مصباح الفقيه - ج ١٤

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٩

بملاحظة موارد استعمالاته ، وما ذكروه تفسير لفظي غير منطبق على تمام حقيقته ، وإلّا فمعناه معروف.

ولذا أعرض بعض المحقّقين من اللغويين ـ على ما قيل (١) ـ عن تفسيره ، وقال : الرهن معروف.

وما هو المعروف عند الفقهاء أيضا قسم خاص منه ، لا بمعنى أنّ لهم فيه اصطلاحا خاصّا ، بل بمعنى أنّهم يريدون به ما يترتّب عليه الأثر شرعا ، وليس للشارع ولا للمتشرّعة فيه عرف خاصّ ؛ إذ المتبادر منه في كلماتهم ليس إلّا معناه المعروف ، ولكن الشارع اعتبر في ترتّب الأثر عليه شرائط كسائر ألفاظ المعاملات ، مثل : البيع والصلح والإجارة وغيرها ممّا هو اسم للمعاملة الخاصة.

وقد يستعمل بمعنى المرهون كالرهين والرهينة ، والتاء فيه للمبالغة كما عن المجمع (٢) ، ويستوي فيه المذكّر والمؤنّث.

والحاصل : أنّه ليس للشارع ولا للمتشرّعة اصطلاح خاص في الرهن.

فما قيل : من أنّه شرعا (٣) : (وثيقة لدين المرتهن) ليس على ما ينبغي ، فالأولى ترك التقييد بقوله : شرعا كما في المتن وإن كان يتوجّه عليه أيضا أنّ الوثيقة مرهونة لا رهن ، وإطلاق الرهن عليها أحيانا توسّع ، والمقام غير مبنيّ عليه.

فنقول : الرهن مثل البيع قد يطلق على معناه المصدري ، وقد يطلق على الأثر الحاصل منه ، وهو : المعاملة الخارجية ، وهذا هو المراد في

__________________

(١) القائل هو العاملي في مفتاح الكرامة ٥ : ٧٠ ، وراجع : الصحاح ٥ : ٢١٢٨.

(٢) مجمع البحرين ٦ : ٢٥٩.

(٣) كما في جواهر الكلام ٢٥ : ٩٤.

٥٤١

كلمات الفقهاء في صدر عناوينهم غالبا حيث يقولون : كتاب البيع ، كتاب الصلح ، وغير ذلك.

(و) لذا تراهم يقولون في تعريف البيع ونظائره : إنّه عقد مشتمل على الإيجاب والقبول ؛ فالرهن أيضا كذلك عقد (يفتقر) تحقّقه (إلى الإيجاب والقبول.)

هذا إن عمّمنا الإيجاب والقبول بحيث يندرج فيهما غير اللفظ حتى يشمل المعاطاة ، وإلّا فدعوى افتقار تحقّقه عرفا إلى اللفظ ممنوع ، فضلا عن اللفظ الخاص وإن قلنا : إنّه لا يترتّب عليه أثر شرعا أو أنّه غير لازم عند الشارع ، وذلك لما عرفت في كتاب البيع من أنّ المعاطاة بيع حقيقة.

وقد ادّعى المحقّق الثاني الاتّفاق على كونها بيعا حيث قال في مقام الاستدلال على صحتها : وقوله تعالى «وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» (١) يتناولها ؛ لأنّها بيع بالاتّفاق حتى من القائلين بفسادها ؛ لأنّهم يقولون بيع فاسد (٢).

وعلى هذا فالتفرقة بين البيع والرهن بدعوى الصدق في البيع دون الرهن ممّا لا وجه له.

فالعجب من المحقّق المذكور حيث استشكل على ما ذكره العلّامة ـ أعلى الله مقامه ـ في التذكرة حيث قال : إنّ الخلاف في الاكتفاء فيه بالمعاطاة والاستيجاب والإيجاب ، المذكورة في البيع آت هاهنا ، بقوله :إنّ باب البيع ثبت فيه حكم المعاطاة بالإجماع ، بخلاف ما هنا ، أمّا

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٥٨.

٥٤٢

الاستيجاب والإيجاب فيعمّ (١).

مع أنّك قد عرفت أنّه أثبت حكم المعاطاة ـ أعني الصحة في البيع ـ بالإطلاقات لا بالإجماع.

والاتّفاق الذي ادّعاه في كلامه إنّما هو في صدق البيع ، لا في صحته ، فيتوجّه عليه حينئذ سؤال الفرق بين البيع والرهن حيث يتمسّك في البيع بالإطلاقات دون الرهن.

هذا ، ولكنه جمع سيّد مشايخنا بين كلاميه بتوجيه ليس بالبعيد في مقام التوجيه ، بدعوى : أنّ غرضه من حكم المعاطاة هو نفي اللزوم لا الصحة.

وحاصل التوجيه : أنّه ربما يظهر من كلمات غير واحد منهم أنّ العقود اللازمة لا تتحقّق إلّا باللّفظ ، بل يظهر من بعضهم أنّه مسلّم بينهم ، وأنّه إجماعي ، فهذا ينتج أنّ المعاطاة لو صحّت في عقد إنّما ينعقد جائزا لا لازما ، فعلى هذا يصحّ أن يقال : عدم لزوم بيع المعاطاة إجماعيّ ، ولا ينافي نفي اللزوم حقيقة البيع ، فلا مانع عن شمول الإطلاقات له.

