مصباح الفقيه - ج ١٤

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٩

صرفه عن هذا الظاهر إلى المعنى الذي أريد من الإفطار في نظائره ، بقرينة غيره ممّا عرفت.

فالإنصاف أنّ الحكم موقع تردّد (و) إن كان القول بعدم الإفساد (هو الأشبه) بالقواعد ، إلّا أنّ رفع اليد عمّا يتراءى من تلك الأخبار التي وقع فيها التصريح بمفطريته مع استفاضتها واعتضاد بعضها ببعض وباشتهار القول بمضمونها بين القدماء من غير معارض مكافئ لا يخلو عن إشكال ، فالقول بمفطريته جمودا على ما يتراءى من الأخبار المزبورة إن لم يكن أقوى فهو أحوط.

ولا يبعد أن يكون المراد بالأئمّة في أخبار الباب ونظائرها ممّا ورد في كلماتهم أعمّ من الزهراء ـ سلام الله عليها ـ فإلحاق الكذب بها بالكذب بهم لا يخلو عن وجه.

وأمّا الكذب على سائر الأنبياء ، فإن رجع إلى الكذب على الله ، بأن أخبر عن الله على لسان أنبيائه ، فهو داخل في الكذب على الله ، وإلّا فلا تتناوله النصوص ، فيشكل تسرية الحكم إليه إن قلنا بالمفسدية.

وهل يختصّ هذا الحكم بالكذب في أمر شرعيّ ، بأن نسب إلى الله تعالى أو رسوله أو الأئمّة ـ عليهم‌السلام ـ قولا أو فعلا أو تقريرا يستفاد منه حكم شرعي ونحوه ، أو أعمّ من ذلك ، فيعمّ ما لو أخبر كذبا ـ مثلا ـ بأنّ الحسين ـ عليه‌السلام ـ قال في يوم الطفّ كذا ، أو فعل كذا ، أو قتل كذا؟ وجهان : من إطلاق النصوص والفتاوى ، ومن إمكان دعوى انصرافها إلى إرادة الكذب في الأمور الشرعيّة التي بيانها من خواصّهم ، كما ادّعاه بعض (١) ، ولكنها قابلة للمنع ، فالقول بالإطلاق ـ كما

__________________

(١) الشيخ الأنصاري في كتاب الصوم : ٥٧٨.

٣٨١

حكي (١) عن التحرير من أنّه صرّح بأنّه لا فرق بين الدين والدنيا بناء على الإفطار به ـ إن لم يكن أقوى ، فلا ريب في أنّه أحوط ، والله العالم.

ثم إنّ الظاهر تحقّق موضوع الكذب عرفا بنسبة حكم غير واقع إليهم مطلقا ، سواء كانت بالقول أو بالكتابة أو بالإشارة ونحوها ، فلو أخبر بشي‌ء كذبا في الليل ، أو سمع الكذب من شخص ، فصدّقه في اليوم ، اندرج بحسب الظاهر في موضوع الحكم.

ويعتبر في حصول الإفطار به ـ على القول به ـ التعمّد ، كما وقع التقييد به في بعض الروايات المتقدّمة (٢).

فلو اعتقد الصدق ، فبان مخالفته للواقع ، لم يقدح في صومه ، بل وكذا لو اعتقد المخالفة ، فبانت الموافقة ، فإنّه وإن قصد بذلك الكذب ، ولكنه لم يقع ؛ إذ الكذب ـ بحسب الظاهر ـ هو الخبر المخالف للواقع لا للاعتقاد.

وإطلاق الكذب عليه في قوله تعالى «وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ» (٣) تجوّز.

نعم ، مع الالتفات إلى حكمه يندرج في مسألة قصد المفطر ، التي تقدّم الكلام فيها ، فراجع.

ولو نسب إليهم حكما لا يعلم بصدوره منهم ، فإن صادف الواقع لا يتحقّق موضوع الكذب ، وإن خالفه صدق عليه اسم الكذب ، ولكن قد يقال بأنّه لا يصدق عليه اسم العمد ؛ لأنّه لم يقصد الإخبار كذبا ، بل الإخبار بمحتمله.

__________________

(١) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٢٢٦ ، وراجع : تحرير الأحكام ١ : ٧٨.

(٢) تقدّمت في صفحات ٣٧٦ ـ ٣٧٩.

(٣) سورة المنافقين ٦٣ : ١.

٣٨٢

وفيه : نظر ؛ فإنّ احتمال المصادفة ينافي الجزم بكونه كذبا ، لا أنّه على تقدير كونه كذبا يجعله كذبا صادرا لا عن عمد ، وإلّا لم يصحّ العقاب عليه ، فمن أخبر بشي‌ء لا يعلم بمطابقته للواقع ، فقد قصد الكذب على تقدير المخالفة ، كما أنّ من شرب أحد الإناءين اللذين يعلم إجمالا بأنّ أحدهما خمر ، يكون قاصدا لشرب الخمر على تقدير كونه في هذا الإناء ، ولذا يعامل معه على تقدير المصادفة معاملة العامد ، كما هو الشأن في سائر التكاليف.

وكيف كان ، فالمنساق إلى الذهن من الأخبار الدالّة على مفطرية الكذب إنّما هو : الكذب الممنوع منه شرعا ، فلو وقع على وجهه مرخوص فيه لتقيّة ونحوها ، فالظاهر عدم ترتّب الفساد عليه.

