منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٤

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٧١

بتنجز التكليف وصحة العقوبة على مخالفته لا شيء (١) يقوم مقامه في هذا الحكم (٢).

______________________________________________________

«الطواف بالبيت» منزلة «الصلاة» ، فان الطواف مغاير لأحكام الصلاة الثابتة له ببركة التنزيل كمغايرته لنفس الصلاة. وكذا الحال في قيام خبر الثقة مقام القطع في التنجيز مثلا ، فان الخبر غير التنجيز الثابت له بتنزيله منزلة القطع ، وهكذا في سائر التنزيلات ، فلو كان المنزل نفس حكم المنزل عليه لم يصح التنزيل ، وهذه المغايرة مفقودة في الاحتياط العقلي ، لما عرفت من أن حقيقة الاحتياط العقلي هي حسن المؤاخذة عقلا على المخالفة ، وليس الاحتياط الا نفس التنجيز الثابت للقطع ، فلا مغايرة بين الاحتياط العقلي وبين التنجيز.

وأما الاحتياط الشرعي ، فملخص الكلام فيه : أن إلزام الشارع بالاحتياط وان كان موجباً لتنجز التكليف به وصحة العقوبة على مخالفته ، وكان هذا الإلزام الشرعي مغايراً للتنجيز أيضا ، ولذا صح تنزيله منزلة القطع على خلاف الاحتياط العقلي ، حيث انه عين التنجيز كما عرفت ، إلّا أن هذا الإلزام الشرعي بالاحتياط مجرد فرض ، ولا وجود له في الخارج ، إذ لا نقول بوجوب الاحتياط شرعاً في الشبهات البدوية وان قال به أصحابنا المحدثون في الشبهات التحريمية الناشئة من فقد النص. وأما في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، فالاحتياط فيها وان كان ثابتاً ، لكنه عقلي وليس بشرعي ، وقد عرفت أنه لا معنى لقيام الاحتياط العقلي مقام القطع في التنجيز ، لأن الاحتياط عين التنجيز.

(١) يعني : وليس الاحتياط العقلي شيئاً آخر ـ غير حكم العقل بتنجز التكليف ـ يقوم مقام القطع في التنجيز ، ومن هنا ظهر أن حق العبارة أن تكون هكذا : «لا شيئاً آخر يقوم ... إلخ».

(٢) أي : التنجيز وصحة العقوبة على المخالفة.

١٠١

وأما النقلي (١) فإلزام الشارع به وان كان مما يوجب التنجز وصحة العقوبة على المخالفة كالقطع ، إلّا أنه (٢) لا نقول [لا يقول] به في الشبهة البدوية (٣) ، ولا يكون بنقلي (٤) في المقرونة بالعلم الإجمالي ، فافهم (٥).

ثم لا يخفى أن دليل الاستصحاب (٦)

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى عدم قيام الاحتياط النقلي مقام القطع ، وقد عرفت توضيحه بقولنا : «وأما الاحتياط الشرعي ، فملخص الكلام فيه ... إلخ».

(٢) الضمير للشأن ، وضمير «به» في الموضعين راجع إلى النقلي.

(٣) يعني : بعد الفحص. وأما قبله فلا يكون وجوب الاحتياط فيها شرعياً بل عقلي ، كما قرر في محله.

(٤) أي : ولا يكون الاحتياط بنقلي في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي.

(٥) لعله إشارة إلى : أن عدم التزامنا بالاحتياط الشرعي لا يمنع عن قيامه مقام القطع عند من يقول به في الشبهات البدوية.

أو إلى : أن الاحتياط الشرعي ثابت في بعض الموارد ، كما في تردد القبلة في الجهات الأربع ، فان الاحتياط الموجب للقطع بالامتثال يوجب تكرار الصلاة إلى أكثر من أربع جهات بأن يأتي بها إلى نفس النقاط أيضا ، لكن رواية خراش (١) تدل على الاكتفاء بالأربع ، فهذا احتياط حكم به الشرع ، فتأمل جيداً.

(٦) هذا بيان لما أجمله بقوله : «غير الاستصحاب» من قيام الاستصحاب مقام القطع وأنه كالأمارة يقوم مقام القطع الطريقي المحض فقط ، وحاصله : أن دليل الاستصحاب لا يفي بقيامه مقام القطع الموضوعي بأقسامه الأربعة

__________________

(١) الوسائل ج ٣ ص ٢٢٦ الحديث ٥.

١٠٢

أيضا (١) لا يفي بقيامه مقام القطع المأخوذ في الموضوع مطلقاً (٢) ، وأن (٣) مثل «لا تنقض اليقين» لا بد من أن يكون مسوقاً اما بلحاظ المتيقن (٤) أو بلحاظ نفس اليقين (٥). وما ذكرنا في الحاشية (٦) في وجه

______________________________________________________

كعدم وفاء دليل اعتبار الأمارة بذلك كما تقدم ، فدليل الاستصحاب مثل قوله عليه‌السلام : «ولا تنقض اليقين أبداً بالشك» (١) لا بد أن يكون ناظراً إلى تنزيل الشك في البقاء منزلة القطع به ، أو إلى تنزيل المشكوك منزلة المتيقن ، ولا يعقل أن يكون ناظراً إلى كلا التنزيلين ، لاستلزامه اجتماع اللحاظين على ما تقدم.

(١) أي : كدليل اعتبار الأمارة.

(٢) أي : سواء كان تمام الموضوع أم جزءه ، وسواء أخذ على نحو الصفتية أم على نحو الكشف والطريقية.

