مصباح الفقيه - ج ١٤

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٩

عن الغنية والتنقيح : دعوى الإجماع عليه (١) من أنّه (يكفي في) شهر (رمضان أن ينوي أنّه يصوم) غدا (متقرّبا إلى الله تعالى) إذ لا يعقل أن يتقرّب بصوم الغد إلّا بعد أن يراه طاعة وعبادة ، فالذي يتعلّق قصده به في الحقيقة هو الصوم المأمور به في الغد ، وهو في رمضان منحصر بصومه ، فهو المقصود لدى التحليل لا غير.

ولكن الذي يقتضيه التحقيق : أنّه لا يحتاج تصحيح هذه النيّة في صوم رمضان إلى هذا التكلّف ؛ إذ الحق الذي ينطبق عليه ظواهر الأدلّة السمعيّة : أنّ ماهيّة الصوم الذي اخترعه الشارع وجعله من أفضل العبادات ماهيّة واحدة ، وهي : الكفّ عن المفطرات من طلوع الفجر إلى الغروب مع النيّة ، ولكن تعرضها أحكام مختلفة باختلاف أزمنة وقوعها ، فهي في رمضان واجبة ، وفي العيدين محرّمة ، وفي سائر الأوقات مندوبة على اختلاف مراتب محبوبيّتها باختلاف الأوقات التي ندب فيها.

وقضيّة ذلك : أن يكون لأزمنة وقوعه من حيث هي دخل في قوام مطلوبيّته ، فصوم كلّ يوم ما عدا العيدين من حيث هو لا بوصف زائد عليه مطلوب شرعا : أمّا بأمر وجوبي أو ندبي.

وقضيّة ذلك : عدم الفرق بين رمضان وغيره ، ففي أيّ وقت نوى أن يصوم غدا وصام ، صحّ صومه ، ووقع امتثالا للأمر المتعلّق بصوم ذلك الوقت من حيث هو ، وهو الأمر الوجوبي في شهر رمضان ، والندبي في غيره ، كما حكي القول به عن بعض ستأتي الإشارة إليه.

__________________

(١) حكاه صاحب الرياض فيها ١ : ٣٠١ ، وراجع : الغنية (الجوامع الفقهية) : ٥٠٩ ، والتنقيح الرائع ١ : ٣٤٨.

٣٠١

ويمتنع أن يتوارد عليه من حيث هو في وقت واحد أمران أو أكثر حتى يحتاج في مقام الإطاعة إلى تعيين الأمر الذي يقصده بالإطاعة.

نعم ، يجوز أن يتعلّق به طلب آخر لا من حيث هو ، بل من جهة أخرى زائدة على ذاته ، كوقوعه كفّارة أو وفاء بالنذر أو بدلا عمّا فاته من رمضان ، بناء على كون عنوان البدليّة قيدا فيه ـ كما سيأتي البحث عنه عند التكلّم في عدم جواز الصوم ندبا لمن عليه القضاء ـ وإلّا فهذا أيضا من القسم الأول ـ كما سنوضّحه ـ أو نيابة عن غيره ، أو مقدمة لعمل من اعتكاف أو استفتاح ونحوه ، إلى غير ذلك من العناوين الطارئة عليه ، المقتضية لأن يتعلّق به طلب آخر غير الطلب المتعلّق بذاته من حيث هي ، وحينئذ يجب عليه في مقام إطاعة مثل هذه الأوامر إيقاعه بعنوانه الواقع في حيّز الطلب ، وإلّا امتنع وقوعه إطاعة لتلك الأوامر ، بل يقع إطاعة للأمر المتعلّق بذاته من حيث هي بعد فرض حصوله بقصد القربة لو لم يكن عروض هذه الجهات مانعة عن بقاء ذاته من حيث هي بصفة المطلوبية ، كما قد يقال به في النذر المعيّن وشبهه وإن لا يخلو عن نظر ، كما سيأتي التكلّم فيه إن شاء الله تعالى.

نعم ، قد يكون الأمر المتعلّق ، به من بعض هذه الجهات توصّليّا محضا ، ولا تكون نفس تلك الجهة أيضا ـ من حيث هي كعنوان البدليّة والنيابة عن الغير أو الوفاء بالنذر وشبهه ـ موقوفة على القصد ، بل يتحقّق مفهومه بلا قصد أيضا ، كمقدميّته لعمل الاستفتاح.

مثلا : لو قلنا بأنّ هذا العمل لا يتوقّف إلّا على أن يصوم ثلاثة أيّام صوما صحيحا ، فحينئذ يكفي في سقوط أمره حصول الصوم صحيحا وإن لم يقصد به إطاعة هذا الأمر ، بل غيره ، كما هو الشأن في سائر

٣٠٢

التكاليف التوصّليّة.

وإن أبيت إلّا عن اختلاف حقيقة الصوم ، وكون صوم التطوّع أيضا كصوم الكفّارة والنذر قسما خاصّا منه ، وقلت : بأنّ صوم الغد من حيث هو طبيعة مشتركة لا يقع امتثالا لشي‌ء من أوامره ما لم يضمّ إليه ما يميّزه بالقصد من غير فرق في ذلك بين صوم التطوّع وغيره ، كطبيعة الصلاة المشتركة من حيث هي بين الفرائض والنوافل.

