مصباح الفقيه - ج ١٤

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٩

وما تجده في النفس من الوسوسة فيه فليس ذلك إلّا لتطرّق الاحتمال المزبور من تشريع هذا الحكم لاستيفاء الحق المتعلّق بالأراضي العشرية من الزكاة أو الخراج ، وإلّا فلو علم بإرادته من نفس الأرض التي يشتريها الذمّي أو قيمتها ولو لم تكن من أرض الخراج ، بل ولا من المزارع ـ كما يقتضيه إطلاق النصّ ـ فلا يكاد يتوهّم منه إلّا إرادة خمسها لأصحاب الخمس المعروفين في الشريعة ـ زاد الله شرفهم ـ كما يؤيّد ذلك فهم الأصحاب وعدم نقل خلاف فيه من أحد ، والله العالم.

ثم إنّ مقتضى الجمود على ظاهر النصّ والفتوى قصر الحكم المزبور على خصوص ما لو اشتراها الذمّي من مسلم ، ولكن صرّح كاشف الغطاء بعمومه لما تملّكها منه بعقد معاوضة كائنة ما كانت دون الانتقال المجاني.

وعن ظاهر الشهيدين عمومه حتى في الانتقال المجاني.

قال شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ : وهل الحكم المذكور يختصّ بالشراء ، كما هو ظاهر المشهور ، أو يعم مطلق المعاوضة ، كما اختاره كاشف الغطاء ، أو مطلق الانتقال ولو مجّانا ، كما هو ظاهر الشهيدين؟ فيه إشكال : من اختصاص النصّ والفتوى بالشراء ، ومن عمومه عرفا لسائر المعاوضات ، ومن أنّ المناط هو الانتقال ، كما يستفاد من نقل أقوال العامة والخاصة في المعتبر والمنتهى والتذكرة ، حيث إنّ ظاهر الأقوال المذكورة عن العامة في مقابل الإمامية هو : مطلق الانتقال.

مضافا إلى الاستدلال على مذهب الإمامية في المنتهى بقوله : لنا : أنّ في إسقاط العشر إضرارا بالفقراء ؛ فإن تعرّضوا لذلك ضوعف عليهم (فأخرج الخمس) (١).

__________________

(١) ورد بدل ما بين القوسين في النسخة الخطية : فالخمس ، وفي الطبع الحجري : بالخمس. وفي المصدر في الموضع الأول منه كما في النسخة الخطية ، وكلاهما تصحيف. وفي الموضع الثاني من المصدر كما أثبتناه ، وهو موافق لما في المنتهى ١ : ٥٤٩ ، وهو الصحيح.

١٤١

ويؤيده : ما رواه الشيخ عن أبي عبيدة الحذّاء ـ فذكر الرواية المتقدّمة (١).

وهذا الاستدلال وإن كان في غاية الضعف من وجوه لا تخفى ، إلّا أنّه لا يخرج بذلك عن الدلالة.

على أنّ مراد المستدلّ ، بل غيره من القائلين الذين استدلّ لهم بذلك هو : مطلق الانتقال ، ولأجل ما ذكرنا عنون المسألة في المفاتيح : بالأرض المنتقلة إلى الذمّي ، ونسب الحكم فيها إلى الأكثر. والمسألة لا تخلو عن إشكال (٢). انتهى.

أقول : فالاقتصار في الحكم المخالف للأصل على مورد النصّ أشبه بالقواعد. مع أنّ دعوى أنّ المناط هو مطلق الانتقال إنّما يتّجه لو علم أنّ المقصود بشرع هذا الحكم هو استيفاء الحق المتعلّق بالأرض المنتقلة إليه من عشر أو خراج ، كما يلوح به الاستدلال المحكي عن المنتهى ، وهو لا يناسب ثبوته لأرباب الخمس ، ولا تعلّقه بمطلق الأرض التي يشتريها الذمّي ، كما تقدّمت الإشارة إليه ، فهو حكم تعبّدي محض يشكل التخطّي عن مورده.

اللهم إلّا أن يصرف النصّ عن ظاهره : بحمله على إرادة تضعيف العشر في الأراضي العشرية ، فيتّجه حينئذ التعدّي عن مورده بتنقيح المناط ، ولكنه هدم للأساس ، كما لا يخفى.

__________________

(١) تقدمت في صفحة ١٣٨.

(٢) كتاب الخمس للشيخ الأنصاري : ٥٣٧ و ٥٦٧ ، وراجع : كشف الغطاء : ٣٦١ ، والبيان :٢١٧ ، والروضة البهية ٢ : ٧٢ ، ومفاتيح الشرائع ١ : ٢٢٦.

١٤٢

ثم إنّ مقتضى إطلاق النصّ والفتوى عدم اختصاص الحكم بأرض الزراعة ، بل مطلق الأرض التي اشتراها الذمّي من مسلم ولو أرض المسكن والبساتين ونحوهما ، كما هو صريح جماعة ، خلافا لما حكي (١) عن الفاضلين في المعتبر والمنتهى ، فخصّاه بأرض الزراعة ، واستجوده في المدارك (٢) ؛ نظرا إلى شيوع إطلاق اسم الأرض على أرض الزراعة ، وعدم تعارف التعبير عن الدار والمسكن والبساتين ونحوها إلّا بأساميها الخاصة ، فلو سئل عمّا يملكه فلان ، فقيل له : شي‌ء من الأرض ، أو أمر عبده بشراء شي‌ء من الأرض ، لا يتبادر منه إلّا إرادة المزرع.

