومن المعلوم أن الاهتمام بحفظ مصلحة الواقع الداعي إلى إيجاب الاحتياط ان لم يكن قرينة على اختصاص وجوبه بوجود الحكم الواقعي فلا أقل من صلاحيته لذلك ، فلا دليل على إطلاق الوجوب.

٢٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وثانياً : من أن نفس الاحتياط المتعلق للأمر يقتضي اختصاص الوجوب بصورة وجود الحكم الواقعي ، لأن تشريعه انما يكون لحفظه في ظرف الجهل به ، لأنه متمم لقصور الخطاب المجهول ، والإحاطة به ـ أي امتثاله ـ منوطة بالاحتياط في الشبهات ، للعلم الإجمالي بمصادفة بعض أوامر الاحتياط فيها للحكم الواقعي ، وهذا العلم الإجمالي يوجب العمل بأوامر الاحتياط في الشبهات ، وبه يخرج الأمر بالاحتياط عن اللغوية ، وعن التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، ففي قوله : «فيصبح لغواً في جعله» ما لا يخفى.

وأما قياس المقام بمسألة وجوب الاعتداد على المرأة ، ففيه أولا : أنه لم يظهر انحصار ملاك وجوب الاعتداد في اختلاط المياه.

وثانياً : أن لازمه خلوّ جملة من الموارد عن الملاك بعد وضوح كون الأحكام انحلالية ، وذلك يوجب الترجيح بلا مرجح ، وقد استقر مذهب العدلية على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، والالتزام بخلوّ بعض الأحكام عن الملاك منافٍ للحكمة.

وثالثاً : أن إطلاق وجوب الاحتياط في صورة عدم المصادفة يستلزم حرمة التصرف في المال المردد بينه وبين غيره مع كونه ملكاً له واقعاً. وكذا حرمة الاستمتاع بالمرأة المرددة بين كونها أجنبية وزوجته مع فرض زوجيتها له واقعاً ، لأنه خالف وجوب الاحتياط ، فيسقط عن العدالة ، ويترتب عليه آثار ارتكاب الحرام من وجوب التعزير وغيره.

ورابعاً : أنه على فرض صحة ما أفيد في مسألة وجوب الاعتداد على المرأة

٢٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

من حمل الملاك على الحكمة لا وجه لقياس ما نحن فيه به بعد بطلانه في مذهبنا ومنع استشمام رائحته واستعماله في أحكامنا ، وعدم حجية الظن المستفاد منه.

ومنها : ما أفاده شيخنا المحقق العراقي (قده) وحاصله بطوله : «اندفاع كلا المحذورين الخطابي والملاكي. أما المحذور الخطابي ـ وهو اجتماع الحكمين ـ فيندفع بمقدمتين :

الأولى : أن متعلق الأحكام هي الصور الذهنية الملحوظة خارجية المعبر عنها بالفارسية «بماهيت خارج ديده» غير مقيدة بالوجود الذهني ولا بالوجود الخارجي ، لخلوّ الأوّل عن الأثر ، مضافاً إلى استلزامه الامتثال بمجرد تصور المتعلق واستلزام الثاني تحصيل الحاصل المحال لأن الخارج ظرف سقوط الإرادة لا ثبوتها.

الثانية : طولية الذات المعروضة للحكم الظاهري للذات المعروضة للحكم الواقعي ، إذ المتصور أوّلا هو نفس الذات ، وثانياً الذات المشكوك حكمها ، والأول موضوع الحكم الواقعي. والثاني موضوع الحكم الظاهري ، وهذان المتصوران طوليان ومتباينان ، لتباين الصور الذهنية كالخارجية كزيد وعمرو ، فلا يلزم اجتماع الحكمين مع طولية موضوعيهما.