قلنا : إن سلّم ذلك ففي ما عدا صوم رمضان ، وأمّا صوم رمضان حيث لا يشاركه غيره في زمانه لا يحتاج إلى فصل آخر يميّزه عن سائر الأنواع وراء إضافته إلى زمانه ، فالزمان بالنسبة إلى سائر أنحاء الصوم ظرف لتحقّقها ، وبالنسبة إلى صوم رمضان مقوّم لمفهومه ، فإنّه يميّزه عمّا عداه ، فإذا نوى صوم الغد ، وكان الغد من رمضان ، فقد عزم على إيجاد الماهيّة المأمور بها بعينها بداعي القربة والإطاعة.

وجهله بكون الغد من رمضان ، أو بخصوصيّة أمره غير قادح ؛ إذ العبرة بنفس ذلك الزمان الذي وجب صومه بعينه ، لا بمعرفة عنوانه ، كما أنّ العبرة بصحّته ووقوعه عبادة حصوله بداعي التقرّب وإطاعة أمره الواقعي وإن لم يعرفه تفصيلا أو أخطأ في تشخيصه ، فلا مانع عن صحّة صومه في الفرض بعد فرض كونه عين الماهيّة المأمور بها وقد أتى به بداعي التقرّب.

إن قلت : عدم صحّة صوم آخر في رمضان لا يكشف عن أنّ القيد الذي اعتبره الشارع عنوانا له في الواقع ليس إلّا اختصاصه بهذا الوقت حتّى يكفي في وقوعه على وجهه القصد إلى أن يصوم غدا قربة إلى الله ، فمن الجائز أن يكون وجه وجوبه احترام هذا الشهر وتعظيمه ، أو غير ذلك من العناوين الموقوفة على القصد إلى صومه بعينه ، لا مجرّد حصول

٣٠٣

الصوم فيه وإن لم يكن بعنوانه المخصوص به مقصودا له.

قلت : لم يثبت علينا إلّا وجوب صوم رمضان قربة إلى الله.

واحتمال كون الغرض الباعث على إيجابه إيجاده على وجه يحصل به تعظيم هذا الشهر أو غيره من العناوين المتوقّفة على إيقاعه بعنوان كونه من رمضان لا يكفي في لزوم إيقاعه بهذا الوجه ، كما يتّضح ذلك بمراجعة ما حقّقناه في نيّة الوضوء (١) ، حيث بيّنا هناك : أنّ المرجع لدى الشك في اعتبار شي‌ء من مثل هذه التفاصيل في صحّة العبادة هو البراءة.

نعم ، لو قلنا بقاعدة الاشتغال : إمّا في مطلق الشك في الشرطيّة أو في خصوص ما كان من هذا القبيل ممّا يكون راجعا إلى كيفيّة الإطاعة ، اتّجه القول باعتبار التعيين ، وعدم كفاية قصد القربة ، كما حكاه في الذخيرة عن بعض (٢).

ولكن المبنى ضعيف ، فالمتّجه ما عرفت ، خصوصا مع ما عرفت من أنّه قد يقال بأنّه نوع من التعيين وإن لا يخلو ذلك عن تأمّل ، فليتأمّل.

(وهل يكفي ذلك في النذر المعيّن؟ قيل) كما عن المرتضى وابن إدريس (٣) : (نعم) وعن الفاضل في المنتهى : تقويته (٤).

واعتمد عليه في المدارك ؛ لأنّه زمان تعيّن بالنذر للصوم ، فكان كشهر رمضان ، واختلافهما بأصالة التعيّن وعرضيّته لا يقتضي اختلافهما

__________________

(١) راجع : كتاب الطهارة ، الفصل الثالث في كيفية الوضوء.

(٢) ذخيرة المعاد : ٥١٣.

(٣) كما في المدارك ٦ : ١٨ ، وراجع : رسائل الشريف المرتضى ١ : ٤٤١ ، والسرائر ١ : ٣٧٠.

(٤) حكاه صاحب المدارك فيها ٦ : ١٨ ، وراجع : منتهى المطلب ٢ : ٥٥٧.

٣٠٤

في هذا الحكم (١).

ولكنك عرفت ضعف هذا الدليل ، وأنّ تعيّنه بالأصالة فضلا عن كونه بالعرض لا يغني عن تعيينه بالقصد ، ولذا لا يكفي قصد القربة في صلاة الفريضة في وقتها المختص وإن قلنا بأنّه لا يصح فيه غيرها مطلقا.

اللهم إلّا أن يقال برجوعه إلى قصد التعيين ، كما قيل بذلك في رمضان ، وهو لا يخلو عن تأمّل.

(وقيل : لا ، وهو الأشبه) لأنّا لو سلّمنا أنّ العزم على أن يصوم غدا قربة إلى الله ، مرجعه لدى التحليل إلى : العزم على إيجاد القسم الخاص الذي يصحّ التقرّب به ، فإنّما يجدي ذلك في مثل شهر رمضان الذي يتعيّن فيه صومه ، ولا يقع فيه صوم آخر ، وأمّا في النذر المعيّن فالزمان في حدّ ذاته صالح لسائر أنحاء الصوم ، فلو غفل عن نذره ، ونوى قسما آخر من الصوم ، فلا مانع عن صحته ، بل قد يقال بذلك مع العمد أيضا وإن أثم بمخالفة النذر.

وهو وإن لا يخلو عن تأمّل ، ولكنه لا تأمّل في صحته مع الغفلة عن النذر ؛ لأنّ تعلّق النذر بصوم ذلك اليوم لا يصلح مانعا عن صحّة صومه تطوّعا أو نيابة عن ميّت ، أو نحو ذلك لدى الغفلة عن نذره ، كما تقرّر في محلّه ، فلا ينحصر الصوم المقرّب بالنسبة إليه في خصوص صوم النذر.