ودعوى : أنّ التقيّة ترفع حكم الإثم دون الإفطار ؛ مجدية لو لم ندّع فيه الانصراف المزبور ، كما لا يخفى.

نعم ، الظاهر عدم الفرق بين الصبي والبالغ ؛ فإنّ عدم مؤاخذة الصبي عليه ليس لإباحته في حقّه ، بل لرفع القلم عنه ، وعدم مؤاخذته على ارتكاب المحرّمات ، فهو مكلّف بترك الكذب أيضا على حدّ تكليفه بترك الأكل والشرب في صومه ، ولكنه غير ملزم شرعا بالخروج عن عهدته ، فليتأمّل.

وهل يعتبر في الكذب المزبور توجيهه إلى مخاطب قصد إفهامه ، أم يكفي مجرّد تكلّمه ولو عند نفسه ، أو موجّها إلى من لا يعقله؟ صرّح بعض (١) بالأوّل. ولا بأس به ؛ لأنّه المتبادر من أدلّته.

(و) كذا يجب الإمساك (عن الارتماس) على الأشهر ، كما في

__________________

(١) كما في كتاب الصوم للشيخ الأنصاري : ٥٧٨.

٣٨٣

الحدائق (١) ، بل المشهور كما في الجواهر (٢).

(وقيل : لا يحرم) على الصائم الارتماس حتى يجب عليه الإمساك عنه (بل يكره) وحكي هذا القول عن العماني والسيد في أحد قوليه والحلّي (٣).

ثمّ إنّ القائلين بالحرمة اختلفوا على أقوال :

منهم : من ذهب إلى أنّه حكم تكليفي محض لا يترتّب عليه فساد الصوم ، كما عن الشيخ في الاستبصار ، والمصنّف في المعتبر ، والعلّامة في المختلف والمنتهى ، والمحقّق الثاني في حاشية الإرشاد ، والفخر ، والشهيد الثاني وسبطه (٤) ، بل نسب إلى أكثر المتأخّرين (٥).

وقوّاه أيضا في المتن حيث إنّه بعد أن نقل القول بالحرمة والكراهة ، قال : (والأوّل أشبه.)

ثمّ قال : (وهل يفسد بفعله؟ الأشبه : لا.)

وعن جملة من الأصحاب ، منهم : السيد في الانتصار ، والشيخ في النهاية والجمل والاقتصاد ، وابن البرّاج : أنّه موجب للقضاء والكفّارة (٦) ، بل عن ظاهر الدروس نسبة هذا القول إلى المشهور (٧).

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١٣ : ١٣٣.

(٢) جواهر الكلام ١٦ : ٢٢٧.

(٣) كما في كتاب الصوم للشيخ الأنصاري : ٥٧٧ ، وراجع : مختلف الشيعة : ٢١٨ ، وجمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) ٣ : ٥٤ ، والسرائر ١ : ٣٧٦.

(٤) الحاكي والناسب هو الشيخ الأنصاري في كتاب الصوم : ٥٧٨ ، وراجع : الاستبصار ٢ : ٨٥ ، والمعتبر ٢ : ٦٥٧ ، ومختلف الشيعة : ٢١٩ ، ومنتهى المطلب ٢ : ٥٦٥ ، وإيضاح الفوائد ١ : ٢٢٥ ، ومسالك الأفهام ٢ : ١٦ ، ومدارك الأحكام ٦ : ٤٨.

(٥) الحاكي والناسب هو الشيخ الأنصاري في كتاب الصوم : ٥٧٨ ، وراجع : الاستبصار ٢ : ٨٥ ، والمعتبر ٢ : ٦٥٧ ، ومختلف الشيعة : ٢١٩ ، ومنتهى المطلب ٢ : ٥٦٥ ، وإيضاح الفوائد ١ : ٢٢٥ ، ومسالك الأفهام ٢ : ١٦ ، ومدارك الأحكام ٦ : ٤٨.

(٦) حكاه عنهم الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ٥ : ١٠١ ، وراجع : الانتصار : ٦٢ ، والنهاية : ١٥٤ ، والجمل والعقود (الرسائل العشر) : ٢١٢ ، والاقتصاد : ٢٨٧ ، والمهذّب ١ : ١٩٢.

(٧) الحاكي هو الشيخ الأنصاري في كتاب الصوم : ٥٧٨ ، وراجع : الدروس ١ : ٢٧٤.

٣٨٤

بل عن الغنية : دعوى الإجماع عليه (١).

وحكي عن أبي الصلاح أنّه أوجب القضاء خاصّة (٢).

حجّة القائلين بالحرمة أخبار مستفيضة : منها صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، قال : الصائم يستنقع في الماء ولا يرمس رأسه (٣).

وصحيحة حريز عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، قال : لا يرمس الصائم ولا المحرم رأسه في الماء (٤).

وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ ، قال : الصائم يستنقع في الماء ، ويصبّ على رأسه ، ويتبرّد بالثوب وينضح بالمروحة ، وينضح البوريا تحته ، ولا يغمس رأسه في الماء (٥).

وخبر يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، قال :لا يرتمس المحرم في الماء ولا الصائم (٦).

ومرسلة مثنى الحنّاط والحسن الصيقل ، قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن الصائم يرتمس في الماء ، قال : لا ولا المحرم ، قال :

__________________

(١) الحاكي هو الشيخ الأنصاري في كتاب الصوم : ٥٧٨ ، وراجع : الغنية (الجوامع الفقهية) : ٥٠٩.