وفيه : أنّ هذا إنّما هو لأجل المناسبات المغروسة في الذهن المقتضية للصرف في خصوصيّات الموارد ، ولذا لا ينصرف إليها في مثل قولهم : «الأرض تطهّر باطن النعل» وقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) (٣) إلى غير ذلك من الموارد.

والحاصل : أنّ نفس الأرض من حيث هي مهما أطلقت لا ينسبق إلى الذهن منها إلّا نفسها من حيث هي ، وإنّما ينسبق إلى الذهن بعض أنواعها في بعض الموارد لقرائن حالية ونحوها ، وفي ما نحن فيه لا مقتضي للصرف عن الأرض البياض التي اشتراها لأن يعمّرها دارا أو مسكنا أو بستانا ونحوه وإن لم تكن بالفعل قابلة للزرع ولا معدودة لدى العرف من أرض الزراعة.

__________________

(١) حكاه الشيخ الأنصاري في كتاب الخمس : ٥٣٧ ، وراجع : المعتبر ٢ : ٦٢٤ ، ومنتهى المطلب ١ : ٥٤٩.

(٢) مدارك الأحكام ٥ : ٣٨٦.

(٣) الفقيه ١ : ١٥٥ / ٧٢٤ ، الخصال ١ : ٢٩٢ / ٥٦ ، الوسائل : الباب ٧ من أبواب التيمم ، الحديث ٢ و ٤.

١٤٣

نعم ربما تنصرف عن الأراضي المشغولة بالفعل بالعمارة والأشجار ونحوها ممّا يطلق عليه بالفعل اسم الدار والحمام والبستان ونحوه ، لا لانصراف اسم الأرض عن أرضها ، بل لأنّ دخول الأرض في المبيع في مثل هذه الأشياء إنّما هو بالتبع ، فهي بعنوان أرضيتها غير متعلّقة للشراء ، بل بعنوان جزئيّتها للحمام مثلا ، ولذا لا يقال عرفا : اشترى الأرض ؛ بل يقال : اشترى الحمام.

فإن أراد الفاضلان بأرض الزراعة خصوصها فدعوى الانصراف ممنوعة. وإن أرادا بها ما يقابل الأرض المشغولة التي لا يطلق على شرائها اسم شراء الأرض ، فهو لا يخلو عن وجه وإن كان دعوى الانصراف عن أرض الدار والحمام ونحوها أيضا إذا كانت بعنوان أرضيّتها متعلّقة للشراء ، كما لو كانت عمارتها مثلا لشخص ، وأرضها لشخص آخر ، فاشترى أرضها من صاحبها دون عمارتها ، أو اشترى مجموعهما من صاحبيهما على وجه تكون أرضها بهذا العنوان ملحوظة بالشراء لا تخلو عن تأمّل ، بل منع.

فيتّجه حينئذ التفصيل بين ما لو اشترى ذمّي أرضا من مسلم ولو أرض دار أو حمام أو دكان ونحوه ، أو اشترى نفس الدار والحمام والدكان فعليه الخمس في الأوّل حيث يصدق عليه أنّه اشترى أرضا بخلاف الثاني.

لا يقال : إنّه إذا ثبت في الأول يثبت في الثاني أيضا ؛ لعدم القول بالفصل.

لأنّا نقول : كثير من الأصحاب لم يعبّروا إلّا بمثل ما ورد في النص ، فكلامهم أيضا إ ينصرف عن مثل الفرض ، فمن أين يعلم التزامهم بثبوت الخمس فيه ؛ كي يمكن ادّعاء عدم القول بالفصل؟

١٤٤

وأشكل منه دعوى تنقيح المناط ؛ لما أشرنا إليه آنفا من كون الحكم تعبّديّا محضا ، ولذا أشكل التخطّي عن مورد النصّ إلى سائر أنحاء الانتقال ، فكيف يمكن القطع بالمناط.

فالإنصاف أنّ القول بوجوب الخمس في مثل الفرض لا يخلو عن إشكال لا لدعوى كون شراء الأرض في مثل هذه الموارد ضمنيّا وهو خلاف ما يتبادر من النصّ ؛ فإنّها ممنوعة ؛ إذ لا فرق بين الشراء الضمني والاستقلالي في صدق شراء الأرض ، بل لكونه تبعيّا كغيرها من أجزاء الدار من الجص والآجر والأحجار والأخشاب ونحوها ممّا لا يكون بعناوينها الخاصة مقصودة بالشراء.

هذا ، ولكن قد يغلب على الظنّ أنّ كلّ من قال بثبوت الخمس في أرض الدار ونحوها لو اشتراها مستقلّة قال به لو انتقلت إليه تبعا لشراء الدار ، إلّا أنّ التعويل على مثل هذا الظنّ في استكشاف رأي المعصوم من فتاوى الأصحاب مشكل ، فالمسألة موقع تردّد.

والأشبه بالقواعد هو الاقتصار في الحكم المخالف للأصل على مقدار دلالة الدليل وهو كل مورد يصحّ أن يطلق عليه في العرف أنّه اشترى الأرض من غير مسامحة أو تأوّل.

(سواء كانت ممّا فيه الخمس كالأرض المفتوحة عنوة) حيث يصحّ بيعها ، كما لو باعها الإمام في مصالح المسلمين ، أو باعها أهل الخمس من سهمهم الذي وصل إليهم ، أو غير ذلك من الموارد التي يصحّ بيعها ، بل قد يقال في المبيع منها تبعا للآثار ، بناء على حصول الملك للمتصرّف بذلك وإن كان يزول بزوال تلك الآثار ، كما عن جمع من المتأخّرين (١) التصريح به.

