مصباح الفقيه - ج ١٤

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٩

الصحيحة ، وهي موهونة بالنسبة إلى هذه الفقرة ، بل وكذا بعض فقراتها الأخر بمخالفتها للإجماع ، بل قد يتسرى الضعف منه إلى القول بثبوته في الهبة أيضا ؛ لعدم القول بالفصل على ما قيل (١) وإن لا يخلو عن تأمّل.

وكيف كان فيتوجّه على الاستدلال بجميع ما ذكر ـ بعد تسليم تماميّة الاستدلال بالجميع لإثبات عموم متعلّق الخمس بحيث يعمّ مثل الميراث والهبة ونحوها ـ أنه لا ينبغي الارتياب في عدم تعارفه بين المسلمين في زمان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، ولا بين الشيعة في عصر أحد من الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ ، وإلّا امتنع عادة اختفاء مثل هذا الحكم ـ أعني وجوب صرف خمس المواريث ، بل وكذلك العطايا مع عموم الابتلاء به ـ على النساء والصبيان من المسلمين ، فضلا عن صيرورته خلافيّا بين العلماء ، أو صيرورة خلافه مشهورا لو لم يكن مجمعا عليه ، فوقوع الخلاف في مثل المقام أمارة قطعية على عدم معروفيّته في عصر الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ ، بل ولا في زمان الغيبة الصغرى ، وإلّا لقضت العادة بصيرورته من ضروريّات الدين لو كان في عصر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، أو المذهب لو كان في أعصار الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ ، كما أشار إليه الحلّي في عبارته المتقدمة (٢) حيث نبّه على أنّ ما ذهب إليه الحلبي من ثبوته في الميراث والهبة والهدية لو كان صحيحا ، لنقل كنقل أمثاله متواترا ، فلو كان ثابتا في أصل الشرع ، وداخلا في عموم ما أريد بالغنيمة والاستفادة الواردة في الكتاب والسنّة ـ كما ليس بالبعيد ـ لوجب الجزم باندراج مثل هذه الأشياء التي لم يتعارف بين المسلمين تخميسها في موضوع أخبار

__________________

(١) راجع : كتاب الخمس للشيخ الأنصاري : ٥٦٥.

(٢) تقدّمت في صفحة ١١١.

١٢١

التحليل ؛ فإنّها هي القدر المتيقّن ممّا أريد بتلك الأخبار بشهادة الأمارات ، فليس حال الروايات الدالّة على عموم متعلّق الخمس بعد تسليم دلالتها إلّا حال المستفيضة المتقدمة (١) في صدر الكتاب ، الدالّة على أنّ الأرض وما أخرجه الله منها كلّها للإمام.

وما ورد من : أنّ كلّ شي‌ء في الدنيا فإنّ لهم ـ أي : للأئمة عليهم‌السلام ـ فيه نصيبا (٢) ؛ في عدم كونه مناطا للتكليف الفعلي ، كما يؤيد ذلك اقتران أغلب ما يدلّ على عموم متعلّق الخمس بالإذن والتحليل للشيعة.

ويشهد له : خبر أبي خديجة ، المتقدم (٣) ، الذي اعترفنا ـ في ما تقدّم ـ بصراحته في التحليل الأبدي بالنسبة إلى بعض أقسام الخمس التي منها المواريث والجوائز.

وكفى بمثل هذا الخبر شاهدا لإثبات التحليل في مثل هذه الأشياء على تقدير تسليم ثبوته في أصل الشرع بعد اعتضاده بالسيرة وغيرها ممّا عرفت ، كما أنّه يكفي في عدم جواز التعويل على مثل هذه العمومات المثبتة للخمس في كلّ فائدة ، إعراض المشهور عنها ، ومخالفتها للنصوص المستفيضة الحاصرة للخمس في خمسة (٤) أو في أربعة (٥) ، وفي بعضها ليس الخمس إلّا في الغنائم خاصة (٦) فإنّه على تقدير تعلّق الخمس بكلّ شي‌ء

__________________

(١) تقدّمت في صفحة ٧.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ٦١ ـ ٦٢ / ٥٣ ، الوسائل : الباب ١ من أبواب الأنفال ، الحديث ٣٣.

(٣) تقدّم في صفحة ١٠٥.

(٤) راجع : الوسائل : الباب ٢ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الأحاديث : ٤ و ٩ و ١١.

(٥) راجع : الوسائل : الباب ٢ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ١٢.

(٦) الفقيه ٢ : ٢١ / ٧٤ ، التهذيب ٤ : ١٢٤ / ٣٥٩ ، الإستبصار ٢ : ٥٦ / ١٨٤ ، الوسائل : الباب ٢ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ١.

١٢٢

لا يكاد يظهر للحصر وجه ، سواء أريد به الحصر الحقيقي أو الإضافي.

اللهم إلّا أن ينزّل الحصر على إرادته في زمان خاص تخفيفا من الإمام ـ عليه‌السلام ـ بالنسبة إلى ما عداه ، وهو كما ترى ، أو بحمله على التقية وهو أيضا بعيد لا يصار إليه إلّا لمعارض أقوى.

نعم بناء على شمول الغنيمة لكلّ فائدة يستفيدها ولو بإرث ونحوه ، يمكن أن يكون المراد بحصر الخمس فيها بالإضافة إلى ما يملكه بالعوض ، فليتأمّل.

