مصباح الفقيه - ج ١٤

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٩

وتوهّم أنّ مقتضى ما ذكرنا : صحة التدبير في الفرض الأول أيضا ، أعني في صورة إطلاق الرهن ؛ لأنّ كونه مدبّرا صيّره كالخلّ المحتمل لأن يصير خمرا ، والإطلاق لا يتسرّى إلى أزيد من موضوعه ، وهو العبد المدبّر ، فبموت المولى يصير حرّا ، ويخرج عن المالية ، فكما أنّ الإطلاق لا يشمل بعد موت نفسه ، كذلك لا يشمل بعد موت المولى أيضا ؛ لخروجه عن المالية بذلك ، مدفوع : بأنّ مآل الإطلاق إلى قوله : سلّطتك على بيع هذا العبد لو لم يؤدّ دينك في شهر كذا ، سواء بقيت حيّا أم لا ، ومآل التقييد إلى قوله : سلّطتك على بيعه في شهر كذا في حال حياتي ، وبينهما بون بعيد.

وبما ذكرنا تبيّن الحكم فيما لو رهن المدبّر نفسه ، و (أمّا لو صرّح برهن خدمته مع بقاء التدبير ، قيل) على ما في المتن : إنّه (يصح التفاتا إلى الرواية المتضمّنة لجواز بيع خدمته) فتشمله القاعدة المسلّمة عندهم : كلّ ما جاز بيعه جاز رهنه.

(وقيل : لا) يصح ، (لتعذّر بيع المنفعة منفردة) بل ولا منضمّة مع الغير ، بل الصحيح إنّما هو بيع ماله المنفعة ، فيتبعه المنفعة من حيث إنّها منفعة لملكه ، لا أنّها جزء المبيع.

(وهو) أي عدم الصحة (أشبه) بقواعد المذهب.

ولكنك قد عرفت أنّ الوجه ليس منحصرا في تعذّر البيع حتى يناقش فيه : بظهور الأخبار في جوازه ، بل العمدة فيه : تعذّر القبض المعتبر في صحته على المختار.

وأمّا القبض المعتبر في البيع إمّا نلتزم بتحقّقه في المقام تبعا لقبض العين ؛ لما عرفت من إمكان الفرق بين القبض المعتبر في البيع وبين القبض في الرهن ، وإمّا نلتزم بتخصيصه بغير هذا المورد ، لهذه الأخبار

٥٨١

الخاصة ، كما أنّ الجهالة أيضا غير مضرّة لتلك الأخبار.

وأمّا القاعدة : فيمنع عمومها بحيث يشمل المورد ، بل لعلّ القائلين بجواز بيعه أيضا لا يلتزمون جميعهم بجواز رهنه ، فلا يحصل الوثوق بالإجماع التعليقي في المقام ، فيوهن بذلك عموم القاعدة.

والحاصل : أنّ الأخبار على فرض تسليم دلالتها على جواز البيع فلا تدلّ على جواز الرهن.

وأمّا القاعدة فلم تثبت حجّيتها عموما بحيث تشمل مورد الكلام ، والله العالم.

وأمّا الشرط الثاني ـ أعني اعتبار كون الرهن مملوكا بمعنى كونه متموّلا ـ فممّا لا شبهة فيه ؛ إذ بدون ذلك لا يعقل بيعه حتى يستوفي منه الدين ، فلا يحصل الاستيثاق الذي شرّع الرهن لأجله ، ويشترط مع ذلك كونه مملوكا للراهن أو مأذونا من قبله حتى يصح البيع ويحصل الاستيثاق.

(و) على هذا (لو رهن ما لا يملك) ه‍ الراهن بأن كان عينا مملوكة لغير المالك (لم يمض) الرهن (ووقف على إجازة المالك) فإن أجاز جاز ؛ لأنّ الظاهر عدم الفرق بينه وبين البيع ، فيدلّ على صحته بالإجازة ما يدلّ على صحة الفضولي في البيع ، ولكن هذا إنّما يتمّ بعد إثبات جواز الإعادة للرهن ، بمعنى تأثير الإذن السابق على الرهن في صحته ؛ إذ لولا ذلك كيف يصحّحه الإذن اللاحق؟! فينبغي أن نتكلّم في جواز الإعارة للرهن حتى تتّضح المسألة.

فنقول : الأقوى : جواز رهن مال الغير بإذن مالكه مطلقا ، سواء كان وثيقة لدين المالك أو الراهن.

أمّا الأول : فوجهه واضح ؛ لكونه وكيلا عن المالك فلا إشكال فيه.

٥٨٢

وأمّا الثاني أيضا فممّا لا إشكال فيه من حيث الحكم ، أعني الجواز ، وإنّما الكلام في أنّه هل هي عارية أو ضمان أو شي‌ء آخر.

وأمّا أصل الجواز : فالظاهر أنّه لا خلاف فيه ـ على ما ادّعاه غير واحد ـ بين الخاصة والعامة ، إلّا عن ابن سريج منهم وإن لم يعرف نقل الخلاف عنه أيضا صريحا.

وكيف كان ، فالظاهر انعقاد إجماع الخاصة على صحته ، وهو الحجّة.

مضافا إلى سلطنة الناس على أموالهم ، إذ ليس هذا إلّا كالإذن في بيعه وأداء دينه من ثمنه.