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ١٦ : ٦٦.

١٤٥

وفيه تأمّل ، بل منع ؛ فإنّا إن سلّمنا صدق اسم الملكية على مثل هذا الحقّ ، فنقول : إنّ المتبادر من النصّ إنّما هو الشراء الموجب لانتقال الأرض إليه على الإطلاق ، خصوصا لو لم نقل بجواز تعلّق الشراء بنفس الأرض من حيث هي إلّا بالتبع ، لا بعنوان كونه شراء الأرض ، كما يظهر وجهه ممّا مرّ آنفا.

فما ذكره شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ بعد أن نفي الإشكال عن ثبوته على تقدير الملكية ، تبعا للآثار ما لفظه : وإن قلنا : بأنّ المملوك نفس الآثار ، وإنّما يصحّ بيع العين في ضمن الآثار ، فيقع الإشكال في تعلّق الخمس من أنّ الذمّي لا يملك أرضا حتّى يخرج خمسها ، ومن صدق أنّه اشترى أرضا ولو تبعا وإن لم يملكها حقيقة ، ولذا يقال : إنّه اشترى الأرض المفتوحة عنوة ، فعليه الخمس باعتبار استحقاق الأرض تبعا للآثار فتقابل الأرض من حيث إنّها مستحقّة غير مملوكة بمال ، فعليه خمس ذلك المال (١). انتهى ؛ لا يخلو عن نظر.

وإطلاق شراء الأرض عرفا في مثل المقام إن كان فهو إمّا من باب المسامحة أو من حيث إنّه يرونها ملكا حقيقيا للمتصرّف ، وما يؤخذ منهم من الخراج إنّما يؤخذ منهم ظلما وعدوانا ، ولذا لا يستنكرون سرقته أو إنكاره ، أو أنّهم يرونه من قبيل الحقوق المتعلّقة بأموالهم من حيث الحراسة ونحوها.

والحاصل : أنّ من يرى من العرف أنّ ما يؤخذ منه الخراج بمنزلة أجرة الأرض لا يقول إنّه اشترى الأرض إلّا تجوّزا ، فلا ينبغي التأمّل في خروجه عن موضوع النصّ ، فضلا عن منصرفه.

__________________

(١) كتاب الخمس : ٥٣٧.

١٤٦

(أو) كانت ممّا (ليس فيه) الخمس (كالأرض التي أسلم عليها أهلها) لإطلاق الدليل.

فما عن المحقّق الأردبيلي وبعض من تبعه من المناقشة في الأول : بعدم جواز بيع الأرض المفتوحة عنوة ؛ لعدم ملك أحد بالخصوص لها ، ولزوم تكرار الخمس فيها (١) ؛ فكأنّه في غير محلّه ؛ لما أشرنا إليه من صحّة بيعها في بعض الصور.

وأمّا تكرار الخمس فلا محذور فيه بعد اختلاف جهتي الوجوب ، خصوصا لو تعلّق الشراء بها بعد تخميسها.

ونظيره في الضعف : توهّم اختصاصه بالأوّل بحمل النصّ على إرادة الخمس المتعلّق بها في الأصل ، وأنّه يجب استيفاؤه من الذمّي ، وليس حالها حال سائر ما يملكه الذمّي ابتداء ممّا يتعلّق به الخمس من المعادن ونحوها ممّا يقرّر على مذهبه ؛ لظهور النصّ في كونه حكما تعبّديّا مسبّبا عن شراء الذمّي لها من مسلم مطلقا ، فلا دخل له بخمس أصلها كي يتوهم اختصاصه بمورد ثبوته.

ولا يسقط هذا الخمس ببيعها ثانيا لمسلم وإن كان الأوّل ، بل وكذا لا يسقط لو ردّها إليه بالإقالة ؛ لأنّها فسخ من حينها ، فلا يؤثّر في إسقاط الحق الثابت بسبب سابق عليه ، بل قد يقال بعدم سقوطه أيضا في ما لو ردّها بخيار كان له بشرط أو غيره ؛ لإطلاق النصّ.

ولكنّه لا يخلو عن تأمّل ، خصوصا في مثل خيار المجلس ؛ لإمكان دعوى أنّ المتبادر من النصّ الشراء الغير المتزلزل.

ثمّ لو قلنا بثبوته ، فيشكل ردّه بناء على تعلّقه بالعين ـ كما هو

__________________

(١) حكاه صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٦٦ ، وراجع : مجمع الفائدة والبرهان ٤ : ٣١٩.

١٤٧

الأظهر ـ إلّا برضى البائع بقبول ما عداه ، أو بإرضاء أرباب الخمس بقبول قيمته على إشكال ينشأ من أنّ صيرورة بعضه مستحقا للغير بمنزلة التصرّفات المسقطة للخيار ، ولكنّه لا يخلو عن بحث.

وكذا لا يسقط بإسلامه بعد صيرورة الأرض ملكه ، بخلاف ما لو أسلم قبل تمام العقد أو حصول القبض في ما لو كان القبض شرطا في تأثيره.

ولو تملّك ذمّي من مثله فأسلم البائع قبل الإقباض أخذ من الذمّي الخمس على ما صرّح به بعض (١).

ولكنّه لا يخلو عن نظر ؛ لخروجه عن منصرف النصّ.

ثمّ إنّ وجوب الخمس على الذمّي حكم تعبّدي شرعي ليس جهل المشتري به موجبا لخياره في فسخ البيع من حيث تضرّره ، فإنّ نفس المعاملة من حيث هي ليست ضرريّة ؛ كي يثبت فيها الخيار ، كما لا يخفى.