والحاصل : أنّه لا يصح التعويل على ظواهر الأدلّة الاجتهادية في مثل هذا الحكم الذي يعم به الابتلاء ما لم يعتضد بعمل الأصحاب ، ويشتهر مضمونها بين المتشرّعة خصوصا بعد الالتفات إلى الأخبار الكثيرة الواردة في التحليل ، فإنّا وإن ناقشنا في دلالة كلّ واحد واحد منها إمّا من حيث دلالته على أبدية الحكم ، أو من حيث عموم متعلّقه ، أو غير ذلك ممّا عرفت ، ولكنّها تورث مزيد الوهن في الأخبار التي لم يشتهر العمل بها والجرأة على طرحها أو الأخذ بالظواهر والأصول المنافية لها ، كما لا يخفى.

فتلخّص ممّا ذكر : أنّ الالتزام بثبوت الخمس في ما عدا ما اشتهر بين العلماء ـ وهو أرباح التجارات والصناعات وسائر أنواع التكسّبات ـ مشكل.

ثم إنّ من جملة التكسّبات التي يتعلّق الخمس بفوائدها : إجارة الإنسان نفسه أو خادمه أو دابته أو داره أو ضيعته أو غير ذلك من أنحاء الإجارات والمعاملات.

فما في مكاتبة ابن مهزيار قال : كتبت إليه : يا سيدي رجل دفع إليه مال يحجّ به ، هل عليه في ذلك المال حين يصير إليه الخمس ، أو على ما

١٢٣

فضل في يده بعد الحجّ؟ فكتب ـ عليه‌السلام ـ «ليس عليه الخمس» (١) مطروح أو محمول على ما لو كان الدفع من باب الصلة ، وصرف المال في سبيل الله ، والتسبيب لعمل الخير ، كما لعلّه الظاهر من السؤال ، لا الأجرة حتى يدخل في أرباح المكاسب ، أو على ما إذا لم يفضل ما يبقى في يده بعد الحجّ عن مئونة سنته أو غير ذلك.

وأمّا نماء الإرث والهبة ونحوها : فالأشبه أنّه كأصله لا يتعلّق به الخمس ما لم يقصد بإبقائه الاسترباح والتكسّب ، كما صرّح به بعض (٢) ، خلافا لآخرين (٣) ، فكلّ ما اتّخذه للاكتساب فظهر فيه ربح بنماء أو أثمار أو إنتاج تعلّق به الخمس ، ولو أراد الاكتساب والاسترباح بفوائده لا بأصله ، دخلت فوائده دون زيادة أعيانه ، كما صرّح بهما كاشف الغطاء (٤) ، ولا عبرة بزيادة القيمة السوقية ؛ لأنّها أمر اعتباري لا يعدّ ربحا بالفعل ، ولذا يقال عرفا : إنّه لو باعه بتلك القيمة كان يربح ، فمتى باعه بأكثر من رأس ماله دخلت حينئذ في الأرباح ، فلو حصلت زيادة القيمة السوقية في السنة الماضية ولم يبعه طلبا لزيادة الربح ، وباعه في هذه السنة عدّت الزيادة من أرباح هذه السنة ، ولو نقصت قيمته حال البيع ، أو باعه بقيمة أقلّ لا يعتنى بزيادته السابقة.

ولعلّ من جعل زيادة القيمة السوقية أيضا من الأرباح ـ كما في عبائر غير واحد منهم ـ أراد ما لا ينافي في ما ذكر ، وإلّا فيظهر ضعفه بمراجعة العرف.

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٤٧ / ٢٢ ، الوسائل : الباب ١١ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ١.

(٢) وهو الشيخ الأنصاري في كتاب الخمس : ٥٦٥.

(٣) راجع : البيان : ٢١٩ ، وجواهر الكلام ١٦ : ٥٤.

(٤) كشف الغطاء : ٣٦٢.

١٢٤

تنبيه قال شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ : وقد يتخيّل وجود الخلاف في ما يفضل من الغلّات التي اشتراها وادّخرها للقوت وإن لم يكن أصله ممّا يتعلّق به الخمس ، بل دعوى الوفاق عليه ؛ لعبارة وقعت للعلّامة في المنتهى حيث قال ـ في ما حكي عنه ـ : يجب الخمس في أرباح التجارات والزراعات والصنائع وجميع الاكتسابات وفواضل الأقوات من الغلّات والزراعات عن مئونة السنة على الاقتصاد عند علمائنا أجمع. وتبعه على هذا التعبير في الرياض.

ولا يخفى ما في هذا التخيّل ومنشأه.

أمّا فساد تخيّل وجود الخلاف : فلأنّ ما يفضل ممّا اشتري للقوت إن كان أصله من المئونة المستثناة من المال الذي يجب فيه الخمس كما إذا وضع مائة دينار من ربح تجارته ، فاشترى به الطعام لسنة الاكتساب ، فلا تأمّل لأحد في وجوب الخمس في الفاضل ، لكونه فاضلا عن مئونة السنة.

وإن كان أصله من المال الذي لا يتعلّق به الخمس أو اعطي خمسه فلا تأمّل أيضا في عدم وجوب الخمس.

والحاصل : أنّه لا خلاف لأحد في أنّ الفاضل حكمه حكم أصل المال ، فإن كان ممّا يجب تخميسه فلا خلاف في وجوب تخميس الفاضل ، وإلّا فلا خلاف في عدمه.

وأمّا عبارة المنتهى فهي وإن طعن عليها المحقّق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، والمدقّق الخوانساري في حاشية منه على حاشية اللمعتين : بوقوع التكرار فيها ، إلّا أنّ الظاهر أنّه أراد بما يفضل من الغلّات والزراعات

١٢٥

ما يفضل من غلّة البساتين والزراعات التي أحدثها لقوت عياله وصرفها فيهم من البساتين الصغار والخضرويّات ، لا المعدّة للاسترباح والاكتساب (١) حتى يكون مكرّرا لما قبله ، فيكون إشارة إلى نحو ما تضمّنته رواية السرائر ، المتقدّمة من وجوب الخمس في ما يفضل عن أكل العيال من حاصل البستان الموجود في الدار ، فلا دخل له بفاضل ما اشترى وادّخر للقوت ، فإنّ حكمه حكم أصله إجماعا (٢). انتهى كلامه بأدنى تغيير في التعبير ، وهو جيّد.

