مصباح الفقيه - ج ١٤

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٩

يوم (١).

وعن الصدوق مرسلا ، قال : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام ، يقول :لأن أفطر يوما من شهر رمضان أحبّ إليّ من أن أصوم يوما من شعبان أزيده في شهر رمضان (٢).

وصرف إطلاق النهي عنه في هذه الروايات خصوصا في الروايات التي عدّ فيها يوم الشكّ من الأيّام التي يحرم فيها الصوم إلى إرادة مثل الفرض الذي لا يكاد يتّفق حصوله في الخارج ، حيث إنّ الآتي بصوم يوم الشك في الغالب : إمّا ينوي امتثال الأمر المتنجّز عليه في مرحلة الظاهر المحرز بالاستصحاب أو الأمر الواقعي المتعلّق بفعله المعلوم لديه على سبيل الإجمال والإبهام ، أو الأمر بصوم رمضان على سبيل الاحتمال من باب الاحتياط وإن كان في غاية البعد ، إلّا أنّ الذي يغلب على الظنّ كون هذه الأخبار بظاهرها جارية مجرى التقيّة ، وكون المراد بها المعنى المزبور على سبيل التورية ، بل في أغلبها إيماء إلى ذلك.

وكيف كان ، فإن أمكن تنزيل هذه الروايات على إرادة المعنى المزبور فهو ، وإلّا وجب حملها على التقيّة بعد مخالفتها لإجماع الأصحاب وأخبارهم المستفيضة الدالّة على نفي البأس عن صوم يوم الشكّ ، وأنّه إن صادف شهر رمضان فيوم وفّق له ، وإلّا فليس إلّا كسائر الأيام.

ولا يصحّ الجمع بينها بالحمل على الكراهة ؛ فإنّه مع إباء أغلب أخبار الطرفين عن هذا الحمل ممّا لم ينقل القول به عن أحد من أصحابنا ، عدا ما ستسمع من نسبته إلى الشيخ المفيد على بعض الوجوه

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٦٦ / ٤٧٤ ، الوسائل : الباب ٦ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ٧.

(٢) الفقيه ٢ : ٧٩ / ٣٤٩ ، الوسائل : الباب ٦ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ٨.

٣٤١

الذي لا ينطبق عليه هذه الأخبار.

وكيف كان ، فعمدة ما يصحّ الاستناد إليه للقول المشهور ، أي :بطلان صوم يوم الشك بنيّة رمضان ، سواء كان من شعبان أو من رمضان ، إنّما هو تعلّق النهي بإيقاعه على هذا الوجه في الأخبار السابقة المعتضدة بالشهرة ، وعدم نقل خلاف يعتدّ به فيه ، وإلّا فيشكل توجيهه بناء على ما نفينا البعد عنه في ما سبق من أنّه لا يعتبر في صوم رمضان ، بل ولا في صوم شعبان وغيره من الأيّام أيضا عدا الإمساك الحاصل فيه بقصد القربة.

وما يقال : من أنّ صوم شعبان غير مقصود له ، فلا يجزي عنه وإن صادفه ، وصوم رمضان غير منجّز في حقّه ، وكونه مطلوبا منه في الواقع لا يجدي في صحة الامتثال ، وصدق إطاعة أمره ما لم يحرز موضوعه ، إنّما يقتضي البطلان لو اعتبرنا مثل هذه الخصوصيات في صحّته ، وقد أشرنا في صدر المبحث إلى أنّ إقامة الدليل على أزيد من اعتبار قصد القربة والإخلاص في صحّة الصوم من حيث هو لا يخلو عن إشكال ، فالقول بصحّته ـ كما حكي (١) عن القديمين ـ لا يخلو عن وجه لو أغمض عن النصوص المزبورة.

وما قيل : من أنّه بهذا القصد تشريع محرّم ، فلا يقع عبادة ، ففيه :أنّه إنّما يتّجه في حقّ العالم ، كما نبّه عليه في المدارك (٢) وغيره ، دون الجاهل المعتقد لشرعيّة عمله.

مع أنّ حصول قصد القربة ممّن يعلم بعدم مشروعية عمله لا يخلو

__________________

(١) حكاه العاملي في مدارك الأحكام ٦ : ٣٣ ، والعلّامة الحلّي في مختلف الشيعة : ٢١٤.

(٢) مدارك الأحكام ٦ : ٣٤.

٣٤٢

عن إشكال ، فالبطلان حينئذ يستند إلى فقد نيّة التقرّب ، لا إلى حصول التشريع.

بل قد يستشكل في إمكان حصول العزم على الصوم بنيّة أنّه من رمضان حقيقة ، كما هو حقيقة النيّة من الشاكّ في موضوعه إلّا من باب الاحتياط الذي لا يبعد دعوى خروجه عن منصرف النصوص والفتاوى.

اللهمّ إلّا أن يعتقد كون حصوله بهذا العنوان وجها ظاهريّا معتبرا في صحّة صومه ، فيتأتّى حينئذ قصده تعبّدا تبعا لقصده الأصلي المتعلّق بصوم صحيح في هذا اليوم ، أو يعتقد أنّ يوم الشكّ شرعا ملحق برمضان ومحسوب منه ، كما ربّما يستشعر من بعض الأخبار الواردة في أنّ شهر رمضان كسائر الشهور يزيد وينقص ، والمدار فيه على الرؤية ، كون هذا المعنى محلّا للكلام في ما بين الناس.