وأمّا الكلام في كونه عارية أو غيرها ، فالظاهر أنّه عارية ، وفاقا لما نسب (١) إلى علمائنا.

وقد يناقش في تسميته عارية : بوجوه :

منها : أنّ العارية عبارة عن إباحة المنافع مع بقاء العين ، والرهن ينافيها.

ومنها : أنّ الاستيثاق بها ليس من المنافع ، وإنّما هي فائدة تترتّب عليها ، ولا يعدّ مثلها منفعة ، فليس هذا عارية.

ومنها أنّ العارية تقتضي عدم الضمان مع أنّ الراهن ضامن في المقام.

ومنها : جواز العارية مع أنّ هذا ليس بجائز مطلقا ، بل للمرتهن منعه عن التصرّف فيه قبل الفكّ.

ويمكن دفعها ، أمّا الأولى (٢) : فبأنّ الرهنية لا تقتضي الخروج عن

__________________

(١) الناسب هو الشهيد الثاني في المسالك ١ : ٢٢٥.

(٢) التأنيث باعتبار المناقشة.

٥٨٣

الملكيّة حتى تنافي العارية ، بل ليس الإذن في الرهن إلّا ترخيص المستعير على تسليط الغير على بيعه على تقدير ، فليس هذا إلّا كإعارة شخص شيئا وقد أذن للمستعير أن يبيعه لو احتاج إلى ثمنه ويردّ إليه عوضه ، وهذا المقدار لا يقتضي الخروج عن كونه عارية قبل البيع.

ومجرّد صيرورته متعلّقا لحق المرتهن لا يقتضي انقلاب النسبة بينه وبين الراهن.

وأمّا الثانية : فبمنع عدم صدق المنفعة على مثل ذلك ، كيف وقد صرّح غير واحد بجواز استعارة الذهب والفضّة للتزيين ، بل لا يبعد الجواز فيما ما لو استعار لأن يكون مليّا في أعين الناس.

وإن أبيت إلّا عن إنكار الصدق ، فنمنع قصر مورد العارية على ذلك ، بل نقول بجواز العارية في كلّ مورد يستفيد منها المستعير بنحو من الأنحاء ، ولا محذور فيه.

وأمّا الثالثة ، أعني عدم الضمان ، فنقول : إن أريد من عدم الضمان ما يعمّ قيمته بعد استيفاء الدين منه ، فنمنع اقتضاء العارية لذلك ؛ لأنّ هذا ليس تلفا سماويّا ، بل هو إتلاف من الراهن ، ولو فرض إعساره بحيث لا يقدر على فكّه ، فلا يستند إليه الإتلاف ؛ إذ لم يصدر منه إلّا مجرّد الرهن ، وقد كان بإذن المالك ، فلا يورث الضمان عليه.

فنقول : إنّ الإذن في الرهن ليس إلّا ترخيصه في جعل ملكه وثيقة عند الغير ، التي يترتّب عليها بحكم الشرع أو العرف جواز بيعه عند التعذّر ، واستيفاء الدين منه ، وهذا بمجرّده لا يقتضي صيرورة قيمة العين أداء عمّا في ذمّة المديون مجّانا ، ضرورة أنّ الإذن في الرهنية لا يقتضي المجّانية ، فهذا ليس إلّا كقوله : إذا ضاق عليك الأمر فأوف

٥٨٤

ديونك من هذا المال ؛ ولا يستفاد من هذا عرفا ولا شرعا أن يكون هذا مجّانا ، بل لو قيل في المثال باقتضائه ذلك بحسب الظهور العرفي ، لأمكن المنع في المقام عرفا ، فلا يقاس ما نحن فيه بإباحة الطعام مثلا ؛ ضرورة الفرق بينهما بحسب الظهور عند العرف.

والحاصل : أنّ العارية لا تقتضي عدم استحقاقه للقيمة تماما بعد البيع ، بل بقاء العين على ملكيّته وعدم خروجه عن ملكه بالرهن يقتضي دخول العوض في ملكه تماما ، وإذنه في كونه رهنا لا يقتضي إلّا استحقاق استيفاء المرتهن دينه من ثمنه لا مجّانا ، فحصول فراغ الذمّة للراهن بذلك مجّانا ليس من مقتضياتها ، بل مقتضاه ليس إلّا اشتغال ذمّة الراهن للمالك بعد أداء دينه عن ثمن ماله ، وهذا واضح.

وإن أريد من عدم الضمان ـ الذي هو حكم العارية ـ عدمه ما لو تلف بتلف سماوي ، ففيه : أنّه لا فرق من هذه الجهة بين كونه عارية أو غيرها ؛ إذ كما أنّ قاعدة اليد مخصّصة بالعارية ، كذا مخصّصة بمطلق الأمانات ، وما نحن فيه منها وإن لم نسمّه عارية على ما تقرّر في كتاب البيع ، وقد تقدّم في هذا الكتاب أيضا ما يدلّ على ذلك.

وعلى أيّ حال فلا بدّ من ذكر دليل خاص في المقام لإثبات الضمان على القول بثبوته ، سواء قلنا بأنّه عارية أم لا.