وهذا بخلاف الرهن حيث إنّ الجواز الذي هو من لوازم المعاطاة ـ على ما ادّعى عليه الإجماع ـ ينافي حقيقة الرهن حيث إنّه شرّع للاستيثاق ، ولا وثوق مع الجواز ، بل نسب إلى بعض دعوى الإجماع على أنّ الجواز ينافي حقيقة الرهن.

وقد حكي عن المحقّق المذكور : دعوى الإجماع في كلا المقامين ، فعلى هذا يشكل القول بكفاية المعاطاة في الرهن.

__________________

(١) جامع المقاصد ٥ : ٤٥ ، وراجع تذكرة الفقهاء ٢ : ١٢.

٥٤٣

ولكنه يمكن أن يخدش في الإجماعين.

أمّا في الأوّل : فبعدم الثبوت.

وفي الثاني : بوجود الخلاف ، فإذا الأقوى هو الصحّة واللزوم ؛ لإطلاق الأدلّة وأصالة اللزوم ، مؤيّدا بالسيرة المستمرّة بين المسلمين من عدم تقيّدهم بإنشاء قولي رأسا ، فضلا عن لفظ خاص ، بل يكتفون بمجرّد المعهودية والمقاولة السابقة ونظائرها ممّا ليس بإنشاء قولي.

ثم لو سلّمنا انعقاد الإجماع على عدم انعقاد العقود اللازمة إلّا باللفظ ، فالأقوى عدم اختصاصه بلفظ دون لفظ ، أو لغة دون اخرى ، اقتصارا في تقييد الأدلّة على القدر الثابت.

(فالإيجاب (١) كلّ لفظ دلّ على الارتهان ، كقوله : رهنتك ، أو هذا (٢) وثيقة عندك ، و (٣) ما أدّى هذا المعنى) بأيّ لغة كانت ولو ملحونة بعد فرض إفادة المعنى ، ووجهه ظاهر.

(ولو عجز عن النطق) بالإيجاب ولو لخرس عارضي (كفت الإشارة) المفهمة للمقصود.

(ولو كتبه (٤) بيده والحال هذه وعرف ذلك من قصده ، جاز) بلا إشكال في شي‌ء منهما ؛ لما عرفت من لزوم الاقتصار في التقييد على القدر الثابت ، وحيث لا إجماع على الفساد ، فليحكم بالصحة.

مضافا إلى نقل (٥) عدم وجدان الخلاف في الاكتفاء ، واستظهار

__________________

(١) في الشرائع ٢ : ٧٥ : والإيجاب.

(٢) في الشرائع : هذه.

(٣) في الشرائع : (أو) بدل (و).

(٤) في الشرائع : كتب.

(٥) راجع جواهر الكلام : ٢٥ : ٩٧.

٥٤٤

قيامهما مقام اللفظ في ما يحتاج إلى اللفظ ممّا ورد في تلبية الأخرس وتشهّده ، فليتأمّل.

(و) قد بان لك أيضا قوّة القول بأنّ (القبول هو : الرضا بذلك الإيجاب) لو اقترن بكاشف ، كالقبض مثلا ؛ لما عرفت في مبحث المعاطاة من الإشكال ، بل المنع في صدق العقد بمجرّد التراضي من دون كاشف رأسا.

نعم لا يحتاج في الصدق إلى خصوص اللفظ ، فيكفي في القبول ما يدلّ على الرضا مطلقا وإن قلنا : إنّ إيجابه لا ينعقد إلّا باللفظ كما يظهر من عبارة المصنّف ـ رحمه‌الله.

ووجهه : عدم اقتضاء الدليل المذكور على فرض تسليمه إلّا اعتبار اللفظ بالنسبة إلى من يكون العقد لازما من طرفه ، وأمّا اعتباره مطلقا حتى بالنسبة إلى من ليس لازما عليه فلا.

ولا إشكال بل (و) لا خلاف ظاهرا عندنا في أنّه (يصح الارتهان سفرا وحضرا) لوجود المقتضي وعدم المانع ، والشرط في الآية (١) مبنيّ على بيان الغالب من موارد الحاجة إلى الارتهان كاشتراطه بعدم وجود الكاتب ، وليس له مفهوم في أمثال المقام ، كما في قوله تعالى : «(وَإِنْ كُنْتُمْ) .. (عَلى سَفَرٍ)» إلى قوله «فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا» (٢).

(و) اعلم أنّهم اختلفوا في أنّه (هل القبض) من المرتهن (شرط في صحة الرهن) وترتيب آثاره عليه؟ على قولين :

__________________

(١) البقرة ٢ الآية ٢٨٣.

(٢) النساء ٤ الآية ٤٣ والمائدة ٥ الآية ٦.

٥٤٥

(قيل : لا) يشترط.

في الجواهر : والقائل الشيخ في أحد قوليه ، وابن إدريس والفاضل وولده والمحقّق الثاني والشهيد الثاني ، بل حكي أيضا عن البشرى والجواهر وتخليص التلخيص والمقتصر وغاية المرام وإيضاح النافع وغيرها بل في السرائر نسبته إلى أكثر المحصّلين ، وفي كنز العرفان إلى المحقّقين (١).

(وقيل : يشترط (٢).)

وفي الجواهر أيضا : والقائل المفيد والشيخ في القول الآخر ، وبنو الجنيد وحمزة والبرّاج ، والطبرسي ، وغيرهم على ما حكي عن بعضهم ، بل عن الطبرسي الإجماع عليه ، بل ربّما ظهر من بعضهم ما هو المحكي عن بعض أهل اللغة من عدم تحقّق مسمّى الرهن بدونه (٣).