وكيف كان ، فمتى تحقّق الصوم في يوم الشكّ ممّن هو شاكّ في الرؤية بهذا القصد ، بطل ؛ للنهي عنه في الأخبار المزبورة.

وأمّا لو صام من باب الاحتياط واحتمال وجوبه في الواقع وكونه من رمضان فهو خارج عن منصرف النصوص كما تقدّمت الإشارة إليه.

والأقوى فيه الصحّة ؛ بناء على ما قوّيناه في محلّه من عدم اعتبار معرفة الوجه ولا الجزم في النيّة في صحّة العبادة وإن كان مخالفا للمشهور.

وربّما يستشعر من عبارة المتن حيث قال : ولو نوى الوجوب إلى آخره : أنّ مدار الصحّة والفساد في صوم يوم الشكّ لدى المصنّف ـ رحمه‌الله ـ على الإخلال بوجهه وعدمه ، لا على قصد كونه من شعبان أو رمضان ، فليتأمّل.

٣٤٣

(ولو نواه مندوبا) على حسب ما يقتضيه تكليفه في مرحلة الظاهر من البناء على كونه من صوم شعبان ، صحّ صومه ، و (أجزأ عن رمضان) بلا خلاف فيه على الظاهر ، بل إجماعا ، كما عن غير واحد ادّعاؤه.

ويشهد له : مضافا إلى الإجماع وموافقته للأصل على ما قرّرناه في ما سبق : أخبار مستفيضة إن لم تكن متواترة ، كموثّقة سماعة ، وخبر الزهري ، ورواية سهل بن سعد ، المتقدّمات (١).

وصحيحة معاوية بن وهب أو حسنته ، قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : الرجل يصوم اليوم الذي يشكّ فيه من شهر رمضان ، فيكون كذلك ، فقال : هو شي‌ء وفّق له (٢).

ومضمرة سماعة قال : سألته عن اليوم الذي يشكّ فيه من شهر رمضان ، لا يدري أهو من شعبان أو من رمضان ، فصامه من شهر رمضان ، قال : هو يوم وفّق له ولا قضاء عليه. هكذا نقل عن التهذيب (٣).

وظاهره : أنّه صامه بقصد أنّه من رمضان ، فيكون منافيا بظاهره للأخبار المتقدّمة الدالّة على بطلان الصوم بهذا القصد.

ولكن عن الكافي نقله هكذا : فصامه فكان من شهر رمضان (٤) وهو

__________________

(١) تقدّمت في صفحة ٣٣٧ و ٣٣٨.

(٢) الكافي ٤ : ٨٢ / ٣ ، الوسائل : الباب ٥ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ٥.

(٣) التهذيب ٤ : ١٨١ / ٥٠٣ ، الوسائل : الباب ٥ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ٦. ونقله البحراني في الحدائق الناضرة ١٣ : ٣٩.

(٤) أورده عنه البحراني في الحدائق الناضرة ١٣ : ٣٩ ، وراجع : الكافي ٤ : ٨١ ـ ٨٢ / ٢ ، الوسائل : الباب ٥ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ٦.

٣٤٤

أضبط وأوثق ، خصوصا في هذا المورد ، حيث إنّ الشيخ على ما يظهر من الحدائق (١) رواه عن الكافي ، فلا عبرة بنقله بعد مخالفته لما في الكافي.

وما عن الكليني ـ رحمه‌الله ـ والشيخ ـ رحمه‌الله ـ في الصحيح عن سعيد الأعرج ، قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : إنّي صمت اليوم الذي يشكّ فيه ، فكان من شهر رمضان ، أفأقضيه؟ قال : لا ، هو يوم وفّقت له (٢).

وعن محمد بن حكيم ، قال : سألت أبا الحسن ـ عليه‌السلام ـ ، عن اليوم الذي يشكّ فيه ، فإنّ الناس يزعمون أنّ من صامه بمنزلة من أفطر في شهر رمضان ، فقال : كذبوا ، إن كان من شهر رمضان ، فهو يوم وفّق له ، وإن كان من غيره ، فهو بمنزلة ما مضى من الأيّام (٣).

وعن بشير النبّال عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، قال : سألته عن صوم يوم الشكّ ، فقال : صمه فإن يك من شعبان كان تطوّعا ، وإن يك من شهر رمضان فيوم وفّقت له (٤).

وعن الكاهلي ، قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، عن اليوم الذي يشكّ فيه من شعبان ، قال : لأن أصوم يوما من شعبان أحبّ

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١٣ : ٣٩.

(٢) الكافي ٤ : ٨٢ / ٤ ، التهذيب ٤ : ١٨٢ / ٥٠٦ ، الإستبصار ٢ : ٧٨ / ٢٣٨ ، الوسائل : الباب ٥ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ٢.

(٣) الكافي ٤ : ٨٣ / ٨ ، التهذيب ٤ : ١٨١ / ٥٠٢ ، الإستبصار ٢ : ٧٨ / ٢٣٦ ، الوسائل : الباب ٥ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ٧.

(٤) الكافي ٤ : ٨٢ / ٥ ، التهذيب ٤ : ١٨١ / ٥٠٤ ، الإستبصار ٢ : ٧٨ / ٢٣٦ ، الوسائل : الباب ٥ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ٣.

٣٤٥

إليّ من أن أفطر يوما من رمضان (١).

وعن الصدوق مرسلا قال : وسئل أمير المؤمنين عليه‌السلام عن اليوم المشكوك فيه ، فقال : لأن أصوم يوما من شعبان أحبّ إليّ من أن أفطر يوما من شهر رمضان (٢).