(٣) معطوف على قوله : «ان» ومفسر له.

(٤) فيكون لحاظ القطع آلياً.

(٥) فيكون لحاظ القطع استقلالياً.

(٦) غرضه تصحيح قيام الأمارة والاستصحاب مقام القطع الموضوعي والطريقي بنفس دليل اعتبارهما ، وهذا الوجه أفاده في حاشية الرسائل بقوله : «ويمكن أن يقال : ان الدليل وان لم يساعد الا على تنزيل المحكي منزلة الواقع إلّا أنه يكتفي في ترتيب آثار الواقع مطلقاً على المحكي ولو كان القطع مأخوذاً في موضوعها ، بتقريب : أن الموضوع المقيد بالقطع في مورد الأمارة يكون محرزاً بنفسه بها ، حيث ان المفروض كون الدليل دالا على أن المحكي بها واقع جعلا ، وبقيده بالوجدان ، إذ المفروض القطع بتحقق الواقع الجعلي هناك

__________________

(١) الوسائل ج ١ ص ١٧٤ الباب ١ من النواقض الحديث ١

١٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

فيكون كما إذا قطع بتحقق الواقع الحقيقي ، فيترتب عليه ما له من الآثار ، ويتضح ذلك بمقايسته على سائر الموضوعات المقيدة أو المركبة ، حيث انه لا شبهة في إمكان إحرازها بقيدها أو بجزئها بالقطع بضميمة الأمارة المتعلقة بالجزء أو القيد كإحرازها بتمامها بكل منهما ، كما إذا قامت البينة مثلا على كرية ماء مقطوع به أو مائية كرّ كذلك.

ان قلت : هذا قياس مع الفارق ، لأن الموضوع المركب من غير القطع ومثله من الأمور الوجدانية أو المقيدة كذلك إذا تعلقت به الأمارة بتمامه أو بجزئه وقيده وأصابت لكان هو نفس الموضوع الواقعي كما يظهر من المثال ، بخلاف ما إذا كان التركيب أو التقييد بالقطع ، فانه لا يتعلق بالواقع الحقيقي أصلا ولو مع إصابة الأمارة في جزئه وقيده بل بالواقع الجعلي ... إلى أن قال : قلت : نعم لكنه ليس بفارق فيما فيه المقايسة من إمكان إحراز الجزء أو القيد مطلقاً بالأمارة وتسرية دليل الجعل والتنزيل إلى موضوع أخذ فيه القطع سمي ما يترتب عليه من الحكم ظاهرياً أم لا ، إذ لا مشاحة في الاصطلاح

ان قلت : كيف ليس بفارق ، وما أخذ فيه القطع لا يكاد أن يتحقق تعبداً بتمامه بمجرد تسرية دليل الجعل ... إلى أن قال ... قلت : نعم ، ولكن لا يبعد دلالة دليل الأمارة على هذا التنزيل بدعوى الملازمة العرفية بينه وبين تنزيل المؤدى ولو فيما كان القطع به معتبراً في الحكم عليه الّذي دل عليه الدليل بعمومه ، حيث ان العرف لا يرى التفكيك بين تنزيل ما قامت البينة على خمريته منزلة الخمر مثلا ، وتنزيل القطع به كذلك منزلة القطع بها واقعاً وان لم يكن بينهما ملازمة عقلا».

وحاصله : أن لدليل اعتبار الأمارة دلالتين : إحداهما مطابقية ، والأخرى

١٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

التزامية.

أما الأولى ، فهي دلالته بالمطابقة على تنزيل المؤدى في الأمارة والمستصحب في الاستصحاب منزلة الواقع. أما كون هذا التنزيل مطابقياً ، فلما عرفت من أن أظهر آثار القطع هو الكشف والطريقية ، وهذا يوجب ظهور دليل التنزيل في كون التنزيل بحسب الطريقية والكاشفية ، فيكون المنزل عليه هو الواقع والمنزل هو المؤدى والمستصحب.

وأما الثانية ، فهي دلالته بالالتزام على تنزيل الأمارة منزلة القطع الّذي له دخل في الموضوع ، بدعوى الالتزام العرفي بين تنزيل المؤدى والمستصحب منزلة الواقع وبين تنزيل الأمارة والشك منزلة القطع ، حيث ان التنزيل لمّا كان شرعياً ـ وبدون الأثر الشرعي يصير لغواً ـ فلا بد من الالتزام بدلالة دليل تنزيل المؤدى والمستصحب منزلة الواقع على تنزيل الأمارة والشك في البقاء منزلة القطع بالواقع الحقيقي دلالة التزامية من باب دلالة الاقتضاء ، لتوقف صون دليل التنزيل عن اللغوية على هذه الدلالة الالتزامية ، فان الموضوع ـ كالعلم بوجوب الصلاة ـ لوجوب التصدق لما كان مركباً من العلم ووجوب الصلاة ، فلا محالة يكون تنزيل وجوب الصلاة ـ الّذي أخبر به العادل ـ منزلة الوجوب الواقعي مستلزماً لتنزيل قول العادل به منزلة القطع بالوجوب الواقعي ، إذ لو لم نلتزم بهذا التنزيل الثاني يلزم لغوية التنزيل الأول ، إذ المفروض تركب الموضوع من العلم والوجوب به ، فلا يكفي في ترتب الأثر تنزيل جزء الموضوع من العلم والوجوب به ، فلا يكفي في ترتب الأثر تنزيل جزء الموضوع ، بل لا بد فيه من تنزيل الجزء الآخر أيضا ، كما هو شأن جميع الموضوعات بالنسبة إلى أحكامها ، إذ لا يترتب الحكم الا بعد وجود تمام موضوعه بالوجدان أو التعبد أو كليهما ، كتركب موضوع