نعم ، لو قيل بأنّه لا يصحّ منه صوم آخر أصلا ولو مع الغفلة عن نذره ، اتّجه دعوى رجوعه إلى قصد التعيين.

ولكن المبني ضعيف ، مع ما في أصل الدعوى من التأمّل ، كما تقدّمت الإشارة إليه.

__________________

(١) مدارك الأحكام ٦ : ١٨.

٣٠٥

(ولا بدّ في ما عداهما) أي ما عدا شهر رمضان والنذر المعيّن (من نيّة التعيين ، وهو القصد إلى الصوم المخصوص) كالقضاء والكفّارة والنافلة والنذر ونحوه بلا خلاف فيه ، كما ادّعاه بعض (١).

وعن المعتبر : أنّ على ذلك فتوى الأصحاب (٢). وعن السرائر (٣) :دعوى الإجماع عليه صريحا.

(فلو اقتصر على نية القربة وذهل عن تعيينه ، لم يصح) لأنّه فعل مشترك صالح لأن يقع على وجوه ، فلا ينصرف إلى شي‌ء منها ما لم يعيّنه بالقصد ، ولا أمر بالصوم المطلق حتى يقع امتثالا له.

وعن الشهيد في البيان : الخلاف في الندب المعيّن ، كأيّام البيض ، فألحقه بالواجب المعيّن في عدم افتقاره إلى التعيين (٤).

بل حكى عنه ثاني الشهيدين في الروضة : أنّه ألحق به في بعض تحقيقاته مطلق المندوب ؛ لتعيّنه شرعا في جميع الأيام ، إلّا ما استثني ، فيكفي فيه نيّة القربة. واستحسنه هو (٥) ، وتبعه في الذخيرة (٦).

وفي المدارك بعد نقل ذلك عن الشهيدين ، قال : ولا بأس به خصوصا مع براءة ذمّة المكلّف من الصوم الواجب (٧).

أقول : قد عرفت آنفا أنّ ما نسب إلى المشهور هو الذي يقتضيه

__________________

(١) وهو السيوري في التنقيح الرائع ١ : ٣٤٩.

(٢) حكاه صاحب المدارك فيها ٦ : ٢٠ ، وراجع : المعتبر ٢ : ٦٤٤.

(٣) الظاهر أنّ لفظ «السرائر» سهو. والصواب : التحرير ؛ كما في الجواهر ١٦ : ١٩١ ، وكتاب الصوم للشيخ الأنصاري : ٥٨٢. وراجع : تحرير الأحكام ١ : ٧٦.

(٤) حكاه العاملي في مدارك الأحكام ٦ : ٢٠ ، وراجع : البيان : ٢٢٣.

(٥) كما في مدارك الأحكام ٦ : ٢٠ ، وراجع : الروضة البهية ٢ : ١٠٨.

(٦) ذخيرة المعاد : ٥١٣.

(٧) مدارك الأحكام ٦ : ٢٠.

٣٠٦

التحقيق إن بنينا على أنّ صوم التطوّع كصوم الكفّارة والنذر وغيره قسم خاص من الصوم ، وليس جنس الصوم من حيث هو متعلّقا لأمر شرعي ، بل هو قدر مشترك بين الأنواع المطلوبة شرعا.

وأمّا على ما اخترناه من أنّ طبيعة الصوم من حيث هي لا بوصف زائد عليها هي التي أوجبها الشارع في شهر رمضان وندبها في سائر الأيّام عدا الأوقات التي حرّم صومها ، وأنّ للصوم من حيث هو أحكاما مختلفة باختلاف أزمنة وقوعه ، وله أحكام أخر متعلّقة به لا من حيث هو ، بل باعتبارات أخر خارجة عن حقيقته ، كوقوعه نيابة عن ميّت أو كفّارة أو وفاء بالنذر وشبهه ، فالمتّجه ما ذكره الشهيد في بعض تحقيقاته ، كما تقدّمت الإشارة إليه ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح في مسألة الصوم تطوّعا لمن عليه القضاء.

(ولا بدّ من حضورها) أي النيّة (عند أوّل جزء من الصوم ، أو تبييتها مستمرّا على حكمها) كغيره من العبادات المشروطة بالنيّة حيث يعتبر في صحتها حصولها بجملتها من أوّلها إلى آخرها بقصد الإطاعة ، فلا بدّ فيه وفي غيره ممّا يعتبر فيه حصوله بعنوان الإطاعة من إرادة تفصيلية ناشئة من تصوّر الفعل وغايته ، باعثة له على اختياره بهذا العنوان ، مقارنة لأوّل زمان الأخذ فيه ، أو متقدّمة عليه بشرط بقاء حكمها ، أي باعثيّتها على اختيار الفعل لغايته المتصوّرة.

وقد أشرنا في صدر المبحث إلى أنّ بقاء أثرها في ما لو كان المنوي فعلا وجوديّا يتوقّف على بقاء مرتبة من مراتبها في النفس بنحو من الإجمال ، صالحة لبعث الفاعل على اختياره ، وهذا هو الذي نسمّيه بالداعي.

وأمّا في الصوم ونحوه ممّا كان المنوي ترك فعل ، فلا حاجة إلى

٣٠٧

ذلك ، بل يكفي بقاؤها في النفس شأنا ، بحيث مهما عرضها الالتفات التفصيلي وجدتها باقية غير مرتدعة عنها ، فلا ينافيه عروض الغفلة والنوم ، بل ربما كان من مقتضياته ، كما أوضحناه في ما سبق ، ونبّهنا في ما تقدّم.

