مصباح الفقيه - ج ١٤

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٩

[مرادا] في مقابل غير الأمين ، أعني من لا ثقة بفعله ، بل المراد بها كلّ من سلّطته على مالك ، وألقيت المال تحت يده بحيث يكون تسليطه على مالك بفعلك ، كما يظهر من الأخبار الواردة في هذه المقامات.

وهذا هو المعني به في كلماتهم حيث يعلّلون في بعض الموارد مثلا :بأنّ المستأجر أو الودعي أو المستعير أمين ، وليس عليه إلّا اليمين ، لا العدل الثقة ، وهذا ظاهر.

وإطلاق الأمين عليه لعلّه لأجل معاملتك التي لا ينبغي أن يعامل مثلها إلّا مع الامناء ، والمستفاد من الأدلّة التي تدلّ على أنّ الأمين ليس بضامن (١) ، وأنّه لا يجوز اتّهامه وتخسيره بمساعدة فهم العرف بما ارتكز في أذهانهم : أنّه بعد أن كان استيلاؤه بفعلك وأمرك ينافي ذلك تغريمه وورود خسارته عليه ، ومعلوم أنّه لا فرق في ذلك بين أن يأذن له ابتداء في التصرّف أو يرخّصه في استدامة اليد ، فهذه الأدلّة كما تقتضي تخصيص قاعدة اليد بما إذا لم يكن بإذن المالك ، كذلك تقتضي تعميم الأداء بحيث يعمّ ذلك ، بل ليس ذلك بعد الإذن إلّا كما أدّاه إلى وكيله ؛ إذ كما أنّ الأداء إلى الوكيل بحكم الأداء عرفا ، كذلك استيلاؤه بعد إذن المالك أيضا بحكم الأداء بنظر العرف ، ولذا استدلّ في المقام لنفي الضمان : بأنّه أداء : إذ من المعلوم أنّه ليس أداء حقيقة ، بل هو بحكم الأداء عرفا.

ولا يخفى عليك أنّ ما ذكرنا من منافاة الاستيمان للضمان إنّما هي إذا كان الإذن مطلقا ، وأمّا لو لم يأذن إلّا بشرط تحمّل الضمان ، كما

__________________

(١) انظر على سبيل المثال : الوسائل ، الباب ٤ من أبواب الوديعة ، والباب ١ من أبواب العارية.

٥٦١

في العارية المضمونة ، فلا.

وبعبارة أخرى : الضمان إنّما ينافي إطلاقها لا ذاتها ، كما أنّه لا مانع عن الالتزام بالضمان بتعدّي الأمين أو تفريطه بعد مساعدة دليل التعدّي والتفريط على ذلك.

وأمّا دعوى خروجه عن الأمانة بذلك : فيمكن منعها بما أشرنا من عدم منافاتها للأمانة بالمعنى المعتبر في المقام.

فرع لو قلنا بعدم اعتبار القبض في الصحة ولا في اللزوم ،وعدم استحقاقه لذلك أيضا ، فلا إشكال في عدم جواز القبض له من دون إذنه ، ولو كان مستوليا عليه قبل العقد أيضا ، يجب ردّه عليه لو لم يرض بذلك ، وأمّا مجرّد إيقاع عقد الرهن عليه فلا يدلّ على الرضا ، خصوصا على هذا التقدير ، كما لا يخفى.

وكذا لو قلنا باعتباره في اللزوم دون الصحّة ، فإنّه لا يجوز له القبض من دون إذنه ، وكذلك إبقاؤه تحت يده من دون رضاه.

وأمّا مجرّد إيقاع عقد الرهن عليه فدلالته على الرضا بالإمساك قد عرفت المنع عنه ، فلا يرتفع به الضمان السابق ، بل استيلاؤه عليه بعد العقد أيضا من دون إذنه سبب مستقلّ للضمان ، وأمّا استحقاقه للقبض بمجرّد العقد على هذا التقدير بعد فرض أصله جائزا قبل القبض فغير معقول.

بقي الكلام فيما لو قلنا بلزومه بمجرّد العقد واستحقاقه للقبض من حينه ، فإن بنينا على أنّه يجوز له القبض بعد ذلك بأيّ وجه اتّفق من

٥٦٢

دون حاجة إلى إذن الراهن في ذلك ، فالظاهر أنّه لو قبضه بعد العقد من دون إذنه وتلف في يده ، لا يضمنه ؛ لما سنذكره إن شاء الله تعالى من الأدلّة التي تدلّ على أنّ العين المرهونة لو تلفت في يد المرتهن فهي من مال مالكه.

ودعوى : انصرافها عن الفرض بعد أن كان الأخذ عن استحقاق ، غير مسموعة ، كما أنّ الظاهر أنّه كذلك لو قلنا بعدم جوازه إلّا عن إذنه ولكنه امتنع عن الإذن ، فقبضه المرتهن بإذن الحاكم أو بنفسه إذا جوّزنا له ذلك.

وأمّا لو قبضه من دون إذنه على الفرض مع عدم كون الراهن ممتنعا ، فالظاهر الضمان ؛ لعموم قاعدة اليد ، وعدم معلوميّة شمول دليل المخصّص للفرض ، كما أنّ الظاهر بقاء الضمان لو تحقّق سببه سابقا على العقد ولو قلنا باستحقاقه للقبض وعدم الحاجة إلى إذنه أيضا إلى أن يتحقّق الأداء أو ما بحكمه كإذنه في الإبقاء.