الموقع الثالث : في شرح المئونة الخارجة عمّا يتعلّق به الخمس من هذا القسم.

فنقول : لا إشكال ولا خلاف في أنّ الخمس إنّما يجب في الأرباح المذكورة بعد وضع المئونة منها ، ولذا عبّر كثير منهم ـ كما في المتن ـ بما يفضل عن المئونة من الأرباح ، والمراد من المئونة غير مئونة التحصيل التي لا يختص استثناؤها بهذا القسم ، بل لا يعدّ الربح ربحا إلّا بعد وضعها ، بل هي مئونة الشخص وما يصرفه في حوائجه طول السنة.

وقد حكي (٣) دعوى الإجماع على استثنائها عن جملة من الأصحاب.

وعن شرح المفاتيح أنّه إجماعي ، بل ضروري المذهب (٤).

ويدلّ عليه : مضافا إلى الإجماع ، جملة من الأخبار المتقدّمة :

منها : قوله ـ عليه‌السلام ـ في رواية علي بن شجاع النيسابوري ، الواردة

__________________

(١) في النسخة : والاكتسابات.

(٢) كتاب الخمس : ٥٣٢ ، وراجع : منتهى المطلب ١ : ٥٤٨ ، ورياض المسائل ١ : ٢٩٤ ، ومجمع الفائدة والبرهان ٤ : ٣١٠.

(٣) حكاه الشيخ الأنصاري في كتاب الخمس : ٥٣٢ ، وراجع : الخلاف ٢ : ١١٨ ، المسألة ١٣٩ ، والسرائر ١ : ٤٨٩.

(٤) حكاه الشيخ الأنصاري في كتاب الخمس : ٥٣٢ ، وراجع : الخلاف ٢ : ١١٨ ، المسألة ١٣٩ ، والسرائر ١ : ٤٨٩.

١٢٦

في الحنطة الباقية بعد مئونة الضيعة ودفع العشر : «لي منه الخمس ممّا يفضل من مئونته» (١) فإنّ ظاهره ، بل كاد يكون صريحه إرادة مئونة الرجل المفروض في السؤال من حيث هو ، لا مئونته التي صرفها في تحصيل الحنطة وعمارة الضيعة.

وقوله ـ عليه‌السلام ـ في خبر الأشعري الذي وقع فيه السؤال عن أنّ الخمس هل يتعلّق بجميع ما يستفيد الرجل من جميع ضروب الاستفادة والصنائع؟ : «الخمس بعد المئونة» (٢) فإنّ ملاحظة السؤال تدلّ على إرادة مئونة الشخص لا مئونة التحصيل حيث إنّ كثيرا من الاستفادات والصنائع لا يحتاج تحصيلها إلى أزيد من مئونة الشخص.

وأوضح منه دلالة عليه : قوله ـ عليه‌السلام ـ في خبر علي بن راشد ، المتقدّم (٣) : «إذا أمكنهم بعد مؤونتهم».

وقوله ـ عليه‌السلام ـ في مكاتبة إبراهيم بن محمد الهمداني ، التي قرأها ابن مهزيار ، الواردة في خمس الضياع : «الخمس بعد مئونته ومئونة عياله وخراج السلطان» (٤).

وقوله ـ عليه‌السلام ـ في مكاتبة ابن مهزيار ـ الطويلة ـ : «فأمّا الذي أوجب من الضياع والغلّات في كلّ عام فهو نصف السدس ممّن كانت

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٦ / ٣٩ ، الإستبصار ٢ : ١٧ / ٤٨ ، الوسائل : الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٢.

(٢) التهذيب ٤ : ١٢٣ / ٣٥٢ ، الإستبصار ٢ : ٥٥ / ١٨١ ، الوسائل : الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ١.

(٣) تقدّم في صفحة ٩٦.

(٤) التهذيب ٤ : ١٢٣ / ٣٥٤ ، الإستبصار ٢ : ٥٥ / ١٨٣ ، الوسائل : الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٤.

١٢٧

ضيعته تقوم بمئونته ، ومن كانت ضيعته لا تقوم بمئونته فليس عليه نصف سدس ولا غير ذلك» (١).

وقد أشرنا ـ في ما سبق ـ إلى توجيه ما في الخبر من الإشكال والاقتصار على نصف السدس.

وكيف كان فيستفاد من هذه الأخبار : أنّ الخمس إنّما يجب في هذا القسم في الفاضل عن مئونته ، فيقيّد به إطلاق ما في غيرها من الروايات ، ولكن ليس في شي‌ء منها تصريح بإرادة مئونته طول سنته ، بل ظاهرها إرادة مئونته من حيث هي من غير تقييدها بيوم أو شهر أو سنة ، ومئونة الشخص مهما أطلقت يراد بها ما يحتاج إليه في تعيّشه على الإطلاق بحسب حاله ، فالمتبادر من قول القائل : فلان يفي كسبه أو ضيعته بمئونته ؛ هو : أنّ ما يستفيده منه لا يقصر عمّا يحتاج إليه في معاشه ما دام له هذا الكسب أو الضيعة وإن عاش ما عاش من السنين ، ولكن مئونة الشخص لدى العرف تقدّر بالسنين لا بالأيّام والشهور ، أو الفصول ؛ إذ لا انضباط لها بالنسبة إلى مثل هذه الأوقات ؛ فإنّها تختلف فيها غاية الاختلاف في سائر ما يحتاج إليه من المأكل والملبس وغيرها (٢) ، بخلاف السنين ، فيلاحظ العرف إجمالا حين إرادة المقايسة بين ربحه ومصارفه جميع ما يصرفه بحسب حاله في السنة ، ومجموع ما يربحه فيها من كسبه أو ضيعته ، فإن كان ربحه الذي يستفيده منه في أثناء السنة وافيا بمئونة سنته ، يقال : ربحه يفي بمئونته ؛ وإن كان أقلّ أو أكثر ، يقال : لا يفي بها أو يفضل عنها.