١٠٥

تصحيح لحاظ واحد (*) في التنزيل (١) منزلة الواقع والقطع (٢) «وأن (٣) دليل الاعتبار انما يوجب (٤) تنزيل المستصحب والمؤدى (٥) منزلة الواقع ، وانما كان (٦) تنزيل القطع (٧)

______________________________________________________

جواز التقليد من الحياة والاجتهاد ، فإذا علم بحياة زيد وشك في بقاء اجتهاده ، فانه يستصحب اجتهاده لجواز تقليده ، فان موضوع جواز تقليده حينئذ محرز بجزأيه ، لكن أحدهما وهو الحياة بالوجدان والآخر وهو الاجتهاد بالتعبد.

وبالجملة : فعلى مبنى تعدد الدلالة لا يلزم اجتماع اللحاظين ، لأن لزوم اجتماعهما مبني على وحدة الدلالة كما لا يخفى.

(١) يعني : في تنزيل المؤدى والمستصحب منزلة الواقع.

(٢) يعني : وتنزيل الأمارة والشك منزلة القطع ، وقوله : «والقطع» معطوف على الواقع.

(٣) معطوف على قوله : «وجه» ومفسر له.

(٤) هذا إشارة إلى دلالة الدليل عليه مطابقة ، وقد عرفت توضيحه.

(٥) الأول في الاستصحاب والثاني في الطرق والأمارات.

(٦) هذا إشارة إلى ما يدل عليه دليل اعتبار الأمارة والاستصحاب من تنزيل الأمارة والشك منزلة القطع التزاماً ، وقد عرفت توضيحه.

(٧) يعني : تنزيل القطع بالواقع التنزيلي ، حيث ان مؤدى قول العادل إذا

__________________

(*) في هذه العبارة مسامحة ، إذ لا يمكن تصحيح لحاظ واحد في التنزيلين أصلا ، لتضاد الطريقية والموضوعية ، فكيف يعقل اجتماعهما في لحاظ واحد ، فحق العبارة أن تكون هكذا : «وما ذكرناه في الحاشية في وجه تصحيح التنزيلين بنفس دليل الاعتبار أو بدليل واحد ... إلخ».

١٠٦

فيما له دخل في الموضوع (١) بالملازمة (٢) بين تنزيلهما (٣) وتنزيل القطع (٤) بالواقع تنزيلا وتعبداً (٥) منزلة القطع بالواقع حقيقة (٦)» لا يخلو (٧) من تكلف

______________________________________________________

نزل منزلة الواقع فلا محالة يكون القطع به ـ وهو الأمارة ـ منزلا أيضا منزلة القطع الوجداني بالواقع الحقيقي ، لكن لا بد حينئذ من الاستخدام في ضمير «له» بإرادة القطع الوجداني الّذي هو المنزل عليه منه كما هو واضح ، وإلّا فلا بد من الحذف حينئذ بأن يقال : «وانما كان تنزيل الأمارة أو الشك منزلة القطع فيما له دخل ... إلخ» ومقتضى الأصل عدمه ، فيتعين الاستخدام.

والحاصل : أن الكلام في تنزيل الأمارة أو الشك منزلة القطع ، لا تنزيل القطع منزلة غيره كما هو مقتضى العبارة.

(١) يعني : في القطع الموضوعي.

(٢) خبر «كان» وهو متعلق بـ «تنزيل».

(٣) يعني : بين تنزيل المؤدى والمستصحب منزلة الواقع وبين تنزيل الأمارة والشك منزلة القطع بالواقع.

(٤) معطوف على «تنزيلهما» أي : وتنزيل القطع التعبدي ـ وهو الأمارة ـ منزلة القطع الوجداني بالواقع الحقيقي ، هذا. ولا يخفى أن قوله : «وتنزيل القطع بالواقع تنزيلا» يؤيد إرادة القطع بهذا المعنى في قوله : «وانما كان تنزيل القطع» كما بيناه آنفاً.

(٥) بمعنى واحد ، وهما قيدان للواقع أي الواقع التنزيلي والتعبدي.

(٦) قيد للواقع ، أي القطع بالواقع الحقيقي.

(٧) خبر لقوله : «ما ذكرناه في الحاشية» ولعل وجه التكلف عدم اللزوم العرفي بين تنزيل المؤدى منزلة الواقع وبين تنزيل القطع بالواقع التنزيلي منزلة

١٠٧

بل تعسف (١)

______________________________________________________

القطع بالواقع الحقيقي ، لإمكان دعوى عدم انسباق هذا اللزوم إلى أذهان العرف أصلا ، فليس في البين لزوم عرفي حتى تصح دعوى الملازمة العرفية ، فلا يدل دليل الاعتبار الا على ترتيب آثار القطع ـ بما هو طريق وكاشف ـ على الأمارة أو الاستصحاب.

(١) وذلك لاستلزام دلالة دليل الاعتبار على تنزيلين للدور ، وتوضيحه يتوقف على بيان أمور :

الأول : أن التنزيل الشرعي لا يصح إلّا في ظرف ترتب الأثر الشرعي على المنزل ، مثلا تنزيل الطواف منزلة الصلاة شرعاً لا يصح إلّا بإنشاء مثل ما للصلاة من الأحكام للطواف.