وعن شيخنا المفيد ـ رحمه‌الله ـ في المقنعة ، قال : وروى أبو الصلت عبد السّلام بن صالح الهروي ، قال : حدّثني علي بن موسى الرضا ـ عليه‌السلام ـ عن أبيه ـ عليه‌السلام ـ عن جدّه عليه‌السلام ، أنّه قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : من صام يوم الشك قرارا بدينه فكأنّما صام ألف يوم من أيام الآخرة غرّاء زهراء لا يشاكلن أيام الدنيا (٣).

قال وروى أبو خالد عن زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام ، عن آبائه عن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : صوموا سرّ الله ؛ قالوا : يا رسول الله وما سرّ الله؟قال : يوم الشكّ (٤).

وعنه أيضا في المقنعة ، قال : ثبت عن الصادقين ـ عليهما‌السلام ـ أنّه لو أنّ رجلا تطوّع شهرا وهو لا يعلم أنّه شهر رمضان ، ثمّ تبيّن له بعد صيامه أنّه كان شهر رمضان ، لأجزأ ذلك عن فرض الصيام (٥).

__________________

(١) الكافي ٤ : ٨١ / ١ ، التهذيب ٤ : ١٨١ / ٥٠٥ ، الإستبصار ٢ : ٧٨ / ٢٣٧ ، الوسائل : الباب ٥ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ١.

(٢) الفقيه ٢ : ٧٩ / ٣٤٨ ، الوسائل : الباب ٥ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ٩.

(٣) المقنعة : ٢٩٨ ، الوسائل : الباب ١٦ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ٦.

(٤) المقنعة : ٢٩٩ ، الوسائل : الباب ١٦ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ٧.

(٥) المقنعة : ٣٠٢ ، الوسائل : الباب ٥ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ١٣.

٣٤٦

وخبر معمّر بن خلّاد عن أبي الحسن ـ عليه‌السلام ـ ، قال : كنت جالسا عنده آخر يوم من شعبان فلم أره صائما ، فأتوه بمائدة ، فقال :ادن ، وكان ذلك بعد العصر ، قلت له : جعلت فداك صمت اليوم ؛ فقال لي : ولم؟ قلت : جاء عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ في اليوم الذي يشك فيه أنّه قال : يوم وفّق له ، قال : أليس تدرون إنّما ذلك إذا كان لا يعلم أهو من شعبان أم من شهر رمضان ، فصامه الرجل ، فكان من شهر رمضان كان يوما وفّق له ، فأمّا وليس علّة ولا شبهة فلا فقلت : أفطر الآن؟ فقال : لا ، فقلت : وكذلك في النوافل ليس لي أن أفطر بعد الظهر؟ قال : نعم (١).

وربما يوهم هذه الرواية مرجوحيّة الصوم آخر يوم من شعبان ما لم تكن علّة وشبهة تورث الشك بكونه من شهر رمضان.

ونحوه رواية هارون بن خارجة ، قال : قال أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عدّ شعبان تسعة وعشرين ، فإن كانت متغيّمة فأصبح صائما ، وإن كانت صاحية وتبصّرته ولم تر شيئا فأصبح مفطرا (٢).

وخبر ربيع بن ولّاد عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، قال : إذا رأيت هلال شعبان فعدّ تسعة وعشرين يوما ، فإن أصحت فلم تره فلا تصم ، وإن تغيّمت فصم (٣).

ولعلّ هذه الرواية هي مستند الشيخ المفيد ـ رحمه‌الله ـ في ما نقل

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٦٦ / ٤٧٣ ، الوسائل : الباب ٥ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ١٢.

(٢) التهذيب ٤ : ١٥٩ / ٤٤٧ ، الإستبصار ٢ : ٧٧ / ٢٣٣ ، الوسائل : الباب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ١٤.

(٣) التهذيب ٤ : ١٦٥ / ٤٦٩ ، الوسائل : الباب ١٦ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ٢.

٣٤٧

عنه من كراهيّة صوم هذا اليوم ، كما نقله عنه في البيان على ما حكي عنه ، فقال في محكي البيان : ولا يكره صوم يوم الشك بنيّة شعبان وإن كانت الموانع من الرؤية منتفية.

وقال المفيد ـ رحمه‌الله ـ : ويكره مع الصحو إلّا إن كان صائما قبله (١). انتهى.

وفيه : أنّ المقصود بهذه الأخبار بحسب الظاهر : بيان عدم الاعتناء باحتمال كونه من رمضان مع الصحو ، وأنّ ما ورد من الحثّ والترغيب في صوم يوم الشكّ أريد به ما إذا كان هناك علّة مانعة من الرؤية من غيم ونحوه ، لا مع الصحو وعدم تبيّن الهلال ، فلم يقصد بالنهي عن صومه أو الأمر بالإصباح مفطرا إلّا الرخصة ، وبيان أنّه ليس إلّا كغيره ممّا مضى من الأيام التي لم يكن له داع إلى صومه.

نعم ، ظاهر الخبرين الأخيرين : وجوب صومه مع الغيم احتياطا في صوم رمضان كما هو وجهه الظاهر الذي ينسبق إلى الذهن من الأمر بصوم يوم الشكّ ، ولكن يجب حملهما على تأكّد الاستحباب ؛ جمعا بينهما وبين غيرهما من الأخبار المتقدّمة التي هي صريحة الدلالة في الاستحباب ونفي الوجوب ، ولا يصحّ حملهما على أصل الاستحباب ؛ لأنّ التفصيل بينه وبين ما رخّص في تركه الذي هو أيضا مستحبّ بلا منقصة فيه أصلا ـ كما يشهد بذلك سائر الروايات ـ يقطع الشركة.