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٤١ / ٣٩٨ ، الإستبصار ٢ : ٦٠ / ١٩٨ ، الوسائل : الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٥.

(٢) كذا. والصحيح : وغيرهما.

١٢٨

وكذا لو سئل في العرف عن مئونة شخص يقال : إنّ مئونته في كلّ سنّة كذا ، فمئونة السنة هي التي تحدّ بها مئونة الشخص ، ويطلق وفاء كسبه أو ضيعته بمئونته بملاحظتها ، فالعبرة بها في تشخيص الزيادة والنقصان لدى العرف ، فكأنّ هذا هو السرّ في ما فهمه الأصحاب من مثل هذه الأخبار ، وأجمعوا عليه من تقييد المئونة بالسنة.

ولكن قد يشكل ذلك في ما لو كان له ضيعة تفيده في سنة دون سنة ، كما يتّفق كثيرا ما في المزارع التي تزرع سنة ، وتعطّل سنة لأن يكمل استعدادها للزراعة ، فإنّ مثل هذا الفرض لو قيل : إنها تفي بمئونته ؛ لا يراد منه مئونة السنة ، بل سنتين ؛ لما أشرنا إليه من أنّ معنى وفائها بمئونته استغناؤه بفائدتها في معاشه على الإطلاق ، فلو لم يف ربحها إلّا لسنة يقال عرفا : إنّها لا تفي بمئونته ، بل بنصفها ، فيتّجه حينئذ اعتبار مئونة السنتين بمقتضى ظواهر الأخبار.

اللهمّ إلّا أن ينعقد الإجماع على خلافه ، وهو محل تأمّل ؛ لانصراف كلمات المجمعين عن مثل الفرض.

وكذا يشكل اعتبار المئونة في مثل الهبة والإرث ونحوه من الأمور الاتفاقية التي ليس من شأنها الاستمرار والتجدّد في كلّ سنة إن قلنا بثبوت الخمس فيه فإنّه لا يطلق عليه أنّه يفي بمئونته إلّا مع تقييدها بحدّ معيّن كشهر أو شهرين ، أو سنة أو سنتين ، وهكذا ، إلّا أن يتمسّك فيه بعدم القول بالفصل.

وكيف كان فقد ظهر بما ذكرنا وجه تقييد المئونة بالسنة مع عدم وقوع التصريح به في الأخبار.

وإن أبيت عن إمكان استفادته من الأخبار بالتقريب المزبور ، فكفاك دليلا عليه إجماع الأصحاب ، فهو ممّا لا إشكال فيه ، ولكن

١٢٩

الإشكال في تفسير المئونة وتحديدها وتحقيق مبدأ حولها.

أمّا تفسير المئونة فقد صرّح غير واحد : بأنّ المراد بها كلّ ما ينفقه على نفسه وعلى عياله وعلى غيرهم ، للأكل والشرب واللباس والمسكن والتزويج والخادم وأثاث البيت والكتب ، وغير ذلك ممّا يعدّ مئونة عرفا ، فتعمّ مثل الهبة والصلة والصدقات والنذور ، وغيرها من الأفعال الواجبة أو المندوبة ، كزيارة المشاهد أو بناء المساجد والضيافة اللائقة بحاله ، وما يدفعه إلى الظالم للأمن من ضرره ، إلى غير ذلك من المقاصد العقلائية التي تصرف فيها الأموال لغرض ديني أو دنيوي.

وعن الغنائم أنّه قال : الظاهر أن تتميم رأس المال لمن احتاج إليه في المعاش من المئونة كاشتراء الضيعة ، والظاهر أنّه لا يشترط التمكّن من تحصيل الربح منه بالفعل ، فيجوز صرف شي‌ء من الربح في غرس الأشجار لينتفع بثمرها ولو بعد سنين ، وكذلك اقتناء إناث أولاد الأنعام لذلك (١). انتهى.

أقول : مساعدة العرف على عدّ مثل هذه الأشياء من مئونته مشكلة ، بل لا فرق عرفا بين ادّخار عين الفائدة التي اكتسبها لأن يصرفها في المستقبل في نفقته ، أو شراء ضيعة أو دار ونحوها ، ممّا يحتاج إليه في ذلك الوقت ، أو يشتري الضيعة ونحوها في هذه السنة لأن ينتفع بثمرها ، أو يعيش بها أولاده في المستقبل ؛ إذ لا يكفي في إطلاق اسم المئونة مجرّد صرف الربح في مصرف حتى مع بقاء مقابله وعدم احتياجه إليه بالفعل ، بل هو من قبيل مبادلة مال بمال أصلح بحاله وأعظم فائدة في ما يستقبل ، فالمقابل بعينه حينئذ يندرج في ما استفاده هذه السنة ولم يصرفه

__________________

(١) حكاه الشيخ الأنصاري في كتاب الخمس : ٥٣٣.

١٣٠

في مئونتها.

نعم ما يحتاج إلى الانتفاع به بالفعل في تعيّشه من بستان أو غنم ونحوهما لا يبعد أن يعدّ عرفا من المئونة ، وكذا ما يحتاج إليه أرباب الصنائع في صنائعهم من الآلات والأدوات.