ولعلّ الوجه فيه : أنّ بذل المال لأنّ يرهن عرفا تسليط للغير على المال بأن يتصرّف فيه ويستولي عليه نحو استيلاء المالك على ماله بأن يكون تلفه من كيسه بمعنى أنّ له نحو استقلال في التصرّف ، فيشبه القرض ، وهذا بخلاف سائر الأمناء ، فإنّ يدهم يد النيابة ، فلا يقتضي الضمان ، وأمّا في ما نحن فيه ، فكأنّه ألقى كلّه عليه.

وهذا الكلام لو تمّ ، يقتضي الضمان من دون فرق بين كونه

٥٨٥

عارية أو غيرها ؛ لأنّه على فرض تماميّة الظهور العرفي فهو في قوّة الاشتراط في متن العقد ، فتصير العارية مشروطة بالضمان ، وهي مضمنة بلا إشكال.

ولكن فيه ما فيه ، كدعوى كونه في عرضه التلف ، والعارية في مثله تقتضي الضمان ، وفيها أيضا منع صغرى وكبرى لو لم يرجع في بعض الموارد إلى الظهور العرفي بالقرائن الخارجية ، كما لا يخفى.

فعلى هذا ، الأقوى في المسألة : عدم الضمان ولو لم نقل بأنّها عارية.

وأمّا الرابعة : فضعفها ظاهر ؛ لأنّ العارية إنّما تقتضي ذلك لو لم يكن لأمر لازم ، وأمّا لو كان كذلك ، كالإعارة للبناء عليه ، أو للغرس ، أو للدفن مثلا وإن كان للدفن جهة أخرى أيضا وهي حرمة النبش على المالك أيضا بعد أن كان الدفن بإذنه ، فلينتظر أمده في هذه الموارد ، ولا يجوز فيها إلزام المستعير بردّ العارية مطلقا ، كما سيتّضح تفصيله إن شاء الله.

أمّا في ما نحن فيه ، فقد أذن المالك بأن يحدث المستعير في ملكه حقّا لازما للغير ، أعني حقّ الرهانة ، فلا يجوز له إبطال عقد الرهن لكونه واقعا عن أهله في محلّه ، وهو يقتضي اللزوم ، فلا سلطنة له على المرتهن بوجه من الوجوه ، ولازمه حجره عن التصرّف في ملكه قبل الفكّ ، ولا يقتضي كونه عارية الرجوع إليه بعد أن كان بإذنه.

وهل له الرجوع إلى الراهن في ردّ العين إذا كان قادرا على ذلك بمقتضى كونه عارية أم لا؟ فنقول : أمّا قبل إحداث الحقّ للغير فيه بأن يجعله رهنا ، فلا إشكال في أنّ له الرجوع ، ضرورة أنّ مجرّد الإباحة ليس من العقود اللازمة ، فله الرجوع عن إذنه.

٥٨٦

وأمّا بعد حلول الأجل أيضا ، له إلزام الراهن بالفكّ ، بمعنى تخليص ماله ودفعه إليه ؛ لأنّ إذنه لا يقتضي حرمانه عنه أبدا ، بل غايته ترخيصه في استفادته منه بهذه الفائدة الخاصة ، ودفع عينه إليه ، فله المطالبة بالعين.

نعم لازم إذنه في الرهن أن لا يلزمه بتحصيل شخص العين لو بيع لاستيفاء الدين ، فله مطالبة القيمة حينئذ ، وأمّا قبله فله إلزامه بتفريغ ماله.

هذا إذا كان بعد حلول الأجل ، أو كان الدين حالّا ، وأمّا لو كان مؤجّلا ، فهل له ذلك قبل حلول الأجل مع تمكّن الراهن من الفك وقبول المرتهن أم لا؟ فيه وجهان : من أنّ إذنه في جعله رهنا كما أنّه يقتضي رفع سلطنته عن ماله لكونه محجورا عنه بالعقد اللازم كذا يقتضي رفع سلطنته عن الراهن قبل حلول الأجل بإلزامه بالفكّ.

توضيحه : أنّ للسلطنة على المال مراتب :

منها : كونه مسلّطا على التصرّف فيه مطلقا ، وأخذه من يد من هو مسئول عليه فعلا ، سواء كان عن إذنه أم لا.

ومنها : تسلّطه على إلزام من تصرّف فيه في السابق بردّه إليه والخروج عن عهدته ، وهذه السلطنة إنّما تتحقّق فيما لو لم يكن تصرّفه السابق بإذنه لقاعدة اليد.

وأمّا لو كان عن إذنه ، فليتّبع إذنه ، فإن أذن له بجعله في مكان مخصوص مثلا إذنا مطلقا ، فليس له إلزامه بردّه إليه ، وإن أذن له في التصرّف الخاص بشرط أن يردّه بعد شهر مثلا ، فله إلزامه بذلك بعد مضيّ الشهر ، وأمّا قبل انقضاء الشهر فليس له ذلك لو لم يكن تحت يده فعلا بأن كان عند شخص ثالث مثلا ؛ إذ لم يجعل لنفسه في إذنه

٥٨٧

السابق حقّا بالنسبة إلى ما قبل مضيّ الشهر ، وليس هو مستوليا عليه فعلا حتى يمنعه عن التصرّف.