وكيف كان ، فهذه الأخبار وكذا أغلب النصوص المتقدّمة إ في رجحان صوم يوم الشكّ تحرّزا عن أن يفطر يوما من شهر رمضان ، فلو أتى به بهذا القصد قربة إلى الله ـ كما هو الغالب في صيام يوم

__________________

(١) حكاه البحراني في الحدائق الناضرة ١٣ : ٤٣ ، وراجع : البيان : ٢٢٧.

٣٤٨

الشكّ ـ صحّ صومه بلا إشكال.

والأخبار المتقدّمة الدالّة على بطلان الصوم بنيّة أنّه من شهر رمضان لا تنهض صارفة لهذه الأخبار عن ظاهرها بالحمل على إرادة صومه بنيّة أنّه من شعبان ؛ لما أشرنا إليه آنفا من أنّ المتبادر من تلك الأخبار :نفي شرعية الإتيان به بقصد الوجوب على أنّه من صوم رمضان ، فلا ينافي ذلك جواز الإتيان به من باب الاحتياط قاصدا به امتثال الطلب الندبي المتأكّد المتعلّق به في هذه الأخبار.

وما في تلك الأخبار من الأمر بأن يصومه على أنّه من شعبان لم يقصد به إثبات اعتبار شرط تعبّدي في صحّة صومه ، وهو إيقاعه بهذا العنوان وإن لم يكن داعيه في الواقع إلّا الاحتياط في صوم رمضان ، كما هو مورد الخبرين الأخيرين اللذين ورد فيهما الأمر بالإفطار مع الصحو ، والصوم مع الغيم ، بل المقصود به بيان وجه عمله الذي يقع عليه فعله في مرحلة الظاهر بحيث لا يتحقّق معه قصد التشريع.

ولذا صرّح غير واحد بأنّه لو نوى القضاء أو النذر ونحوه ، كان كما لو نوى به صوم شعبان مجزيا عن صوم رمضان (إذا انكشف أنّه منه) فليس قصد كونه من شعبان من الخصوصيات المعتبرة في صحّة صوم هذا اليوم ، وإنّما المعتبر فيه الإتيان به على وجه سائغ غير منهي عنه ، كما يكشف عن ذلك : قوله عليه‌السلام في خبر الزهري المتقدّم (١) ، بعد أن سئل عن أنّه كيف يجزي صوم تطوّع عن فريضة؟ :لو أنّ رجلا صام يوما من شهر رمضان تطوّعا وهو لا يعلم أنّه من شهر رمضان ثمّ علم بذلك لأجزأ عنه. لأنّ الفرض إنّما وقع على اليوم بعينه

__________________

(١) تقدّم في صفحة ٣٣٧.

٣٤٩

فإنّه يدلّ على أنّ ماهيّة الواجب التي يسقط بها طلبه إنّما هي صوم ذلك اليوم بعينه ، فمتى حصل سقط أمره ، ووقع قصد كونه تطوّعا أو كونه من صوم شعبان لغوا غير مخلّ في صحّة عمله.

فما في صدر الحديث من الأمر بأن ينوي ليلة الشكّ أنّه صائم من شعبان إنّما هو لتصحيح قصده ، لا لاعتبار هذا القصد بخصوصه في ماهيّة صوم ذلك اليوم ، كما لا يخفى على المتأمّل.

هذا ، مع أنّ إثبات مثل هذا الشرط تعبّدا في ماهيّة صوم يوم الشكّ بمثل هذه الأخبار التي قد يغلب على الظنّ كونها مشوبة بالتقية في مقابل الأخبار المستفيضة الآمرة بصوم يوم الشكّ ، التي لا ينسبق إلى الذهن منها إلّا إرادة اختياره لغايته المرسوخة في النفس ، الباعثة له على اختيار الفعل ، وهو : قصد إطاعة أمره الواقعي المعلوم عند الله ، المردّد عنده بين كونه استحبابيّا لكون اليوم من شعبان ، أو وجوبيّا لكونه من رمضان ، أو بداعي الاحتياط في صوم رمضان بعد تسليم ظهورها في ذلك ، في غاية الإشكال ، خصوصا بعد البناء على ما قوّيناه من أنّ الأشبه بالقواعد عدم اعتبار شي‌ء في ماهيّة صوم رمضان عدا قصد القربة ، وهي حاصلة في جميع هذه الفروض.

وإنّما التزمنا بالبطلان في ما لو صام يوم الشكّ على أنّه من رمضان تعبّدا بالأخبار الناهية عنه ، كما عرفت ، بل ربّما يؤيّد ذلك ما في نفس تلك الأخبار من تعليل المنع عن إيقاعه بهذا الوجه : بأنّه قد نهي الرجل أن ينفرد بصيامه ، فإنّه يدلّ على أنّه لولا هذه الجهة ، لكان مقتضى الأصل : صحّته.

ومن هنا قد يتخيّل أنّ النهي عنه لهذه الجهة غير مقتضية لفساده ؛ لكونها جهة عارضية خارجة عن حقيقة المأمور به.

٣٥٠

ولكن يدفعه : أنّ المقصود بذلك هو النهي عن إيقاعه على هذا الوجه في اليوم الذي لا يلتزم فيه سائر الناس بصومه على أنّه من رمضان ، فتلك الجهة العارضة من عوارضه المشخّصة المتّحدة معه وجودا ، فيمتنع استقلالها بالحرمة ، كما هو واضح.