(٢) الحاكي هو العلّامة في مختلف الشيعة : ٢١٨ ، والأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ٥ : ١٠١ ، وراجع : الكافي في الفقه : ١٨٣.

(٣) الكافي ٤ : ١٠٦ / ١ ، التهذيب ٤ : ٢٠٣ / ٥٨٧ ، الإستبصار ٢ : ٨٤ / ٢٥٨ ، الوسائل : الباب ٣ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ٧.

(٤) التهذيب ٤ : ٢٠٣ / ٥٨٨ ، الإستبصار ٢ : ٨٤ / ٢٥٩ ، الوسائل : الباب ٣ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ٨.

(٥) الكافي ٤ : ١٠٦ / ٣ ، التهذيب ٤ : ٢٦٢ / ٧٨٥ ، الإستبصار ٢ : ٩١ / ٢٩٢ ، الوسائل : الباب ٣ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ٢.

(٦) الكافي ٤ : ٣٥٣ / ٢ ، الوسائل : الباب ٣ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ١.

٣٨٥

وسألته عن الصائم أيلبس الثوب المبلول؟ قال : لا (١).

وخبر حنّان بن سدير أنّه سأل أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن الصائم يستنقع في الماء ، قال : لا بأس ولكن لا ينغمس فيه ، والمرأة لا تستنقع في الماء لأنّها تحمل الماء بقبلها (٢).

والمتبادر من مثل هذه النواهي المتعلّقة بكيفيّات العبادة : إرادة الحكم الوضعي ، لا محض التكليف ، كما تقدّم التنبيه عليه في نظائر المقام.

وأظهر منها دلالة على ذلك : صحيحة أخرى لمحمد بن مسلم ، قال :سمعت أبا جعفر ـ عليه‌السلام ـ يقول : لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال ـ أو أربع خصال ، كما عن الفقيه وموضع من التهذيب ـ :الطعام والشراب والنساء والارتماس في الماء (٣) فإنّ ظاهرها إرادة الإضرار به من حيث كونه صائما ، أي الإضرار بصومه ، كما في ما عداه من المذكورات.

فما عن الشهيد في شرح الإرشاد من الجواب عن هذه الصحيحة :بأنّه يكفي في الإضرار فعل المحرّم (٤) ؛ مدفوع : بمخالفته للظاهر.

وأظهر من هذه الرواية أيضا في ما ذكر : قوله ـ عليه‌السلام ـ ، في المرفوعة المتقدّمة (٥) في المسألة السابقة : خمسة أشياء تفطر الصائم : الأكل والشرب والجماع والارتماس في الماء .. ، الحديث.

__________________

(١) الكافي ٤ : ١٠٦ / ٦ ، الوسائل : الباب ٣ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ٤.

(٢) الفقيه ٢ : ٧١ / ٣٠٧ ، الوسائل : الباب ٣ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ٦.

(٣) تقدّمت الإشارة إلى مصادرها في صفحة ٣٧٦ ، الهامش ٨.

(٤) الحاكي هو البحراني في الحدائق الناضرة ١٣ : ١٣٦.

(٥) تقدّمت في صفحة ٣٧٧.

٣٨٦

بل هذه الرواية كادت تكون صريحة في المدّعى ، وهكذا عبارة الفقه الرضوي المتقدّمة (١) في تلك المسألة أيضا.

ويمكن الجواب : أمّا عن المرفوعة كالرضوي : فبضعف السند.

وأمّا عمّا عداهما من الأخبار المزبورة : فبأنّها وإن كانت ظاهرة في ما ذكر ، ولكن يتعيّن صرفها عن هذا الظاهر ؛ جمعا بينها وبين موثّقة إسحاق بن عمّار ، قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : رجل صائم ارتمس في الماء متعمّدا ، أعليه قضاء ذلك اليوم؟ قال : ليس عليه قضاء ولا يعودنّ (٢) فإنّها نصّ في عدم كون الارتماس مفسدا ، مع كونه منهيّا عنه ، فيتّجه حينئذ ما قوّاه في المتن وغيره من الحرمة دون الإفساد.

ولكن يتوجّه عليه : أنّ رفع اليد عن ظهور النهي في الحرمة بهذه القرينة بجعله تنزيهيّا أولى من رفع اليد عن ظهور الأخبار في إرادة الحكم الوضعي ، أي كونه مضرّا بالصوم ، لا كونه من حيث هو حراما تعبّديّا محضا ، بل الصحيحة الأخيرة كادت أن تكون صريحة في أن مطلوبيّة تركه لكون فعله مضرّا بالصوم.

ولكن قضية الجمع بينها وبين الموثّقة المصرّحة بنفي القضاء : حملها على كونه كلبس المبلول الذي تعلّق النهي به أيضا في رواية الحسن ، المتقدّمة (٣) ، واستنقاع المرأة في الماء الذي جمع بين النهي عنه والنهي عن انغماس الرجل فيه في خبر حنّان (٤) ، موجبا لنقض الصوم لا فساده.

__________________

(١) تقدّمت في صفحة ٣٧٨.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٠٩ / ٦٠٧ و ٣٢٤ / ١٠٠٠ ، الاستبصار ٢ : ٨٤ / ٢٦٣ ، الوسائل : الباب ٦ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ١.

(٣) تقدّمت في صفحة ٣٨٥.

(٤) تقدّم الخبر في صفحة ٣٨٦.

٣٨٧

كما ربّما يؤيّد هذا الجمع ، أي : حمل النهي على الكراهة ، بل يشهد له : خبر عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، قال :يكره للصائم أن يرتمس في الماء (١).