على أنّه ليس للنيّة زمان شرعي ؛ كي نتكلّم في وقتها ، بل على تحقّقها قبل الفعل واستمرار حكمها إلى أن يتحقّق الفراغ من الفعل ، كما حقّقناه في نيّة الوضوء (١) ، خلافا لظاهر كلمات أكثر القدماء ، بل المشهور إن لم يكن مجمعا عليه في ما بينهم ، حيث إنّهم اعتبروا في سائر العبادات كونها صادرة عن نيّة تفصيليّة مقارنة لأوّل أجزائها عدا الصوم ، فلم يعتبروا فيه هذا الشرط ، لكونه بالنسبة إلى الصوم مخالفا للضرورة ، فضلا عن منافاته لقاعدة نفي الحرج ، فانّ تحصيل المقارنة غالبا إمّا متعذّر أو متعسّر ، فأجازوا تبييتها في أيّ جزء من الليل مستمرّا على حكمها من باب التوسعة والتسهيل على ما تقتضيه القاعدة في باب العبادات من اشتراط المقارنة.

وحكي (٢) عن بعض العامة تخصيصها بالنصف الأخير ، فكأنّ محطّ نظره : كون جواز التقديم لمكان الحرج والضرورة ، وهي تقدّر بقدرها.

وهو بناء على كون الحكم مخالفا للأصل لا يخلو عن وجه لولا قضاء ضرورة الشرع بجواز النوم من أوّل الليل إلى طلوع فجر اليوم الذي وجب صومه من رمضان أو غيره.

وكيف كان ، فالحقّ ما عرفت من أنّه ليس للنيّة في شي‌ء من

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٩٨ ـ ٩٩ الطبعة الحجرية.

(٢) حكاه العاملي في مدارك الأحكام ٦ : ٢٥ ، وراجع : المجموع ٦ : ٢٩٠ ـ ٢٩١.

٣٠٨

العبادات ، فضلا عن الصوم محلّ شرعيّ تعبّدي ، بل محلّها عقلا قبل الفعل بشرط تأثيرها في وقوعه منويّا. فعلى هذا يجوز تقديمها على الليل أيضا بعد فرض استمرار حكمها إلى زمان حصول الفعل ، ولكن استمرار حكمها من اليوم السابق إلى الغد لا ينفكّ غالبا عن عروض التفات تفصيلي في الليل ، فتصير حينئذ إرادة فعليّة ؛ لأنّه من لوازم بقائها شأنا ، كما تقدّمت الإشارة إليه.

ولأجل ذلك اعتبرنا ـ تبعا للمشهور ـ تبييتها ، أي : إيقاعها في الليل ، وإلّا فليس للّيل من حيث هو خصوصيّة في ذلك ، فلو فرض أنّه عزم من هذا اليوم الذي هو آخر شعبان ـ مثلا ـ أن يصوم الغد الذي هو أول رمضان ، ونام على هذا العزم ، ولم ينتبه إلى الغد ، أو انتبه ولم يلتفت تفصيلا إلى أنّ الغد من رمضان حتى يتجدّد عزمه ، ولكن كان بحيث لو سأله سائل عمّا عليه عزمه في صوم الغد ؛ لأخبره بذلك ، كما هو من لوازم استدامتها حكما ، صحّ صومه بلا إشكال ، كما سيأتي التصريح به في كلام غير واحد في مسألة من نوى صوم رمضان قبل حضوره.

نعم ، مقتضى القاعدة : عدم جواز تأخير النيّة عن الجزء الأوّل ، وإلّا لوقع بعضه بلا نيّة ، وهو ينافي كونه عبادة.

لا يقال : إنّ كونه عبادة لا يقتضي إلّا اختيار فعل المأمور به بقصد إطاعة أمره ، وحيث إنّ المأمور به في المقام هو ترك المفطرات في اليوم صدق عند كونه في الجزء الآخر من اليوم اختياريّا بهذا العنوان أنّه أمسك عن الأكل والشرب وسائر المفطرات في هذا اليوم بقصد إطاعة أمره.

لأنّا نقول : العبرة في صحّة العبادات التي اعتبر فيها قصد الإطاعة

٣٠٩

كون هذا القصد داعيا إلى اختيار الفعل المأمور به من حين الأخذ ، بأن يكون جميعه ـ إن كان مركّبا ذا أجزاء ـ مأتيّا به بقصد الإطاعة ، ولا يكفي فيها اختياريّة كلّه ، أي : مجموعه من حيث المجموع ، الحاصلة باختيار جزئه الأخير المحقّق لصدق حصول المجموع من حيث هو ، وإلّا لم تختلف الحال في ذلك بين الصوم وغيره من العبادات المركّبة المطلوب بها الفعل الوجودي ، كما لا يخفى.

والحاصل : أنّ مقتضى القاعدة : اشتراط صحّة الصوم ووقوعه عبادة بكونه مسبوقا بالنيّة من غير فرق في ذلك بين صوم رمضان وغيره ، ولا بين العامد والساهي.

ويؤيّده : قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، في النبوي المشهور في كتب الفتاوى : لا صيام لمن لم يبيّت الصيام من الليل (١).

ولكن وردت أخبار معتبرة مستفيضة بخلاف ما يقتضيه هذا الأصل ، ومن هنا وقع الكلام في تحديد آخر وقتها.

منها : صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي الحسن عليه‌السلام ، في الرجل يبدو له بعد ما يصبح ويرتفع النهار في صوم ذلك اليوم ليقضيه من شهر رمضان ، ولم يكن نوى ذلك من الليل ، قال : نعم ليصمه ويعتدّ به إذا لم يكن أحدث شيئا (٢).

وصحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : قال علي عليه‌السلام : إذا لم يفرض الرجل على نفسه صياما ثمّ ذكر الصيام قبل أن يطعم طعاما أو يشرب شرابا ولم يفطر ، فهو بالخيار : إن

__________________

(١) راجع : المعتبر ٢ : ٦٤٣ ، ومنتهى المطلب ٢ : ٥٥٨ ، والانتصار : ٦١.

(٢) الكافي ٤ : ١٢٢ / ٤ ، الوسائل : الباب ٢ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ٢.

٣١٠

شاء صام ، وإن شاء أفطر (١).

وموثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، في الرجل يكون عليه أيام من شهر رمضان ، ويريد أن يقضيها ، متى ينوي الصيام؟ قال : هو بالخيار إلى أن تزول الشمس ، فإذا زالت الشمس ، فإن كان نوى الصوم فليصم ، وإن كان نوى الإفطار فليفطر.

سئل : فإن كان نوى الإفطار يستقيم أن ينوي الصوم بعد ما زالت الشمس؟ قال : لا (٢) الحديث.

وخبر الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، في حديث ، قال : قلت له : إنّ رجلا أراد أن يصوم ارتفاع النهار أيصوم؟ قال : نعم (٣).

وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال :من أصبح وهو يريد الصيام ، ثم بدا له أن يفطر ، فله أن يفطر ما بينه وبين نصف النهار ، ثمّ يقضي ذلك اليوم ، فإن بدا له أن يصوم بعد ما ارتفع النهار فليصم ، فإنّه يحسب له من الساعة التي نوى فيها (٤).

وصحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت له : الرجل يصبح ولا ينوي الصوم ، فإذا تعالى النهار حدث له رأي في الصوم ، فقال : إن هو نوى الصوم قبل أن تزول الشمس حسب له يومه ، وإن نواه بعد الزوال حسب له من الوقت الذي نوى (٥).

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٨٧ / ٥٢٥ ، الوسائل : الباب ٢ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ٥.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٨٠ / ٨٤٧ ، الإستبصار ٢ : ١٢١ / ٣٩٤ ، الوسائل : الباب ٢ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ١٠.

(٣) الكافي ٤ : ١٢١ / ١ ، الوسائل : الباب ٢ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ١.

(٤) التهذيب ٤ : ١٨٧ / ٥٢٤ ، الوسائل : الباب ٢ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ٣.

(٥) التهذيب ٤ : ١٨٨ / ٥٢٨ و ٥٣٢ ، الوسائل : الباب ٢ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ٨.

٣١١

وخبر صالح بن عبد الله عن أبي إبراهيم عليه‌السلام ، قلت : رجل جعل لله عليه صيام شهر ، فيصبح وهو ينوي الصوم ، ثمّ يبدو له فيفطر ويصبح وهو لا ينوي الصوم ، فيبدو له فيصوم ، فقال : هذا كلّه جائز (١).

وصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام ، عن الرجل يصبح ولم يطعم ولم يشرب ولم ينو صوما وكان عليه يوم من شهر رمضان ، إله أن يصوم ذلك اليوم وقد ذهب عامّة النهار؟ قال : نعم له أن يصوم ويعتدّ به من شهر رمضان (٢).

ومرسلة أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت له : الرجل يكون عليه القضاء من شهر رمضان ويصبح فلا يأكل إلى العصر ، أيجوز أن يجعله قضاء من شهر رمضان؟ قال :نعم (٣).

وخبر ابن بكير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سئل عن رجل طلعت عليه الشمس وهو جنب ، ثمّ أراد الصيام بعد ما اغتسل ومضى ما مضى من النهار ، قال : يصوم إن شاء ، وهو بالخيار إلى نصف النهار (٤).

وصحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : كان

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٨٧ / ٥٢٣ ، الوسائل : الباب ٢ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ٤.

(٢) التهذيب ٤ : ١٨٧ / ٥٢٦ ، الوسائل : الباب ٢ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ٦.

(٣) التهذيب ٤ : ١٨٨ / ٥٢٩ ، الإستبصار ٢ : ١١٨ / ٣٨٥ ، الوسائل : الباب ٢ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ٩.

(٤) التهذيب ٤ : ٣٢٢ / ٩٨٩ ، الوسائل : الباب ٢٠ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ٣.

٣١٢

أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ يدخل على أهله ، فيقول : عندكم شي‌ء وإلّا صمت ؛ فإن كان عندهم شي‌ء أتوه به ، وإلّا صام (١).

وخبر أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصائم المتطوّع تعرض له الحاجة ، قال : هو بالخيار ما بينه وبين العصر ، وإن مكث حتى العصر ثمّ بدا له أن يصوم وإن لم يكن نوى ذلك فله أن يصوم ذلك إن شاء (٢).

وهذه الأخبار كما تراها صريحة الدلالة على بقاء وقت النيّة وجواز إيقاعها في اليوم في الجملة ، فالكلام حينئذ يقع في مواقع :

الأوّل : في صوم رمضان وشبهه من الواجب المعيّن بنذر وشبهه.

والكلام فيه تارة في العامد ، واخرى في الناسي ومن بحكمه من الجاهل بالموضوع أو الحكم على إشكال في الأخير ، كما سيأتي التكلّم فيه إن شاء الله.

أمّا العامد ، أي : العالم الملتفت إلى الحكم وموضوعه ، فلا يجوز له تأخير النيّة ، بل عليه تبييته من الليل ، بأن يكون الصوم من أوّل اليوم منويّا له ، لخروجه عن موضوع الأخبار أو منصرفها.