نعم لا يبعد أن يدّعى أنّ المنساق إلى الذهن من هذا النوع من النواهي في أخبار أهل البيت عليهم‌السلام ، مع ما فيها من التعليل المناسب للكراهة : إنّما هو إرادة الكراهة ، وهي غير مقتضية لبطلان العبادة ، كما تقرّر ذلك في العبادات المكروهة ، كالوضوء بالماء المسخّن بالشمس ونحوه ، فالإنصاف : أنّ الجزم ببطلان الصوم في هذه الصورة أيضا لا يخلو عن إشكال ، والله العالم.

(و) قد ظهر بما قرّرناه : أنّه (لو صام) يوم الشكّ (على أنّه إن كان من رمضان ، كان واجبا ، وإلّا كان مندوبا) أنّ الأصحّ هو ما (قيل) من أنّه يصح صومه و (يجزئ) عن رمضان إذا انكشف أنّه منه ، كما نقل عن الشيخ في الخلاف والمبسوط والعماني وابن حمزة والفاضل في المختلف والشهيد في جملة من كتبه (١) ؛ لما أشرنا إليه من أنّ هذا هو وجهه الواقعي الذي يبعث المكلّف غالبا على اختيار صوم هذا اليوم متقرّبا بإطاعة أمره الواقعي المعيّن عند الله ، المردّد عنده بين الأمرين ، فيمتنع أن لا يكون مجزيا.

وما يقال من أنّ حقيقة صوم رمضان تغاير حقيقة الصوم المندوب ، كما يكشف عن ذلك اختلاف أحكامهما ، فإذا لم يعيّن حقيقة أحدهما

__________________

(١) حكاه صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٢١٢ ، وراجع : الخلاف ٢ : ١٧٩ ، المسألة ٢١ ، والمبسوط ١ : ٢٧٧ ، والوسيلة : ١٤٠ ، والمختلف : ٢١٥ ، والبيان : ٢٢٥ ، والدروس ١ : ٢٦٧.

٣٥١

في النيّة التي حقيقتها استحضار حقيقة الفعل المأمور به ، لم يقع عن أحدهما ، مدفوع : بأنّ ما نحن فيه ليس من قبيل تعلّق القصد بجنس العبادة ناويا به وقوعه امتثالا لشي‌ء من الأوامر المتعلّقة بأنواعه على سبيل الترديد ؛ كي ينافيه اعتبار استحضار حقيقة الفعل المأمور به في القصد ؛ إذ القصد متعلّق بصوم هذا اليوم الذي هو فرد من أحد النوعين اللذين تعلّق بأحدهما أمر وجوبي وبالآخر ندبي ، فهو كما لو أمره بإكرام كلّ عالم دخل داره وجوبا ، وكلّ شاعر ندبا ، فدخل داره شخص علم إجمالا بأنّه إمّا عالم أو شاعر ، فأكرمه قاصدا به إطاعة أمره الواقعي المردّد عنده بين الأمرين ، كما هو واضح.

(و) قد ظهر بذلك ضعف ما (قيل) بل لعلّه المشهور من أنّه (لا يجزئ ، وعليه الإعادة ، و) لكن لو اعتبرنا معرفة الوجه لدى التمكّن منه ولو بطريق ظاهري ، كان هذا (هو الأشبه.)

ولكنك قد عرفت في محلّه أنّه خلاف التحقيق.

(ولو أصبح) في يوم الشك (بنيّة الإفطار ثمّ بان أنّه من الشهر جدّد النيّة) في ما بينه وبين الزوال إذا كان لم يفعل ما يقتضي الإفطار (واجتزأ به) كما تقدّم تحقيقه في صدر الكتاب.

(فإن كان ذلك بعد الزوال أمسك) وجوبا بقية النهار (وعليه القضاء.)

أمّا وجوب القضاء : فلفوات الصوم ، كما صرّح به شيخنا المرتضى رحمه‌الله.

ثمّ قال : وأمّا وجوب الإمساك : فهو المشهور ، بل عن الخلاف :الإجماع عليه ، وعن المنتهى والتذكرة : نسبة الخلاف إلى عطاء وأحمد ، وأنّه لم يقل به غيرهما ، ولم أجد عليه دليلا ظاهرا. والتمسّك بقاعدة

٣٥٢

الميسور لا يخفى ما فيه (١). انتهى.

أقول : ويمكن الاستدلال له : بفحوى ما روي أنّ ليلة الشكّ أصبح الناس فجاء أعرابي فشهد برؤية الهلال ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مناديا ينادي : كلّ من لم يأكل فليصم ، ومن أكل فليمسك (٢) المنجبر ضعفه بما عرفت ، وباشتهاره في حدّ ذاته بين الأصحاب ، واعتمادهم عليه في كتبهم الاستدلالية ، فليتأمّل.

وفي المسالك قال في شرح العبارة : الإمساك هنا على سبيل الوجوب ، ويجب فيه النيّة ، ولو أفطره وجب عليه الكفّارة ؛ إذ لا منافاة بين وجوبها وعدم صحة الصوم بمعنى إسقاطه القضاء (٣). انتهى.

أقول : لا يبعد أن تكون هذه الأحكام بأسرها لديه مبنيّة على ما اختاره في مسألة ما لو جدّد النيّة في أثناء النهار ، حيث اختار في تلك المسألة أنّه لو جدّدها قبل الزوال ، حكم له بالصوم الصحيح المثاب عليه من أوّل النهار ، ولو جدّدها بعد الزوال ، حكم له بالصوم الصحيح المثاب الشرعي المثاب عليه من الوقت الذي نواه (٤) ؛ ولم يفرّق في ذلك بين الواجب والمندوب ، فيدلّ حينئذ على وجوبه وعلى وجوب القصد معه والكفّارة بإفطاره : الأدلّة الدالّة عليها في صيام شهر رمضان.