ويتخيّر من إليه أمر الخمس بين أخذ رقبة الأرض وبين [أخذ] (٢) ارتفاعها من إجارة وحصة مزارعة ونحوهما ، كما صرّح به غير واحد ، ولكن ينبغي تقييده عند إرادة الأجرة ونحوها برضى الذمّي ؛ فإنّ له الخروج عن عهدة الخمس بدفعه من العين ، فلا يجب عليه الالتزام بالأجرة لو أرادها أرباب الخمس.

وعن الحدائق أنّه قال : الأقرب : التخيير إذا لم تكن الأرض مشغولة بغرس أو بناء ، وإلّا تعيّن الأخذ من الارتفاع.

وطريقه أن تقوّم الأرض مع ما فيها بالأجرة ، وتقوّم الأجرة على ما

__________________

(١) وهو صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٦٧.

(٢) زيادة يقتضيها السياق.

١٤٨

للمالك وعلى خمس الأرض ، فيأخذ مستحقّ الخمس ما يخصّ الخمس من الأجرة (١). انتهى.

وهو جيّد ؛ إذ ليس لأهل الخمس إلزامه بقلع الغرس أو البناء بعد كونه موضوعا بحق ، فليس لهم إلّا الرضى ببقائه بالأجرة ، ولا حاجة حينئذ إلى تقويم نفس الأرض إلّا إذا توقّف معرفة أجرتها على معرفة قيمتها ؛ إذ الأجرة قد تختلف باختلاف القيمة ، وليس للذمّي دفع القيمة عوضا عن خمس الأرض إلّا برضى مستحقّه.

وعليه فهل هو بمنزلة شرائه منه ثانيا حتى يثبت فيه أيضا الخمس؟

وجهان ، أوجههما : العدم ؛ فإنّ هذا لا يعدّ في العرف شراء للخمس الذي هو من الأرض ، بل هو لديهم خروج عن عهدة الخمس المتعلّق بالأرض التي اشتراها بدفع قيمته ، فلا يندرج عرفا في المعاوضات ، فضلا عن أن يطلق عليه اسم الشراء ، والله العالم.

(السابع) ممّا يجب فيه الخمس : (الحلال إذا اختلط بالحرام ولا يتميّز) أحدهما ، ولا يعرف صاحبه ولو إجمالا في قوم محصورين ، ولا قدره ولو إجمالا بأنّه أقلّ من الخمس أو أكثر ، بل كان مردّدا بينهما (وجب فيه الخمس.)

فهاهنا صور أربع :

الاولى : أن يكون قدر الحرام المختلط بالحلال وصاحبه كلاهما مجهولين ، ففي هذه الصورة قال في المدارك : قد قطع الشيخ وجماعة

__________________

(١) حكاه صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٦٨ ، وراجع : الحدائق الناضرة ١٢ : ٣٦٢.

١٤٩

بوجوب إخراج الخمس ، وحلّ الباقي بذلك (١). بل عن بعض نسبته إلى المشهور (٢) ، بل عن ظاهر الغنية أو صريحها دعوى الإجماع عليه (٣).

واستدلّ له بجملة من الأخبار :

منها : ما عن الصدوق في الخصال بسنده ـ الصحيح ـ إلى الحسن بن محبوب عن عمّار بن مروان ، قال : سمعت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ يقول : «في ما يخرج من المعادن والبحر ، والغنيمة ، والحلال المختلط بالحرام إذا لم يعرف صاحبه ، والكنوز الخمس» (٤).

ومنها : خبر الحسن بن زياد عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، قال : «إنّ رجلا أتى أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ ، فقال : يا أمير المؤمنين إنّي أصبت مالا لا أعرف حلاله من حرامه ، فقال : أخرج الخمس من ذلك المال ، فإنّ الله عزوجل (٥) قد رضي من المال بالخمس ، واجتنب ما كان صاحبه يعلم (٦)» (٧).

وفي دلالة هذه الرواية على المدّعى تأمّل ؛ فإنّه يظهر من ذيلها أنّها وردت في من أصابه مال من شخص آخر لم يكن ذلك الشخص مباليا في كسبه بالحلال والحرام ، وكانت أمواله مجتمعة من الحلال والحرام ، فيحتمل أن يكون المراد بالخمس هو الخمس المعروف الذي قد رضي الله

__________________

(١) مدارك الأحكام ٥ : ٣٨٧ ، وراجع : النهاية : ١٩٧ ، والمبسوط ١ : ٢٣٦.

(٢) حكاه عن صاحب المفاتيح في الجواهر ١٦ : ٧٠ ، وراجع : مفاتيح الشرائع ١ : ٢٢٦.

(٣) حكاه صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٧٠ ، وراجع : الغنية (الجوامع الفقهية) : ٥٠٧.

(٤) الخصال ١ : ٢٩٠ / ٥١ ، الوسائل : الباب ٣ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٦.

(٥) في التهذيب وهامش النسخة : تعالى.

(٦) في التهذيب والنسخة الخطية : يعمل بدل يعلم.

(٧) التهذيب ٤ : ١٢٤ / ٣٥٨ ، الوسائل : الباب ١٠ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ١.

١٥٠

تعالى في كلّ مال استفاده من حيث كونه غنيمة ، لا من حيث كونه ممّا لا يعرف حلاله من حرامه.