أقول : (و) هذا (هو الأصحّ) وفاقا للمصنّف ولمن عرفت ممّن تقدّم ، لا لقوله تعالى «فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ» (٤) لإمكان الخدشة بكونها مسوقة لبيان تمام الإرشاد بذكر الفرد الكامل من الرهن بقرينة قوله تعالى «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ» (٥).

__________________

(١) جواهر الكلام ٢٥ : ٩٩ ، وراجع : الخلاف ٣ : ٢٢٣ ، المسألة ٥ ، والسرائر ٢ : ٤١٧ ، والمختلف : ٤١٦ ، وإيضاح الفوائد ٢ : ٢٥ ، وجامع المقاصد ٥ : ٩٤ ، والمسالك ١ : ٢١٦ ، والمختلف : ٤١٦ ، وإيضاح الفوائد ٢ : ٢٥ ، وجامع المقاصد ٥ : ٩٤ ، والمسالك ١ : ٢١٦ ، وجواهر الفقه (الجوامع الفقهية) : ٤٢٣ ، والمقتصر : ١٩٠ ، وكنز العرفان ٢ : ٦٠.

(٢) في الشرائع ٢ : ٧٥ : نعم.

(٣) جواهر الكلام ٢٥ : ٩٩ ، وراجع المقنعة : ٦٢٢ ، والنهاية : ٤٣١ ، والوسيلة : ٢٦٥ ، والمهذّب ٢ : ٤٤ ، ومجمع البيان ١ : ٦٨٦.

(٤) البقرة ٢ الآية ٢٨٣.

(٥) البقرة ٢ الآية ٢٨٢.

٥٤٦

مضافا إلى ظهوره ـ بقرينة التأكيدات المستفادة من الآية ـ في القبض الاستمراري ، مع أنّه لم يقل به أحد ، فلا يصحّ حمل الآية على بيان الشرطيّة.

هذا ، ولكن الإنصاف عدم ظهوره في القبض الاستمراري ؛ لأنّ المقبوض أعم ، وصدقه على ما تحقّق فيه المبدأ فيه في الجملة ممّا لا إشكال فيه ، وما ذكر من المؤيّدات لا يعيّن إرادة الاستمراري ، فعلى هذا لا يخلو الاستدلال بها لما نحن فيه عن وجه.

ولكن العمدة في المقام هي موثّقة محمد بن قيس : لا رهن إلّا مقبوضا (١) المعتضدة بما رواه العيّاشي عن محمد بن عيسى عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ (٢) كذلك.

والخدشة فيها ممّن لا يرى العمل بالموثّق غير ضائرة ، وظهورها في اعتبار القبض في ماهيّة الرهن غير قابل للإنكار ، وبعد تعذّر إرادة معناه الحقيقي إن قلنا : إنّ القبض ليس شرطا في تحقّق المفهوم عرفا ، فليحمل على نفي الصحة ، وعدم ترتّب الأثر لكونه أقرب المجازات من غيره ، كنفي الكمال ونفي اللزوم مثلا.

والمناقشة فيها ـ بظهورها في القبض المستمرّ ، فيرد عليه ما أورد على الآية ، في غير محلّها ؛ حيث إنّ الوصف لا يقتضي الاتّصاف إلّا حال النسبة ، وهو حال تحقّق الرهن ؛ لأنّ معناها على ما هو الظاهر منها :أنّه لا يتحقّق الرهن الصحيح إلّا حال كونه مقبوضا ، ففي هذه الحالة يتحقّق.

__________________

(١) التهذيب ٧ : ١٧٦ / ٧٧٩ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب كتاب الرهن ، الحديث ١.

(٢) تفسير العيّاشي ١ : ١٥٦ / ٥٢٥ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب كتاب الرهن ، الحديث ٢.

٥٤٧

وأمّا استدامة اليد فالرواية ساكتة عنها ، فبهذه الرواية يقيّد إطلاق لزوم الوفاء بالعقد ، ووجوب وفاء المسلمين بشروطهم ونظائرهما.

وقيل : لا يشترط القبض في الصحة ، وإنّما هو شرط في اللزوم (١).

ووجهه غير ظاهر ، ولعلّه لحمل الرواية على نفي اللزوم بعد تعذّر حملها على نفي حقيقته بدعوى تنزيل غير اللازم منزلة العدم في عدم الاستيثاق المعتبر في ماهيّة الرهن.

وفيه : ما عرفت من أنّ نفي الصحة أقرب من ذلك.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ المسألة ثلاثية الأقوال ، وأنّ النزاع فيها في محلّين ، إلّا أنّ كثيرا منهم صرّحوا بأنّ المسألة ذات قولين ، وأنّ النزاع إنّما هو في محلّ واحد.

ولكن بعضهم يحرّرون النزاع مثل المصنّف حيث ظهر منه أنّ الخلاف في كونه شرطا في صحة الرهن وعدمها ، وبعضهم صرّحوا بعد ذكر شروط ستة لصحة الرهن : وإذا تكاملت هذه الشروط صحّ الرهن بلا خلاف ، وليس على صحته مع اختلال بعضها دليل ، وأمّا القبض فهو شرط في لزومه من جهة الراهن دون المرتهن.

ومن أصحابنا من قال : يلزم بالإيجاب والقبول ، إلى آخره.