(و) أمّا (لو نسيها ليلا) بأن غفل عن كون الغد رمضان ، أو أنّه يجب عليه صومه ، أو كان جاهلا بموضوعه ، بل وكذا بحكمه على الأظهر (جدّدها) أي : أوقعها (نهارا في ما بينه) أي الليل (وبين الزوال) على معنى أنّه يجدّدها حالة الذكر على الفور في هذه المدّة لأن لا يخلو جزء من النهار من النية اختيارا ، لا أنّ له أن يتراخى بها إليه ،

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٨٨ / ٥٣١ ، الوسائل : الباب ٢ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ٧.

(٢) الكافي ٤ : ١٢٢ / ٢ ، الوسائل : الباب ٣ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ١.

٣١٣

فإنّ هذا ممّا لا يساعد عليه دليل.

وأمّا جواز تجديد النيّة عند تذكّره فممّا لم ينقل الخلاف فيه ، إلّا عن ظاهر ابن أبي عقيل من أنّه لم يفرّق بين العامد والناسي في بطلان الصوم مع الإخلال بالنيّة من الليل (١).

وهو وإن كان مقتضى القواعد ، ولكنه مخالف لما يظهر من كلمات الأصحاب من اتّفاقهم في الناسي على أنّه يجدّدها إلى الزوال ، بل عن الغنية وظاهر المعتبر والمنتهى والتذكرة : دعوى الإجماع عليه (٢).

ويشهد له ـ مضافا إلى ما عرفت ـ ما روي : أنّ ليلة الشك أصبح الناس ، فجاء أعرابي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فشهد برؤية الهلال ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مناديا ينادي : كلّ من لم يأكل فليصم ، ومن أكل فليمسك (٣).

فإنّه كما يعمّ الشاكّ يعمّ الغافل والجاهل الذي يزعم عدم انقضاء شعبان ، فإذا جاز مع الجهل بالموضوع بأنحائه ، جاز مع النسيان أيضا ؛ لعدم الفرق بينهما في المعذوريّة ، بل هو في الناسي أولى منه في الملتفت الذي يحتمل كونه من رمضان ، كما هو الغالب في مورد الخبر. وضعفه مجبور باشتهاره بين الأصحاب واعتمادهم عليه.

ويمكن الاستشهاد له أيضا : بفحوى ما دلّ على صحّة صوم المريض والمسافر (٤) ، فإذا صحّ الصوم ممّن لم يتنجّز عليه التكليف بالصوم بفقد

__________________

(١) كما في مدارك الأحكام ٦ : ٢٢ ، وحكاه العلامة الحلّي في مختلف الشيعة : ٢١٢.

(٢) حكاه الشيخ الأنصاري في كتاب الصوم : ٥٨٢ ، وراجع : الغنية (الجوامع الفقهية) : ٥٠٨ ، والمعتبر ٢ : ٦٤٦ ، ومنتهى المطلب ٢ : ٥٥٨ ، وتذكرة الفقهاء ١ : ٢٥٦.

(٣) كما في جواهر الكلام ١٦ : ١٩٧ ـ ١٩٨ ، وفي سنن البيهقي ٤ : ٢١٢ باختلاف في اللفظ.

(٤) راجع : الوسائل : الباب ٦ من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الأحاديث ٤ ـ ٧. ولم نعثر على ما يدلّ على حكم المريض خصوصا.

٣١٤

شرائط التكليف ، فممّن لم يتنجّز عليه لغفلته أو الجهل بموضوعه أولى ، فليتأمّل.

ويمكن الاستدلال أيضا : بالأخبار السابقة ، بدعوى : أنّه يستفاد منها استفادة قطعية : أنّ ماهيّة الصوم من حيث هي لا تتوقّف على تبييت النيّة ، ولكنّها منصرفة عن الواجب المعيّن الذي تنجّز التكليف به من الليل ، ولم يكن للمكلّف تركه وتأخير النيّة عمدا ، سواء كان تعيّنه عليه بالأصالة ، كشهر رمضان ، أو صوم اليوم الذي نام عن عشاء ليلته إن قلنا بوجوبه ، أو بالعرض كالنذر المعيّن ، أو المطلق الذي تضيّق زمانه ، أو القضاء الذي ضاق وقته.

وأمّا ما كان المكلّف معذورا في ترك تبييت النيّة فيه ولو لجهله بالحكم ، كأن لم يعلم بوجوب الصوم على من نام عن العشاء ، فعلم به بعد أن أصبح ، ولم يكن تناول المفطر ، فلا نسلّم انصراف بعض الأخبار المطلقة عنه.

كما أنّا لا نسلّم انصراف ما ورد في القضاء أو النذر عن النذر المعيّن والقضاء المضيّق الذي لم يلتفت المكلّف إليه إلّا بعد الصبح.

ولو سلّم الانصراف ، فهو بدويّ منشأه : ندرة الوجود.

ولو سلّم ورودها في خصوص الواجب الموسّع ، فنقول : إنّه يستفاد منها حكم المضيّق الذي كان المكلّف معذورا في تركه للتبييت بالفحوى وتنقيح المناط.

ولذا لو قال المجتهد لمقلّديه : إنّه يجوز تجديد نيّة الصوم في اليوم ، واحتسابه عمّا وجب عليه بنذر أو كفّارة أو قضاء ، فهم من ذلك تعيّنه عليه عند تضييق الوقت وعدم قدرته عن الخروج عن عهدة التكليف بذلك الواجب إلّا في هذا اليوم.