وأمّا من هذه الجهة فله المهنأ ووزره على الآخر ، كما يناسبه التعليل ، ضرورة أنّ الله تعالى رضي من المال الذي اكتسبه بالخمس ، لا من مال الغير الذي استولى عليه عدوانا ، فعلى هذا التقدير يمكن تطبيق ما في الخبر على القواعد بتنزيله على الغالب من عدم إصابة مال ذلك الشخص كلّه إليه ، واحتمال كون ما وصل إليه من حلاله ولو بعيدا ، كما هو الشأن في ما يؤخذ من السارق والعامل.

ويحتمل وروده في ما كان حلاله وحرامه باعتبار اشتماله على الربا ونحوه ممّا ورد في كثير من الأخبار العفو عنه في مثل الفرض ، كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : أتى رجل أبي فقال : إنّي ورثت مالا وقد علمت أنّ صاحبه الذي ورثته منه قد كان يربي وقد أعرف أنّ فيه ربا وأستيقن ذلك وليس يطيب لي حلاله لحال علمي به ، وقد سألت فقهاء أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا : لا يحلّ لك أكله ، فقال أبو جعفر ـ عليه‌السلام ـ : «إن كنت تعلم بأنّ فيه مالا معروفا ربا ، وتعرف أهله فخذ رأس مالك ، وردّ ما سوى ذلك ، وإن كان مختلطا فكله هنيئا ، فإنّ المال مالك ، واجتنب ما كان صاحبه يصنع» (١) الحديث ، إلى غير ذلك من الأخبار التي سنشير إلى بعضها.

هذا ، مع إمكان أن يكون الحكم في الواقع في ما يؤخذ من مثل العامل والسارق إباحته للآخذ ما لم يعلم حرمته بالتفصيل وإن علم إجمالا بعدم

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٤٥ / ٥ ، التهذيب ٧ : ١٦ / ٧٠ ، الفقيه ٣ : ١٧٥ / ٧٨٩ ، الوسائل : الباب ٥ من أبواب الربا ، الحديث ٣.

١٥١

خلوصه من حرام لم يتميّز عينه ، ولا يعرف صاحبه ، وصيرورته مضمونا على خصوص الغاصب الذي صيّره ممتنع الإيصال إلى صاحبه ، كما ستأتي الإشارة إلى كونه قولا في المسألة ، إلّا أنّ الالتزام به لأجل مخالفته للقواعد لا يخلو عن إشكال وإن كان قد يعضده بعض الأخبار الواردة في الربا وغيره.

والحاصل : أنّ استفادة المدّعى من هذه الرواية من حيث هي مع قيام هذا الاحتمال لا تخلو عن إشكال.

ومنها : ما عن الفقيه مرسلا ، قال : جاء رجل إلى أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ فقال : يا أمير المؤمنين أصبت مالا أغمضت فيه أفلي توبة؟قال : «ايتني بخمسة» فأتاه بخمسه ، فقال : «هو لك إنّ الرجل إذا تاب تاب ماله معه» (١).

وفيه : أنّه لا دلالة فيه على أنّ ما أخذه منه من الخمس من حيث اختلاطه بالحرام ، بل ظاهر ذيله أنّ توبته سبب حلّية ماله لا تخميسه ، فيحتمل وروده في من لم يكن محترزا في معاملاته عن مثل الربا ، كما ورد في عدّة من الأخبار زوال أثره بالتوبة ، كرواية أبي المعزى عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «كلّ ربا أكله الناس بجهالة ثمّ تابوا فإنّه يقبل منهم التوبة» وقال : «لو أنّ رجلا ورث من أبيه مالا وقد عرف أنّ في ذلك المال ربا ولكن قد اختلط في التجارة بغيره حلالا ، كان حلالا طيّبا فليأكله ، وإن عرف منه شيئا أنّه ربا فليأخذ رأس ماله ، وليردّ الربا ، وأيّما رجل أفاد مالا كثيرا قد أكثر فيه من الربا فجهل ذلك ثمّ عرفه بعد ، فأراد أن ينزعه ، فما مضى فله ، ويدعه في ما يستأنف» (٢).

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٢٢ / ٨٣ ، الوسائل : الباب ١٠ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٣.

(٢) الكافي ٥ : ١٤٥ / ٤ وفيه : عن أبي المعزى عن الحلبي. الوسائل : الباب ٥ من أبواب الربا ، الحديث ٢.

١٥٢

وعن الحلبي ـ في الصحيح ـ نحوه إلى قوله : «فليأخذ رأس ماله» (١).

وصحيحة محمد بن مسلم قال : دخل رجل على أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ من أهل خراسان قد عمل الربا حتى كثر ماله ، ثم سأل الفقهاء ، فقالوا :ليس يقبل منك شي‌ء إلّا أن تردّه على أصحابه ، فجاء إلى أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ فقصّ عليه قصّته ، فقال أبو جعفر ـ عليه‌السلام ـ : «مخرجك من كتاب الله «فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ» (٢) والموعظة : التوبة (٣)» الى غير ذلك من الروايات التي ورد فيها تفسير الموعظة الواقعة في آية الربا : بالتوبة.

وهذه الروايات وإن لا يخلو الالتزام بمفادها عن إشكال كما يأتي تحقيقه في محلّه ، إلّا أنّ الخبر المزبور أيضا بظاهره ليس إلّا كإحدى هذه الروايات ، فلا يفهم منه أنّ ما أخذه منه من الخمس لم يكن إلّا لأجل اجتماع ماله من الحرام والحلال ، بل قضيّة تعليل حلّيّته بالتوبة خلافه ، فليتأمّل.