وما يقال : من أنّ الكراهة في كلمات الأئمّة كثيرا ما تستعمل بمعنى التحريم ؛ ففيه : أنّ هذا لا ينفي ظهورها في الكراهة المصطلحة ، كظهور لفظ «لا يصلح» و «لا ينبغي» وأشباههما من الألفاظ التي هي في الأصل موضوعة للأعمّ ، ولكنّه لا ينسبق إلى الذهن من إطلاقها إلّا الأخصّ ، خصوصا في مثل المقام الذي لو حمل على إرادة الحرمة ، لتعيّن صرفها إلى إرادة محض التكليف الذي هو بعيد عن مساق هذا النحو من الأخبار ، كما تقدّمت الإشارة إليه ؛ إذ لو أريد به الحكم الوضعي ، لكان بمنزلة ما لو قال : يكره للصائم أن يأكل ويشرب ، وهو ـ كما تراه ـ مستهجن عرفا.

وكيف كان ، فالجمع بين الأخبار : بحملها على الكراهة أولى من حملها على الحرمة تعبّدا ، مع إباء بعضها عن ذلك ، كالمرفوعة والرضوي المتقدّمين (٢) ، واستلزامه التقييد بالواجب المعيّن ؛ فإنّ من المستبعد إرادة الحرمة تعبّدا في صوم يجوز للمكلّف إبطاله ، فلا ينسبق إلى الذهن إرادته من النصّ على تقدير كونه حراما تعبّديّا.

وتنظيره على التكتّف في صلاة النافلة قياس مع الفارق ؛ إذ التكتّف في الصلاة تشريع ، وهو مقتض لحرمته على الإطلاق.

وهذا بخلاف الارتماس الذي هو في حدّ ذاته فعل سائغ ، فيبعد

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٠٩ / ٦٠٦ ، الوسائل : الباب ٣ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ٩.

(٢) تقدّما في صفحة ٣٧٧ و ٣٧٨.

٣٨٨

حرمته على الصائم تعبّدا من غير أن يكون له ربط بصومه ، ولذا رجّح في الحدائق القول بالإبطال : بأنّه لا يعقل أن يكون للنهي علّة سوى ذلك (١) ؛ وإن كان يتوجّه على هذا التعليل أن لا إحاطة للعقول بمناطات الأحكام الشرعية التعبديّة ، كي يدّعى فيه عدم المعقولية.

نعم ، هو بعيد عن الذهن ، فينصرف عنه النصّ وإن كان قد يرفع هذا الاستبعاد أيضا ما عن المصنّف في المعتبر من توجيهه بإمكان أن تكون حكمة التحريم تعبّدا الاحتياط في الصوم ، حيث لا يأمن مع الارتماس من أن لا يصل الماء إلى جوفه من المنافذ (٢).

وما في الحدائق من تضعيف هذا التوجيه : بأنّه إنّما يصلح وجها للكراهة لا للتحريم (٣) ؛ مدفوع : بأنّ هذه الحكمة كما أنّها مناسبة للكراهة ؛ كذلك مناسبة للتحريم ، كما في سلوك طريق لا يأمن معه السلامة ، ولكن هذا إنّما يرفع الاستبعاد عنه بالنسبة إلى الصوم الواجب ، لا المندوب الذي لا يحرم عليه إفساده ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فالقول بحرمته تعبّدا لا يخلو عن بعد.

وأمّا القول بكراهته : فهو غير بعيد بالنظر إلى ما يقتضيه الجمع بين خبري عبد الله بن سنان وإسحاق بن عمّار وبين غيرهما من الأخبار المزبورة.

ولكن الاعتماد على هذين الخبرين في صرف سائر النصوص عن ظواهرها بعد شذوذ القول بالكراهة لا يخلو عن إشكال وإن كان طرحهما أيضا ما لم يتحقّق إعراض الأصحاب عنهما أشكل.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١٣ : ١٣٦.

(٢) الحاكي عنه العاملي في مدارك الأحكام ٦ : ٥٠ ، وراجع : المعتبر ٢ : ٦٥٧.

(٣) الحدائق الناضرة ١٣ : ١٣٦.

٣٨٩

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ ارتكاب التأويل في رواية الخصال ، التي وقع فيها التصريح بمفطرية الارتماس في غاية البعد ، فهي بحسب الظاهر معارضة لهذين الخبرين ، وضعف سندها مجبور بالشهرة ، كما أنّ بها وباعتضادها بظواهر غيرها من الأخبار تترجّح على ما يعارضها ، فيتقوّى حينئذ القول بالإفساد ، ولكن المقدّمتين لا تخلوان عن تأمّل.

فالإنصاف : أنّ الالتزام بوجوب القضاء مع صراحة الرواية المزبورة في خلافه ، وصلاحيتها شاهدة لصرف الأخبار الناهية عنه ـ حتى خبر الخصال ، فضلا عن غيره ـ إلى إرادة الحكم التكليفي أو الكراهة ، لا يخلو عن إشكال ، ولكنّه أحوط.

وعلى القول به فوجوب الكفّارة مبني على دعوى ظهور الأدلّة في وجوبها بكلّ مفسد للصوم ، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق النهي عن غمس الرأس أو رمسه في الماء :المنع عنه ولو مع خروج البدن.

فما عن الدروس من التردّد فيه حيث قال : لو غمس رأسه دفعة أو على التعاقب ففي إلحاقه بالارتماس نظر (١) ؛ ضعيف.