وانصراف أدلّة الوجوب أو الكفّارة عن صوم بعض اليوم بعد فرض كونه صوما شرعيّا إن سلّم فبدوي غير مضرّ ، ولكن لا يسقط به

__________________

(١) كتاب الصوم : ٥٨٥ ، وراجع : الخلاف ٢ : ٢٠٣ ، المسألة ٥٦ ، والمنتهى ٢ : ٥٦١ ، وتذكرة الفقهاء ١ : ٢٥٧.

(٢) أورده المحقّق الحلّي في المعتبر ٢ : ٦٤٦.

(٣) مسالك الأفهام ١ : ٦٨.

(٤) المصدر نفسه.

٣٥٣

القضاء ؛ لأنّ القضاء وجب على ترك صومه في مجموع اليوم على ما هو المتبادر من أدلّته ، فلا منافاة بينه وبين صحّة صومه في بعض اليوم ، وترتّب سائر أحكامه عليه.

ولكنك عرفت في ما سبق ضعف المبني ، فيشكل حينئذ الالتزام بوجوب القصد معه ، إلّا أن نلتزم بأنّ الأصل في الواجب كونه تعبديّا ، إلّا أن يدلّ دليل على خلافه ، وهو خلاف التحقيق.

وأشكل منه : الالتزام بوجوب الكفّارة بإفطاره ، إلّا أن نقول : بأنّه من آثار إيجاد ذات المفطرات على وجه غير سائغ وإن لم يتحقّق الإفطار بها بالفعل ، وهو لا يخلو عن تأمّل ، وسيأتي تحقيقه في مسألة أنّه هل تتكرّر الكفّارة بتكرّر أسبابها في يوم واحد؟ إن شاء الله.

(فروع ثلاثة :)

(الأوّل : لو نوى الإفطار في يوم من) شهر (رمضان) عصيانا (ثم) تاب و (جدّد) النيّة (قبل الزوال ، قيل : لا ينعقد ، وعليه القضاء.)

بل في المدارك : القول بعدم الانعقاد ووجوب القضاء هو المعروف من مذهب الأصحاب ، حتّى أنّ العلّامة ـ رحمه‌الله ـ في المنتهى لم ينقل فيه خلافا (١).

(و) لكن يظهر ممّا حقّقناه عند التكلّم في مقدار امتداد وقت النية : أنّه (لو قيل بانعقاده ، كان أشبه) بالقواعد لولا الدليل على اعتبار تبييت النيّة.

ولكنك عرفت وجود الدليل عليه في العامد ، فلا يتّجه حينئذ هذا

__________________

(١) مدارك الأحكام ٦ : ٣٩.

٣٥٤

القول إلّا على تقدير كون العزم على الإفطار لعذر ، من نسيان أو مرض أو سفر ونحوه ، أو حصل له هذه النيّة في أثناء النهار مع كونها مسبوقة بالعزم على الصوم من الليل.

ولكن الفرض الثاني يندرج في موضوع المسألة الآتية ، والأوّل بحسب الظاهر خلاف ما هو المفروض موضوعا في هذه المسألة التي نسب (١) إلى المشهور القول بعدم الانعقاد ، بل لم ينقل الخلاف فيه صريحا عن أحد ، فموضوع هذه المسألة بحسب الظاهر هو ما لو نوى الإفطار عصيانا من الليل ، فحينئذ ما اختاره هنا من القول بالانعقاد لما اعتبره سابقا من وجوب تبييتها مستمرّا على حكمها.

ولا يجدي في رفع هذا التنافي الالتزام بكفاية نيّة واحدة للشهر كلّه ؛ إذ لا أثر للنيّة السابقة بعد انتقاضها بنيّة الخلاف من الليل في صدق اسم التبييت ، كما هو واضح.

فظهر بما ذكرنا : أنّ القول الأوّل في ما هو محلّ الكلام هو الأقوى.

اللهمّ إلّا أن يمنع اعتبار التبييت في الصوم ؛ نظرا إلى أنّ عمدة مستنده الإجماع ، فيشكل التعويل عليه بعد اختيار المصنّف هاهنا القول بالانعقاد ، وإشعار كلامه بكونه قولا معروفا بين الأصحاب ، فليتأمّل.

الفرع (الثاني : لو عقد نيّة الصوم ، ثمّ نوى الإفطار ولم يفطر ، ثمّ جدّد النيّة ، كان صحيحا) لدى الأكثر ، منهم : السيد والشيخ كما في الذخيرة (٢) ، والمشهور كما في المدارك (٣).

__________________

(١) الناسب هو البحراني في الحدائق الناضرة ١٣ : ٤٧.

(٢) ذخيرة المعاد : ٥١٦ ، وراجع : المبسوط ١ : ٢٧٨.

(٣) مدارك الأحكام ٦ : ٤٠.

٣٥٥

وحكي (١) عن السيد في بعض رسائله ، وأبي الصلاح والعلّامة وولده والشهيدين والمحقّق الثاني : القول بالبطلان ؛ لعموم قوله : لا عمل إلّا بنيّة (٢) الظاهر في وجوب تلبّس مجموعه بها ، ومقتضى ذلك : وجوب تلبّس إمساك كلّ جزء من النهار بنيّة فعل الصوم امتثالا لأمر الله ، كما هو الشأن في الصلاة والطهارات ونحوها من العبادات المركّبة.