ومنها : خبر السكوني الذي رواه المشايخ الثلاثة مسندا ، والمفيد في المقنعة مرسلا عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، قال : «أتى رجل إلى أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ فقال : إنّي اكتسبت مالا أغمضت في مطالبه (٤) حلالا وحراما وقد أردت التوبة ولا أدري الحلال منه والحرام ، وقد اختلط عليّ ، فقال أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : تصدّق بخمس مالك ، فإنّ الله

__________________

(١) التهذيب ٧ : ١٦ / ٦٩ ، الوسائل : الباب ٥ من أبواب الربا ، ذيل الحديث ٢.

(٢) سورة البقرة ٢ ، الآية ٢٧٥.

(٣) التهذيب ٧ : ١٥ / ٦٨ ، الوسائل : الباب ٥ من أبواب الربا ، الحديث ٧.

(٤) بهامش النسخة الخطية الطبعة الحجرية ـ كما في الفقيه ـ : طلبه خ ل.

١٥٣

رضي من الأشياء بالخمس وسائر المال لك حلال» (١).

ونوقش فيه : بما أشار إليه وإلى جوابه شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ بعد أن ادّعى ثبوت الحقيقة الشرعية أو المتشرّعة للخمس في عصر الصادق ـ عليه‌السلام ـ بقوله : نعم ، الظاهر من الرواية الثالثة ـ يعني الخبر المزبور ـ إرادة المعنى اللغوي ، سيّما بملاحظة الأمر بالتصدّق به ، فإنّ الصدقة وإن أطلق في كثير من الأخبار على الخمس ـ كما قيل ـ إلّا أنّ ظهوره في غيره أقوى من ظهور لفظ الخمس في المعنى المعهود ، بل أمره بالتصدّق من دون طلب نصفه المختصّ قرينة على عدم إرادة الحق الخاص.

واحتمال إذنه في صرف حقّه المختص إلى شركائه مدفوع ـ مضافا إلى ظهور الكلام في الفتوى دون الإذن ـ : بأنّ التعليل ظاهر في كون الحكم من باب الفتوى لا الإذن لخصوص السائل ، إلّا أنّ ذلك كلّه مندفع بظهور قوله ـ عليه‌السلام ـ في ذيل الرواية : «فإنّ الله قد رضي من الأشياء بالخمس» ومن المعلوم أنّ خمسا آخر غير الخمس المصطلح لم يعهد من الشارع في شي‌ء ، فضلا عن الأشياء (٢). انتهى.

أقول : في اندفاع ذلك كلّه بما ذكره نظر ، خصوصا مع معهودية الصدقة إجمالا في الشريعة في ما لا يعرف صاحبه ، فإنّ الخمس المصطلح ليس مفهوما مباينا لمفهوم الخمس ، فالمقصود بذيل الخبر الإشارة إلى أنّ الخمس المعهود أيضا كالصدقة مندرج تحت هذه الكلية ، وهي أنّ الله تعالى رضي من عباده في ما سلّطهم عليه من ماله بدفع خمسه على حسب ما أمرهم به في موارده ، ففي سائر الموارد أمرهم بصرفه إلى السادة ، وفي هذا

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٢٥ / ٥ ، الفقيه ٣ : ١١٧ / ٤٩٩ ، التهذيب ٦ : ٣٦٨ / ١٠٦٥ ، المقنعة : ٢٨٣ وفيها نحوه ، الوسائل : الباب ١٠ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٤.

(٢) كتاب الخمس : ٥٤٠.

١٥٤

المورد إلى الفقراء بمقتضى ظاهر الصدر ، فلا منافاة.

نعم ، لا يبعد أن يقال : إنّ ظهور سائر الأخبار ، خصوصا خبر ابن مروان (١) في الخمس المعهود أقوى من ظهور هذه الرواية في الصدقة المعهودة ، فتحمل هذه الرواية أيضا عليه بعد العلم بوحدة التكليف لو لم نقل بأنّ التخيير أولى منه في مقام الجمع ، كما سيأتي التنبيه عليه عند التكلّم في ما يقتضيه الجمع بين شتات الأخبار وإرجاع بعضها إلى بعض ، فليتأمّل.

ومنها : ما عن المفيد (٢) في الزيادات أنّه أرسل عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، عن رجل اكتسب مالا من حلال وحرام ، ثمّ أراد التوبة من ذلك ، ولم يتميّز له الحلال بعينه من الحرام ، فقال : «يخرج منه الخمس وقد طاب ، إنّ الله طهّر الأموال بالخمس».

وهذه الرواية لا قصور في دلالتها ؛ فإنّ ظاهرها إرادة الخمس المعروف ، وأنّه هو السبب لطهارته ، ولكنها ضعيفة السند بالإرسال.

ويؤكّد وهنها : عدم التزام المفيد ـ رحمه‌الله ـ بمضمونها حيث نسب (٣) إليه أنّه لم يوجب هذا الخمس.

فعمدة ما يصح الاستناد إليه لإثبات الخمس في المال المختلط بالحرام من حيث كونه كذلك هو خبر عمّار بن مروان ، وهو كالصريح في إرادة الخمس المعروف ، ولكنّه رواه في المستند عن الخصال بسنده إلى ابن أبي عمير ، ثم قال بعد ذكر أخبار الباب ما لفظه :

__________________

(١) الخصال : ٢٩٠ / ٥١ ، الوسائل : الباب ٣ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٦.

(٢) كما في كتاب الخمس للشيخ الأنصاري : ٥٤٠ ، وراجع : المقنعة : ٢٨٣.

(٣) الناسب هو : العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٣٨٨ ، وراجع : المقنعة : ٢٧٦.