فمن هذا ونظائره يتبيّن أنّ النزاع في مقامين ، إلّا أنّه اشتبه على كلّ من الناقلين ، فظنّ انحصاره في ما نسب إليهم ، فتصير المسألة في الحقيقة ذات أقوال ثلاثة.

هذا هو الذي يقتضيه الجمود على ظاهر عبارتهم ، وقد ذكرناه تبعا

__________________

(١) القائل هو المفيد في المقنعة : ٦٢٢ ، والشيخ الطوسي في النهاية : ٤٣١ كما في السرائر ٢ : ٤١٧.

٥٤٨

للشيخ الكبير في جواهره.

ولكنّ الإنصاف أنّ وقوع مثل هذا الاشتباه من أساطين الفقهاء الأقدمين من البعد بمكان.

ومن المحتمل قريبا مساوقة اللزوم مع الصحة عندهم في الرهن ؛ لعدم الوثوق بالرهن الجائز ، فمن عبّر بأنّه شرط في لزومه ، أراد أنّه شرط في صيرورته لازما نافذا عند الشارع ، ومن نفاه قال : إنّه يصحّ بدون ذلك ، وصحّته لا ينفك عن اللزوم ، ولذا يعبّرون بمثل هذا التعبير.

وأمّا قوله : فليس شرطا في صحته ، فمراده أنّه ليس معتبرا في ماهيّة الرهن ومفهومه ، وذلك نظير قولنا : إنّ عقد الفضولي صحيح ، ولكنه موقوف في تأثيره على إجازة المالك.

وإطلاق اللازم على المؤثّر خصوصا إذا كانت ماهيّته مساوقة للزوم ليس بمستبعد في كلمات قدماء أصحابنا ـ رضوان الله عليهم.

ولعلّك بعد التتبّع في كلماتهم ، خصوصا «المبسوط» و «المختلف» في باب الرهن ونظائره مثل الهبة والقرض والوقف ، وملاحظة اختلاف فروعاتهم وكيفيّات تعبيراتهم تطمئنّ بهذا التوجيه وإن كان بظاهره بعيدا ، ولكنه بعد الانس بكلماتهم وملاحظة تفسيرات بعضهم لكلمات آخرين ، حيث إنّه يسند القول باعتبار القبض في الصحة إلى من عبّر بمثل العبارة المتقدّمة ، مع أنّها بظاهرها تنادي باعتباره في اللزوم دون الصحة.

وقد ذكر نظير ما ذكرنا في المسالك في الوقف بعد قول المصنّف :والقبض شرط في صحته إلى آخره ، [قال] : لا خلاف عندنا في اشتراط القبض في تماميّة الوقف بحيث يترتب عليه أثره بمعنى كون انتقال الملك مشروطا بالإيجاب والقبول والقبض ، فيكون العقد جزء

٥٤٩

السبب الناقل ، وتماميّته القبض ، فقبله يكون العقد صحيحا في نفسه ، لكنه ليس بناقل للملك ، فيجوز فسخه قبله ، ويبطل بالموت قبله ، والنماء المتخلّل بين العقد والقبض للواقف.

وبهذا يظهر أنّ القبض من شرائط صحّة الوقف ، كما عبّر به المصنّف وجماعة ، ولكن بعضهم عبّر بأنّه شرط اللزوم ، ولا يريدون به معنى آخر غير ما ذكرناه وإن كان من حيث اللفظ محتملا لكونه عقدا تامّا ناقلا للملك نقلا غير لازم ، وإنّما أراد بكونه شرطا في اللزوم : أنّ العقد لا يتمّ ولا يلزم بحيث يترتّب عليه أثره ، أو أنّ الانتقال لا يلزم (١). انتهى ما أردنا نقله.

وكيف كان ، فالاعتماد على ظاهر ما ذكرت ونسبة كونهم ذات أقوال ثلاثة في المسألة مشكلة ، خصوصا بعد ما عرفت من عدم مدرك صحيح للقول الثالث ، ولكنّه بعد البناء على اعتبار القبض في الصحة لا داعي لنا في التعرّض لتحقيق الأقوال ، والله العالم.

ثم إنّه بعد البناء على اعتبار القبض في الصحّة هل يشترط أن يكون بإذن الراهن؟ (فلو قبضه من غير إذن الراهن ، لم ينعقد) عقد الرهن ، أم يكفي مطلقا؟ فيه وجهان ، أوجههما : الأوّل ، بل لعلّه ممّا لا خلاف فيه بين القائلين باعتبار القبض ؛ إذ لا مقتضي لرفع اليد عن عموم سلطنة الناس على أموالهم ، واعتبار طيب نفس المالك في نفوذ التصرّفات قبل تمام السبب.

والقول بورود التخصيص عليها بلزوم الوفاء بالعقود ، فلا يلاحظ دليل اعتبار القبض إلّا بالنسبة إلى عمومات الوفاء مدفوع : بأنّ دليل

__________________

(١) مسالك الأفهام ١ : ٣٦١.

٥٥٠

لزوم الوفاء بالعقد ليس مخصّصا لهذه الأدلّة ، بل هذه مقيّدة له ، ولذا اعتبرنا في صحّة العقود كونها عن طيب نفس المالك ، فكما أنّها تقتضي اعتبار الرضا في أصل العقد ، كذلك تقتضي استمراره إلى أن ينقضي تمام السبب ؛ إذ لو لم يكن كذلك ، لما تحقّق الرهن عن طيبة ؛ إذ يصحّ اتّصافه بذلك إذا كان الجزء الأخير من السبب مقارنا مع طيب نفسه.