وأمّا الأدلّة التي دلّت على أنّ المرتهن ليس بضامن ، فلا ينافي ذلك ؛ لعدم دلالتها إلّا على أنّ الاستيلاء على العين المرهونة لا يقتضي الضمان ، لا أنّه يقتضي عدم الضمان ، كما لا يخفى على من لا حظ أدلّتها ، فلا ينافي ذلك اقتضاء سبب آخر للضمان.

ولا يقاس هذه الأدلّة بأدلّة الأمانات في دلالتها على رفع الضمان فعلا بعد تفاوتها في الإفادة واقتران دليل الأمانات بالتقريبات الذهنية التي يؤيّد ظهورها في نفي فعلية الضمان ، فلاحظ وتأمّل.

(و) ممّا يتفرّع على اعتبار القبض أيضا أنّه (لو رهن ما هو غائب) عن مجلس العقد (لم يصر رهنا) صحيحا أو لازما على القولين (حتى يحضر المرتهن أو القائم مقامه عند الرهن ويقبضه)

٥٦٣

فيصحّ على القول الأول ويلزم على القول الثاني.

وهذا ممّا لا إشكال بل لا خفاء فيه بناء على اعتبار القبض ، ولكنه لا بدّ من أن يقتصر فيه بما إذا لم تكن العين الغائبة في تصرّف المرتهن ، وإلّا فحكمه ما تقدّم في الفرع المتقدّم من حصول القبض وكفايته في الصحة لو كانت الاستدامة بإذن الراهن.

كما أنّه ينبغي أن ينبّه في المقام على أنّه لو وكّل المرتهن من كان العين في تصرّفه حال العقد في القبض يتحقّق الرهن ، ولا يتوقّف صحّته ولا لزومه ـ على الفرض ـ على الحضور ؛ لحصول الشرط ، إذ لا فرق في ذلك بين أن يباشره هو بنفسه أو بوكيله ، كما أنّه لا فرق بين حضور العين وغيبتها بعد تحقّق صدق كونها مقبوضة ؛ إذ ليس المراد بالقبض القبض الحقيقي الذي لا يتحقّق إلّا بالأخذ باليد حقيقة ، بل المراد به ما هو منشأ للضمان فيما إذا كان مغصوبا مثلا ، ومن المعلوم أنّه لا فرق في ذلك ـ أعني في تحقّق القبض بهذا المعنى ـ بين أن تكون العين المرهونة في حبرة (١) حاضرة عنده وبين أن تكون في دار مفتاحها عنده ، فعلى هذا يصح الرهن لتحقّق القبض بهذا المعنى.

نعم قد يتوهّم أنّ الشرط إيجاد القبض لا استمراره ، وهو في الفرض غير متصوّر قبل الحضور ، فيكون موقوفا عليه.

وفيه : أنّ دليل اعتبار القبض ليس إلّا قوله تعالى «فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ» (٢) وقوله ـ عليه‌السلام ـ : لا رهن إلّا مقبوضا (٣) وشي‌ء منهما

__________________

(١) حبرة : ثوب يصنع باليمن قطن أو كتان مخطط. مجمع البحرين ٣ : ٢٥٦.

(٢) البقرة ٢ : الآية ٢٨٣.

(٣) التهذيب ٧ : ١٧٦ / ٧٧٩ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب كتاب الرهن ، الحديث ١.

٥٦٤

لا يدلّ على شرطيّة إحداث القبض ، بل غاية مدلولها اعتبار كون المرهون مقبوضا ، وهو حاصل في الفرض.

مع أنّه لو سلّم ظهورها في شرطية إحداث القبض ، بل لو ورد دليل يكون نصّا في ذلك بالخصوص ، لكنّا نحمله على إرادة اعتباره من باب المقدّمة ، لا لأنّه بنفسه شرط ، ضرورة معلوميّة أنّ الحكمة في تشريع ذلك إنّما هو الاستيثاق الذي لا يحصل إلّا بكونه مقبوضا من حيث إنّه مقبوض ، وأمّا نفس القبض الحدثي من حيث إنّه فعل من الأفعال ، لا مدخلية له في ذلك إلّا من حيث كونه مقدّمة لحصول ما هو سبب لذلك.

ويمكن الإيراد على ما ذكرنا من كفاية الوكالة في صحّة العقد : بأنّ شرط صحة الوكالة قابلية المحل بأن يكون فعلا اختياريا فيوكّله في إيجاده ، وهو في المقام غير محقّق ، إذ الاستيلاء التام الفعلي غير ممكن إلّا بعد زمان يمكن الوصول إليه ، وأمّا الاستيلاء الحاصل بفعله السابق الذي صار منشأ لصدق كونه قبضا في الحال ، فهو أمر حاصل غير قابل للتغيير نفيا وإثباتا في زمان لا يتمكّن من الوصول إليه إلّا بعد مضيّه ، فهذا أيضا [لوجوده] (١) غير قابل للاستنابة حتى يصير القبض قبضا للمرتهن.

وفيه : أنّ نفس القبض وإن كان حاصلا لا يقبل النيابة بعد ذلك من حيث هو ، إلّا أنّ قصده كون استمرار القبض الحاصل نيابة عن المرتهن فعل ممكن ، وبه يتغيّر عنوان القبض.

نعم يتوقّف على نيّة النيابة ؛ إذ بها يتغيّر العناوين في مثل المقام ،

__________________

(١) في النسخة الخطية والطبع الحجري : لوجوبه. والظاهر ما أثبتناه.