الثاني : أن الموضوع إذا وجد في الخارج ترتب عليه الحكم لا محالة ، وإلّا لزم تخلف الحكم عن موضوعه ، وهو غير جائز ، إذ الحكم بمنزلة المعلول لموضوعه كما قرر في محله ، فإذا وجد بعض ما له دخل في الموضوع لم يترتب عليه الحكم ، لكون الموضوع مؤلفاً منه ومن غيره.

الثالث : أن موضوع الحكم الشرعي اما بسيط واما مركب واما مقيد ، فان كان بسيطاً ـ كحياة زيد التي هي موضوع لوجوب الإنفاق على زوجته وحرمة تقسيم أمواله بين ورثته وغير ذلك ـ فلا بد في ترتيب الأثر الشرعي عليه من إحرازه اما بالوجدان واما بالتعبد كقيام البينة أو الاستصحاب على ذلك.

وان كان مركباً فلا بد في ترتيب الأثر الشرعي عليه من إحرازه أيضا ، فاما أن يحرز جميعه بالوجدان أو جميعه بالتعبد ، واما أن يحرز بعضه بالوجدان وبعضه الآخر بالتعبد ، وذلك كموضوع الضمان المركب من الاستيلاء وعدم اذن المالك ، إذ لا بد في الحكم بالضمان من إحراز جزأي الموضوع اما وجداناً كما إذا شاهدنا استيلاء شخص على مال غيره عدواناً ، واما تعبداً كما إذا شهدت البينة بهذا

١٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الاستيلاء العدواني ، واما بالاختلاف كما إذا شاهدنا الاستيلاء المزبور وثبت عدم اذن المالك بالاستصحاب.

وان كان مقيداً كتقيد موضوع جواز التقليد ـ وهو المجتهد ـ بالعدالة ، فلا بد أيضا في ترتيب الأثر الشرعي عليه من إحراز كلا الجزءين ـ أعني الذات والعدالة ـ وجداناً أو تعبداً أو بالاختلاف ، ولا يكفي إحراز أحدهما في ترتيب الأثر الشرعي عليه.

والحاصل : أنه لا بد في ترتيب الأثر الشرعي من إحراز تمام ما له دخل في الموضوع ، ولا يكفي في ترتيبه إحراز بعضه.

الرابع : أن إحراز تمام ما له دخل في الموضوع المركب أو المقيد بالتعبد وان كان ممكناً بلا إشكال ، كبداهة إمكان إحراز تمامه بالوجدان ، إلّا أن ترتب الأثر الشرعي على الموضوع بمجرد وجوده مشروط بكون التعبد المحرز لكل واحد مما له الدخل في الموضوع جزءاً أو قيداً في عرض التعبد المحرز للآخر ، كما إذا شك في بقاء كل من استيلاء الغير وعدم رضاء المالك ، فان كلا منهما يحرز في عرض الآخر بالاستصحاب ويترتب عليه الأثر ـ وهو الضمان ـ فإذا لم يكن الإحراز التعبدي لكل ما له دخل في الموضوع عرضياً ، بل كان أحدهما في طول الآخر ومن لوازمه لم يترتب الأثر الشرعي بمجرد إحراز جزء الموضوع حتى يحرز ـ ولو بالتعبد ـ جزؤه الآخر ، وذلك لأن التعبد بوجود جزء الموضوع لا يصح إلّا بالتعبد بوجود جزئه الآخر في رتبته ، إذ لا يترتب الأثر الشرعي على التعبد بجزء الموضوع بانفراده ، بل يترتب عليه بعد انضمامه إلى الجزء الآخر.

والحاصل : أن دليل التعبد لا يجري في الموضوع ـ لترتيب الأثر الشرعي

١٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

عليه ـ ما لم يحرز في عرضه جزؤه الآخر وجداناً أو تعبداً.

إذا عرفت ما ذكرناه تعرف مرام المصنف (قده) مما أجمله في العبارة بقوله : «فانه لا يكاد يصح» وحاصله : أن الموضوع إذا كان مركباً من القطع ومتعلقه كالقطع بوجوب الصلاة إذا جعل موضوعاً لوجوب التصدق ، فإذا دل الدليل على اعتبار الأمارة وأن مؤداها بمنزلة الواقع وقامت أمارة كخبر العادل على ثبوت أحد جزأي الموضوع ـ وهو وجوب الصلاة ـ لم يمكن إحراز جزئه الآخر ـ وهو القطع ـ بنفس دليل تنزيل مؤداها ـ وهو وجوب الصلاة ـ منزلة وجوبها واقعاً ، بأن يقال : ان دليل الاعتبار كما يدل على أن مؤدى الأمارة بمنزلة الواقع كذلك يدل على أن نفس الأمارة بمنزلة القطع ، فإذا أخبر العدل بوجوب الصلاة فقد حصل القطع بوجوبها. وجه عدم الإمكان ما عرفت من أن صحة التنزيل موقوفة على وجود الأثر الشرعي للمنزل ـ وهو هنا الأمارة كخبر العدل ـ ومن المعلوم عدم ترتب الأثر ـ وهو وجوب التصدق ـ على مجرد تنزيل مؤداها ـ وهو وجوب الصلاة ـ منزلة الوجوب الواقعي ، إذ المفروض أن القطع بوجوب الصلاة أيضا جزء لموضوع وجوب التصدق ، وليس هو في عرض وجوب الصلاة حتى يثبت بمجرد ثبوت وجوب الصلاة وبنفس دليله ، بل هو في طوله ومن لوازمه المترتبة عليه ، ولكن لا يمكن إثباته بمجرد إثبات وجوب الصلاة ، بل يحتاج إثباته إلى دليل آخر ، فإذا أريد إثبات هذا الجزء الآخر ـ أعني القطع ـ بنفس دليل ثبوت ذلك الجزء ـ أعني وجوب الصلاة ـ ليترتب الأثر الشرعي ـ وهو وجوب التصدق ـ لزم الدور ، لأن تنزيل نفس الأمارة منزلة القطع موقوف على ترتب الأثر الشرعي ـ أعني وجوب التصدق ـ عليه ، وإلّا كان التنزيل لغواً ، وترتب هذا الأثر الشرعي عليه موقوف على إحراز