مثلا : لو باع شيئا ورضي به إلى أن ينقضي تمام السبب ـ أعني الإيجاب والقبول ـ لا يكون لزوم هذا البيع منافيا لسلطنته واعتبار رضاه ، بل يؤكّده ، وهذا بخلاف ما لو بدا له قبل تماميّة السبب ، كما [لو] رجع قبل تحقّق القبول ، حيث إنّه حينئذ باق في ملكه ، وهو كاره خروجه فلا يقع.

(وكذا) في ما نحن فيه (لو) لم يرض بالقبض الذي هو جزء السبب ولم يأذن به ، أو (أذن في قبضه ثم) بدا له فـ (رجع) عن إذنه (قبل قبضه) لا يصحّ.

وتوهّم تماميّة ما ذكر لو تحقّق الكراهة قبل تماميّة ما هو السبب عند العرف ، وهذا بخلاف ما لو اعتبر الشارع في ترتّب الأثر أمرا خارجيّا تعبديا (١) كطيران الطير في السماء فلا ينافي كونه خارجا عن اختيار المالك في اتّصاف البيع بكونه اختياريّا بنظر العرف بعد إيجاد تمام ما هو السبب عندهم باختياره ، مدفوع : بأنّ اعتبار الشارع كاشف عن مدخليته في النقل ، وعدم تحقّق النقل بدونه.

وحكم العرف بكون النقل اختياريّا لأجل خطئهم في السبب حيث

__________________

(١) الظاهر : تعبّدا.

٥٥١

إنّهم يزعمون السبب ما عدا ذلك ، وإلّا فلا فرق في ذلك عند العقل بين الأمر الذي اعتبره العرف أو بيّنه الشارع ، وهذا ظاهر.

وبهذا ظهر لك أنّ دعوى تخصيص هذه الأدلّة بإطلاق قوله ـ عليه‌السلام ـ : لا رهن إلّا مقبوضا (١) كتقييد دليل وجوب الوفاء بالعقود غير مسموعة ؛ إذ بعد تسليم ظهورها في الإطلاق ، والغضّ عن عدم كون هذه الرواية ناظرة إلّا إلى بيان اشتراط القبض في الجملة ، وأنّه بالنسبة إلى هذه الجهات مهملة ، ففيه : أنّ هذه القواعد المتقنة المحكمة المؤيّدة بالعقل والنقل لا يجوز رفع اليد عنها بمجرّد ظهور اللفظ في الإطلاق خصوصا في مثل المقام الذي ربّما يدّعى انصرافها في حدّ ذاتها إلى المقبوضية التي تحقّقت بإذن المالك ، وليس بالبعيد.

وأضعف من ذلك : دعوى الاقتصار على القدر المتيقّن من التقييد ، وهو مطلق القبض بعد البناء على إهمال دليل المقيّد ، كما لا يخفى ، فظهر أنّ اعتبار الإذن ممّا لا إشكال فيه.

مضافا إلى دعوى نفي القول الثالث ، بل يمكن دعوى الإجماع التقديري ، بأن يقال : الكلّ مطبقون على أنّه لو اعتبر القبض ، للزم أن يكون عن إذن ، فيثبت الحكم بالإجماع بعد إثبات المعلّق عليه ، فتدبّر.

(وكذا) لا يصحّ الرهن (لو نطق بالعقد ، ثم جنّ أو أغمي عليه ، أو مات قبل القبض) مثلا على إشكال فيها ، خصوصا في الأوّلين منها ، ولا سيّما في أوسطها ، خصوصا إذا بنينا على أنّ القبض معتبر في اللزوم دون الصحّة ، فإنّ القول بالصحّة فيها على هذا التقدير قويّ.

__________________

(١) التهذيب ٧ : ١٧٦ / ٧٧٩ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب كتاب الرهن ، الحديث ١.

٥٥٢

هذا إذا لم ينعقد الإجماع في المسألة على البطلان من القائلين باعتبار القبض ومن النافين أيضا على تقدير اعتباره حتى يمكن دعوى الإجماع التقديري وعدم القول بالفصل ، وإلّا فإتمام المسألة بجميع فروضها على القواعد في نهاية الإشكال.

واستدلّوا للبطلان : بأدلّة :

منها : ما يناسب القول باعتباره في الصحّة.

ومنها : ما يناسب القول باعتباره في اللزوم.

أمّا القسم الأول ، فمنها : ظهور ما دلّ على شرطيّة الاختيار في اعتباره إلى تمام السبب ، فيجب أن يكون الاختيار باقيا إلى أن يتحقّق القبض ، والمفروض انتفاؤه بأحد هذه الأسباب ، فيبطل العقد.

ومنها : أصالة الفساد في المعاملات.

وأمّا القسم الثاني : فهو أنّه حينئذ من العقود الجائزة ، المعلوم بطلانها بعروض هذه الأشياء ، كالعارية والوديعة والوكالة ونظائرها.

ويمكن الخدشة فيها ، أمّا في الأوّل : فبأنّ ما دلّ على شرطيّة الاختيار ، مثل قوله ـ عليه‌السلام ـ : لا يحلّ مال امرئ إلّا عن طيب نفسه (١) أو الناس مسلّطون على أموالهم (٢) وكذا الإجماع على اعتبار الاختيار في تأثير الأسباب لا يثبت بها إلّا اعتبار طيب نفس من يتحقّق التصرّف في متعلّق سلطنته ، وهو في الفرض : الوارث أو الولي أو هو بنفسه لو أفاق عن جنونه وإغمائه قبل القبض ، فلو رضي من بيده سلطنة المال على تحقّق الرهن وإمضائه وأذن بالقبض وفاء للعقد السابق.