٥٦٥

فهو في الحقيقة وكيل في هذا الأمر الذي به تتحقّق الإضافة ، ويصدق عليه أنّه قبضه ، فهذا كما لو نوى الولي القبض عن الطفل فيما لو وهبه ممّا هو في يده.

والظاهر أنّه لا إشكال في كفايته في صحة الهبة ، مع أنّه ليس إلّا مجرّد تغيير العنوان بالقصد ، فافهم.

(و) إذا عرفت أنّ القبض معتبر في صحة الرهن ولزومه ، فـ (لو أقرّ الراهن بالإقباض قضي عليه) وحكم بصحة الرهن ولزومه ؛ لعموم إقرار العقلاء على أنفسهم جائز (١) ، ولكنه (إذا لم يعلم كذبه) ضرورة عدم كون الإقرار من الأسباب الواقعية لتحقّق مؤدّاه واقعيّا ، وإنّما هو سبب ظاهري يترتّب عليه مؤدّاه ما لم يتبيّن خلافه ، وأمّا بعد ظهور الخلاف فلا.

(ولو رجع) بعد ذلك عن إقراره (لم يقبل رجوعه) لكونه إنكارا عقيب الإقرار ، وسماعه ينافي نفوذ الإقرار ومضيّه.

(و) لكنه قد يقال : إنّه (تسمع دعواه لو ادّعى المواطاة على) الإقرار لأجل (الإشهاد) عليه إقامة لرسم الوثيقة (و) على هذا (يتوجّه) له (اليمين على المرتهن على الأشبه.)

ولا يخفى عليك أنّ هذه الفروع لا يتنقّح حقّ التنقيح إلّا بعد تحقيق حقيقة الإقرار ، ومعرفة حكمه الثابت له من النفوذ وعدم سماع الإنكار بعده.

فنقول : الإقرار لغة كما في المسالك (٢) : الإثبات من قولك : قرّ

__________________

(١) عوالي اللآلي ١ : ٢٢٣ / ١٠٤ و ٢ : ٢٥٧ / ٥ و ٣ : ٤٤٢ / ٥.

(٢) مسالك الأفهام ٢ : ص ١٦٢.

٥٦٦

الشي‌ء يقرّ ، وقررت الشي‌ء وأقررته : إذا أفدته القرار.

فعلى هذا ما يظهر من بعض اللغويين أنّه بمعنى الاعتراف أو الإذعان فإنّما هو تفسير بالمناسب ؛ إذ الظاهر أنّ الإذعان عبارة عن التصديق القلبي من حيث هو ، وليس الإقرار كذلك ، بل الاعتراف أيضا ممّا يعتبر العلم في مفهومه ، بخلاف الإقرار ؛ فإنّ الاعتقاد بحسب الظاهر ليس مأخوذا فيه.

وكيف كان ، فيطلق الإقرار على الإخبار عن حقّ لازم للغير على المتكلّم ، والظاهر أنّ إطلاقه عليه ليس من حيث كونه إخبارا عن الواقع ، وكونه ثابتا في نفس الأمر حتى يكون مساوقا للقسم الخاص من الخبر وإن كان يظهر من عبائر بعضهم ذلك ، حيث عبّروا بأنّ صيغته كذا أو لفظه كذا.

وأمّا احتمال كونه بملاحظة صدور نفس اللفظ من حيث هو أو بملاحظة اللفظ من حيث كونه مطابقا للنسبة الذهنية فممّا لا ينبغي أن يتوهّم ، بل الظاهر أنّ تسميته إقرارا إنّما هو من جهة استلزام خبر إثبات حقّ للمقرّ له على عهدة المقرّ ، ونفي استحقاقه له بنفسه بمقتضى اعترافه ، فالإقرار اسم للازم المستفاد من الخبر لا لنفس القضية من الموضوع والمحمول ، فالخبر ما به يتحقّق الإقرار لا نفس الإقرار ، ولعلّ في تعديته بالباء في قولهم : أقرّ بكذا ؛ إشعارا بذلك.

إذا عرفت معنى الإقرار ، فنقول : إنّ حكم الإقرار نفوذه على المقرّ ، وقطع النزاع به ، للنبوي المدّعى استفاضته ، بل تواتره : إقرار العقلاء على أنفسهم جائز (١).

__________________

(١) مرّت الإشارة إلى مصدره في الصفحة السابقة.

٥٦٧

ومعنى جوازه بحسب الظاهر : نفوذه في حقّه ، وعدم إمكان التفصّي له عمّا التزمه على نفسه بسبب إقراره ، لا أنّه حجّة وطريق إلى الواقع لأجل أنّ العاقل ليس متّهما في إخباره عن ضرر نفسه ، فيجب تصديقه ، نظير وجوب تصديق العادل ، حتى يقال : إنّ اعتباره على هذا دائر مدار طريقيته ولو نوعا ، فيشكل الأمر فيما لو عارضه إقرار آخر ، كان يقرّ أوّلا لزيد بشي‌ء ثم لعمرو بذلك الشي‌ء ، ضرورة عدم اتّصاف المتعارضين بوصف الطريقية بالنسبة إلى شي‌ء من الخصوصيتين ، مع أنّهم حكموا بنفوذ الإقرار في المثال ، فيلزم بدفع العين إلى الأول وبدله إلى الثاني ، وذلك لأنّ الجواز ليس بمعنى الحجيّة كما لا يخفى.

مع أنّه بعد ما عرفت من أنّ الإقرار لغة بمعنى الإثبات ، وأنّ تسمية الخبر إقرارا إنّما هو باعتبار لازمه ، أعني الإثبات والالتزام ، لا مجال لهذا التوهّم ؛ إذ الإثبات والالتزام لا يتّصف بالحجّية والطريقية.