وكيف كان ، فالمدار على كونه لدى العرف من المئونة ، ومع الشك في اندراجه فيها عرفا ، يرجع إلى عمومات أدلّة الخمس في الغنائم والفوائد المكتسبة ، من الآية وغيرها ، مقتصرا في تخصيصها على القدر المتيقّن.

وكون المخصّص مجملا لأجل تردّده بين الأقلّ والأكثر لا يقدح في الرجوع إلى العموم في موارد الشك إذا كان في كلام منفصل ، كما لا يخفى وجهه.

ثم إنّه قد قيّد غير واحد في فتاويهم ، ومعاقد إجماعاتهم المحكية ، المئونة بالاقتصاد.

قال شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ : فإن أريد به ما يقابل الإسراف فلا مضايقة ، وإن أريد به التوسّط ففي اعتباره نظر ، بل يمكن التأمّل في بعض أفراد الإسراف إذا لم يصدق عرفا معه إضاعة المال ، وان كان شرعا كذلك لدخوله عرفا في المئونة ، لكن الأقوى خلافه (١). انتهى.

أقول : في قوّته تأمّل ؛ فإنّ المتبادر من مثل قوله ـ عليه‌السلام ـ :«الخمس بعد المئونة» (٢) إرادته في ما يفضل عمّا ينفقه في معاشه بالفعل ، نظير مئونة التحصيل في الأرباح والمعادن وغيرها ، فالعبرة على الظاهر بما يتّفق حصوله في الخارج كيفما اتّفق.

__________________

(١) كتاب الخمس : ٥٣٣.

(٢) التهذيب ٤ : ١٢٣ / ٣٥٢ ، الإستبصار ٢ : ٥٥ / ١٨١ ، الوسائل : الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ١.

١٣١

ودعوى : أنّ المتبادر من الروايات إنّما هو إرادة ما ينفقه في مقاصده العقلائية على النهج المتعارف لا على سبيل الإسراف قابلة للمنع ، إلّا أنّه ربما يظهر من كلماتهم دعوى الإجماع عليه.

وكيف كان ، فقد حكي (١) عن غير واحد كالعلّامة والشهيدين والمحقّق الثاني : التصريح بأنّه لو قتر حسب له.

بل عن المناهل أنّه استظهر عدم الخلاف فيه (٢).

فكأنّ محط نظرهم أنّ مفاد النصوص والفتاوى إنّما هو تعلّق الخمس بما عدا مقدار المئونة ، فمقدار المئونة مستثنى عمّا يتعلّق به الخمس سواء أنفقه أم لا.

وهو لا يخلو عن نظر ؛ لما أشرنا إليه من أنّ المتبادر من الأخبار إنّما هو استثناء ما ينفقه بالفعل كمئونة المعدن ونحوها ، لا استثناء مقدارها ، فلو تبرّع متبرّع بنفقته فالظاهر أنّه لا يحسب له ما يقابله من الربح ، فضلا عمّا لو قتر فيه ، كما صرّح به غير واحد من مشايخنا ـ رضوان الله عليهم.

بل لا يبعد أن يقال : إنّه لو قصّر في أداء بعض التكاليف المتوقّفة على صرف المال ـ كالحجّ ونحوه في عام استطاعته ـ فزاد ربحه عن مئونته ، وجب عليه الخمس في ما زاد. وان لم يكن يزيد عنه شي‌ء على تقدير الحجّ وكون الحجّ واجبا عليه في هذه السنة ، أو كون تداركه في ما يستقبل واجبا عليه ، لا يوجب أن يعدّ عرفا ما يجب صرفه فيه من مئونة هذه السنة ، كي يستثنى من ربحها ، بل في كلّ سنة يصدر منه فعل

__________________

(١) الحاكي هو الشيخ الأنصاري في كتاب الخمس : ٥٣٣ ، وراجع : تذكرة الفقهاء ٥ : ٤٢٠ ـ ٤٢١ و ١ : ٢٥٨ ، والبيان : ٢١٩ ، والدروس والروضة البهية ٢ : ٧٦.

(٢) الحاكي هو الشيخ الأنصاري في كتاب الخمس : ٥٣٣ ، وراجع : تذكرة الفقهاء ٥ : ٤٢٠ ـ ٤٢١ و ١ : ٢٥٨ ، والبيان : ٢١٩ ، والدروس والروضة البهية ٢ : ٧٦.

١٣٢

الحجّ يعدّ مئونته من مئونة تلك السنة ، فيستثنى من ربحها بالخصوص وإن حصلت الاستطاعة أو بعضها في ما سبق.

نعم لو لم يتمكّن في ما بعد أن يحجّ إلّا بحفظ هذا الربح لمئونته لا يبعد أن يعدّ حينئذ من مئونته في هذه السنة حيث يجب عليه حفظه لتفريغ ذمته عن الواجب ، كما لو وجب عليه أمر بنذر وشبهه ولم يتمكن من الخروج عن عهدته إلّا بجمع ما يفضل عن مئونته من الأرباح في سنين متعدّدة ، فإنّه على الظاهر يعدّ حينئذ من المئونة ، بل من أهمّها ، كما أنّ من جملة المئونة بل من أهمّها : تفريغ ذمته عمّا عليه من الديون وأروش الجنايات والديات وقيم المتلفات.

نعم مع بقاء مقابل الدين حاله حال ما لو اشترى ذلك المقابل من ربح هذه السنة ، فإن احتاج إلى صرفه في مئونته احتسب من مئونته ، وإلّا فلا ، فلو اشترى طعاما أو متاعا أو دابّة أو غير ذلك في السنين السابقة على ذمته ، أو على ثمن استقرضه من ثالث ولم يخرج عن عهدته إلى هذه السنة ، إمّا لعدم تمكّنه من الوفاء ، أو لعدم حلول أجله ، أو مسامحة ، فأدّاه في هذه السنة مع بقاء المقابل ، فإن احتاج إليه بالفعل بحيث لولاه لكان شراؤه بالفعل من مئونته احتسب من مئونته ، وإلّا فمن الفاضل ، فاحتساب وفاء الدين من المئونة مشروط بعدم ، بقاء المقابل ، أو احتياجه إليه بالفعل لا مطلقا ، كما يشهد به العرف.