__________________

(١) عوالي اللآلي ١ : ٢٢٢ / ٩٨ و ٢ : ١١٣ / ٣٠٩ و ٣ : ٤٧٣ / ٣.

(٢) عوالي اللآلي ١ : ٢٢٢ / ٩٩.

٥٥٣

لا بعنوان أنّه رهن مستقلّ معاطاتي ؛ يجب الوفاء به ؛ لتحقّق العقد والقبض والإذن ممّن له ذلك.

ودعوى : عدم شمول دليل وجوب الوفاء للعاقد ؛ لعدم تماميّة العقد بالنسبة إليه ولا للوارث ؛ لعدم صيرورته عقدا له بالرضا بالقبض ، مع أنّها قاصرة عن إثبات تمام المدّعى ؛ لعدم الشمول فيما لو أفاق هو بنفسه عن جنونه أو إغمائه ، غير مسموعة بعد البناء على صحة العقد الفضولي بمقتضى القواعد ؛ إذ لا يقصر ما نحن فيه عنه ، فليتأمّل.

وما يظهر من بعض في مثل المقام من أنّ تلفيق السبب ممّا لم يعلم شرعيّته فلا يؤثّر ، ففيه : أنّه بعد تحقّق العقد عرفا واحتفافه بالشرائط الثابتة بالشرع بطلانه يحتاج إلى دليل ؛ إذ الأصول والقواعد في مثل الفرض يكفي في الصحّة ، كما لا يخفى.

وبهذا ظهر الخدشة في الدليل الثاني ، أعني أصالة الفساد أيضا حيث إنّ دليل وجوب الوفاء بالعقد حاكم عليه.

وتوهّم ورود التخصيص عليه بما قبل القبض ، فالمقام ممّا يجب فيه استصحاب حكم المخصّص لا التمسّك بالعام ، كما تقرّر في محلّه ، مدفوع : بأنّ القبض اعتبر قيدا للرهن الذي يجب الوفاء به ، لا أنّ ما قبله خارج عن حكم وجوب الوفاء حتى يكون مخصّصا في بعض أحوال الفرد ، فيستصحب في زمان الشك ، ويفصح عن ذلك كونه شرطا له وظهور الدليل في ذلك.

وأمّا في الثالث : فبأنّ المسلّم من البطلان في العقود الجائزة بهذه الأشياء إنّما هو في العقود الإذنية التي لا تتقوّم إلّا بتحقّق الإذن حقيقة أو حكما ، كما في الغافل والنائم مثل الوكالة والوديعة والعارية والإباحة ونظائرها ، ضرورة سقوط الإذن ـ الذي لا تتقوّم هذه العقود إلّا به ـ بطروّ

٥٥٤

هذه الأشياء ؛ لخروج صاحبها عن الأهلية ، فيرتفع ما لا يتقوّم إلّا بالإذن ، وأمّا في ما يؤول إلى اللزوم كالبيع الخياري فلا ، وما نحن فيه من القسم الثاني لا الأول ، فتبصّر.

هذا ، ولكنه يمكن أن يدّعى انصراف ما دلّ على اعتبار القبض إلى القبض الذي يكون من قبل (١) المالك نفسه صادرا عن طيب نفسه لا المقبوضيّة مطلقا ولو كان من شخص آخر غير العاقد ، أو لم يكن واقعا عن إذنه.

وسرّه : أنّ من الأمر المركوز في ذهن العقلاء مع قطع النظر عن الحكم الشرعي أنّ العقود التي ليست من قبيل المعاوضات ، بل من قبيل الهبات والصدقات ممّا لا يقتضي الخسارة إلّا من طرف واحد لا يعتنون بمجرّد العقد وإنشاء الهبة.

مثلا : لو قال لزيد : إنّ داري أو فرسي لك ، لا يعدّ (٢) أهل العرف زيدا صاحب دار أو فرس ، بل لو سئل عن زيد ألك فرس؟يقول : وعدني فلان ؛ ولا يقول : نعم ، مع أنّه أنشأ الملكيّة ، إلّا أنّه لا يعدّ مالا ما لم يقبضه ، وذلك ؛ لأنّه يصعب عليهم الوفاء في أمثال هذه المعاملات ، فلا يترتّب عليها آثارها عندهم إلّا بعد تأكّد إنشائه بإيجاد أثره في الخارج ، بمعنى أن يقبّضه العين الموهوبة ، وإلّا فإنشاؤه المجرّد عندهم ليس إلّا بمنزلة الوعد.

فعلى هذا لو قال الشارع : يعتبر في الهبة أو القرض أو الرهن مثلا أن يكون مقبوضا ، ينسبق إلى الذهن القبض المتعارف عندهم في مثل

__________________

(١) في النسخة الخطية : فعل.

(٢) في النسخة الخطية والطبع الحجري : لا يعدّون. والصحيح ما أثبتناه.

٥٥٥

هذه المعاملات ، وهو : ما يكون مؤكدا لإنشائه السابق لأجل كونه وفاء بما قال ، فعلى هذا يجب أن يكون القبض من فعل من تحقّق الإنشاء بفعله ، فلا يكفي فعل الولي أو الوارث.