نعم إن قلنا بأنّ الإقرار عبارة عن نفس الخبر ، لكان للاحتمال المذكور وجه ، إلّا أنّه خلاف الظاهر ، فلا يصار إليه.

وأمّا ما ذكر من أنّ العاقل لا يتّهم في إخباره عن نفسه ، فالظاهر أنّه حكمة لجعل إقراره سببا للنفوذ ، وجواز إلزامه بما التزم به ، والظاهر أنّ الإقرار في حدّ ذاته له نحو اعتبار وسببية ظاهرية عند أرباب السياسة من العقلاء ، فحكم الشارع على هذا إمضاء لطريقتهم.

وكيف كان ، فالظاهر بل المقطوع به : أنّه ليس سببا واقعيّا لثبوت متعلّقه ، كالبيع ونحوه ، بل هو سبب ظاهري يترتّب عليه آثار ثبوته ما لم يعلم خلافه ، فلو علم كذبه ، لا يترتّب عليه شي‌ء ، كما هو الشأن

٥٦٨

في جميع الأحكام الظاهرية ، فلو أقرّ بأنّ الدار التي تحت تصرّفه انّها لزيد ، نحكم بمقتضى إقراره أنّها لزيد ، ونلزمه بدفعها إليه ، كما لو رأينا نقلها إليه بسبب واقعي ، فلا تسمع بعد ذلك دعواه أنّها ليست لزيد ؛ إذ إنكاره بعد ذلك مناف لنفوذ إقراره السابق ، وقد دلّت الرواية على نفوذه.

هذا إذا تعلّق الإنكار بنفس ما أقرّ به ، أمّا لو ادّعى التأويل والمواطاة على الإشهاد والكذب عمدا أو خطأ والاشتباه في طريق الإقرار ، كالاتّكال على قول الشريك أو خطّ الوكيل وغير ذلك من نظائرها ، فسماع الدعوى فيها ليس منافيا لنفوذ الإقرار مطلقا.

بيان ذلك : أمّا في ما هو من قبيل دعوى التأويل كالتورية ودعوى جهله بمدلول كلامه وسبقه إلى لسانه من دون قصد وغير ذلك ، فدعواها ترجع إلى دعوى خروج الإقرار عن كونه إقرارا ، ومعلوم أنّ هذا لا ينافي نفوذ حكم الإقرار ؛ إذ الكلام بعد في تحقّق موضوع النفوذ ، فله إثبات ما ادّعاه من عدم كونه إقرارا إلّا أنّه قبل الإثبات محكوم بالنفوذ ؛ لأصالة الحقيقة ، وأصالة عدم إرادة خلاف الظاهر ممّا له ظاهر ، وأصالة عدم الخطأ والغفلة وغير ذلك من الأصول المعتبرة عند العقلاء في تعيين المرادات من الألفاظ.

وأمّا دعوى المواطاة على الإشهاد والكذب عمدا لغرض أو خطأ ، فإنّه وإن كان يصدق عليه الإقرار ، إلّا أنك قد عرفت أنّ الإقرار ليس في حدّ ذاته سببا واقعيّا ، فمن الممكن أن يكون كلامه كذبا في الواقع ، فلفظة وإن كان صريحا في كون المال لزيد في الواقع ، إلّا أنّه لا يدلّ بمقتضى مفهومه اللفظي أنّ المتكلّم لم يكذب في كلامه ، غاية الأمر إنّا نحرز هذا الشرط قبل دعواه بظهور الحال ، وأصالة عدم كون

٥٦٩

كلامه مخالفا لمعتقده ، وأنّ المتكلّم العاقل لا يخبر بخلاف الواقع المضرّ بحاله وغيرها من الأصول المعتبرة عند العقلاء ، فإذا ادّعى شيئا ممّا هو مخالف لأصل من الأصول التي يتعيّن بها مدلول اللفظ يجوز سماعها ؛ لعموم البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر (١).

ومن هذا ظهر الوجه في سماع دعوى الخطأ في الطريق حيث إنّ إحراز عدمه إنّما هو بأصالة عدم الخطأ لا بمدلول الإقرار ، ومعلوم أنّ كلّ دعوى على خلاف الأصل مسموعة بمعنى أنّه يجب على مدّعيها الإثبات.

وما ذكرنا من سماع الدعوى في هذه المقامات لا ينافي الالتزام بكونه سببا ظاهريا تعبّديّا ، بل كونه سببا ظاهريّا ، وعدم كونه ناقلا في الواقع يقتضي ذلك.

نعم لو بنينا على أنّ ما هو ظاهر الإقرار نافذ واقعا ، فيكون الظاهر سببا واقعيّا لم يكن وجه لسماع الدعوى في هذه الموارد ، ولكنك قد عرفت خلافه.

وأيضا ما ذكرناه من السماع ليس مطلقا ، بل هو مقصور على ما لو شهد على ما يدّعيه من خلاف الظاهر شي‌ء من قرائن الأحوال ، بأن يستند إلى مستند يستند إليه العقلاء في ارتكابهم بمثل ما يدّعي ارتكابه ، ككون الإقرار على رسم القبالة وغيره من القرائن ؛ إذ ليس كلّ دعوى تسمع ولو كانت بعيدة عادة ، كدعوى إرادة خلاف الظاهر ممّا له ظاهر مع عدم مساعدة شي‌ء من القرائن على صدق دعواه.