ولا يعدّ على الظاهر جبر الخسارات ، أو تدارك النقص الوارد عليه بسرقة أو غصب ونحوه ، ولو في هذه السنة ، فضلا عن السنين السابقة من المئونة عرفا.

نعم قد يتّجه الجبر والتدارك في ما يتعلّق بتجارة واحدة ، لا لكونه معدودا من المئونة ، بل لعدم صدق الاستفادة والربح في تجارة ، إلّا إذا

١٣٣

حصل له منها أزيد ممّا استعمله فيها ، ولا يلاحظ في إطلاق الربح والخسران كلّ جزئي جزئي من المعاملات بحياله تجارة مستقلّة ، بل لا يبعد أن يدّعى أن المنساق إلى الذهن من مثل قوله ـ عليه‌السلام ـ : «إذا أمكنهم بعد مؤونتهم» (١) إرادته في الزيادة الحاصلة في أموالهم بالتجارة والصناعة ممّا لا يحتاجون إلى صرفه في معيشتهم في عامهم ، فيتّجه حينئذ جبر الخسارة والنقصان الواردة عليه في هذه السنة ولو في غير هذه التجارة ، ولكنه لا يخلو عن تأمّل ، فالأشبه ما عرفت.

ولو كان للشخص مال لا يتعلّق به الخمس ، ففي وجوب إخراج المئونة منه أو من الربح ، أو منهما ، أوجه ، بل قيل (٢) : أقوال ، خيرها أوسطها ، وفاقا لما حكي (٣) عن الشهيد والمحقّق الثانيين ، وصاحبي المدارك والذخيرة ، وشارح المفاتيح ، بل أغلب من تعرّض له ، بل هو مقتضى ظاهر كلّ من عبّر عن عنوان هذا القسم في فتواه ومعقد إجماعه :بما يفضل من الأرباح عن مئونة السنة ؛ لأنّه هو الظاهر من الأخبار الدالّة على أنّ الخمس بعد المئونة.

كخبر البزنطي قال : كتبت إلى أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ : الخمس أخرجه قبل المئونة أو بعد المئونة؟ فكتب : «بعد المئونة» (٤) فإنّ ظاهره إرادة المئونة من المال الذي لولا استثناؤها لتعلّق به الخمس.

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٢٣ / ٣٥٣ ، الإستبصار ٢ : ٥٥ / ١٨٢ ، الوسائل : الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٣.

(٢) كما في كتاب الخمس للشيخ الأنصاري : ٥٣٣.

(٣) الحاكي هو الشيخ الأنصاري في كتاب الخمس : ٥٣٣ ، وراجع : الروضة البهية ٢ : ٧٧ ، وجامع المقاصد ٣ : ٥٣ ، ومدارك الأحكام ٥ : ٣٨٥ ، وذخيرة المعاد : ٤٨٤.

(٤) الكافي ١ : ٥٤٥ / ١٣ ، الوسائل : الباب ١٢ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ١.

١٣٤

ونحوه قوله ـ عليه‌السلام ـ في خبر الهمداني : «الخمس بعد المئونة» (١).

وقوله ـ عليه‌السلام ـ في رواية النيسابوري المتقدّمة (٢) الواردة في ما بقي من أكرار الحنطة بعد إخراج العشر ، ومئونة الضيعة : «لي منه الخمس ممّا يفضل من مئونته «إذا الظاهر أنّ قوله ـ عليه‌السلام ـ : «ممّا» بيان لقوله :«منه».

وقوله ـ عليه‌السلام ـ في مكاتبة ابن مهزيار ، الطويلة : «ومن كانت ضيعته لا تقوم بمئونته فليس عليه نصف وسدس ولا غير ذلك» (٣) إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة عليه ، خلافا لما حكي (٤) عن المحقّق الأردبيلي في مجمع البرهان ، والمحقّق القمي في الغنائم فأوجبا إخراجها من المال الآخر ؛ لإطلاق أدلّة الخمس المقتصر في تخصيصها بالنسبة إلى المئونة على صورة الحاجة.

وفيه : أنّ إطلاق ما دلّ على استثناء المئونة حاكم على تلك المطلقات.

ودعوى : جري هذه المطلقات مجرى الغالب من الاحتياج إلى أخذ المئونة من الربح ، فالتمسّك بها في الخروج عن إطلاقات الخمس في مثل الفرض مشكل ، ممنوعة ، بل الغالب وجود مال آخر يمكن الاستغناء به سنة أو سنتين وأزيد عن صرف الربح في المئونة عند التجّار وأرباب

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٢٢ / ٨٠ ، الوسائل : الباب ١٢ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٢.

(٢) تقدّمت في صفحة ٩٦.

(٣) التهذيب ٤ : ١٤١ / ٣٩٨ ، الإستبصار ٢ : ٦٠ / ١٩٨ ، الوسائل : الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٥.

(٤) الحاكي هو الشيخ الأنصاري في كتاب الخمس : ٥٣٣ ، وراجع : مجمع الفائدة والبرهان ٤ : ٣١٨.

١٣٥

الصنائع (١) ، بل كثيرا ما يفضل عندهم من ربح السنة السابقة ما يفي بمئونة السنة الجديدة بعد تخميسه ، وعلى تقدير التسليم فهو من باب غلبة الوجود ، فلا يوجب انصراف النصّ عنه.