١٥٥

أقول : أمّا الخمس بالمعنى المعهود ، فالظاهر عدم ثبوته فيه ؛ لأنّ الأصل ينفيه ، والروايات المذكورة غير ناهضة لإثباته.

أمّا رواية الخصال : فلأنّ الرواية على النحو المذكور إنّما هو ما نقله عنه بعض المتأخّرين.

وقال بعض مشايخنا المحقّقين : وذكر الصدوق في الخصال في باب ما يجب فيه الخمس رواية كالصحيحة إلى ابن أبي عمير عن غير واحد عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، قال : «الخمس على خمسة أشياء : على الكنوز والمعادن والغوص والغنيمة» ونسي ابن أبي عمير الخامس.

وقال مصنّف هذا الكتاب : الخامس الذي نسيه : مال يرثه الرجل وهو يعلم أنّ فيه من الحلال والحرام ، ولا يعرف أصحابه ، فيؤدّيه إليهم ، ولا يعرف الحرام بجنسه ، فيخرج منه الخمس ، انتهى.

وأنا تفحّصت عن الخصال فوجدت الرواية فيه في باب ما فيه الخمس من بعض نسخه هكذا : «الخمس في المعادن والبحر والكنوز» ولم أجد الرواية بالطريقين المذكورين فيه مع التفحّص عن أكثر أبوابه ، وفي بعض آخر كما نقله عنه بعض مشايخنا ، ولعلّ نسخ الكتاب مختلفة ، ومع ذلك لا يبقى فيه حجّة ، مضافا إلى عدم صراحتها في الوجوب (١). انتهى كلام صاحب المستند.

أقول : في الوسائل روى عن الصدوق في الخصال عن أبيه عن محمد بن يحيى عن محمد بن عيسى عن الحسن بن محبوب عن عمّار بن مروان قال :سمعت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ يقول : «في ما يخرج من المعادن والبحر والغنيمة والحلال المختلط بالحرام إذا لم يعرف صاحبه ، والكنوز

__________________

(١) مستند الشيعة ٢ : ٧٥ ـ ٧٦.

١٥٦

الخمس (١).

وعن أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن أبن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : الخمس على خمسة أشياء : على الكنوز والمعادن والغوص والغنيمة ونسي ابن أبي عمير الخامس (٢). انتهى.

وفي الحدائق (٣) روى أيضا خبر ابن مروان عن الخصال موصوفا سنده بالقوّة.

فما نقله في المستند عن بعض مشايخه إنّما ذكره الصدوق في خبر ابن أبي عمير ، فلا دخل له بما رواه عن ابن مروان ، بل لعلّ هذه الرواية هي مستنده في ما ذكره في تفسير الخامس الذي نسيه ابن أبي عمير ، فقوله : مال يرثه الرجل من أبيه إلى آخره ، من باب التمثيل ، وإلّا فلا يظنّ بالصدوق أن يقول بهذا التفسير باجتهاده ، فإنّه رجم بالغيب ، ومن المستبعد أن يكون له مستند آخر غير ما أورده في كتابه.

وكيف كان فما نقله عن مشايخه لا يوجب وهنا في ما رواه عنه في الوسائل وغيره عن ابن مروان ، إلّا أنّه يظهر من قوله : وأنا تفحّصت ؛ إلى آخره : أنّه لم يجد خبر ابن مروان بهذا المتن في النسخ التي تصفّحها مع فحصه عنه في مظانّه.

وهذا أيضا غير قادح بنقل من نقله عنه ؛ فإنّ عدم وجدانه ليس أمارة قطعية على عدم وجوده ، مع احتمال سقطه عن تلك النسخ ، فإنّه أقوى من

__________________

(١) الوسائل : الباب ٣ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٦ ، وراجع : الخصال : ٢٩٠ / ٥١.

(٢) الوسائل : الباب ٣ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٧ ، وراجع : الخصال : ٢٩١ / ٥٣.

(٣) الحدائق الناضرة ١٢ : ٣٦٤.

١٥٧

احتمال الزيادة والدّس في النسخ التي روى عنها في الوسائل وغيره.

والحاصل : أنّه لا ينبغي الاستشكال في الرواية من هذه الجهة ، فهذه الرواية هي عمدة ما يصحّ الاستناد إليه في هذا الباب ، ويستكشف بها وجه الخمس المأمور به في خبر الحسن وغيره من الأخبار المتقدّمة التي ناقشنا في دلالتها (١) على إرادته من حيث الاختلاط بإجمال وجهه ، بل إشعار بعضها أو ظهوره في خلافه ؛ لصراحة هذه الرواية في أنّ الحلال المختلط بالحرام أحد الأقسام التي يتعلّق بها الخمس ، فيرتفع بها الإجمال عن تلك الأخبار.

ثمّ إن المراد بثبوت الخمس في الحلال المختلط بالحرام هو أنّ الشارع جعل تخميسه بمنزلة تشخيص الحرام ، وإيصاله إلى صاحبه في كونه موجبا لحلّ الباقي ، وجواز التصرّف فيه ، فليس ثبوت الخمس فيه كثبوته في الكنز ونحوه في كونه بالفعل مملوكا لبني هاشم وإن كان قد يوهمه خبر ابن مروان في بادئ الرأي حيث جعله في عداد ما فيه الخمس ، ولكنه غير مراد منه على الظاهر ؛ فإنّه لا يستقيم إلّا على تقدير الالتزام بصيرورة ما فيه من الحرام عند الجهل بمالكه ملكا لمالك الحلال على حسب ما يملكه من سائر ما يغتنمه ممّا يتعلّق به الخمس ، فتسميته حراما على هذا التقدير إنّما هي بعلاقة ما كان ، وإلّا فهو بالفعل حلال ، كسائر ما يستفيده ممّا يجب فيه الخمس.