١١٠

فانه (١) لا يكاد يصح تنزيل جزء الموضوع (٢) أو قيده (٣) بما هو كذلك (٤) بلحاظ أثره (٥) الا فيما كان جزؤه الآخر (٦)

______________________________________________________

موضوعه بكلا جزئيه اللذين أحدهما القطع بوجوب الصلاة ، وإحراز هذا القطع وتحققه موقوف على كون الأمارة بمنزلة القطع أي تنزيلها منزلته ، فتنزيل نفس الأمارة منزلة القطع موقوف على نفسه.

وبالجملة : فتنزيل مؤدى الأمارة منزلة الواقع شيء ، وتنزيل نفس الأمارة منزلة القطع شيء آخر ، فإذا قام الدليل على التنزيل الأول لم يثبت به التنزيل الثاني ، بل احتاج إلى دليل مستقل آخر عليه ، فإذا أخذ القطع في موضوع حكم كلا أو جزءاً كالمثال المذكور ولم يكن هناك الا دليل واحد على التنزيل الأول لم يصح أخذ الأمارة في موضوع ذلك الحكم عوضاً عن القطع استناداً إلى نفس هذا الدليل الواحد ، لاستلزامه الدور كما عرفت توضيحه. فدعوى كفاية دليل اعتبار الأمارة ـ أي كون مؤداها بمنزلة الواقع ـ لكلا التنزيلين في غير محلها.

(١) تعليل لعدم خلو ما ذكره في الحاشية من التكلف بل التعسف ، والضمير للشأن.

(٢) يعني : في موضوع المركب من جزءين أو أكثر.

(٣) يعني : في موضوع المركب من ذات وصفة ، مثل تقيد الذات بالعدالة بالنسبة إلى جواز الاقتداء والشهادة وغيرهما من الآثار.

(٤) أي : بما هو جزؤه وقيده.

(٥) الظرف مستقر وحال من التنزيل ، يعني : حال كون التنزيل بلحاظ أثر الموضوع.

(٦) في الموضوع المركب ، وضمير «جزؤه» راجع إلى الموصول

١١١

أو ذاته (١) محرزاً بالوجدان ، أو بتنزيله (٢) [تنزيله] في عرضه. وأما إذا لم يكن كذلك (٣)

______________________________________________________

المراد به الموضوع المركب ، ففي المثال المذكور لا يحكم بوجوب التصدق بمجرد إحراز وجوب الصلاة الا بعد حصول القطع بوجوبها ، لأن الأثر الشرعي ـ وهو وجوب التصدق ـ مترتب على وجوب الصلاة المقطوع به.

(١) في الموضوع المقيد ، فلا يجري استصحاب العدالة في المثال المزبور الا بعد إحراز ذات الموضوع ـ وهو المجتهد الحي مثلا ـ إذ لو لم يحرز ذاته فلا فائدة في استصحاب عدالته ، لكون الأثر ـ أعني جواز التقليد مثلا ـ مترتباً على الحي العادل.

(٢) معطوف على «الوجدان» يعني : أو يكون الجزء الآخر أو الذات محرزاً بالتعبد بسبب تنزيله في عرض الجزء الأول أو القيد ، فيكون كلا الجزءين محرزاً بالتعبد في رتبة واحدة.

(٣) استدراك على قوله : «فيما كان جزؤه الآخر» واسم «يكن» ضمير راجع إلى جزئه الآخر ، والمشار إليه بقوله : «كذلك» هو كونه محرزاً بالوجدان أو التنزيل. والمقصود : أنه لا بد في صحة تنزيل جزء الموضوع أو قيده ـ بلحاظ ترتب الأثر الشرعي عليه ـ من أحد أمرين اما إحراز جزئه الآخر أو ذاته أي المقيد ـ بالوجدان ، أو إحرازه بالتعبد أي بتنزيله في عرض تنزيل جزئه الأول أو قيده. وأما إذا لم يكن جزؤه الآخر أو ذاته ـ أعني المقيد ـ محرزاً بالوجدان أو محرزاً بالتنزيل عرضاً بأن كان محرزاً في طول الجزء الأول ومن لوازمه ، كما في مثال القطع بوجوب الصلاة إذا جعل موضوعاً لوجوب التصدق ، فلا يكون دليل الأمارة أو الاستصحاب الّذي هو دليل على تنزيل جزء الموضوع أو قيده دليلا على تنزيل جزئه الآخر أو ذاته فيما إذا لم يكن هذا الجزء الآخر أو الذات

١١٢

فلا يكاد (١) يكون دليل الأمارة أو الاستصحاب دليلا على تنزيل جزء الموضوع ما لم يكن هناك دليل على تنزيل جزئه الآخر فيما (٢) لم يكن

______________________________________________________

محرزاً بالوجدان أو محرزاً بالتعبد أو بدليل آخر مستقلا. وعلى هذا فحق العبارة أن تكون هكذا : «فلا يكون دليل الأمارة أو الاستصحاب دليلا على جزئه الآخر ما لم يكن هناك دليل آخر على تنزيله فيما لم يكن محرزاً ... إلخ».