اللهمّ إلّا أن يدّعي انصراف النصوص إلى إرادة الارتماس المطلق ، كما وقع التعبير به في بعض (٢) تلك الأخبار ، وتقييده بالرأس في جملة منها (٣) لكونه الجزء الأخير الذي يتحقّق به الانغماس ، لا لإرادته بالخصوص.

__________________

(١) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٢٣٠ ، وراجع : الدروس ١ : ٢٧٨.

(٢) راجع : الكافي ٤ : ٣٥٣ / ٢ ، والوسائل : الباب ٣ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ١

(٣) راجع : الكافي ٤ : ١٠٦ / ٣ ، والتهذيب ٤ : ٢٦٢ / ٧٨٥ ، والوسائل : الباب ٣ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ٢.

٣٩٠

وهذه الدعوى غير بعيدة عن مساق الأخبار ، إلّا أنّها قابلة للمنع ، فالأخذ بالإطلاق أوفق بالقواعد ، والله العالم.

ويعتبر في تحقّق مفهوم رمس الرأس أو البدن : إدخال مجموعه تحت الماء وتغطيته به ، فلو أدخل جميع أجزائه شيئا فشيئا على سبيل التعاقب ، لا يتحقّق به صدق اسم الارتماس.

فما وقع في كلماتهم من تقييده بكونه دفعة ؛ إنّما أريد به ما يقابل الدفعات على سبيل التعاقب ، لا الدفعة المقابلة للتدريج ، ضرورة عدم الفرق في صدق اسم الارتماس بعد حصول التغطية بين كونه حاصلا على التدريج أو الدفعة ، فمن أنكر اعتبار الدفعة أرادها بالمعنى الثاني ، ومن اعتبرها فبالمعنى الأول ، فالنزاع لفظي.

وكيف كان ، فالمنساق إلى الذهن من إطلاق الرأس في مثل المقام ، هو : مجموع ما فوق الرقبة ، كما صرّح به غير واحد.

وفي المدارك : لم يستعبد تعلّق التحريم بغمس المنافذ كلّها دفعة وإن كانت منابت الشعر خارجة من الماء (١).

وفيه : أنّه لو كان مناط الحكم الاحتياط في عدم إدخال الماء المنافذ ، لكان له وجه ، ولكن هذا ممّا لم يدلّ عليه دليل وإن كان قد يشعر به ما في خبر (٢) حنّان بن سدير من تعليل نهي المرأة عن الاستنقاع الذي جعل في هذا الخبر رديفا لنهي الرجل عن الانغماس : بأنّها تحمل الماء بقبلها.

ولكنّك خبير بأنّ هذا النحو من التعليل ـ مع الغضّ عن عدم تحقّقه

__________________

(١) مدارك الأحكام ٦ : ٥٠.

(٢) تقدّم الخبر في صفحة ٣٨٦.

٣٩١

في المورد إلّا بالإشعار الضعيف ـ من قبيل بيان المناسبات والحكم المقتضية لشرع الحكم ، لا العلل الحقيقية التي يدور الحكم مدارها وجودا وعدما.

مع أنّ غمس الرأس جميعه في الماء أشدّ تأثيرا في رسوب الماء في المنافذ ، فإلحاق غمس المنافذ كلّها كغمس بعضها برمس الرأس كلّه قياس مع الفارق.

ثمّ إنّ بعضهم ألحق غير الماء من المائعات به في حكم الارتماس ، ففي المسالك ، قال : في حكم الماء مطلق المائع وإن كان مضافا ، كما نبّه عليه بعض أهل اللغة والفقهاء (١). انتهى.

فكأنّه أراد من استشهاده بكلام بعض أهل اللغة والفقهاء إثبات صدق اسم الارتماس عليه.

وفيه : أنّه غير مجد في المقام ؛ إذ بعد تسليم الصدق يتوجّه عليه : أنّ الموجود في النصوص بأسرها إنّما هو النهي عن الارتماس أو الانغماس في الماء.

نعم ، ورد في صحيحة الحلبي ، المتقدّمة (٢) : «ولا يرمس رأسه» من غير تقييد ، ولكن عطفه على قوله : «يستنقع في الماء» يجعله ظاهرا في إرادة رمس رأسه فيه.

ولو فرض وجود دليل مطلق أيضا ، لاتّجه دعوى انصرافه إلى الارتماس في الماء ، إلّا أنّه لا يبعد أن يقال : إنّ انصرافه عن المضاف بدوي.

__________________

(١) مسالك الأفهام ٢ : ١٦.

(٢) تقدّمت في صفحة ٣٨٥.

٣٩٢

وكيف كان ، فإلحاق سائر المائعات به ممّا لا وجه له.

وأمّا الماء المضاف ، فإلحاقه به لا يخلو عن وجه ؛ إذ لا نعقل أن يكون لوصف الإطلاق مدخليّة في مثل هذا الحكم ، إلّا أنّه تعدّ في الحكم الشرعي التعبّدي عن مورد النصّ ، فلا يجوز إلّا مع القطع بعدم مدخليّة الخصوصيّة ، وعهدته على مدّعيه ، وسبيل الاحتياط غير خفي ، والله العالم.

تنبيه : لو ارتمس الصائم في الماء بنيّة الغسل ،فإن كان سهوا فلا إشكال ، بل لا خلاف في صحّة غسله ، وعدم بطلان صومه.

أمّا الأوّل : فواضح ؛ لعدم تنجّز النهي في حقّه حال الغفلة حتّى يؤثّر في فساد الغسل.