وأمّا التصرّف السابق فالمفروض أنّه وقع بإذنه ، فكذا في ما نحن فيه ؛ فإنّ المالك قد أذن له أوّلا في إبقائه رهنا عند المرتهن إلى هذه المدّة ، لا بمعنى أنّ الرهانة مغيّاة بالمدّة ، بل الإبقاء عنده مطلق إلى أن يؤدّي الدين ، بل بمعنى أنّ الإذن في إبقائه رهنا إنّما هو إلى هذه المدّة ، بمعنى أنّ الظاهر من إذنه في جعله رهنا على هذا الدين المؤجّل ترخيصه في إبقائه إلى هذه المدّة كذلك ، وأمّا بالنسبة إلى ما بعد الأجل فلا تعرّض في كلامه عليه ، فليس له إلزام الراهن بالفكّ قبل حلول الأجل ؛ لأنّ الراهن لم يضعه عند المرتهن إلّا بإذن المالك على ما هو الفرض ، فلازمه حجره عن التصرّف في ماله في هذه المدّة بكلا قسميه المذكورين.

لا يقال : إنّه بعد انقضاء المدّة أيضا كذلك حيث إنّه وضعه تحت يد المرتهن بإذن المالك ، فليس له إلزامه بالفكّ.

لأنّا نقول : ظهور فعله في عدم رفع اليد عن ماله بالمرّة وبقاء علقته في الجملة يقضي بذلك ، بل ظاهر إذنه ليس إلّا جعله رهنا وردّه إليه مهما أراده بأن يفكّه ويردّه إليه.

هذا في غير المؤجّل أو فيه بالنسبة إلى بعد حلول الأجل.

وأمّا في أثناء الأجل : فلا ظهور في ذلك ، بل الظاهر خلافه ، فمقتضى إذنه في التصرّف في ما أعاره بالوجه المذكور هو التفصيل الذي ذكرنا.

وأمّا وجه العدم : فهو أنّ جواز الرجوع من أحكام العارية ، فله ذلك مطلقا ، ولا منافاة بينه وبين لزوم الرهن ؛ إذ لا نقول ببطلان

٥٨٨

الرهن بذلك حتى ينافي لزومه ، بل نقول بلزوم الفكّ على الراهن (١) على ما هو قضيّة العارية.

وببيان آخر : نقول : إنّ الاستيثاق بملكه فائدة يستوفيها المستعير ، فله منعه عن ذلك ، ولم يصدر منه إلّا مجرّد إذن في الاستفادة بهذه الفائدة ، وله الرجوع عن إذنه ؛ إذ ليس الإذن من العقود اللازمة ، فكما أنّ له إلزامه بعد حلول الأجل فكذا قبله.

ويضعّف هذا : أنّ استيثاق كلّ جزء من الزمان ليس على الظاهر فائدة جديدة متقوّمة بإباحة هذا الزمان حتى يكون له منعه عن الانتفاع بهذه الفائدة في كلّ جزء من الزمان ، بل الرهن مثل الإجارة فائدة واحدة قد استوفاها الراهن بأوّل زمان وضعه رهنا ، وليس فوائد متجدّدة حتى يتّجه ما ذكره.

وأمّا تنظيره بما بعد الأجل : فقد عرفت أنّه ليس في محلّه ؛ لما ذكرنا من الفرق بين المقامين.

ثم إنّه لا يخفى أنّه لو سلّمنا أنّ للمالك إلزام الراهن بالفك قبل حلول الأجل ، فإنّما هو في كلّ مورد لا يتضرّر بذلك الراهن ولو لصيرورة الدّين المؤجّل معجّلا لو عدّ مثله ضررا عليه عرفا ، كما في كثير من الموارد ، وإلّا فلا ؛ لقاعدة نفي الضرر.

والمناقشة فيها : بمعارضته بضرر المالك ، مدفوعة : بإقدامه عليه.

وما يتوهّم أنّه إنّما يتمّ لو ثبت لزوم مثل هذه العارية وهو أوّل الكلام ، فيدفعه : أنّ عدم ثبوت الجواز يكفي في ذلك ؛ لأنّ مقتضى إذنه تحمّل الضرر ، فلو ثبت له جواز الرجوع فهو حكم به يرفع الضرر

__________________

(١) في النسخة الخطية : المالك بدل الراهن.

٥٨٩

الذي تحمّله على نفسه أوّلا.

وعلى هذا التقدير يتوجّه قلب الدليل بأن يقال : ضرر الراهن لا يعارض ضرر المالك ؛ لأنّه بنفسه أقدم على الضرر.

ولكن هذا إنّما يصح لو كان جواز الرجوع حكما عرفيا في المقام ، وأمّا لو كان حكما شرعيا تعبّديّا ، فيحتاج إثباته إلى دلالة دليل ، ومعه لا وقع للقلب المذكور ، كما كما لا يخفى.

وبما ذكرنا ظهر ضعف ما التزمه بعض المشايخ في المقام من خروجه عن مسمّى العارية حقيقة ، كخروجه عن حقيقة الضمان أيضا لبعض الوجوه المتقدّمة التي عرفت ضعفها وعدم صلاحيتها لذلك.

وأضعف منه : دعوى : كونه ضمانا لا عارية ، كما نسب إلى بعض الشافعية (١) ؛ لأنّه اصطلاحا إمّا الانتقال من ذمّة إلى أخرى ، كما نراه ، أو ضمّ ذمّة إلى أخرى ، كما يراه بعض العامة ، ومعلوم أنّ شيئا من المعنيين ممّا لم يقصده المالك في إعارته.