ولكنك عرفت في باب الطهارة والصلاة : أنّه يكفي في اتّصاف الفعل المأمور به بوقوعه بجميع أجزائه عن نيّة الاستدامة الحكمية بالمعنى الذي عرفته في محلّه ، وعرفت في صدر الكتاب أنّه يكفي في تحققها في مثل الصوم ونحوه من العبادات المطلوب بها الترك بقاؤها في النفس شأنا على وجه لا ينافيه الغفلة والنوم وشبهه ، ولكن ينافيه رفع اليد عنها ونقضها بنيّة الخلاف ، فمتى نوى الإفطار في جزء من النهار ، فقد أبطل حكم النيّة السابقة ، ووقع ذلك الجزء بلا نيّة ، فيفسد ذلك الجزء ، وبفساده يفسد الصوم ، فإنّه لا يتبعّض.

وقد ظهر بما ذكر : فساد مقايسته بالنوم أو الغفلة الحاصلة في أثناء النهار ، وكذا فساد الاستدلال للقول بالصحة : بحصر المفطرات في النصوص والفتاوى في ما عداه ؛ إذ الفساد ينشأ من الإخلال بالنيّة التي هي شرط في صحّة الصوم ، لا من حيث كون نيّة الإفطار من حيث هي كسائر المفطرات مبطلة ، كي ينافيه حصر المفطرات في ما عداها.

__________________

(١) كما في كتاب الصوم للشيخ الأنصاري : ٥٨٥ وراجع : رسائل الشريف المرتضى ٢ : ٣٥٦ ، والكافي في الفقه : ١٨٤ ، والمختلف : ٢١٥ ، وإيضاح الفوائد ١ : ٢٢٤ ، والبيان : ٢٢٧ ، والدروس : ٧٠ ، ومسالك الأفهام ١ : ٦٩ ، وجامع المقاصد ٣ : ٦١.

(٢) أمالي الطوسي ٢ : ٢٠٣.

٣٥٦

ونظيره في الضعف : الاستدلال له : باستصحاب صحّة الصوم ؛ لأنّ صحّته المحرزة في ما مضى إنّما هي بالنسبة إلى أجزائه الماضية ، وهي غير مجدية في نفي اعتبار ما يشكّ في اعتباره بالنسبة إلى الأجزاء اللاحقة ، فالاستدلال باستصحاب الصحّة لدى الإخلال بما يشكّ في جزئيته أو شرطيته للعمل الذي يشكّ في صحّته فاسد.

نعم ، له وجه صحّة في ما لو نشأ الشكّ في قادحيّة الطوارئ الحادثة في الأثناء بإرجاعه إلى أصالة عدم المانع على إشكال دفعناه في محلّه ، وليس ما نحن فيه من هذا القبيل ، كما عرفت.

فظهر بما ذكرناه : أنّ القول بالفساد أشبه بالقواعد على تقدير تسليم كون الصوم كالصلاة والطهارات ونحوها من الأفعال الوجودية المركّبة التي يعتبر حصولها بجميع أجزائها عن قصد إطاعة أمرها.

ولكنّك عرفت في ما سبق عند التكلّم في مقدار امتداد وقت النيّة :أنّه لم يثبت كون الصوم كذلك.

فما ذهب إليه الأكثر من القول بالصحّة لو أخلّ بها في جزء منه ثمّ جدّدها بعده هو الأشبه.

وقد ظهر بما حقّقناه في ما سبق : وجه اعتبار تجديدها في ما بعد ، فراجع.

ثمّ إنّا لو قلنا بالبطلان بنيّة الإفطار ، فلا فرق بين إنشاء العزم على ترك الصوم المترتّب عليه ارتكاب المفطرات عند مشيته أو العزم على نقض صومه بتناول المفطرات في ما يستقبل ؛ إذ النيّة المعتبرة في باب العبادات هي القصد إلى فعل تلك العبادة بداعي الخروج عن عهدة التكليف بها ، فالقصد الذي يعتبر تحقّقه حال التلبّس بإجزاء العبادة حقيقة أو حكما إنّما هو هذه النيّة ، وهذا ممّا يمتنع اجتماعه مع العزم

٣٥٧

على إبطال العمل ونقضه حدوثا وبقاء ، فكما يمتنع أن يجتمع في ابتداء الأخذ في صلاة الظهر ـ مثلا ـ العزم على فعلها على وجه يطابق أمرها ، ويسقط به التكليف المتعلّق بها مع العزم على إبطالها في الركعة الثانية مثلا ، فكذا يمتنع بقاؤه بعد حدوث العزم في الأثناء ، ولا يعقل أن تؤثّر تلك الإرادة السابقة المنتقضة بالعزم على إيجاد المبطل في انبعاث الأجزاء المجامعة مع هذا العزم عن تلك الإرادة ؛ كي يتوهّم أنّ المضادّة بين القصدين توجب ارتفاع نفس تلك الإرادة عند حدوث هذا العزم لا أثرها الذي نسمّيه بالاستدامة الحكمية التي اعتبروها في صحّة العبادة.