ومن هذا القبيل دعوى المزاح بإقراره ممّا لا يعتني العقلاء بمثلها في مقابل الظهورات المعتبرة ، وذلك لانصراف أدلّة سماع الدعاوي إلى

__________________

(١) عوالي اللآلي ١ : ٢٤٤ / ١٧٢ و ٤٥٣ / ١٨٨ و ٢ : ٢٥٨ / ١٠ و ٣٤٥ / ١١ و ٣ : ٥٢٣ / ٢٢.

٥٧٠

الدعاوي المعتبرة عند العقلاء ، كيف ولو بني على سماع كلّ دعوى ، لانفتح باب الدعاوي الباطلة كما لا يخفى.

وحاصل الكلام في معنى الرواية : أنّ المستفاد منها أنّ العاقل ملزم بما التزم به على نفسه ، فهذا حكم تعبّدي من الشارع في مرحلة الظاهر ، فيترتّب عليه أحكامه ما لم يعلم خلافه.

هذا حكم الإقرار ، وأمّا تعيين الإقرار وأنّ المقرّ به أيّ شي‌ء؟فالمتّبع في تعيينه هو العرف ، فلا بدّ في إحراز المراد والموضوع من إعمال القواعد العرفية مثل أصالة عدم القرينة وأصالة عدم السهو وغيرهما من الأصول ، وكلّ دعوى في مقابل شي‌ء منها مسموعة ، بمعنى أنّه يجب على المدّعي إثباتها ، وإلّا فالأصل ينفيه.

هذا فيما لو ادّعى ما ينافي صدق الإقرار ، أو ما هو المراد من لفظ ما أقرّ به ، مثل دعوى معنى مجازي أو غيرها ، وأمّا دعوى الخطأ في طريق الحكم فعموم الحكم بالنفوذ ، وكونه تعبّديّا وإن كان يقتضي عدم الاعتناء بها ، غاية الأمر أنّه بعد فرض كونه حكما ظاهريّا لو ظهر بنفسه مخالفته للواقع يرفع اليد عن قضية الإقرار ، وإلّا فيحكم على مقتضى الإقرار ولو مع العلم بخطإ الطريق ، فضلا عن دعواه ، إلّا أنّ الظاهر من الكلام خصوصا بملاحظة إضافة الإقرار إلى العقلاء : أنّ الحكم ليس تعبّديّا محضا ، بل لأجل مناسبة بين الحكم وموضوعه ، وهو كونه التزام العاقل من حيث إنّه عاقل ، وهذا لا محالة ينصرف إلى الإقرارات الواقعية التي يكون العاقل ملتفتا إلى جميع أطرافه.

وبعبارة أخرى : ينصرف إلى الإقرارات التي يكون طريق العاقل إليه علما بأن لا يكون مخطئا في كلامه ، ويكون معتقدا لما يقول اعتقادا واقعيّا ، فإذا ادّعى الخطأ في الطريق ، وكون إقراره من الأفراد المنصرف

٥٧١

عنها الإطلاق ، الخارجة عن موضوع الحكم بالنفوذ ، ومعلوم أنّ دعواه هذه الأمور مخالفة للأصول العقلائية ، مثل أصالة عدم الخطأ وغيره ، فما لم تثبت يحكم بنفوذ الإقرار لكون الموضوع محرزا بالأصل حال الشك ، إلّا أنّ له إثبات ما يدّعيه ، وسماع دعواه في المقام ، لعدم منافاته نفوذ الإقرار المعتبر ، ضرورة أنّ إثبات كونه من القسم المعتبر من الإقرار إنّما هو بالأصل على الفرض ، وكلّ دعوى في مقابل الأصل مسموعة ، إلّا أن لا تكون نفس الدعوى دعوى عقلائية ، وكذا ينصرف الإطلاق عمّا يعترف به العقلاء كذبا لأغراض أخر ، فدعوى كون إقراره من هذا القبيل مخالفة لظاهر كلامه من حيث إفادته لازم الخبر ، وهو : كون المخبر عالما به معتقدا له ، فدعواه مخالفة للظاهر الذي هو الأصل في مباحث الألفاظ ، فافهم.

بقي الكلام في ما ذكرنا استطرادا من أنّهم حكموا في مثل ما لو أقرّ لزيد بدار ثم أقرّ بها لعمرو يلزم بدفعها لمن أقرّ له أوّلا وبدلها لمن أقرّ له ثانيا ، مع أنّ أحدهما كذب يقينا.

ووجهه ما ذكرنا من عدم دوران اعتباره مدار الطريقية حتى يسقط في الفرض كلاهما عن الاعتبار ، بل اعتباره من باب التعبّد ، فيعمل على وفق مقتضاه ما لم ينكشف خلافه كما هو قضيّة كونه سببا ظاهريّا.

وأمّا العلم الإجمالي في مثل الفرض فلا يسقطه عن الاعتبار ؛ لأنّه تعلّق بواقعتين مستقلّتين لا ارتباط لإحداهما بالأخرى ، فلكلّ منهما إلزامه بما أقرّ به له ، وليس كلّ واقعة منهما معلوما كذبها ، فيثبت بإقراره لكلّ منهما بحسب الظاهر ما أقرّ له ، فيدفع العين المقرّ بها للأول ، ثم بمقتضى إقراره الثاني يلزم بدفع القيمة للثاني ؛ لأنّ مقتضى إقراره الثاني : أنّه

٥٧٢

أتلف مال عمرو بإقراره السابق ، فبالنسبة إلى شخص العين لا ينفذ إقراره لصيرورته مال الغير بالإقرار الأول ، وأمّا بالنسبة إلى لازم كلامه وهو : ثبوت ضمانه عليه ، فينفذ في حقّه ، فيلزم بدفع القيمة.