وأما المحذور الملاكي ـ وهو تفويت الملاك بالتعبد بالأمارات غير العلمية ـ فيندفع أيضا بمقدمتين :

أولاهما : أن المصالح الواقعية تارة تكون مهمة بنظر الشارع بمثابة لا يرضى بتركها ، فيسد جميع أبواب عدمها مما يكون من قبله كإنشاء الخطاب وإقدار

٢٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المكلف وإعلامه برفع جهله تكويناً أو إيجاب الاحتياط عليه. وأخرى لا تكون كذلك ، بل يسد بعض أبواب عدمه كإنشاء الخطاب القاصر عن تحريك العبد حال جهله به ، فان عدم المصلحة ينسد من هذه الحيثية دون سائر الحيثيات التي لها دخل في وجود المصلحة ، فلا يرفع جهل العبد بالخطاب.

وببيان أوضح : قد تتعلق الإرادة التشريعية بوجود فعل ذي المصلحة وسد عدمه من جميع الجهات ، وقد تتعلق بوجوده من بعض الجهات.

ثانيتهما : أن الكاشف عن كيفية المصلحة والدليل عليها في مقام الإثبات ليس إلّا الخطاب ، ومن المعلوم أنه بنفسه قاصر عن التحريك والبعث في ظرف الشك فيه ، فلا يحفظ المصلحة من قبله إلا حال العلم به ، ولو اهتم الشارع بحفظها مطلقاً كان عليه تتميم قصور محركية الخطاب الأولى بجعل آخر.

إذا عرفت هذا ظهر لك : أن الإرادة التي ينافيها الترخيص في ترك ذي المصلحة هي الإرادة التشريعية المولوية المتعلقة بوجود المراد بنحو الإطلاق ، إذ المفروض اهتمام الشارع حينئذ بحفظ المصلحة التي لا يرضى بتركها في شيء من الحالات ، فلا بد من نشوء إرادات غيرية منها بإيجاد مقدمات وجودها وسد جميع أبواب عدمها ، وإلّا فلا مانع من الترخيص في تركها ، لأن حيثية إعلام الواقع لم تكن موضوعاً للإرادة ، وإلا لزم تتميم محركية خطابه بإيجاب الاحتياط ، بل الإرادة تعلقت بوجود الواقع من ناحية الجعل فقط ولم يكن إعلامه موضوعاً لها ، فالترخيص بلحاظ الحجة عليه من أمارة أو أصل لا بأس به ، لأنه لم يتعلق إرادته بسد باب عدمه من ناحية الاعلام.

فالمتحصل : أن الإشكال الخطابي يندفع بطولية الموضوع الموجبة لتعدده ،

٢٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وكون متعلق الحكمين الصورتين الذهنيتين المتباينتين ، والإشكال الملاكي يندفع بعدم منافاة الترخيص للمصلحة التي لم يرد الشارع وجودها على كل حال».

وأنت خبير بأن ما أفاده (قده) في دفع الإشكال الخطابي لا يخلو من المناقشة ، إذ في طولية موضوعي الحكمين الموجبة لتعددهما :

أوّلا : أنها مبنية على تباين الصور الذهنية ، وهو منوط بتباين حدودها وقيودها كتصور حصة من الحيوان بفصل الناطقية أو الناهقية ، فان الحصة المتحيثة بحيثية الناطقية مباينة للحصة المتفصلة بالناهقية ، فليس تباينها بمجرد تعدد تصور الصورة ضرورة أن تصور صورة شرب التتن مثلا مرّات لا يوجب تعدد الصور وتباينها حتى لا تندرج أحكامها في اجتماع الأمثال والأضداد.

وعليه فلا يوجب تعدد تصور نفس الذات المعروضة للحكم الواقعي وتصور الذات المشكوك حكمها المعروضة للحكم الظاهري تباين المتصورين حتى لا يندرج حكماهما في اجتماع المثلين أو الضدين ، بل يكونان من صغريات الاجتماع الممتنع ، بداهة أن تقيد الذات بالشك في حكمها ليس من القيود الموجبة لتباين صورتي الذات المطلقة والمشكوكة ، حيث ان الأولى تصدق على الثانية ، وحينئذ يجتمع حكماهما ، فلا يندفع إشكال اجتماع الحكمين بمجرد طولية موضوعيهما التي لا توجب تباين الصورتين الذهنيتين اللتين تعلق بهما الحكمان.