فما في الجواهر من التفصيل بين نيّة القطع التي هي بمعنى إنشاء رفع اليد عمّا تلبّس به من الصوم ، وبين نيّة القطع بمعنى العزم على ما يحصل به ذلك ، فجزم بالبطلان في الأوّل ؛ لخلوّ الزمان المزبور عن النيّة ، فيقع باطلا ، وقوّى الصحّة في الثاني استصحابا للصحّة السابقة التي لم يحصل ما ينافيها (١) ، لا يخلو عن نظر.

وقد تقدّم في باب الصلاة (٢) أيضا حكاية القول بهذا التفصيل عن بعض ، وأشرنا هناك أيضا إلى ضعفه ؛ لاستحالة بقاء العزم على فعل عبادة امتثالا لأمرها مع العزم على إبطالها ، وعدم إتمامها.

ولكن منع في الجواهر اعتبار بقاء هذا العزم حال التلبّس بإجزاء العبادة ، فقال : ودعوى كون المعتبر في الصحّة العزم في سائر الأزمنة على الامتثال بالصوم في سائر أوقات اليوم : لا نعرف لها مستندا (٣).

وفيه : أنّه لا يعتبر في صحّة شي‌ء من العبادات عدا حصوله بقصد

__________________

(١) جواهر الكلام ١٦ : ٢١٥.

(٢) تقدم في كتاب الصلاة : ٢٣٥ (الطبعة الحجرية).

(٣) جواهر الكلام ١٦ : ٢١٥.

٣٥٨

إطاعة الأمر به ، فإن توقّف صحّة الصوم ووقوعه بهذا الوجه على استدامة هذا القصد حقيقة أو حكما في سائر أوقات اليوم فهو ، وإلّا فلا يتوقّف على قصد آخر وراءه جزما ، كي يتّجه به التفصيل المزبور.

والحاصل : أنّا إن قلنا بكون نيّة الإفطار مفسدة فإنّما هو لكونها منافية لاستمرار النيّة التي اعتبروه في سائر العبادات ، ولا فرق في ذلك بين الفرضين ، كما عرفت.

نعم ، لو فرض حصول قصد الإفطار على وجه لا يناقض تلك النيّة ، كما لو كان مبنيّا على تقدير ، ولم نعتبر الجزم في النيّة ، أو كان مبنيّا على اعتقاد زوال حكم تلك النيّة لأمر آخر ، أو على التردّد في زواله وبقائه ، كما لو نوى الإفطار لحدوث اعتقاد أنّ اليوم من شوّال ، أو لحدوث اعتقاد فساد صومه بسبب آخر ، أو تردّد في الإفطار لأجل التردّد في صحّته من جهة من الجهات ، ثم انكشف الخلاف ، لم يقدح شي‌ء من ذلك في صحّة صومه.

أمّا الأوّل : فواضح.

وأمّا ما عداه : فلأنّه لدى التحليل لم يرفع اليد عن عزمه على الصوم ، بل هو باق على ذلك العزم على تقدير صحّة صومه ، ولكنه حيث يرى مخالفة هذا التقدير للواقع ، ينوي الإفطار لذلك ، أو يتردّد فيه لتردّده في الصحّة ، ولا عبرة بهذا العزم الطارئ الناشئ عن مبنى مخالف للواقع ، بل العبرة بالقصد الأوّلي الباقي في النفس شأنا ، كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك في باب الصلاة في توجيه : أنّ الصلاة على ما افتتحت ، وأنّها لو نوى الفريضة فزعم في الأثناء كونها تطوّعا ، فأتمّها بنيّة التطوّع ، وقعت فريضة ، وكذا عكسه ، فراجع.

ولو تردّد في الإفطار ، ارتفع عزمه على الصوم ، فإنّ العزم ينافي

٣٥٩

التردّد.

ولكن لو قيل ببقاء حكمه ما لم يعزم على الإفطار ، لكان وجيها ، كما يعرف وجهه ممّا بيّنّاه فارقا بين الاستدامة الحكمية المعتبرة في الصوم وفي غيره من العبادات الوجودية المتوقّفة على علّة حقيقية موجدة لها ، فراجع.

الفرع (الثالث : نيّة الصبي المميّز صحيحة) أي غير ملغاة شرعا ، كي لا يترتّب عليها أثرها ، ويكون فعله الصادر عن قصد ملحقا بفعل البهائم والمجانين شرعا.

وما ورد من أنّ عمده خطأ (١) ؛ إنّما هي في ما يترتّب عليه المؤاخذة والعقوبة ، لا مطلقا حتى في ما يعود نفعه إليه.

ومن هنا قد يقوى في النظر : صحّة التقاطه وحيازته ، بل اتّهابه وقبضه للعين الموهوبة ، وقبوله للوصية ونحوها ، إلّا أن ينعقد الإجماع على خلافه.

(وصومه شرعي) لا تمريني محض ، وكذا سائر عباداته ؛ إذ لا مقتضي لصرف أدلّتها عنه بعد ما أشرنا إليه من صحّة نيّته وعدم كون أفعاله الاختيارية ملحقة بفعل البهائم والمجانين ؛ كي يقتضي ذلك صرفها عنه.

وحديث رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم (٢) أيضا غير مقتض لذلك ؛ إذ المتبادر منه ليس إلّا القلم الذي يصحّ بالنسبة إليه إطلاق اسم الرفع ، وهو ليس إلّا القلم الذي يوقعه في الكلفة ، لا القلم الذي

__________________

(١) التهذيب ١٠ : ٢٣٣ / ٥٤ ، الوسائل : الباب ١١ من أبواب العاقلة ، الحديث ٣.

(٢) الخصال : ٩٣ / ٤٠ ، الوسائل : الباب ٤ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١١.

٣٦٠