هذا بالنسبة إلى نفس الشخصين اللذين أقرّ لهما ، وأمّا بالنسبة إلى الحاكم الذي يلزمه بدفع العين والبدل مع علمه بعدم استحقاق واحد منهما ، فوجهه : أنّ علم الحاكم في مثل المقام لا يؤثّر في شي‌ء ؛ لأنّ الحاكم منصوب لفصل الخصومات ، وإيصال حقّ كلّ ذي حقّ إليه ، فبعد حكمه لكلّ منهما بجواز العمل بظاهر إقراره ما لم يحصل في حقّه بالخصوص مخالفة قطعية ، فلازمه أنّهما لو رفعا أمرهما إلى الحاكم أن يلزم المقرّ بدفع العين والبدل ، وليس هذا إلّا كفتواه بجواز الصلاة لكلّ من واجدي المني في الثوب المشترك ، فلو كانا أجيرين للصلاة عند أحد يستحقّان الأجرة كلاهما ، ولو رفعا أمرهما إلى الحاكم في أخذ الأجرة ، فعلى الحاكم إلزام المستأجر بدفع الأجرة إلى كليهما ، مع علمه بفساد صلاة أحدهما ، ولتفصيل الكلام في هذا المجال مقام آخر ، وفي ما ذكرناه كفاية لمن تأمّل.

وبما ذكرنا ظهر الوجه في الفروعات المذكورة في المقام من نفوذ الإقرار لو أقرّ بالقبض ما لم يعلم كذبه ، وعدم قبول رجوعه ، وسماع دعواه لو ادّعى المواطاة على الإشهاد ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا وجه توجّه اليمين على المرتهن : فلكونه منكرا.

وأمّا اليمين المتوجّهة إليه فهل هي على نفي العلم أو نفي الواقع؟فلبيانه وتفصيل الكلام فيه مقام آخر ، والله العالم.

(و) لا إشكال ظاهرا في أنّه (لا يجوز تسليم المشاع) وإقباضه المعتبر في الرهن المتوقّف على تحقّق القبض فعلا في الخارج. (إلّا برضا

٥٧٣

شريكه ، سواء كان ممّا ينقل أو لا ينقل على الأشبه.)

أمّا في ما ينقل : فواضح ؛ لعدم تحقّق صدق القبض الذي هو من فعل المرتهن إلّا بالتصرّف في العين المشاعة ، وهو محرّم ؛ لكونه تصرّفا في مال الغير من غير إذنه.

وأمّا في ما لا ينقل : فلمنع كونه مجرّد التخلية التي ليست تصرّفا فعليّا من قبل المرتهن قبضا حقيقة.

وتسليم رفع الضمان في مسألة البيع بمجرّد التخلية التي هي من فعل المالك لا يستلزم الالتزام بصدق القبض الذي هو من فعل المرتهن في ما نحن فيه ؛ إذ من الجائز أن يكون الوجه في رفع الضمان في مسألة البيع هو تمكين المالك وإزاحة المانع من قبل نفسه ، لا تحقّق القبض الحقيقي الفعلي ، مع أنّ الالتزام برفع الضمان أيضا مع عدم استيلائه فعلا لممانعة الشريك بمجرّد دفع المفتاح إليه وتخلية سبيله من حيث نفسه قابل للمنع ، فكيف في المقام الذي يعتبر فيه القبض من المرتهن الذي لا يتحقّق عرفا إلّا بالتصرّف فيه زائدا على الاستيلاء التام ، فضلا عن مثل هذا الاستيلاء التعليقي.

هذا بالنسبة إلى حكمه التكليفي ، وأمّا لو عصى بالقبض وقبضه ، فالظاهر صحّة الرهن ولزومه ؛ لتحقّق الشرط ؛ لأنّ الشرط ليس إلّا نفس القبض إذا كان بإذن الراهن وقد حصل.

وكونه محرّما ؛ لعدم رضا الشريك لا يقتضي فساده ؛ لأنّ الشرط إنّما هو وجوده ، لا كونه على وجه مباح ، كما لا يخفى.

٥٧٤

الفصل (الثاني)

(في شرائط الرهن) أي المرهون

(ومن شرطه (١) : أن يكون عينا) خارجية ، وأن يكون (مملوكا) أي متموّلا حتى (يمكن قبضه ، ويصح بيعه) ليستوفي حقّه الذي استوثق به له من ثمنه (سواء كان مشاعا أو منفردا.)

أمّا الوجه في الأول ـ أعني كونه عينا ـ مع أنّه ممّا لا يوجد فيه خلاف إلّا في ما ستسمعه من الخلاف في خدمة المدبّر : إمكان دعوى اعتباره في مفهوم الرهن لغة وإن لم نقل باعتبار القبض فيه.

مضافا إلى لزوم اعتبار كونه قابلا لأن يقبض بنفسه على ما هو المختار من اعتبار القبض في صحته ، وهو لا يتحقّق إلّا في الأعيان الخارجية.

(فلو رهن دينا لم ينعقد) الرهن ؛ لعدم إمكان قبضه ما دام كونه دينا.

نعم لو عيّنه في الخارج ، يصح رهنه بعد ذلك ، ولكنه يخرج بذلك عمّا نحن فيه.