وثانياً : أن الإرادة وان تعلقت بالصور الذهنية ، لكنها ان كانت هي موضوع الحكم حقيقة أوجب ذلك سقوط الأمر وامتثاله بمجرد تصور المكلف لتلك الصورة ، إذ المفروض تعلق الحكم بها بما هي ذهنية.

٢٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وان كانت مرآتاً للصورة الخارجية وحاكية عنها بحيث يتعلق الطلب بالخارج لزم تحصيل الحاصل وخلو الطلب عن الملاك والإرادة ، لأن الخارج ظرف سقوطهما لا ثبوتهما.

فتلخص : أنه لا يندفع إشكال اجتماع المثلين أو الضدين بتعلق الأحكام بالصور الذهنية وطوليتها. فالأولى إنكار الحكم الظاهري كما تقدم سابقاً.

وأما الإشكال الملاكي فهو مندفع بعدم قبح تفويت الملاك غير المطالب الّذي هو مورد حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وقد تقدم نفي البعد عن كون الأصول النافية الشرعية إرشاداً إلى هذا الحكم العقلي ، ولا ملزم بالالتزام بالحكم الظاهري حتى يرد عليه إشكال تفويت ملاك الحكم الواقعي ، والتمحل بالجمع بينهما بما لا يخلو من المناقشات ، بل لا مسوغ للالتزام بالحكم الظاهري ، لما مر سابقاً من منافاته لنفس الحكم الواقعي ، فلا وجه لنفي البأس عن جعلهما بدعوى عدم منافاة الظاهري له لا في المبدأ ولا في المنتهى كما سيأتي.

ومنها : ما في تقرير بعض الأعاظم ، وحاصله : «أن الأحكام الشرعية لا مضادة بينها في أنفسها ، إذ ليس الحكم الا اعتبار شيء في ذمة المكلف من الفعل أو الترك كاعتبار الدين في ذمة المديون ، ولذا عبر في بعض الروايات عن وجوب قضاء الصلوات الفائتة بالدين ، ومن الواضح عدم التنافي بين الأمور الاعتبارية ، وكذا لا تنافي بين إبرازها بالألفاظ بأن يقول المولى : افعل كذا أو لا تفعل كذا ، وانما التنافي بين الأحكام في موردين :

أحدهما : المبدأ ، وهو المصلحة أو المفسدة الداعية إلى التشريع كما عليه الإمامية والمعتزلة ، أو الشوق والكراهة كما عليه الأشاعرة المنكرون لتبعية

٢٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الأحكام للمصالح والمفاسد.

ثانيهما : المنتهى وهو مقام الامتثال.

أما لزوم التنافي في المبدأ ، فلأنه يلزم من اجتماع الحكمين ـ كالوجوب والحرمة ـ اجتماع المصلحة والمفسدة في المتعلق بلا كسر وانكسار ، وهو من اجتماع الضدين المستحيل ، وكذا الحال في اجتماع الترخيص مع الوجوب أو الحرمة ، للزوم وجود المصلحة الملزمة وعدمها في شيء واحد ، أو وجود المفسدة وعدمها كذلك ، وهو من اجتماع النقيضين المحال.

وأما لزوم التنافي من حيث المنتهى ، فلعدم قدرة المكلف على امتثال كلا الحكمين ، بداهة دعوة الوجوب إلى الفعل والحرمة إلى الترك ، ويستحيل منه الفعل والترك في آن واحد ، وكذا في الوجوب والحرمة مع مثل الإباحة من الحكم غير الإلزامي.

إذا عرفت ذلك ظهر لك عدم التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري أصلا لا من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى.

أما من ناحية المبدأ ، فلقيام المصلحة في الحكم الظاهري بنفس جعل الحكم ، لا في متعلقه كما في الحكم الواقعي ، فلا يتحد موردا المصلحتين حتى يكون اجتماعهما من اجتماع الضدين.

وأما من ناحية المنتهى ، فلان الحكم الظاهري موضوعه الشك في الحكم الواقعي ، ومن المعلوم أن العقل لا يحكم بلزوم امتثاله الا بعد وصوله إلى العبد وتنجزه ، بل الحكم الّذي يلزم امتثاله عقلا هو خصوص الحكم الظاهري.