وأمّا الثاني : فلاختصاص مفطرية الارتماس ـ على القول به ـ بالعامد ومن بحكمه ، أي : الجاهل بالحكم أو ناسية دون ناسي الموضوع ، كما سيأتي التنبيه عليه.

وأمّا مع الالتفات إلى الصوم : فعلى القول بالكراهة يكون حاله حال الوضوء أو الغسل بالماء المسخّن بالشمس الذي لا شبهة في صحّته.

وشبهة : أنّه كيف يعقل وقوعه عبادة مع كونه منهيّا عنه؟! شبهة في مقابل الضرورة ، قد تعرّضنا لحلّها في مسألة الوضوء بالماء المسخّن من كتاب الطهارة (١) ، فراجع.

وعلى القول بالحرمة تعبّدا يفسد غسله ، سواء نواه بدخوله في الماء أو بخروجه منه ؛ إذ المتبادر من مثل هذه النواهي حرمة فعل الرمس ، أي : كونه مرموس الرأس ، لا مجرّد إحداثه بحيث لو ارتمس غفلة ، جاز

__________________

(١) ص ١١٥ ، الطبعة الحجرية.

٣٩٣

له البقاء بعد تذكّره ، فبقاؤه كدخوله مبغوض شرعا يمتنع أن يقع عبادة.

وتوهّم : صيرورة الخروج واجبا عليه بعد إيجاد الارتماس ، فيمتنع بقاؤه بصفة الحرمة حتى يمتنع وقوعه عبادة ؛ مدفوع : بما حقّقناه في مسألة الصلاة في المكان المغصوب من أنّ جعل المكلّف نفسه مضطرّا إلى ارتكاب الحرام لا يؤثّر في ارتفاع قبحه ومبغوضيّته واستحقاق العقاب عليه وإن لم يبق النهي بعد الاضطرار بصفة التنجّز ، والمانع عن صحّة الفعل ووقوعه عبادة إنّما هو قبحه وصحّة العقاب عليه ، لا كونه بالفعل منهيّا عنه.

وأمره بالخروج إرشادي من باب الأمر بارتكاب أقلّ القبيحين في مقام الدوران ، فلا ينافي مبغوضيّة فعله من حيث هو ، المانعة عن وقوعه عبادة ، كما تقدّم توضيحه في المبحث المشار إليه ، فراجع.

وأمّا على القول بالمفطريّة : ففي الصوم الذي يجوز إبطاله ، كالتطوّع والواجب الموسّع يفسد الصوم ويصحّ الغسل ، وفي الصوم الذي يحرم إبطاله يفسد الغسل أيضا إن نواه بدخوله.

وأمّا لو نواه بعد الاستقرار أو حال الخروج إن اكتفينا بمثله في الغسل ، صحّ ؛ لوقوعه بعد انقطاع النهي وصيرورة الفعل سائغا في حقّه.

اللهمّ إلّا أن يعرضه حرمة خارجيّة ، كما لو كان في شهر رمضان ، وقلنا بأنّه يجب عليه الإمساك عن سائر المفطرات حتى الارتماس تعبّدا بعد إفساد الصوم.

(وفي إيصال الغبار إلى الحلق خلاف) كما صرّح به في الحدائق حيث قال ما لفظه : اختلف الأصحاب في إيصال الغبار إلى الحلق ، فذهب جمع منهم : الشيخ في أكثر كتبه إلى أنّ إيصال الغبار الغليظ إلى

٣٩٤

الحلق متعمّدا موجب للقضاء والكفّارة ، وإليه مال من أفاضل متأخّري المتأخّرين : المحدّث الشيخ محمد بن الحسن الحرّ في كتاب الوسائل.

وذهب جمع منهم : ابن إدريس والشيخ المفيد على ما نقل عنه وأبو الصلاح وغيرهم ـ والظاهر أنّه المشهور ـ إلى وجوب القضاء خاصّة متى كان متعمّدا.

وذهب جمع من متأخّري المتأخّرين إلى عدم الإفساد ، وعدم وجوب شي‌ء من قضاء أو كفّارة ، وهو الأقرب (١). انتهى.

ولكن في الجواهر بعد أن نسب القول بالمفطريّة إلى المشهور ، قال : بل لم أجد فيه خلافا بين القائلين بعموم المفطر للمعتاد وغيره ، إلّا من المصنّف في المعتبر ، فتردّد فيه ، كما اعترف بذلك الفاضل في الرياض ، بل ظاهر الغنية والتنقيح وصريح السرائر ، ومحكي نهج الحقّ : الإجماع عليه (٢). انتهى.

وقال شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ بعد نسبته إلى المشهور : بل لم يعلم مصرّح بالخلاف فيه إلى زمان بعض متأخّري المتأخّرين (٣). انتهى.

ولكن هذا إنّما هو في الغبار الغليظ ، وإلّا فظاهر كثير منهم : عدم البأس برقيقه.

واستدلّ القائلون بالفساد : بأنّه أوصل إلى جوفه ما ينافي الصوم ،

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١٣ : ٧٢ ، وراجع : الاقتصاد : ٢٨٧ ، والجمل والعقود (ضمن الرسائل العشر) : ٢١٢ ، والوسائل : الباب ٢٢ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، والسرائر ١ : ٣٧٧ ، والمقنعة : ٣٥٩ ، والكافي في الفقه : ١٨٣.