لا يقال : إنّ مقتضى الجمود على ظاهر النصّ هو الالتزام بعدم تعلّق الخمس على من كان عنده ضيعة وتجارة ، أو صناعة لا يفضل ربح كلّ منهما عن مئونته ، ولكنه يفضل ربح المجموع فإنّه يصدق أنّ ربح ضيعته لا يفضل عن مئونته ، وكذا ربح تجارته مع أنّه يجب عليه الخمس بلا شبهة ، فهذا يكشف عن جري الأخبار مجرى الغالب من انحصار مأخذ المئونة في ما وقع السؤال عنه في الروايات.

لأنّا نقول : التعدّي عن مورد النص بتنقيح المناط ، والعلم بعدم مدخلية خصوصية المورد في الحكم ، وكون موضوع الحكم هو مطلق الربح المستفاد سواء كان من الضيعة أو التجارة أو غيرهما ، لا يقتضي إلغاء ظاهر النصّ من حيث الدلالة على اعتبار كون المئونة من الربح.

هذا ، مع أنّ المئونة لا تتعدّد ، فإذا دلّ الدليل على أنّه يجب على التاجر الخمس في ما يفضل من ربح تجارته عن مئونته ، وورد نصّ أيضا كذلك في من له ضيعة ، وتصادق العنوانان على مورد ـ كما هو المفروض ـ إن اعتبر مئونته في ربح تجارته ، يفضل الآخر عن مئونته ؛ إذ لا مئونة له بعد ، وإن اعتبرها في ما استفاده من ضيعته ، يفضل ربح تجارته ، وإن اعتبرها في المجموع يفضل بعض من كلّ منهما ، فما يفضل عنده يندرج في الموضوع الذي يتعلّق به الخمس على أيّ تقدير ، وهذا بخلاف ما لو كان عنده مال آخر لا يتعلّق به الخمس ، كما لا يخفى.

__________________

(١) في النسخة الخطية : الضياع.

١٣٦

فتلخّص ممّا ذكر : أنّ القول بوجوب اعتبار المئونة من المال الآخر ضعيف مخالف لظواهر النصوص.

ولكن العبارة المحكية عن الأردبيلي ـ رحمه‌الله ـ غير مطلقة بالنسبة إلى المال الآخر ، بل قال في ما حكي (١) عنه : الظاهر أنّ اعتبار المئونة عن الأرباح إنّما هو على تقدير عدم غيرها ، فلو كان عنده ما يموّن به من الأموال التي تصرف في المئونة عادة ، فالظاهر عدم اعتبارها في ما فيه الخمس ، بل وكذا عن المحقق القمي : التصريح باختصاص الإشكال بالمال الآخر المستعدّ للصرف ، دون مثل رأس المال (٢).

فيحتمل أن يكون محطّ نظرهم ما كان من قبيل فواضل الأقوات أو الأطعمة والثياب المنتقلة إليه بإرث ونحوه ، وأنّه ما دام عنده من هذا القبيل من المال المعدّ للصرف في المئونة ليس له اعتبار مئونته في ما فيه الخمس ، لا بمعنى أنّ عليه أن يجعل جميع مئونته منه ولو كانت من غير جنسها ، بل بمعنى أنّ عليه أن يستغني بما عنده عن صرف الربح في مثله ، فإذا كان عنده مثلا حنطة معدّة للأكل لا للتجارة ، ليس له أن يضع من الربح بمقدار ما يصرفه منها في مئونته ، أو يدع هذه الحنطة ويشتري حنطة أخرى من الربح ، لا أنّه يجعل سائر مئونته منها ، فعلى هذا لا يخلو كلامهما عن وجه ؛ لإمكان أن يقال : إنّ حاله حينئذ حال من كان عنده دار سكنى منتقلة إليه بإرث ونحوه ، في أنّه لا يعدّ معها صرف الربح في شراء دار أخرى أو إجارتها من مئونته ، فليتأمّل.

وأمّا القول باعتبارها من المجموع فلم يتحقق قائله ولم يعرف له وجه

__________________

(١) كما في كتاب الخمس للشيخ الأنصاري : ٥٣٣.

(٢) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الخمس : ٥٣٣.

١٣٧

عدا مجرّد الاستحسان الذي لا ينبغي الالتفات إليه ، خصوصا في مقابل إطلاقات أدلّة الخمس ، كما هو مستند القول الأول ، أو ظواهر ما دلّ على أنّه بعد المئونة ، كما هو مدرك القول الثاني ، والله العالم.

بقي الكلام في بيان مبدأ حول المئونة وزمان تعلّق التكليف بالخمس ، وسيأتي تحقيقهما عند تعرّض المصنّف ـ رحمه‌الله ـ لنفي اعتبار الحول في الخمس إن شاء الله.

(السادس) ممّا يجب فيه الخمس : (إذا اشترى الذمّي أرضا من مسلم ، وجب فيها الخمس) عند ابني حمزة وزهرة ، وأكثر المتأخّرين من أصحابنا ، كما في الجواهر (١) ، بل في الروضة : نسبته إلى الشيخ والمتأخّرين أجمع (٢) ، بل عن التذكرة والمنتهى وكنز العرفان ، نسبته إلى علمائنا ، كما عن بعضهم (٣) ، أو إلى أصحابنا كما عن بعض آخر منهم (٤) ، بل عن الغنية دعوى الإجماع عليه (٥).

والأصل في هذا الحكم صحيحة أبي عبيدة الحذّاء ، قال : سمعت أبا جعفر ـ عليه‌السلام ـ يقول : «أيّما ذمّي اشترى من مسلم أرضا فإنّ عليه الخمس» (٦).