وقد تحصل من جميع ما ذكر : أنه لا بد في صحة تنزيل جزء الموضوع أو قيده بلحاظ ترتب الأثر الشرعي عليه من إحراز جزئه الآخر أو ذاته ـ أعني المقيد ـ اما بالوجدان واما بدليل يدل على تنزيلهما معاً بالمطابقة فيما إذا كان جزؤه الآخر أو ذاته في عرض جزئه الأول أو قيده ، أو بدليل آخر غير دليل تنزيل جزئه الأول أو قيده يدل على تنزيل جزئه الآخر أو ذاته فيما إذا كان هذا الجزء الآخر أو الذات في طول الجزء الأول أو القيد ، وإلّا ـ فان لم يحرز الجزء الآخر أو الذات بالوجدان ولا بدليل يدل على تنزيلهما معاً ولا بدليل آخر مستقل ـ لم يمكن إحرازه بدليل الأمارة التي مؤداها كوجوب الصلاة في المثال المتقدم الّذي هو الجزء الأول من الموضوع ، لاستلزامه الدور كما تقدم توضيحه وسيأتي من المصنف (قده) بيانه.

(١) جواب قوله : «وأما إذا لم يكن كذلك» وقد تقدم توضيحه بقولنا : «والمقصود أنه لا بد في صحة التنزيل ... إلخ».

(٢) متعلق بقوله : «فلا يكاد يكون» والمراد بالموصول هو الموضوع ، واسم «يكن» ضمير راجع إلى الجزء الآخر ، يعني : إذا لم يكن الجزء الآخر من الموضوع أو ذاته محرزاً لا حقيقة ولا تعبداً ولم يكن دليل مستقل على إحرازه لم يكن دليل الأمارة أو الاستصحاب دليلا على إحرازه ، لما عرفت من استلزامه الدور لو أريد إحرازه بنفس دليل الأمارة أو الاستصحاب.

١١٣

محرزاً حقيقة ، وفيما (١) لم يكن دليل على تنزيلهما بالمطابقة كما (٢) فيما نحن فيه ـ على ما عرفت (٣) ـ لم يكن (٤) دليل الأمارة دليلا عليه (٥) أصلا (٦) ، فان دلالته (٧) على تنزيل المؤدى تتوقف على دلالته على تنزيل القطع (٨)

______________________________________________________

ومن هنا ظهر : أن قوله (قده) : «فيما لم يكن محرزاً إلى قوله : دليلا على أصلا» مستدرك وتكرار.

(١) الواو للاستئناف ، توضيحه : أنه ان كان هناك دليل يدل مطابقة على تنزيل كلا الجزءين فلا إشكال ، وإلّا فدليل الأمارة لا يدل على تنزيل الجزء الآخر التزاماً ، لما عرفت من إشكال الدور.

(٢) قيد للنفي وهو عدم الدليل على تنزيل الجزءين بالمطابقة ، وليس قيداً للمنفي.

(٣) من إشكال اجتماع اللحاظين المانع عن إطلاق دليل اعتبار الأمارة.

(٤) جواب قوله : «وفيما لم يكن دليل».

(٥) أي : على تنزيل الجزء الآخر.

(٦) لعل المراد به نفي الدلالة بنفي اللزوم مطلقاً عقلا وشرعاً وعرفاً ، وإلّا فكان الأولى تبديل كلمة «أصلا» بـ «التزاماً» في مقابل المطابقة ، إذ بعد نفى الدلالة المطابقية ووضوح عدم التضمنية أيضا لا يبقى إلّا الدلالة الالتزامية التي هي محل البحث.

(٧) تعليل لقوله : «لم يكن» وضمير «دلالته» راجع إلى الدليل ، يعني : فان دلالة دليل الأمارة على تنزيل مؤداها منزلة الواقع تتوقف على دلالته ... إلخ ، وقد تعرض لهذا التوقف بقوله : «فانه لا يكاد يصح ... إلخ» وقد عرفت توضيحه بقولنا : «وحاصله أن الموضوع إذا كان مركباً ... إلخ».

(٨) يعني : تنزيل الأمارة منزلة القطع الوجداني ، والمقصود تنزيل القطع

١١٤

بالملازمة (١) ، ولا دلالة له (٢) كذلك الا بعد دلالته على تنزيل المؤدى (٣) ، فان (٤) الملازمة انما تدعى بين القطع بالموضوع

______________________________________________________

بالمؤدى منزلة القطع بالواقع الحقيقي.

(١) متعلق بـ «دلالته على تنزيل القطع» يعني : أن دلالة دليل الأمارة على تنزيل المؤدى منزلة الواقع تتوقف على دلالته بالملازمة على تنزيل القطع بالمؤدى منزلة القطع بالواقع الحقيقي.

وجه الملازمة : أن الأثر الشرعي مترتب على القطع بالواقع الحقيقي لا على المؤدى بما هو ، وحينئذ فدلالة الدليل على أن المؤدى كالواقع تستلزم دلالته على أن الأمارة كالقطع بالواقع الحقيقي ليترتب الأثر الشرعي عليه ، وتنزيل القطع كذلك يتوقف على تنزيل نفس الأمارة منزلة القطع ، فيكون مفاد دليل التنزيل جعل الأمارة قطعاً تعبدياً بالواقع التنزيلي ، فمعنى تعلق الأمارة بالمؤدى تعلق القطع بالواقع.

وبالجملة : فدلالة الدليل على تنزيل المؤدى موقوفة على دلالته التزاماً على تنزيل الأمارة منزلة القطع. هذا إثبات التوقف من أحد الطرفين ، وأما إثباته من الطرف الآخر فسيأتي قريباً.