هذا ، ولكن يشكل ذلك بما لو أفاق هو بنفسه عن جنونه وإغمائه ، فإنّ وجوب الوفاء به بعد قبضه بعد الإفاقة لا ينافي ما ذكرنا.

اللهمّ إلّا أن يدّعى انسباق استمرار الاختيار ـ ولو حكما ـ أيضا من الأدلّة بالتقريب المتقدّم ، بأن يقال : إنّ من المستقر المركوز في أذهانهم أيضا عدم الاعتناء بأجزاء السبب الذي للاختيار فيه مدخلية لو تخلّل في أثنائه الخروج عن الأهلية رأسا ، فلو أرادوا ترتّب المقتضي بعد ذلك يجدّدون عن رأس ، فعلى هذا ينسبق هذا النحو ، أعني بقاءه على أهليّة إيجاد السبب أيضا مستمرّا إلى أن يتمّ مستفادا من الدليل.

ولذا ترى الفقهاء لا يزالون يفتون بفساد العقود التي يعتبر فيها القبض بطروّ هذه الطوارئ من دون نكير وإن كانوا يتمسّكون في مقام الاستدلال بما لا يسلم عن الخدشة ، إلّا أنّ من المحتمل قريبا أن يكون هذا الأمر المركوز في الذهن سببا للانصراف ، ومنشأ للفتوى ، فتدبّر.

هذا كلّه فيما لو طرأت (١) هذه الطوارئ للراهن ، وأمّا لو عرضت للمرتهن فإثبات البطلان حينئذ أخفى.

نعم يمكن فيها أيضا بدعوى الانصراف بالتقريب الأخير.

ثم هذا كلّه فيما لو اعتبرنا القبض في الصحة ، وأمّا لو قلنا بأنّه شرط في اللزوم ، فالظاهر أن طروّ هذه الطوارئ لا يوجب البطلان ، كما ظهر وجهه ممّا تقدّم.

__________________

(١) في النسخة الخطية والطبع الحجري : طرأ ، والصحيح ما أثبتناه.

٥٥٦

ثم لا يذهب عليك أنّ مقتضى ما ذكرنا من اعتبار القبض ليس إلّا اشتراطه في الجملة ، (و) أمّا اعتباره مطلقا فلا ؛ لما ذكرنا من أنّ صدق كونه مقبوضا ـ الذي تتوقّف صحّة الرهن عليه ـ لا يقتضي إلّا اتّصافها بالمبدإ في الجملة لا مستمرّا فعلى هذا (ليس استدامة القبض شرطا) بل يكفي تحقّقه في الجملة ؛ للأصل والإجماعات المنقولة المعتضدة بعدم وجدان الخلاف بين الإماميّة ، بل في الجواهر : بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل لعلّ المحكي منهما مستفيض أو متواتر وهو الحجّة (١).

(فلو عاد) العين المرهونة بعد القبض (إلى الراهن) سواء كان بإذن المرتهن أم لا (أو تصرّف فيه) من دون إذن المرتهن أو بإذنه ، ولكنه لا يكون التصرّف المأذون فيه منافيا لبقاء حقّه (لم يخرج عن) حقّ (الرهانة) كما هو مقتضى العقود اللازمة ، فهذا ممّا لا إشكال فيه كبعض الفروع المتقدّمة.

(و) إنّما الإشكال في إطلاق قولهم : إنّه (لو رهن ما هو في يد المرتهن لزم) الرهن (ولو كان غصبا لتحقّق القبض) حيث إنّه بظاهره يعمّ ما لو لم يعلم الراهن بالحال أصلا أو علمه سابقا ، ولكنه ذهل عن كونه كذلك حال العقد ، مع أنّ هذا ينافي اعتبار الإذن في القبض ، كما لا يخفى.

ودعوى : انصراف كلامهم إلى صورة علمه بالحال والتفاته حال العقد ، مع أنّها عارية عن الشاهد لا يثبت بها المدّعى ؛ إذ لا ملازمة عرفا بين إرهان الشي‌ء والإذن في قبضه بعنوان الرهن بعد فرض كون

__________________

(١) جواهر الكلام ٢٥ : ١٠٨.

٥٥٧

القبض شرطا شرعيّا للرهن إمّا في صحته أو لزومه.

نعم يتمّ ذلك لو قيل بأنّه معتبر في مفهومه عرفا ، وعلى هذا فلا بدّ أن يلتزم بصحة القبض لو قبضه بعد العقد من دون إذن جديد ، مع أنّ الظاهر أنّهم لا يلتزمون به.

ويمكن الفرق بعد البناء على كونه دالّا على الإذن ـ كما نقول به في الهبة ـ بين القبض السابق واللاحق بما ذكرنا في حكمة اعتبار القبض في أمثال المقام ، بأن يقال : إنّ الهبة ـ التي يعدّونها أهل العرف بمنزلة الوعد ، ويحتاج في ترتّب الأثر عليها بنظرهم إلى الإنشاء الخارجي بعد القول ـ إنّما هي في ما لم يكن المستوهب مستوليا عليه من قبل ، وأمّا في ما كان كذلك فالإنشاء القولي بعد علم الواهب بالحال نافذ لديهم ، لا لعدم كون القبض شرطا عندهم في هذا الفرض ، بل لتحقّقه على ما هو المفروض ، لكن إثبات كون الرهن كذلك عرفا لا يخلو عن إشكال.