__________________

(١) في الشرائع : شرائطه.

٥٧٥

هذا إذا بنينا على اشتراط القبض ، وأمّا لو قلنا بعدم اشتراط القبض ، فيشكل الحكم بعدم الصحّة وإن تكلّف لتصحيحه بعض متأخّري المتأخّرين.

اللهم إلّا أن يتمسّك بالإجماع إن تحقّق ، أو يلتزم بأنّ كونه عينا خارجية مأخوذ في مفهومه عرفا ، وليس بالبعيد.

وقد يناقش في ما ذكرنا من عدم إمكان القبض في الدين :

أمّا أوّلا : فبالنقض ببيع الدين في الصرف وهبة ما في الذمم.

وثانيا : بأنّ الدّين كلّي ، وقبضه يتحقّق بقبض أفراده.

ويمكن دفع الأوّل منهما : بإبداء الفارق بين المثالين وما نحن فيه ، بأن يقال : إنّ المستفاد من أدلّة اعتبار القبض في المجلس : أنّ المناط فيه انقضاء الأمر في المجلس ، ووصول حقّ كلّ ذي حقّ إلى صاحبه حتى لا يبقى لأحدهما على الآخر كلام بعد انقضاء المجلس ، وهذا المعنى بالنسبة إلى الدين محقّق ، فلا حاجة إلى شي‌ء آخر.

وبتقرير أوفي : أنّ القبض الذي كان معتبرا في جميع أبواب البيع الذي هو عبارة عن وصول كلّ من العوضين إلى الآخر بمقتضى عقد البيع قد اعتبره الشارع في خصوص الصرف كونه في المجلس لحكم ومصالح ، مثل كونه غالبا في معرض التشاجر وغير ذلك من المصالح الخفية ، ومن المعلوم أنّ القبض بمعناه الحقيقي لا يعقل تحقّقه في الدين ، فالحكم بصحته في المثال لا بدّ من أن يستند إلى دليل يقتضي تعميم القبض بحيث يعمّ الفرض ، وهو في ما نحن فيه مفقود ، فيحمل اللفظ على معناه الحقيقي وهو الحسّي الخارجي.

وأمّا هبة ما في الذمم على من عليه فهو إبراء في الحقيقة ، ولا يعقل اعتبار القبض فيه.

٥٧٦

وأمّا هبته على غيره : فتجويزها يحتاج إلى مراجعة أدلّتها وكيفيّة استظهار اعتبار القبض فيها ، ولا ملازمة بين المقامين ، فبعد قصور الدليل في ما نحن فيه عن التعميم لا نقول به ، ولو كان دليل الهبة أيضا كذلك ، ولم يكن في المسألة إجماع لا نقول به فيها أيضا.

وكيف كان ، فالمتّبع في كلّ باب هو دليله.

وأمّا المناقشة الثانية : فيدفعها : أنّ الظاهر من قوله تعالى «فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ» (١) وقوله ـ عليه‌السلام ـ : لا رهن إلّا مقبوضا (٢) أن يكون نفس الرهن بنفسها مقبوضة ، وظاهر أنّ قبض الفرد ليس قبض نفس الكلّي من حيث هو ، ولذا يجوز تبديله بفرد آخر.

ومساعدة العرف على تسميته قبضا له في بعض المقامات مبنيّة على المسامحة لا على التحقيق.

فيما ذكرنا تقرّر أنّ الأقوى عدم جواز رهن الدين ؛ لتعذّر القبض ، وأمّا الكلّي الخارجي كما لو رهن منّا من صبرة من الحنطة ، فالظاهر جوازه ، كما في المشاع ؛ إذ لا امتناع في قبضه ، والفرق بين الكلّي الخارجي والمشاع والفرد المردّد قد أوضحنا لك في كتاب البيع ، فراجع.

(و) كما لا يصح رهن الدين (كذا) لا يصح رهن المنفعة ، فـ (لو رهن) ه (منفعة كسكنى الدار وخدمة العبد) لم ينعقد الرهن ؛ لما عرفت من تعذّر القبض.

مضافا إلى دعوى الاتّفاق ، وعدم وجدان مخالف في المسألة.

__________________

(١) البقرة ٢ الآية ٢٨٣.

(٢) التهذيب ٧ : ١٧٦ / ٧٧٩ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب كتاب الرهن ، الحديث ١.

٥٧٧

وما قيل في وجهه : من أنّ الدين إذا كان مؤجّلا ، فالمنافع تتلف إلى حلول الأجل ، فلا تحصل فائدة الرهن ، وإن كان حالا فبقدر ما يتأخّر قضاء الدين يتلف جزء من المرهون ، فلا يحصل الاستيثاق ، ففيه مع أنّه يمكن فرضه بعد الأجل بحيث لا يرد عليه شي‌ء ممّا ذكر : أنّ استيفاء الدين من عين الرهن ليس بشرط ، بل منه أو عوضه ولو ببيعه قبل الاستيفاء ، كما لو رهن ما يتسارع إليه الفساد قبله ، والمنفعة يمكن جواز ذلك فيها بأن يؤجر العين ويجعل الأجرة رهنا ، كما أشار إليه الشهيد ـ رحمه‌الله.

ومعنى كون الأجرة رهنا : أن يستوفي منها دينه لا نفسها حتى يقال : إنّ جواز رهن الأجرة ممّا لا كلام فيه ، وأنّه خارج عن محلّ النزاع ، مع أنّ لنا أن نفرض الرهن بالنسبة إلى المنفعة بعد حلول الأجل ، وعلى هذا فالمرتهن متمكّن من استيفاء دينه من نفس العين بالتصرّف فيها بمقدار يعادل حقّه.