وتوجيهه : بأنّ المعير أناب المستعير في الضمان عنه ومصرفه في هذا المال الخاص إن قلنا بصحته ومعقولية اشتغال ذمّته وانحصار ما يؤدّى به الدين في شي‌ء خاص فهو أيضا مما لا يخطر ببال المالك حال الإعارة بأن يوكّله في التضمين.

ودعوى استفادته من الإذن في الإعارة ممّا لم يساعد عليه عرف ولا عقل ، خصوصا لو لم يكن الدين معيّنا حال الإعارة.

واحتمال أنّ المراد من الضمان هو جعل رقبة العين متعلّقا لحقّه كذمّة الضامن في الضمان الاصطلاحي الذي لازمه عدم اشتغال ذمّة

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ٢٥ : ٢٣١ ، وراجع : تذكرة الفقهاء ٢ : ١٥.

٥٩٠

المديون ، مع أنّه بعيد في حدّ ذاته ؛ لكونه خلاف الاصطلاح ، فاسد ؛ لعدم كونه مقصودا لواحد منهم في الموارد المتعارفة ، مع أنّه ربما لا يرضى المرتهن بذلك ؛ لأنّه ربما يؤدّي إلى ضياع ماله ، كما لو تلفت العين مضافا إلى بعد الالتزام بفراغ ذمّة كلّ منهما ، وعدم صيرورة المال فعلا ملكا له ، وصيرورته بعد حلول الأجل كذلك ، كما لا يخفى.

بقي الكلام في ما فرّعوه على النزاع :

منها : ترتّب ضمان التلف على تقدير كونه ضمانا وعدمه على فرض كونه عارية.

وقد عرفت ما فيه من أنّ نفي الضمان ليس مقصورا على كونه عارية ، بل يعمّ مطلق الأمانات ، فإن بنينا على خروج المورد عن الموضوع الذي حكم فيه بنفي الضمان بالتقريب المتقدّم ، فلا إشكال في ثبوته على كلا التقديرين ، لكونه في قوة اشتراط الضمان ، كما أشرنا إليه.

وإن بنينا على عدم تماميّة الوجه المتقدّم ـ كما هو الأظهر ـ فالأقوى : نفي الضمان على كلا التقديرين أيضا.

ومنها : اعتبار ذكر جنس الدين وأجله وقدره وغيرها من أوصافه على تقدير كونه ضمانا ، وعدمه على تقدير كونه عارية.

وفيه : أنّ العارية في مثل هذه الموارد المؤدية إلى اللزوم لا بدّ فيها من بيان يرتفع به الغرر ، ككون الدين حالّا أو مؤجّلا ، فلا فرق من هذه الجهة بين العارية والضمان.

ومنها : أنّه ليس له إجبار الراهن على الفكّ قبل حلول الأجل على تقدير كونه ضمانا ، وجوازه على فرض كونه عارية.

وفيه : ما عرفت من أنّ الأقوى : عدم جواز الإجبار على تقدير كونه

٥٩١

عارية أيضا.

ومنها : أنّه يرجع بما بيع به وإن كان أقلّ من ثمن المثل على فرض كونه ضمانا ، بخلاف العارية ؛ فإنّه يرجع بقيمته تامّة.

وكذا إذا بيع بأكثر منه ، فعلى الضمان يرجع بالجميع ، وعلى العارية بقدر القيمة.

وفيه : ما لا يخفى.

أمّا فيما إذا بيع بأزيد من ثمن المثل : فلا وجه للرجوع إلى القيمة أصلا ، سواء كان ضمانا أو عارية ؛ إذ لا معنى لخروج العين عن ملكه وعدم دخول عوضه في مكانه ، فاستحقاقه تمام العوض على هذا التقدير ممّا لا ينبغي الريب فيه.

نعم لو بيع بأقلّ من ثمن المثل يرجع بقدر القيمة على تقدير كونه عارية ، وعلى تقدير كونه ضمانا ، فالظاهر عدم جواز بيعه بما دون القيمة ، حيث إنّ إذنه في البيع ينصرف إلى البيع بثمن المثل ، لا إلى ما دونه.

ولو فرض تعميم الإذن بحيث يعمّ المورد ، فلا إشكال حينئذ أيضا في أنّه لا يستحقّ إلّا المقدار الذي بيع به.

أمّا على فرض كونه ضمانا : فواضح.

وأمّا على تقدير كونه عارية أيضا كذلك ؛ لأنّه بنفسه أذن في هذا البيع فلا يستحقّ إلّا الثمن الذي بيع به.

وبالجملة تسميته ضمانا أو عارية لا تؤثّر في مثل هذه الأشياء المنوطة بالإذن المستفاد من كلامه ، فهو المناط في ترتّب الأحكام ، لا تسميته ضمانا أو عارية.

٥٩٢

تذنيب كما تصحّ الإعارة للرهن ، كذا تصحّ الإعارة للإجارة ؛لأنّ الاستفادة بثمن المنافع أيضا من منافع العين ، فلمالكها تسليط الغير على استيفائها وإباحتها له.