(٢) أي : لدليل الأمارة ، وهذا إثبات التوقف من الطرف الآخر ، يعني : ولا دلالة لدليل الأمارة على تنزيل القطع بالمؤدى منزلة القطع بالواقع الحقيقي الا بعد دلالته على تنزيل المؤدى ، وجه هذا التوقف ـ أي : توقف دلالته على تنزيل القطع على دلالته على تنزيل المؤدى ـ ظاهر ، لأن الأولى التزامية والثانية مطابقية ، وضمير «دلالته» راجع إلى دليل التنزيل.

(٣) أي : تنزيل مؤدى الأمارة منزلة الواقع.

(٤) هذا تقريب لتوقف دلالة دليل الأمارة على تنزيلها منزلة القطع على

١١٥

التنزيلي (١) والقطع بالموضوع الحقيقي ، وبدون تحقق الموضوع التنزيلي (٢) التعبدي أولا بدليل الأمارة لا قطع بالموضوع التنزيلي كي يدعي الملازمة بين تنزيل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقيقي وتنزيل المؤدي (٣) منزلة الواقع [فان الملازمة انما تكون بين تنزيل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقيقي وتنزيل المؤدى منزلة الواقع] كما لا يخفى ، فتأمل جيداً فانه لا يخلو عن دقة.

______________________________________________________

دلالته على تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، وحاصله : أن الملازمة انما تدعى بين تنزيل القطع بالموضوع التنزيلي منزلة القطع بالموضوع الحقيقي ، وبين تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، ومن المعلوم توقف تنزيل القطع بالموضوع التنزيلي منزلة القطع بالموضوع الحقيقي على تنزيل المؤدى منزلة الواقع. وجه التوقف : أن المؤدى ما لم ينزل منزلة الواقع لم يصر موضوعاً تنزيلياً حتى يكون القطع به قطعاً بالموضوع التنزيلي المنزل منزلة القطع بالموضوع الحقيقي.

فالمتحصل : أن اللازم ـ وهو في المقام تنزيل الأمارة منزلة القطع ـ متأخر عن الملزوم ـ وهو تنزيل المؤدى منزلة الواقع ـ وتابع له.

(١) يعني به المؤدى المنزل منزلة الواقع.

(٢) الّذي هو مدلول دليل الأمارة مطابقة كما عرفت.

(٣) أي : وبين تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، وضمير «به» راجع إلى المؤدى. وفي بعض النسخ بعد قوله : «الا بعد دلالته على تنزيل المؤدى» هكذا «فان الملازمة انما تكون بين تنزيل القطع به ... إلخ» والمعنى واحد

١١٦

ثم لا يذهب عليك أن هذا (١) لو تم لعمّ ، ولا اختصاص له بما إذا كان القطع مأخوذاً على نحو الكشف.

الأمر الرابع (٢) : لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم (٣) ،

______________________________________________________

(١) المشار إليه هو التوجيه المذكور في حاشية الرسائل ، أي : لو تم التوجيه المذكور لعم جميع أقسام القطع ، وقوله : «لو» إشارة إلى امتناع تمامية التوجيه المذكور نظراً إلى الإشكال المزبور من استلزامه الدور على ما عرفته ، ومع الغض عن هذا الإشكال وتسليم تمامية ذلك التوجيه فمقتضاه قيام الأمارة والاستصحاب مقام القطع الطريقي المحض والموضوعي بأقسامه الأربعة ، لأنه بعد فرض تكفل دليل الاعتبار لتنزيلين ـ أحدهما بالمطابقة ، والآخر بالالتزام ـ لا مانع من التعميم المزبور أصلا ، هذا.

ثم ان قوله : «ولا اختصاص له ... إلخ» ، قرينة على أن المراد بالقطع الّذي جعله مورداً لبحث قيام الأصول مقامه وعدمه هو القطع الطريقي.

وقد تحصل مما ذكره المصنف : صحة قيام الأمارات بنفس أدلة اعتبارها مقام القطع الطريقي المحض ، وعدم صحته بها مقام القطع الموضوعي بأقسامه الأربعة.

أخذ القطع بحكم في موضوع نفسه

(٢) الغرض من عقد هذا الأمر : بيان امتناع أخذ العلم بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم ولا مثله ولا ضده ، لما سيأتي وجهه.

(٣) كأن يقال : «إذا علمت بحرمة الخمر فالخمر حرام» بأن يكون حرمة الخمر منوطة بالعلم بها ، ولا فرق في امتناع موضوعية العلم بالحرمة لنفسها بين

١١٧

للزوم الدور (١) ، ولا مثله (٢) للزوم (٣) اجتماع المثلين (*)

______________________________________________________

كونه تمام الموضوع وجزؤه ، ولا بين كونه بنحو الصفتية والطريقية ، فان جميع هذه الأقسام الأربعة ممتنعة ، لما أفاده المصنف وسيأتي توضيحه.

(١) تقريبه : أن الحرمة موقوفة على العلم بها ، لكونه موضوعاً لها ، وتوقف كل حكم على موضوعه بديهي ، والعلم بها موقوف على وجودها قبل تعلق العلم بها ، إذ لا بد من وجود حكم حتى يتعلق به العلم أو الجهل ، فالعلم موقوف على الحكم ، وهو موقوف على العلم ، وهذا دور. وببيان أوضح : الحرمة تكون موقوفة على نفسها.