وعلى هذا ، فالعمدة في المقام هو ما ذكرنا من امتناع القبض حقيقة ، مضافا إلى كون المسألة بحسب الظاهر إجماعيّة ، كما يظهر من بعض عبائرهم.

وأمّا المناقشة في ما ذكرنا : بأنّ قبض المنفعة يتحقّق بقبض العين ، كما في الإجارة ، فمدفوعة : بعدم الصدق حقيقة ، وإنّما هو في الإجارة تنزيل ، مع أنّ المعتبر في الإجارة ليس إلّا قبض العين المستأجرة لاستحقاق الأجرة بذلك ، لا أنّه يعتبر في ذلك قبض المنفعة حتى يلتزم بذلك ، ولا يجري عليه أحكام قبض المنفعة بتمامها بمجرّد تسليم العين ، وعلى هذا ، فالمسألة ممّا لا إشكال فيها.

نعم يبقى الإشكال في ما استثنوه من مطلق المنفعة ، وهو رهن

٥٧٨

خدمة المدبّر.

(و) ينبغي أن يتكلّم قبل ذلك (في رهن) نفس (المدبّر) من أنّه هل هو إبطال لتدبيره أم لا؟ فنقول : إنّ فيه (تردّد) أو خلافا (و) إن كان (الوجه) فيه ـ وفاقا للمصنّف وغيره من المتأخرين ، بل عن المسالك نسبته إلى الأكثر (١) ـ (أنّ رهن رقبته إبطال لتدبيره) كبيعه وهبته.

توضيحه : أنّ ذات الرهن وإن لم يكن كالبيع والهبة منافيا للتدبير حيث إنّهما يقتضيان الخروج عن الملكية ، فلا يعقل بقاء التدبير معهما ، وهذا بخلاف الرهن ، فإنّه بنفسه لا يقتضي إلّا تسليط الغير على البيع على تقدير عدم الفكّ ، فلا ينافي هذا بذاته بقاء التدبير ، خصوصا إذا كان عازما على الفكّ.

وكذا ليس كالعرض على البيع في كونه ظاهرا في الرجوع عن التدبير حتى يكون فسخا فعليّا بحسب الظاهر ؛ لما أشرنا من جواز عزمه على الفكّ وبقاء التدبير ، وليس فعله ظاهرا في خلاف هذا العزم حتى يدلّ على نقض التدبير ، وهذا بخلاف العرض على البيع ؛ ضرورة الفرق بين العزم على البيع المستكشف بفعله الذي هو عبارة عن العرض على البيع وتسليط الغير على البيع على تقدير ربّما يعتقد عدم تحقّق التقدير.

ولكن نقول : إنّ إطلاق الرهن يقتضي إحداث حقّ للمرتهن في العين المرهونة به يستحقّ استيفاء دينه عنها عند حلول الأجل ، سواء بقي الراهن حيّا أم لا ، وهذا ينافي التدبير ، لأنّه يقتضي انعتاق العبد بموت

__________________

(١) حكاه صاحب الجواهر فيها ٢٥ : ١٢٠ ، وراجع : مسالك الأفهام ١ : ٢١٨.

٥٧٩

المولى ، فلو تحقّق الموت قبل حلول الأجل ينعتق العبد ، فلا يبقى للمرتهن سلطنة على استيفاء دينه عنه ، وهذا ينافي إطلاق الرهن المقتضي لبقاء السلطنة بعد الموت أيضا ، فيبطل التدبير الذي هو من العقود الجائزة ؛ لإطلاق الرهن المنافي له.

نعم لو قال : أرهنتك العبد المدبّر أو ما يؤدّي مؤدّاه بحيث يدلّ على بقاء تدبيره ، فالأقوى صحتهما معا ؛ إذ ليس على هذا التقدير إطلاق استحقاق ينافي التدبير ، بل التدبير يقتضي قصر الاستحقاق على فرض بقاء المولى حيّا إلى زمان الاستيفاء.

وليس هذا تعليقا مخلّا في العقود ؛ ضرورة ثبوت مثل هذا التعليق أعني بقاء المحل على قابلية الاستيفاء منه في جميع الموارد ، فليس طروّ موت المولى في الأثناء إلّا كصيرورة الخلّ خمرا ، بل موت نفس العبد قبل انقضاء الأجل ، فكما أنّ احتمال طروّ هذه الطوارئ لا ينافي صحة الرهن ، كذا احتمال موت المولى في المدبّر لا ينافي صحة رهنه ، كما في العبد الجاني.

وبما ذكرنا ظهر فساد ما قيل وجها لبطلان التدبير بالرهن من أنّ التدبير ينافي الاستيثاق المعتبر في الرهن ؛ لاحتمال طروّ موت المولى قبل انقضاء الأجل ، فلا يحصل الوثوق.

توضيح الفساد : أنّ الوثوق في كلّ شي‌ء بحسبه ، فالاستيثاق بالعبد المدبّر وإن لم يكن مثل ما لو لم يكن مدبّرا إلّا أنّه لو قيس إلى عدمه ، يعلم أنّه يحصل به الاستيثاق في الجملة أيضا.

وكيف لا ، وليس هذا إلّا كما يحتمل التلف في الأثناء أو الخروج عن المالية ، كالمثال المتقدّم ، مع أنّ الظاهر أنّه ممّا لا إشكال في صحة رهنه.

٥٨٠