(٢) جواهر الكلام ١٦ : ٢٣٢ ، وراجع : المعتبر ٢ : ٦٥٥ ، ورياض المسائل ١ : ٣٠٥ ، والغنية (ضمن الجوامع الفقهية) : ٥٠٩ ، والتنقيح الرائع ١ : ٣٥٧ ، والسرائر ١ : ٣٧٧ ، ونهج الحق : ٤٦١.

(٣) كتاب الصوم : ٥٧٢.

٣٩٥

فكان مفسدا له.

وبما رواه الشيخ عن سليمان المروزي ، قال : سمعته يقول : إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان أو استنشق متعمّدا أو شمّ رائحة غليظة أو كنس بيتا فدخل في أنفه وحلقه غبار ، فعليه صوم شهرين متتابعين ، فإنّ ذلك له فطر مثل الأكل والشرب والنكاح (١).

وفي المدارك بعد أن استدلّ لهم بهذين الدليلين ، قال : ويتوجّه على الأوّل : المنع من كون مطلق الإيصال مفسدا ، بل المفسد الأكل والشرب وما في معناهما.

وعلى الرواية ، أوّلا : بالطعن في السند : باشتماله على عدّة من المجاهيل ، مع جهالة القائل.

وثانيا : باشتمالها على ما أجمع الأصحاب على خلافه من ترتّب الكفّارة على مجرّد المضمضة والاستنشاق وشمّ الرائحة الغليظة.

وثالثا : بأنّها معارضة بما رواه الشيخ ـ في الموثّق ـ عن عمرو بن سعيد عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ ، قال : سألته عن الصائم يدخن بعود أو بغير ذلك ، فتدخل الدخنة في حلقه ، قال : لا بأس. وسألته عن الصائم يدخل الغبار في حلقه ، قال : لا بأس (٢).

ويظهر من المصنّف ـ رحمه‌الله ـ في المعتبر : التوقّف في هذا الحكم حيث قال بعد أن أورد رواية سليمان المروزي : وهذه الرواية فيها ضعف ؛ لأنّا لا نعلم القائل ، وليس الغبار كالأكل والشرب ،

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢١٤ / ٦٢١ ، الإستبصار ٢ : ٩٤ / ٣٠٥ ، الوسائل : الباب ٢٢ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ١.

(٢) التهذيب ٤ : ٣٢٤ / ١٠٠٣ ، الوسائل : الباب ٢٢ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ٢.

٣٩٦

ولا كابتلاع الحصى والبرد ؛ وهو في محلّه (١). انتهى ما في المدارك.

وأجيب عن الخدشة في الرواية : بانجبار ضعفها بالشهرة.

واشتمال الخبر على ما لا يمكن الالتزام بظاهره ؛ لمخالفته لإجماع أو غيره من الأدلّة ، غير موجب لسقوطه عن الحجيّة رأسا.

وأورد على هذا الجواب : بأنّ الشهرة إنّما تصلح جابرة لضعف الرواية الضعيفة ، أي : الخبر المنسوب إلى المعصوم ، الذي في طريقه ضعف لكونها نوعا من التبيّن المصحّح للعمل به ، وأمّا الخبر الذي لم تثبت نسبته إلى المعصوم ، فلا يجديه الشهرة ؛ لأنّها غير صالحة لإثبات هذه النسبة ، فالضعف الناشئ من الإضمار غير قابل للانجبار بشهرة ونحوها.

وأجيب : بأنّ إضماره ـ بعد معلوميّة عروضه من تقطيع الأخبار ، لا من أصل الرواية ـ غير قادح.

وفيه : أنّه لو كان هذا المعنى معلوما ، لم يكن وجه لعدّ الأصحاب الأخبار المضمرة من صنف الضعاف.

نعم ، كونها مذكورة في كتب الأخبار في سلك سائر الأخبار المرويّة عن المعصومين ، وعدم الداعي لمصنّفيها لنقل كلام غير المعصومين ، يورث الظن القوي بكونها منها.

وكيف كان ، فالأولى في الجواب عن هذا الإيراد : بأنّ الشهرة تصلح جابرة للضعف من جميع الجهات ، ولكن بشرط استناد المشهور إليه في فتواهم وعملهم به ، لا مجرّد موافقة قولهم لمضمونه ، فإنّه ظنّ خارجي غير مجد في جبر ضعف الخبر ، كما تقرّر في محلّه.

__________________

(١) مدارك الأحكام ٦ : ٥٢ ، وراجع : المعتبر ٢ : ٦٥٥.

٣٩٧

ومن هنا يمكن الخدشة في دعوى انجبار ضعفه بالشهرة : بعدم ثبوت استناد المشهور إلى هذه الرواية في هذه الفتوى ، بل المظنون عدمه ، فإنّ من المستبعد التزامهم بخصوص هذه الفقرة ، وطرحهم لسائر الفقرات التي تضمّنتها الرواية ، بل كيف يمكن أن تكون هذه الرواية مستندة لهم مع أنّ أكثرهم بل المشهور في ما بينهم ـ على ما نسبه إليهم في الحدائق (١) ـ على عدم وجوب الكفّارة ، بل القضاء خاصة ، وهو خلاف ما وقع التصريح به في هذه الرواية؟! فالحقّ : كون هذه الرواية ـ مع الغضّ عن سندها ومعارضتها بالموثّقة المزبورة والصحيحة الحاصرة لما يضرّ الصائم في ما عداه ـ من الروايات الشاذّة التي يجب ردّ علمها إلى أهله.