وهذا كما تراه خلاف ظاهر هذه الرواية ، فضلا عن مخالفته للأصول والقواعد التي يشكل مخالفتها بمثل هذه الرواية ، مضافا إلى ظهور خبر السكوني والمرسل المتقدّمين (٢) ، في ما ذكر من أنّ الشارع جعل إخراج

__________________

(١) في النسخة الخطية : دلالته. وما أثبتناه من الطبعة الحجرية.

(٢) تقدّما في صفحة ١٥٣ و ١٥٥.

١٥٨

خمسه خمسا كان أو صدقة هو السبب في حلّية الباقي.

فالذي يتحصّل من مجموع النصوص والفتاوى بعد إرجاع بعضها إلى بعض ، إنّما هو شرعية الخمس لتحليل المال الممتزج بالحرام ، لا كون المال مشتركا بينه وبين أرباب الخمس.

فمن هنا قد يقوى في النظر عدم التنافي بين هذه الأخبار وبين ما ورد في جملة من الأخبار من الأمر بالتصدّق في ما لا يعرف صاحبه (١) ، لا لما قيل من أنّ تلك الأخبار وردت في المال المتميّز دون الممتزج حتى تتحقّق المعارضة ؛ لما ستعرف في حكم الصورة الآتية من ضعف هذا القول ، وكونه جمودا محضا ، بل لأنّ مفاد تلك الأخبار ليس إلّا جواز التصدّق بعين المال الذي لا يعرف صاحبه ، أو بثمنه ، وهذا شي‌ء لا ينافيه أخبار الخمس ؛ فإنّ مفاد أخبار الخمس ليس إلّا أنّ صرف خمس مجموع ذلك المال المختلط بالحرام إلى أرباب الخمس كتمييز عين الحرام ، وإيصاله إلى صاحبه مبرئ للذمّة ، وموجب لحليّة الباقي ، ولا منافاة بينهما ؛ فإنّ من الجائز أن يكون التصدّق بعين مال الغير أيضا لدى إمكانه (مبرئا لذمّته) (٢).

كما لو تصدّق بجميعه على الفقير من باب الاحتياط ، أو دفع جميعه إليه على أن يكون ما فيه من مال الغير صدقة ، ثمّ صالحه عمّا فيه من حقّه بشي‌ء كتخميسه ، موجبا للخروج عن عهدة ما فيه من مال الغير ، وليس الأمر بالخمس أو الصدقة في مثل المقام ظاهرا في الوجوب العيني ؛ كي يكون وجوب كلّ منهما منافيا للآخر ، بل هو مسوق لبيان ما به تتحقّق براءة الذمّة من مال الغير ، ويباح له التصرّف في ما عداه ، فالأمر بإخراج خمس ذلك ،

__________________

(١) أنظر على سبيل المثال : التهذيب ٦ : ٣٩١ / ١١٧١ ، الوسائل : الباب ٥ من كتاب اللقطة ، الحديث ٣.

(٢) كذا في النسخة الخطيّة والطبعة الحجرية. والظاهر زيادة ما بين القوسين.

١٥٩

المال خصوصا مع اقترانه بما في الأخبار من التعليل بأنّ الله قد رضي من الأشياء بالخمس ليس إلّا بمنزلة ما لو قال : لو أخرجت خمس ذلك المال يحلّ لك الباقي ، لا أنّه يجب عينا عليك إخراج خمسه تعبّدا.

وقد عرفت أنّ المراد بثبوت الخمس في الحلال المختلط بالحرام في خبر ابن مروان (١) أيضا بحسب الظاهر ليس إلّا إرادة هذا المعنى ، فلا ينافيه جواز التصدّق بجميع ذلك المال أو بجميع ما فيه من الحرام في ضمن المجموع ، كما أنّ ما ورد فيه الأمر بالتصدّق بما عنده من المال الذي لا يعرف صاحبه ؛ غير مناف لذلك ؛ فإنّه لا يفهم منه أيضا الوجوب العيني لوروده في مقام توهّم الحظر ، فلا يفهم منه أزيد من الجواز ، ولكن يفهم وجوبه من خصوصية المورد حيث إنّ مقتضى الأصل حرمة التصرف في مال الغير إلّا بالوجه المرخوص فيه ، لا من دلالة لفظ الأمر ، فلا منافاة حينئذ بين أخبار الخمس وأخبار الصدقة ، ومقتضاهما الالتزام بإباحته امّا بصرف خمسه إلى أرباب الخمس أو التصدّق بجميع ما فيه من الحرام بأيّ وجه أمكن ، كما أنّا لو قلنا بظهور خبر السكوني (٢) في التصدّق بالخمس لا الخمس المصطلح ، كما يقتضيه الإنصاف ، لكان مقتضى الجمع بينه وبين غيره ـ ممّا ظاهره إرادة الخمس المعروف كخبر ابن مروان ـ هو الالتزام بجواز كلّ منهما ، وكون المكلّف مخيّرا بين التصدّق بخمسة أو صرفه في مصرف الخمس المصطلح ، فالقول به غير بعيد إن لم ينعقد الإجماع على خلافه ، فليتأمّل.

وكيف كان فالأحوط ـ كما صرّح به غير واحد ـ صرفه في فقراء

__________________

(١) تقدم في صفحة ١٥٦.

(٢) تقدّم في صفحة ١٥٣.

١٦٠