ولو بنينا على دلالته على الإذن فلا إشكال في صحة الرهن ؛ لتحقّق الشرط ، أعني القبض ، ضرورة أنّ الشرط ليس إلّا كونه مقبوضا بإذن الراهن ، وهو حاصل ، لا إحداث القبض ، كما لا يخفى.

فما أورد في الجواهر بقوله : لا يتحقّق القبض الذي هو شرط ؛ لوضوح بطلانه في الأخير ـ يعني فيما إذا كان غصبا ـ المنهي عنه ، فيكون فاسدا لذلك ؛ إذ النهي وإن كان لا يقتضي الفساد في غير العبادة ، إلّا أنّ القبض ركن ، وعدم اقتضائه الفساد إنّما هو بعد تمام الأركان ـ إلى قوله ـ بل لعدم تناول دليل الشرطية لمثل الفرض ؛ ضرورة ظهوره في غير المقبوض ، أمّا هو فيبقى على أصالة اللزوم (١) ، لا يخلو عن

__________________

(١) جواهر الكلام ٢٥ : ١٠٩ ـ ١١٠.

٥٥٨

نظر.

أمّا أوّلا : فما ذكره من فساد القبض لوجود النهي ، ففيه : أنّ النواهي النفسية التكليفية لو اتّحدت (١) مصاديق متعلّقها مع العبادة أيضا لا تقتضي الفساد إلّا في حال تنجّز النهي الذي يمتنع معه تعلّق الأمر به الذي لا تصحّ العبادة إلّا به ، فكيف في المعاملات التي لا يحتاج تحقّقها إلى الأمر بها ، بل يجتمع مع كونها حراما بمقتضى الحكم التكليفي ، كما لا يخفى.

وأمّا ثانيا : فما ذكره من الانصراف ، ففيه : أنّ أدلّة اعتبار القبض ليس (٢) إلّا قوله تعالى «فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ» (٣) على تقدير دلالته ، وقوله ـ عليه‌السلام ـ : لا رهن إلّا مقبوضا (٤) وشي‌ء منهما لا يدلّ إلّا على اعتبار كون الرهن مقبوضا ، غاية الأمر إنّا أثبتنا اعتبار كونه بإذن المالك ورضاه بمقتضى الأدلّة الأخر ، لا إيجاده وإحداثه حتى يدّعى انصرافه ، بل لو كان بلفظ ظاهر في كون الإيجاد شرطا ، لأمكن دعوى سبق الذهن إلى كون نفس القبض الخارجي ـ الذي أثر فعله ـ شرطا ، وفعله ـ الذي هو عبارة عن إيجاده ـ مقدّمة لذلك ، فعلى هذا لا داعي بل لا وجه لقصر الشرطية على ما عدا المورد ، وكونه حاصلا لا يقتضي ذلك ، كالمتطهّر حال الأمر بالصلاة ؛ فإنّ شرطيّة الطهارة للصلاة باقية جزما إلّا أنّه ليس مأمورا بها لحصولها ، كما لا يخفى.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الإيراد المتّجه عليهم إنّما هو منافاة ما ذكروه في

__________________

(١) في النسخة الخطية والطبع الحجري : اتّحد. والصحيح ما أثبتناه.

(٢) كذا ، والظاهر : ليست.

(٣) البقرة ٢ : ٢٨٣.

(٤) التهذيب ٧ : ١٧٦ / ٧٧٩ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب كتاب الرهن ، الحديث ١.

٥٥٩

هذا المقام مع اعتبارهم الإذن في الفرع السابق.

وكيف كان ، فالأقوى اعتبار الإذن في القبض بعنوان كونه للرهن ولو قلنا باستفادته من نفس الصيغة لو كان الراهن عالما بالحال ، فلا يتحقّق الرهن بالقبض السابق لو لم يكن بإذن المالك كاللاحق إن قلنا باعتباره في الصحة ، كما هو الأقوى.

فعلى هذا لا يرتفع به الضمان السابق الحاصل بسبب الغصب ، بل ولا حرمته بلا إشكال وتأمّل.

وأمّا لو أذن في استدامة القبض للرهن ، فيصحّ بلا إشكال.

وإنّما الكلام في أنّه هل يرتفع الضمان بإذنه في إمساكه كحرمته أم لا؟ وجهان : من أنّ الغصب سبب للضمان ولم تحصل غايته التي هي الأداء ، مع أنّ الأصل يقتضي بقاءه أيضا وأمّا الرهينة فلا تقتضي عدمه ، وإلّا لما ضمنه في صورة التعدّي والتفريط مع أنّ المعلوم خلافه ، فهي في حدّ ذاتها لا تقتضي الضمان ولا عدمها ، فما لم يحدث فيها سبب للضمان فهو باق على مقتضى الأصل من كون تلفه من مال مالكه ، ومتى عرض فيها سبب كالتعدّي والتفريط يضمنه ، والغصب السابق مقتض للضمان إلى أن يتحقّق له رافع ، وهو إمّا معلوم العدم أو مشكوك فيستصحب.

ومن أنّ الرهن أمانة ، والمستفاد من أدلّتها أنّ الاستيمان مناف للتضمين.

وأمّا التعدّي أو التفريط اللاحق : فإنّا نلتزم بأنّه موجب لخروج الأمين عن كونه أمينا ، كما تخيّله بعض ، أو نقول بأنّ أدلّة الأمانات مخصّصة بالنسبة إليها.

وتوضيح المقام : أنّ الأمانة في هذه المقامات ليس معناها الحقيقي

٥٦٠