ودعوى : أنّ الإجارة تقتضي سبق الملك بالنسبة إلى المنافع بعد تسليمها ، نقول : إنّ نفس المنافع التي توجد شيئا فشيئا لا يعقل أن تكون مملوكة لأحد قبل وجودها ، فكونها مملوكة إنّما هو بنحو من الاعتبار عند العقلاء وبهذه الملاحظة إجارتها وأخذ عوضها ، ويقال : إنّ الملكية آنا ما تستبتعه المنافع إلى آخر الأبد ، فليس معنى كون المنافع مملوكة مملوكية المنافع التي لم توجد حال الإجارة ، بل معناه تحقّق هذا الاعتبار الذي هو أمر عقلائي ، وهذا من توابع الملك وفوائده ، فللمالك تسليط الغير عليه إمّا بعقد لازم كالإجارة والصلح أو بإباحته له ، ومعنى إباحته له : أنّ له استيفاءه ، ومعنى جوازه وعدم لزومه : أنّ له الرجوع عن هذا الإذن فمتى لم يرجع له الاستيفاء بالإجارة ، وبعد الاستيفاء لم يبق لرجوع المالك عن إذنه مورد لمضيّ الأمر وكونه أمرا آنيّا واقعا عن إذنه ، فعلى هذا لا إشكال في صحّة الإعارة للإجارة.

وأمّا الإعارة للبيع الخياري قد يتوهّم جوازه ؛ نظرا إلى أنّ الاستفادة بثمنه نحو من الانتفاع ، ولا محذور فيه بعد التزامه بردّ العين أو بدله ، خصوصا مع العزم على الأخذ بالخيار وردّ العين.

ولكن الأقوى : المنع ، وفاقا لما هو المحكي عن العلّامة ـ قدس‌سره ـ في كتاب الرهن من التذكرة (١) ، معلّلا : بأنّ البيع معاوضة ، فلا يملك

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ٢ : ١٥.

٥٩٣

الثمن من لا يملك المثمن ، ولم يحك عن غيره التعرّض للمسألة.

وظنّي أنّه حكي عنه القول بالجواز في بعض الموارد.

وكيف كان فالظاهر أنّه لا إشكال في عدم الجواز ؛ لما تقدّم في مبحث البيع الفضولي من أنّه يعتبر في البيع أن يكون في ملك البائع ، مضافا إلى ما ذكره من التعليل ، والله العالم.

إذا عرفت ما ذكرنا من صحة الإعارة للرهن ، علمت أنّ الأقوى تأثير الإذن اللاحق في الصحة إذا وقع العقد فضولا ، سواء كان الرهن لدين نفس المالك أو الراهن أو شخص أجنبي.

وأمّا ما لو رهنه المالك بنفسه لدين الغير من دون إذنه ، فليس من الفضولي في شي‌ء ، بل هو عقد صحيح واقع من أهله في محلّه ، فهو لازم أجاز المديون أم لا ، فهو كالمتبرّع في وفاء الدين.

نعم لو أذن له في وفاء الدين وبيع الرهن ، واستوفى منه الدين ، فله أن يرجع إلى المديون بما أدّاه لا بالقيمة ، كما هو واضح.

وله أن يرجع عن إذنه أيضا قبل الاستيفاء ؛ إذ ليس إذنه إلّا بمنزلة التوكيل ، فله الرجوع عنه ، ولا يبطل به الرهن ؛ لأنّه عقد لازم ، ولا ينوط بإذنه حتى يبطل برجوعه ، والله العالم.

(وكذا لو رهن ما يملك وما لا يملك ، مضى في ملكه ، ووقف في حصة شريكه على إجازته (١)) سواء كان مشتركا بينهما بالإشاعة أم لا.

والإشكال في أصل رهن المشاع كما عن أبي حنيفة (٢) ، محتجّا : بعدم إمكان القبض ، وبأنّه قد يصير جميع ما رهن بعضه في حصة الشريك ،

__________________

(١) في الشرائع ٢ : ٧٦ : الإجازة.

(٢) حكاه صاحب الجواهر فيها ٢٥ : ١٢٦.

٥٩٤

كما إذا رهن الحصة المشاعة من بعض معيّن في الدار المشتركة ـ مثلا ـ ، واضح الدفع ؛ إذ لا مانع من القبض بعد إذن الشريك ورضاه ، كما مرّت الإشارة إليه.

وأمّا الوجه الثاني : مع أنّه أخصّ من مدّعاه ، يرد عليه : أنّه نلتزم في هذه الصورة بعدم جواز القسمة لو كان مستلزما لإبطال حقّ المرتهن ، إلّا أن يرضى المرتهن بذلك ، أو بأن يستبدل الراهن العين المرهونة على تقدير صيرورته في حصة الشريك بشي‌ء آخر.

والحاصل : أنّه كما أنّ بيع جزء مشاع من بعض معيّن من الدار المشتركة مانع عن جعله جزء لتمام الدار في القسمة ، بأن يكون تابعا لها ، بل لا بدّ من أن يلاحظ هو بنفسه ، وترد القسمة عليه مستقلا بين الشريك والمشتري من دون ملاحظة ما عداه ، كذلك في ما نحن فيه ، فلا بدّ للشريك إمّا الصبر إلى أن ينفكّ الرهن إمّا بالبيع أو بالرجوع إلى مالكه ، أو ترد القسمة على خصوص الجزء مستقلا ، كما لو صار ملكا لثالث ، أو بجعل الحصة التي هذا الجزء منها حصة للراهن لو رضي الراهن به.

وكيف كان ، فلا مانع من رهنه حال الإشاعة.

وأمّا سلطنة الشريك على القسمة مطلقا فهي مسألة أخرى دائرة مدار نظر الفقيه ، ولا يصلح أن يكون مانعا عن الرهن حال الإشاعة ، والله العالم.