__________________

(١) جواهر الكلام ١٦ : ٦٥ ، وراجع : الوسيلة : ١٣٧ ، والغنية (ضمن الجوامع الفقهية) : ٥٠٧.

(٢) كما في جواهر الكلام ١٦ : ٦٥ ، وراجع : الروضة البهية ٢ : ٧٣.

(٣) راجع : جواهر الكلام ١٦ : ٦٥ وكتاب الخمس للشيخ الأنصاري : ٥٣٦ و ٥٦٧ ، وانظر :تذكرة الفقهاء ٥ : ٤٢٢ ومنتهى المطلب ١ : ٥٤٩ ، وكنز العرفان ١ : ٢٤٩ وفيه النسبة إلى الأصحاب.

(٤) راجع : جواهر الكلام ١٦ : ٦٥ وكتاب الخمس للشيخ الأنصاري : ٥٣٦ و ٥٦٧ ، وانظر :تذكرة الفقهاء ٥ : ٤٢٢ ومنتهى المطلب ١ : ٥٤٩ ، وكنز العرفان ١ : ٢٤٩ وفيه النسبة إلى الأصحاب.

(٥) حكاه عنها صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٦٥ ، وراجع : الغنية (ضمن الجوامع الفقهية) : ٥٠٧.

(٦) التهذيب ٤ : ١٢٣ / ٣٥٥ ، والفقيه ٢ : ٢٢ / ٨١ ، الوسائل : الباب ٩ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ١.

١٣٨

وعن المفيد في باب الزيادات من المقنعة ، مرسلا عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال : «الذمّي إذا اشترى من مسلم الأرض فعليه فيها الخمس» (١).

وفي المدارك بعد أن نسب هذا الحكم إلى الشيخ وأتباعه ، واستدلّ عليه : بالصحيحة المزبورة قال : وحكى العلّامة في المختلف عن كثير من المتقدّمين ، كابن الجنيد والمفيد وابن أبي عقيل وسلّار وأبي الصلاح أنّهم لم يذكروا هذا القسم ، وظاهرهم سقوط الخمس فيه ، ومال إليه جدّي ـ قدس‌سره ـ في فوائد القواعد ، استضعافا للرواية الواردة بذلك ، وذكر في الروضة تبعا للعلّامة في المختلف أنّها من الموثّق.

وهو غير جيّد ؛ لأنّ ما أوردناه من السند من أعلى مراتب الصحة فالعمل بها متعيّن ، لكنّها خالية من ذكر متعلّق (٢) الخمس صريحا ومصرفه.

وقال بعض العامّة : إنّ الذمّي إذا اشترى أرضا من مسلم وكانت عشرية ضوعف عليه العشر وأخذ منه الخمس. ولعلّ ذلك هو المراد من النصّ (٣). انتهى.

أقول : والإنصاف أنّ هذا الاحتمال هو في حدّ ذاته ـ بعد الالتفات إلى خصوصيات المورد من عدم اندراج موضوع الحكم في الغنائم والفوائد التي تعلّق بها هذا الحكم في الشريعة ، واختصاصه بشراء الأرض دون غيرها ، وكون المقصود بهذا الحكم بيان ما هو وظيفة الحاكم من مؤاخذته

__________________

(١) حكاه البحراني في الحدائق الناضرة ١٢ : ٣٦٠ ، وراجع : المقنعة : ٢٨٣.

(٢) جاء في متن المصدر بدل متعلّق : مصرف. وفي هامشه كما في المتن.

(٣) مدارك الأحكام ٥ : ٣٨٥ ـ ٣٨٦.

١٣٩

به كسائر الحقوق المتعلّقة بالأراضي الخراجية لا وجوبه عليه على حدّ وجوب الزكاة وخمس الغنائم وغيره من التكاليف التي يلتزم فيها بكون الكفّار مكلّفين بها ، ومعاقبين عليها ، ولكنهم غير ملتزمين بها ما داموا كفارا ـ في غاية القوة ، إلّا أنّ الالتفات إليه مع مخالفته لإطلاق النصّ ، خصوصا مع استلزامه لحمل الرواية على التقيّة ، مخالف للأصول والقواعد الشرعية من التعبّد بظواهر النصوص ما لم يثبت خلافها.

نعم لو علم معروفيّة الفتوى التي نقلها عن بعض العامّة في زمان الباقر ـ عليه‌السلام ـ ، لا يبعد أن يدّعى صلاحيتها لصرف النصّ عن ظاهره بالحمل على ما قيل ولو تقيّة ، ولكنه لم يثبت ، فالالتزام بظاهر النصّ على ما يقتضيه إطلاقه ـ كما هو المعروف بين المتأخّرين ـ أشبه بالقواعد.

ثمّ إنّ متعلّق الخمس على ما يظهر من النصّ خصوصا ممّا أرسله المفيد ـ رحمه‌الله ـ هو نفس ما اشتراه الذمّي أعني رقبة الأرض ، لا حاصلها أو قيمتها على ذمته.

وأمّا مصرفه : فالمعروف بين من أثبته هو : مصرف خمس الغنيمة ، بل لم ينقل الخلاف فيه عن أحد ، بل صرّح بعض (١) بإجماعهم عليه ؛ لانصراف إطلاق الخمس إلى إرادة الخمس المعهود إمّا بدعوى صيرورته حقيقة فيه في عصر الصادقين ـ عليهما‌السلام ـ ، كالزكاة وغيرها من أسامي العبادات ، أو لمعهوديته الموجبة لصرف الإطلاق إليه حيث إنّه لو كان غيره مرادا لوجب بيانه ، فعدم البيان في مثل المقام كاشف عن إرادة المعهود.

__________________

(١) وهو الشيخ الأنصاري في كتاب الخمس : ٥٦٧.

١٤٠