٣١٥

وكيف كان ، فلا شبهة في الحكم بعد عدم معروفيّة الخلاف فيه ، واعتضاده بما عرفت.

وأمّا انتهاء وقتها عند الزوال فهو المشهور بين الأصحاب في الصوم الواجب ، كما يدلّ عليه موثّقة عمّار المتقدّمة (١) ، بل وكذا صحيحة هشام بن سالم (٢) ، فإنّها تدلّ على أنّ النيّة بعد الزوال لا تؤثّر في احتسابه صوم يوم كامل حتى يصحّ وقوعه قضاء من رمضان أو أداء لواجب آخر ، ولهذا يتعيّن حملها على النافلة القابلة لأن يحسب له من الوقت الذي نوى.

وكذا قوله عليه‌السلام في خبر ابن بكير المتقدّم (٣) : «هو بالخيار إلى نصف النهار» إذ المراد بالصوم المفروض موضوعا في هذا الخبر : إمّا مطلقة ، كما هو الظاهر ، أو خصوص الواجب ، أو خصوص المندوب.

أمّا على الأوّلين : فيدلّ على الدّعي بمنطوقه. وعلى الأخير : فبالفحوى وعدم القول بالفصل.

ولكن يتمّ الاستدلال به حينئذ إن قلنا به في النافلة ، وإلّا فلا يصحّ الأخذ بمفهومه وطرح منطوقه ، أو ارتكاب التأويل فيه كما هو واضح.

ويظهر من ابن الجنيد القول بجواز تجديدها بعد الزوال أيضا حيث حكي عنه (٤) أنّه قال : ويستحب للصائم فرضا ونفلا أن يبيّت الصيام من الليل لما يريده به ، وجائز أن يبتدئ بالنيّة وقد بقي بعض النهار ،

__________________

(١) تقدّمت في صفحة ٣١١.

(٢) تقدّمت في صفحة ٣١١.

(٣) تقدّم في صفحة ٣١٢.

(٤) حكاه العاملي في مدارك الأحكام ٦ : ٢٣ ـ ٢٤ ، والعلامة الحلّي في مختلف الشيعة : ٢١٢.

٣١٦

ويحتسب به من واجب إذا لم يكن أحدث ما ينقض الصيام ، ولو جعله تطوّعا كان أحوط. انتهى.

فإنّه بإطلاقه يعمّ ما بعد الزوال أيضا.

وحكي (١) عن المفاتيح والذخيرة موافقته ؛ لصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج ، ومرسلة أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي ، المتقدّمتين (٢) ، اللّتين وقع في أولاهما التصريح في السؤال بذهاب عامّة النهار. وفي ثانيتهما التصريح بأنّه لا يأكل إلى العصر ، أيجوز أن يجعله قضاء؟

واحتمال أن يكون المراد بذهاب عامّة النهار صيرورته قريبا من الزوال بملاحظة أنّ من طلوع الفجر إلى الزوال أو قريبه أكثر ممّا بعده ، مع كونه في حدّ ذاته في غاية البعد لا يصحّح تنزيل إطلاق الجواب عليه ، كما ارتكبه غير واحد في مقام توجيه الخبر وتطبيقه على مذهب المشهور.

كما أنّ ما ذكروه في توجيه الخبر الثاني بتنزيله على من ترك الأكل إلى العصر بنيّة جنس الصوم ، ثمّ بدا له بعد العصر أن يجعله قضاء من شهر رمضان لا يخلو أيضا عن بعد.

مع أنّ الالتزام بجواز احتسابه قضاء بعد العصر بناء على اعتبار قصد عنوانه في سقوط التكليف به ليس بأهون من الالتزام بجواز تجديد النيّة رأسا.

فالإنصاف : أنّ الخبرين إن لم نقل بإبائهما عن مثل هذه التأويلات ، فلا أقلّ من أنّ التصرّف فيهما بإرجاعهما إلى ما لا ينافي

__________________

(١) كما في كتاب الصوم للشيخ الأنصاري : ٥٨٣ ، وراجع : مفاتيح الشرائع ١ : ٢٤٤ ، وذخيرة المعاد : ٥١٤.

(٢) تقدّمتا في صفحة ٣١٢.

٣١٧

المشهور أبعد من صرف الأخبار التي أوردناها دليلا للمشهور إلى ما لا ينافي هذين الخبرين ، بحمل ما فيهما من التحديد بالزوال حدّا للصوم الكامل الذي لا منقصة فيه. كما ربّما يشهد له قوله ـ عليه‌السلام ـ في صحيحة هشام بن سالم : وإن نواه بعد الزوال ، حسب له من الوقت الذي نواه (١) إذ الظاهر أنّه لم يقصد به تبعّض الصوم ، بل عدم استحقاقه الأجر إلّا بهذا المقدار.

وقد ورد هذا المضمون في صحيحة ابن سنان المتقدّمة (٢) أيضا ، مع أنّ المنساق من موردها إرادة ما قبل الزوال الذي لا شبهة في صحّته.

والحاصل : أنّ ارتكاب التأويل في تلك الأخبار : بإرجاعها إلى ما لا ينافي الخبرين الأخيرين أهون من عكسه بالنظر إلى نفس الأخبار من حيث هي.

ولكن يشكل الالتزام به بعد اعتماد المشهور على ظواهر تلك الأخبار ، وإعراضهم عن هذين الخبرين ، حتى أنّ بعضا منهم رموهما بالشذوذ ، وآخرين منهم ارتكبوا تأويلا بعيدا فيهما ؛ فرارا عن طرحهما ؛ لأنّا لو لم نقل بأنّ إعراض الأصحاب عن خبر يسقطه عن الحجّية ، فلا أقلّ من أنّه يورث وسوسة في النفس تمنعها عن تحكيمه على سائر الأدلّة المعتبرة المنافية له.