٢٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والحاصل : أن الممتنع هو اجتماعهما في المبدأ والمنتهى ، والمفروض عدمه.

وأما نفس جعلهما فقد عرفت عدم التنافي بينهما ، لكونهما من الأمور الاعتبارية التي لا تنافي بينها ذاتاً ، والتنافي العارض لهما انما هو من ناحية المبدأ والمنتهى ، وهو مفقود في الحكم الظاهري والواقعي. نعم هو موجود في الحكمين المتحدين سنخاً كالواقعيين أو الظاهرين».

وفيه : أن التنافي موجود في نفس تشريع الحكم الواقعي والظاهري وان كانت الأحكام طراً ـ سواء أكانت تكليفية أم وضعية ـ من الأمور الاعتبارية بلا إشكال ، لكن مجرد اعتبارية الأحكام لا يسوغ اجتماعها ، ولا يرفع تضادها ، بداهة أن الأمور الاعتبارية من الإنشائيات المتقومة بالقصد والإنشاء ، فلا تشتغل الذّمّة بها حتى يصح إطلاق الدين عليها الا بقصدها وإنشائها بما جعل آلة لإيجادها من قول أو فعل ، ضرورة أنها لا توجد بمجرد لقلقة اللسان ، ومن المعلوم : أنه بعد تحققها لا يمكن إيجاد مثلها أو ضدها ، فهل يصح اعتبار ملكية دار مثلا لزيد واعتبارها لعمرو أيضا في نفس ذلك الزمان ، أو ملكيتها لزيد ووقفيتها على مسجد مثلا؟

وبالجملة : فحال الأمور الاعتبارية حال الاعراض الخارجية في امتناع الاجتماع.

وعليه ، فالتنافي موجود في نفس اعتبار الأمور الاعتبارية ، كالتنافي في مبدئها ومنتهاها. وقد مر غير مرة أن الحكم الواقعي ثابت مع الحكم الظاهري ، لثبوته

٢٥٩

ثالثها: أن الأصل (١) (*)

______________________________________________________

تأسيس الأصل

(١) بعد أن أثبت في الأمرين الأولين إمكان حجية الأمارة ذاتاً ووقوعاً صار بصدد بيان مقتضى الأصل في الشك في الحجية ، وقبل الخوض في بيانه لا بأس بالتنبيه على أمرين.

أحدهما : أن الحجية شرعاً على قسمين : الأول : الحجية الإنشائية.

الثاني : الحجية الفعلية وهي العلم بالحجية الإنشائية.

ثانيهما : أن الآثار الشرعية أو العقلية تترتب تارة على نفس وجود الشيء واقعاً ، عَلِم به العبد أم لم يعلم به ، وأخرى تترتب على وجوده العلمي أي بوصف

__________________

للذات بلا قيد ، فالواقعي موجود في ظرف الشك الّذي هو موضوع الظاهري ، فالوجه المزبور الّذي مرجعه إلى منع تضاد الأحكام ذاتاً في مرحلة الجعل لا يجدي في دفع التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري ، لعدم صحته في نفسه.

ومنها : اختلاف الحكم الواقعي والظاهري سنخاً ، فلا يكون اجتماعهما من اجتماع الضدين والمثلين ، فان ضد الوجوب الواقعي هو الحرمة الواقعية لا الظاهرية ، ولعل هذا الوجه مراد من جمع بين الحكم الواقعي والظاهري باختلاف المحمول.

وفيه : أن اختلافهما انما هو من ناحية الموضوع ، حيث ان موضوع الحكم الظاهري هو الشيء المشكوك حكمه ، وموضوع الحكم الواقعي هو ذات الشيء بلا قيد ، وأما المحمول فهو في كليهما واحد ، فان الطهارة والحلية مثلا لم تستعملا الا في معنى واحد سواء كانتا واقعيتين أم ظاهريتين.

(*) لا يخفى أن شيخنا الأعظم (قده) جعل هذا الأصل بمعنى القاعدة

٢٦٠