(٢) معطوف على قوله : «نفس» يعني : ولا يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع مثل هذا الحكم ، كما إذا قال : «إذا علمت بحرمة الخمر فالخمر حرام بمثل تلك الحرمة المعلومة لانفسها» بمعنى : أن الحرمة المجعولة ثانياً ليست نفس الحرمة المجعولة لذات الخمر أولا ، بل مثلها.

(٣) تعليل لعدم إمكان أخذ العلم بحكم في موضوع مثل هذا الحكم ، وتوضيحه : أن العلم بحرمة الخمر إذا جعل موضوعاً لحرمة أخرى مثلها بأن قيل : «إذا علمت بحرمة الخمر حرمت عليك الخمر حرمة مثلها» لزم اجتماع حكمين متماثلين في موضوع واحد وهو الخمر المعلوم الحرمة ، واجتماع المثلين كالضدين ممتنع كما قرر في محله.

__________________

(*) ولا فرق في لزوم هذا الاجتماع الممتنع بين كون العلم تمام الموضوع وجزؤه ، ولا بين كونه ملحوظاً على وجه الصفتية أو الطريقية.

كما لا فرق في تحقق المماثلة بين الحكمين بين نشوئهما عن مصلحتين أو

١١٨

ولا ضده (١) ، للزوم اجتماع الضدين (٢).

______________________________________________________

(١) معطوف أيضا على «نفس هذا الحكم» يعني : ولا يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع ضد هذا الحكم ، بأن يكون العلم بحرمة شيء موضوعاً لضد حرمته وهو حليته مثلا ، كأن يقال : «إذا علمت بحرمة الخمر فالخمر لك حلال» أو «إذا علمت بإباحة شرب التتن فهو لك مكروه».

(٢) هذا وجه امتناع أخذ العلم بحكم في موضوع ضده ، وحاصله : أن الخمر المعلوم حرمتها إذا جعل لها حكم ضد الحرمة كالحلية لزم تعلق حكمين

__________________

مصلحة واحدة ، لأن المصالح والمفاسد في المتعلقات ـ بناء على تبعية الأحكام لها كما هو مذهب مشهور العدلية ـ جهات تعليلية للتشريع خارجة عما هو مناط المماثلة من جعل حكمين مثلين كالوجوبين أو الحرمتين لموضوع واحد ، بل محذور اجتماع المثلين لا يختص بمذهب العدلية ويعم مذهب من لا يقول بالتبعية أصلا. فما في حاشية بعض الأعاظم (قده) «من الفرق بين ما يؤخذ في نفسه وما يؤخذ في مثله بأن الحكم الّذي أخذ في موضوعه القطع ان كان ناشئاً عن تلك المصلحة الواقعية فهو مأخوذ في نفسه ، وان كان مصلحة أخرى فهو مأخوذ في مثله» لا يخلو من الغموض.

ثم ان الامتناع المزبور مبني على عدم إجراء تعدد الرتبة في رفع غائلة اجتماع المثلين ، وإلّا فلا مانع من اجتماعهما معه.

نعم يلزم حينئذ لغوية جعل الحكم الثاني ، لكفاية الحكم الأول في تحريك العبد وبعثه.

والحاصل : أنه بناء على كون تعدد الجهة مجدياً في دفع استحالة اجتماع المثلين يلزم القبح لا الاستحالة.

١١٩

نعم (١)

______________________________________________________

متضادين ـ وهما الحرمة والحلية ـ بموضوع واحد وهو الخمر المعلوم الحرمة ، ومن المعلوم امتناع اجتماع المتضادين في موضوع واحد.

(١) استدراك على ما ذكره من امتناع أخذ العلم بحكم موضوعاً لحكم آخر ، وحاصله : أن ما ذكرناه من عدم الإمكان انما هو في الحكم الفعلي ، بأن يكون العلم بالحرمة الفعلية مثلا موضوعاً لنفس هذه الحرمة الفعلية أو مثلها أو ضدها. وأما إذا كان الحكم المعلوم إنشائياً ، فلا مانع من أخذه بهذه المرتبة الإنشائية موضوعاً لنفس ذلك الحكم في المرتبة الفعلية ، كأن يقال : «إذا علمت بإنشاء وجوب الجهر أو الإخفات أو القصر على المسافر وجبت عليك فعلا هذه الأمور» فيكون العلم بالحكم بمرتبته الإنشائية موضوعاً لنفس هذا الحكم بمرتبته الفعلية. وكذا الحال في المثل والضد ، فيصح أن يقال : «إذا علمت بإنشاء حرمة الخمر ، فالخمر حرام عليك فعلا حرمة مماثلة» أو «إذا علمت بحرمة الخمر إنشاءً يباح لك فعلا شربه» وكما إذا قال : «إذا علمت بإنشاء الحرمة لشرب التتن ، فهو حلال لك فعلا» ولا يلزم شيء من المحاذير المتقدمة من الدور أو اجتماع المثلين أو الضدين أصلا ، لتعدد الرتبة.

ثم ان المناط في مثلية الحكم الّذي تعلق به القطع هو كون الحكم المماثل ناشئاً عن ملاك غير ملاك الحكم الّذي تعلق به القطع.

وقد تحصل من كلمات المصنف (قده) أمران : الأول : عدم صحة أخذ القطع موضوعاً لحكم يكون نفس متعلقه ولا مثله ولا ضده.

الثاني : صحة أخذ القطع بمرتبة حكم موضوعاً لمرتبة أخرى من نفس ذلك الحكم أو مثله أو ضده. هذه جملة مما يتعلق بأخذ القطع بحكم في موضوع ذلك الحكم أو مثله أو ضده.

١٢٠