(ولو رهن المسلم خمرا) أو نحوه ممّا لا يملكه (لم يصح ولو كان عند ذمّي ، ولو رهنها الذمّي عند مسلم ، لم يصح أيضا ولو وضعها على يد ذمّي على الأشبه) لعدم كونه ملكا حتى يوفّي منها دينه أو يستوفي منها حقّه ، وهذا ظاهر.

٥٩٥

(ولو رهن أرض الخراج ، لم يصح) رهنها (لأنّها لم تتعيّن لواحد) من المسلمين.

(نعم يصح رهن ما بها من أبنية وآلات وشجر) لكونها مملوكة لصاحبها ، بخلاف رقبة الأرض.

هذا إذا لم نقل بصيرورة رقبة الأرض ملكا للمعمّر تبعا للآثار ، وأمّا لو بنينا على ذلك ـ كما تقدّم الكلام فيه في كتاب البيع ـ فالظاهر صحة رهنها ، كالأبنية الثابتة عليها.

(و) أمّا الشرط الثالث ، وهو : إمكان القبض ، فقد علم وجه اعتباره في ما تقدّم من اشتراط القبض ، فـ (لو رهن ما لا يصح) أي لا يمكن (إقباضه) عادة (كالطير في الهواء) غير معتاد العود (والسمك في الماء) إذا كان غير محصور (لم يصح رهنه.)

هذا إذا بنينا على اعتبار القبض ، كما هو الأقوى ، وأمّا لو لم نقل بذلك ، فلا يبعد القول بالصحة كما في المسالك (١) ؛ لعدم المانع.

وتخيّل تعذّر استيفاء الحقّ من ثمنه ؛ لعدم صحة بيعه ، يندفع :بإمكان الصلح عليه ، وكلّية ما صحّ بيعه صحّ رهنه ليست منعكسة كلّيّا عكسا لغويّا.

(وكذا لو كان ممّا يصح إقباضه ولم يسلمه) لا يصح الرهن يعني لا يتمّ ، بل يقع مراعى إلى أن يحصل ما يقتضي الفسخ ، وإلّا فالظاهر أنّ المقارنة ليست شرطا ، كما هو واضح.

(وكذا لو رهن عند الكافر عبدا مسلما أو مصحفا) لنفي السبيل له عليهما.

__________________

(١) مسالك الأفهام ١ : ٢١٨.

٥٩٦

(وقيل) والقائل : الشيخ في المحكي (١) عن مبسوطة : (يصح) رهنه (ويوضع على يد مسلم ، وهو أولى) لمنع كون مثل ذلك سبيلا ، بل هو أسهل من إجارة المسلم نفسه للكافر.

هذا لو كان الرهن على يد مسلم ، وأمّا لو كان تحت يده ، فقد حكي الإجماع على منعه ، فإن تمّ فهو ، وإلّا ففيه أيضا كلام.

(و) أمّا الشرط الرابع : أعني كونه ممّا يصح استيفاء الدين منه بالبيع ونحوه ، فقد عرفت أنّ اعتباره ممّا لا إشكال فيه ، ويتفرّع عليه أنّه (لو رهن وقفا لم يصح) لعدم جواز بيعه ، بل مطلق نقله وإن كان مملوكا للموقوف عليه.

هذا في غير الموارد المستثناة التي يجوز فيها بيعه واضح ، وأمّا فيها فربما يشكل في بعض صورها ، كما إذا كان البيع للحاجة حيث يجوز لهم صرف ثمنها ، فلعلّ الرهن أصلح بحالهم وبحال الوقف وغرض الموقوف عليهم.

ودعوى : اختصاص دليل الجواز بخصوص البيع قابلة للمنع وإن كان موردها خاصّا إلّا أنّ دعوى استفادة جواز الانتفاع بثمنها مطلقا ، وجواز التصرّف لهم فيها بحيث يرتفع به حاجتهم ، ليست خالية عن وجه.

واحتمال طروّ الغناء للراهن المانع عن البيع لا ينافي الوثوق الحاصل له من قبل الرهن ، حيث إنّه اطمأنّ لأجل الرهن أنّه يصل إليه ماله إمّا لأجل أداء الراهن لو تيسّر له ، وإمّا ببيعه لو تعسّر عليه.

وكذا احتمال موت الراهن وانتقاله إلى الطبقة اللاحقة أيضا لا ينافي

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ٢٥ : ١٣٠ ، وراجع : المبسوط ٢ : ٢٣٢.

٥٩٧

الوثوق ، كاحتمال ضياع نفس الرهن.

نعم ليس الوثوق الحاصل منه مثل الوثوق الحاصل من رهن الملك المطلق ، ولكنه ليس بضائر.

هذا ، مع أنّه على تقدير كون الراهن متولّيا للوقف ، فالظاهر نفوذ تصرّفه فيه ، وعدم إبطال الرهن بموته ، ولكن المسألة تحتاج إلى مزيد تأمّل فتأمّل.

(ويصح الرهن) للمشتري (في زمن (١) الخيار ، سواء كان للبائع أو للمشتري أو لهما ؛ لانتقال الملك (٢) بنفس البيع (٣) على الأشبه) فيجوز له التصرّف بما يشاء كما تقدّم الكلام فيه في البيع.