هذا ، مع أنّ ارتكاب التأويل في موثّقة عمّار : بحملها على الكراهة بالنسبة إلى ما بعد الزوال ـ كما هو محصّل الجمع المزبور ـ لا يخلو عن بعد ؛ إذ لا وقع لسؤاله ثانيا عن أنّه هل يستقيم أن ينوي الصوم بعد ما

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٨٨ / ٥٣٢ ، الوسائل : الباب ٢ من أبواب وجوب الصوم ، الحديث ٨.

(٢) تقدّمت في صفحة ٣١١.

٣١٨

زالت الشمس بعد أن أجابه الإمام عليه‌السلام أوّلا : بتحديد وقت النيّة إلى الزوال ، وفرّع عليه قوله : «فإذا زالت الشمس ، فإن كان نوى الصوم فليصم ، وإن كان نوى الإفطار فليفطر» إلّا بملاحظة احتمال إرادة الكراهة غير المنافية لصحّة الصوم ، فسؤاله ثانيا بحسب الظاهر ليس إلّا عن صحّته ولو على سبيل المرجوحية ، فهذه الموثّقة لدى التأمّل إ في ما ذهب إليه المشهور.

فالحقّ : أنّ الأخبار معارضة ، والترجيح مع الموثّقة المعتضدة بالشهرة وغيرها ممّا عرفت.

(ولو زالت الشمس ، فات محلّها واجبا كان الصوم) كما عرفت (أو ندبا) على قول.

(وقيل : يمتدّ وقتها إلى الغروب لصوم النافلة) أي إلى قريب منه بأن يبقى بعد النيّة من الزمان ما يمكن صومه ، لا أن يكون انتهاء النيّة مع انتهاء النهار.

(والأوّل) على ما ادّعاه المصنّف ـ رحمه‌الله ـ (أشهر.)

وفي المدارك نسبه إلى الأكثر (١) وفي المسالك : إلى المشهور (٢).

ولعلّ منشأ هذه النسبة : إطلاق كلمات كثير منهم ، وإلّا فقد حكي القول بالامتداد إلى الغروب عن السيّد ، والشيخ في المبسوط ، والحلّي ، والعلّامة ، والشهيدين (٣). بل عن الانتصار والغنية والسرائر :

__________________

(١) مدارك الأحكام ٦ : ٢٥.

(٢) مسالك الأفهام ١ : ٦٧.

(٣) حكاه صاحب الجواهر فيها ١٦ : ١٩٦ وكما في كتاب الصوم للشيخ الأنصاري : ٥٨٣ ، وراجع : الانتصار : ٦٠ ، والمبسوط ١ : ٢٧٨ ، والسرائر ١ : ٣٧٣ ، والتحرير ١ : ٧٦ ، والدروس : ٧٠ ، ومسالك الأفهام ١ : ٦٧ و ٦٨.

٣١٩

الإجماع عليه (١) ، وعن المنتهى نسبته إلى الأكثر (٢).

وكيف كان ، فهذا هو الأقوى ، كما صرّح به غير واحد من المتأخّرين إن لم يكن جميعهم ، كما يدلّ عليه صحيحة هشام ورواية أبي بصير المتقدّمتان (٣).

ففي أولاهما : التصريح بأنّه : إن نواه بعد الزوال حسب له من الوقت الذي نوى.

وفي ثانيتهما : وإن مكث حتى العصر ، ثمّ بدا له أن يصوم وإن لم يكن نوى ذلك ، فله أن يصوم ذلك إن شاء ، مع ورود الثانية في خصوص النافلة ، وكون النافلة بالخصوص هي القدر المتيقّن من إطلاق أولاهما.

ويشهد له أيضا : إطلاق صحيحة محمد بن قيس ، المتقدّمة (٤).

واستدلّ للقول الآخر : بقوله عليه‌السلام ، في خبر ابن بكير المتقدّم (٥) ، الوارد في من طلعت عليه الشمس وهو جنب يصوم إن شاء ، وهو بالخيار إلى نصف النهار.

وفيه ما لا يخفى من عدم صلاحيّته لمكافئة ما عرفت لا سندا ولا دلالة ، خصوصا مع صلاحيّة صحيحة هشام بمدلولها اللفظي قرينة لصرف هذه الرواية عن ظاهرها ، كما هو واضح.

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ١٦ : ١٩٦ ، وكتاب الصوم للشيخ الأنصاري : ٥٨٣ ، وحكاه عنها صاحب الرياض فيها ١ : ٣٠٢ ، وراجع : الانتصار : ٦٠ ، والغنية (الجوامع الفقهية) : ٥٠٨ ، والسرائر ١ : ٣٧٣ ، والمنتهى ١ : ٥٥٩.

(٢) كما في جواهر الكلام ١٦ : ١٩٦ ، وكتاب الصوم للشيخ الأنصاري : ٥٨٣ ، وحكاه عنها صاحب الرياض فيها ١ : ٣٠٢ ، وراجع : الانتصار : ٦٠ ، والغنية (الجوامع الفقهية) : ٥٠٨ ، والسرائر ١ : ٣٧٣ ، والمنتهى ١ : ٥٥٩.

(٣) تقدّمتا في صفحتي ٢١١ و ٢١٣.

(٤) تقدّمت في صفحة ٢١٠.

(٥) تقدّم في صفحة ٢١١.

٣٢٠