وأمّا ما قيل من أنّه أوصل إلى جوفه ما ينافي الصوم ، فكان مفسدا له ، ففيه : ما أورده في المدارك (٢) وغيره (٣) من أنّ المفسد هو الأكل والشرب وما هو بمعناهما من البلع والتجرّع ونحوهما ممّا لا يصدق عليه عرفا اسم الأكل والشرب ، ولكن يفهم المنع عنه من النهي عنهما عرفا ، وليس إيصال الغبار إلى الحلق على إطلاقه كذلك.

نعم ، لا يبعد أن يقال : إنّه لو كان المقصود بإثارة الغبار التسبيب إلى إدخال الأجزاء التي يثأر منها الغبار من طحين أو تراب ونحوه إلى الجوف ، فهو ملحق عرفا بالأكل والبلع ونحوه ، بل هو هو ، فإنّه تناوله باليد أو بآلة أخرى ، ووضعه في الفم إنّما يقصد به التوصّل إلى إيصاله إلى الجوف ، فلا يتفاوت الحال حينئذ بين أن يتوصّل إليه بالاستعانة

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١٣ : ٧٢.

(٢) مدارك الأحكام ٦ : ٥٢.

(٣) كالذخيرة : ٤٩٩.

٣٩٨

بالهواء أو بغيره من الآلات.

ولكن مراد الأصحاب القائلين ببطلان الصوم بإيصال الغبار إلى الحلق ليس خصوص هذا الفرض ، بل هذا الفرض خارج عن منصرف كلماتهم ، وإنّما المتبادر من كلماتهم إرادة بيان الحكم في مثل ما لو كنس بيتا أو دخل مكانا مغبرا من غير أن يتحفّظ عنه حتى يصل إلى جوفه ، لا ما كان عنوان الإيصال إلى الجوف مقصودا له بفعله ، ففي مثل هذا الفرض لا ينبغي الارتياب في عدم صدق اسم الأكل والشرب عليه ، فيتّجه الالتزام بعدم مفطريّته.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّا لو التزمنا ببطلان الصوم في الفرض الأوّل ، وهو : ما لو كان المقصود بفعله التوصّل إلى إيصال ما يثأر منه الغبار إلى جوفه ، وجوب الالتزام به في هذا الفرض أيضا ، فإنّ حاله حينئذ حال المشي تحت المطر الذي يعلم بدخوله في حلقه لو لم يتحفّظ عنه ، فإنّه وإن لم يصدق عليه عرفا اسم شرب ماء المطر ، ولكنه بحكمه في إبطال الصوم جزما ، فالأظهر عدم الفرق بين الفرضين ، وبطلان الصوم في كليهما ، ولكن بشرط كون ما يصل إلى الجوف من الأجزاء باقيا على حقيقته عرفا ، غير مستهلك في الهواء بحيث يصدق عليه عرفا إيصال ذلك الشي‌ء إلى الجوف بالتسبيب ، كما في المشي تحت المطر في المثال المفروض ، ولا يكون ذلك كذلك إلّا في الغبار الغليظ المشتمل على أجزاء محسوسة معتدّ بها عرفا ، وهذا ممّا لا ينبغي التأمّل في مفطريته.

مع أنّه لم ينقل [عنهم] (١) التصريح بعدم البطلان بالغبار الغليظ ، بل عن ظاهر غير واحد أو صريحه : دعوى الإجماع عليه ، فلا يبعد أن

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

٣٩٩

يقال بكفاية الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة ، وعدم وجود مصرّح بالخلاف دليلا على فساد الصوم بإيصال الغبار الغليظ إلى الحلق ، مضافا إلى ما أشرنا إليه من كونه عرفا ملحقا بابتلاع ذلك الجسم الذي أثير منه الغبار.

(و) كيف كان فـ (الأظهر) في الغبار الغليظ (التحريم وفساد الصوم.)

وأمّا الغبار الرقيق الذي حاله في العرف حال البخار والدخان ، فالأظهر ـ وفاقا لما نسب إلى الأكثر (١) ـ عدم بطلان الصوم به ، كما أنّ هذا هو الأقوى في نظيريه ، أي : البخار والدخان ؛ للأصل.

مضافا إلى شهادة موثّقة عمرو بن سعيد المتقدّمة (٢) به ، مع استقرار السيرة على عدم التحفّظ عن شي‌ء منها.

مع كون التكليف بالاجتناب عن البخار لمن يدخل في الحمّام ونحوه ، أو الدخان لمن يباشر الطبخ ونحوه ، أو مطلق الغبار لمن يرتكب كنس البيت ونحوه من الأفعال التي هي مثار الغبار ممّا قضت الضرورة بجواز ارتكابها للصائم ، تكليفا حرجيّا ، كما هو واضح ، فلا ينبغي الارتياب في جواز شي‌ء من ذلك.

نعم ، قد يتأمّل في جواز تناول كلّ من هذه الأشياء وإيصاله إلى الجوف بابتلاعه وتجرّعه عند ملحوظيّته من حيث هو ، وتعلّق القصد إلى إيصاله إلى الجوف بعنوانه المخصوص به ، لا من حيث كونه هواء مشوبا

__________________

(١) لا يخفى أنّ المنسوب إلى الأكثر هو تقييد الغبار بالغليظ ، ولازمه عدم الإفساد في الرقيق. انظر : مدارك الأحكام ٦ : ٥٢ ، وكتاب الصوم للشيخ الأنصاري : ٥٧٢.

(٢) تقدّمت في صفحة ٣٩٦.

٤٠٠