فلو كان الخيار للراهن ، ينعقد الرهن ويسقط خياره ؛ لأنّه تصرّف فيه ، ولو كان للآخر فهو يبقى بحاله ، ولا يمنع عن انعقاد الرهن لازما من قبل الراهن ، كما مرّ نظيره فيما لو آجره في زمان الخيار.

وهل ينفسخ بفسخ من له الخيار أم لا؟ فيه وجهان ، أظهرهما :العدم ؛ لطروّ المانع الشرعي الذي هو بمنزلة العقلي ، وقد ظهر وجهه ممّا تقدّم في مبحث البيع مستوفى.

وعلى هذا فلو بيع ، فله بدل الحيلولة.

وهل يجب عليه الفكّ مقدّمة لأداء شخص ماله مع التمكّن؟ فيه وجهان ، كما تقدّم نظيره فيما لو نقله بعقد خياري ، فراجع.

(و) كذا (يصح رهن العبد المرتدّ ولو كان عن فطرة) لوجود

__________________

(١) في الشرائع : زمان.

(٢) في الشرائع : المبيع.

(٣) في الشرائع : العقد.

٥٩٨

المقتضي وانتفاء المانع.

أمّا المقتضي : فهو كونه عينا مملوكة قابلة للتصرّف.

وما يتوهّم كونه مانعا ، أمّا في غير الفطري فاحتمال بقائه على كفره وعدم توبته ، وهو غير ضائر ؛ لعدم خروجه بذلك عن المالية ، وعدم منافاته لحصول الاستيثاق به لأجل ثمنه ؛ لأنّ بقاءه على كفره على تقدير تحقّقه واقعا ليس إلّا بمنزلة مرض مستمرّ ، ومعلوم أنّ مثل هذه الأمور لا يوجب إلّا النقص في ماليّته ، لا خروجه عن كونه مالا ، وعدم جواز بيعه.

وأمّا المرتدّ الفطري : فالظاهر أنّه أيضا كذلك ؛ لأنّ كونه مستحقّا للقتل لا يوجب الخروج عن كونه مملوكا قبل أن يقتل ، فلا مانع عن بيعه خصوصا في أمثال زماننا المتعذّر فيها إقامة الحدود.

نعم لو كانت الإقامة بالنسبة إليه محتملا احتمالا قريبا عادة ، لكان للمنع عن رهنه بدعوى عدم حصول الوثوق بمثله وجه.

ولكن الأوجه على هذا التقدير أيضا خلافه ؛ لكونه على هذا التقدير بمنزلة المريض الذي يحتمل موته قبل حلول الأجل ، وكذا غيره من النظائر.

بل لو قلنا بوجوب قتله على عامّة المكلّفين الذين منهم الراهن والمرتهن أيضا ، لا يخلو القول به عن قوّة ولو مع تمكّنهم من ذلك ، وتنجّز التكليف عليهم بالنسبة إليه ؛ لأنّ وجوب إتلافه تكليفا لا يستلزم الخروج عن المالية ، فهو مال يجب إتلافه ، فما دام لم يمتثل هذا التكليف الوجوبي يبقى على مملوكيته ، ويترتّب عليه آثار الملكية من جواز نقله ورهنه وسائر التصرّفات فيه.

غاية الأمر أنّهم معاقبون لأجل تركهم واجبا من الواجبات الشرعية

٥٩٩

فتأمّل.

وكيف كان ، فالظاهر أنّه لا إشكال في جواز رهنه في هذه الأزمنة المتعذّر فيها إقامة الحدود.

فما عن بعض (١) من إطلاق القول بعدم الجواز في الفطري ، بل في غيره أيضا ، ضعيف.

(و) كذا يصحّ رهن (الجاني خطأ ، وفي العمد تردّد ، والأشبه) الأظهر : (الجواز) كسابقه ؛ لحصول المقتضي الذي هو استجماع شرائط الرهن ؛ إذ الظاهر عدم خروجه بالجناية عن ملك مالكه ، بل هو باق على ما كان ، فيجوز لمالكه التصرّف فيه بما يشاء ، إلّا أن يمنعه مانع.

وما يصلح لأن يتوهّم كونه مانعا في المقام ليس إلّا تعلّق حقّ المجني عليه به ، وهو غير مانع عن الرهن ، كما تقرّر في مبحث البيع ؛ لعدم المنافاة ، إذ ليس حقّه إلّا سلطنته على استرقاقه ولكن بشرط امتناع المالك عن الفداء في الأول ، وهذا هو الفارق بين القسمين.

ولعلّه لذا تردّد المصنّف ـ رحمه‌الله ـ في القسم الثاني أوّلا دون الأول ؛ نظرا إلى أنّ حقّ المجني عليه تعلّقه برقبة العبد فيه أجلى ، حيث إنّ اختيار الفداء في العمد له بخلافه في الخطأ ؛ فإنّه بيد المالك.

وكيف كان ، فلا ينافي نفوذ التصرّفات الصادرة عن المالك قبل أن يسترقّه ؛ إذ غاية ما يقتضيه حقّه جواز استرقاقه مهما شاء بعد تحقّق شرطه من امتناع المالك في القسم الأول ، سواء كان باقيا على ملك المالك أو نقله إلى الغير.

__________________

(١) حكاه عن ابن الجنيد صاحب الجواهر فيها ٢٥ : ١٣٤.

٦٠٠