مصباح الفقيه - ج ١٤

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٩

لا يعرف صاحبه ، وما يحلّ تناوله من مال العدوّ في اسم الغنائم ، فيكون مصرف الخمس فيها مصرف خمس الغنائم ، وأمّا مصرف السهم المذكور في آخر الرواية وهو نصف السدس في الضياع والغلّات فغير مذكور صريحا ، مع أنّا لا نعلم بوجوب ذلك على الخصوص قائلا (١). انتهى.

أقول : صدر الرواية صريحة في أنّ ما صنعه ـ عليه‌السلام ـ في تلك السنة من وضع الخمس على بعض الأشياء ، ورفعه عن بعض كان مخصوصا بتلك السنة لمعنى من المعاني الّذي كره ـ عليه‌السلام ـ تفسيره كلّه ، وفسّر بعضه ، وهو أنّ مواليه جميعهم أو بعضهم قصّروا في تأدية الحقوق الواجبة عليهم ، فشدّد عليهم بعض التشديد ليطهّرهم ويزكّيهم ، فأوجب عليهم في الذهب والفضة ، ولم يوجب في ما عداهما تخفيفا ومنّا منه عليهم.

وقد أشرنا في صدر الكتاب إلى أنّ للإمام ـ عليه‌السلام ـ أن يتصرّف هذا النحو من التصرّفات ، خصوصا إذا رأى صلاح مواليه في ذلك ، فلا إشكال في الرواية من هذه الجهة.

وأمّا اندراج الجائزة الخطيرة وغيرها من المذكورات في اسم الغنائم فممّا [لا] (٢) تأمّل فيه ، بل من أظهر مصاديقها ، بناء على تفسيرها بمطلق الاستفادة ، لا خصوص غنائم دار الحرب ، كما شهد بذلك الأخبار المستفيضة وغيرها ممّا تقدّم في صدر الكتاب ، فمن لا يلتزم بوجوب الخمس فيها يجب عليه أن يتفصّى عن هذا الإشكال بوجه من الوجوه التي سنشير إليها إن شاء الله عند التكلّم في حكم سائر أقسام الفوائد

__________________

(١) مدارك الأحكام ٥ : ٣٨٣.

(٢) زيادة يقتضيها السياق.

١٠١

الخارجة عن الأقسام السبعة ، فهذا الإشكال غير موهن للرواية ، فضلا عن أن يسقطها عن الحجيّة بالنسبة إلى ما هو خارج عن موقع الإشكال.

نعم ، ظاهر الرواية عدم اندراج أرباح التجارات والزراعات في الغنائم التي أوجب الله تعالى فيها الخمس في كتابه ، وأنّ خمس الغنائم ثابت في كلّ عام ، فمن هنا يستشعر اختصاص هذا الخمس بالإمام عليه‌السلام ـ وأنّه هو السبب في تصرّفه فيه رفعا وتخفيفا ، ولكنه لا يلتفت إلى هذا الظاهر بعد ورود التصريح في بعض الأخبار الآتية بأنّه منها ، فلعلّ جعله قسيما لها في هذه الرواية ؛ لخروجه عن منصرفها عرفا ، لا لعدم كونه مرادا بها في الواقع.

وكيف كان ، فهذا الإشكال أيضا غير قادح في ما نحن بصدده من إثبات وجوب الخمس في هذا القسم ؛ فإنّها صريحة في ثبوته في ما يفضل عن مئونته من حاصل الزراعات.

وأمّا إيجابه نصف السدس فهو من قبله تخفيفا على رعيته ، كما هو صريح الخبر ، فلا ينافي ذلك وجوب الخمس عليهم لو لا هذا التخفيف.

وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «في كلّ عام» أريد به ـ بحسب الظاهر ـ السنين التي يتولّى فيها أمرهم لا السنين التي يرجع الأمر فيها إلى إمام آخر كما يفصح عن ذلك ـ مضافا إلى وضوحه ـ مكاتبة إبراهيم بن محمد الهمداني ، التي أشير فيها بحسب الظاهر إلى الكتاب المزبور ، وأنّ عليّا قرأها عليه ، وهي : ما رواه (١) الشيخ بإسناده عن علي بن مهزيار ، قال : كتب إليه إبراهيم بن محمد الهمداني : أقرأني عليّ كتاب أبيك في ما أوجبه على

__________________

(١) ورد في النسخة الخطية المعتمدة في التحقيق وفي الطبعة الحجرية : ما رواها. والصحيح ما أثبتناه.

١٠٢

أصحاب الضياع أنّه أوجب عليهم نصف السدس بعد المئونة ، وأنّه ليس على من لم يقم ضيعته بمئونة نصف السدس ولا غير ذلك ، فاختلف من قبلنا في ذلك ، فقالوا : يجب على الضياع الخمس بعد المئونة مئونة الضيعة وخراجها لا مئونة الرجل وعياله ، فكتب وقرأه علي بن مهزيار «عليه الخمس بعد مئونته ومئونته عياله وبعد خراج السلطان» (١).

ورواه الكليني بإسناده عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحسن (٢) ـ عليه‌السلام ـ نحوه ، إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي ستمرّ عليك في طيّ المباحث الآتية ، وعند التكلّم في حكم سهم الإمام ـ عليه‌السلام ـ ، مثل التوقيعات المرويّة عن صاحب الأمر ـ عجّل الله فرجه ـ ، التي وقع فيها التصريح بالمنع عن التصرّف في ما يتعلّق بهم ـ عليه‌السلام ـ إلّا بأمرهم (٣).

ثمّ إنّ مستحقّ الخمس في هذا القسم هو من يستحقّه من سائر أقسام الغنيمة ، كما هو صريح كلمات الأصحاب ، وظاهر جملة من الأخبار ، بل صريح بعضها ، مثل خبر حكيم مؤذّن بني عيس (٤) عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، قال ، قلت له : «واعلموا أنّما غنمتم» (٥) إلى آخرها ، قال : «هي والله الإفادة يوما بيوم إلّا أنّ أبي جعل شيعتنا في حلّ من

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٢٣ / ٣٥٤ ، الإستبصار ٢ : ٥٥ / ١٨٣ ، الوسائل : الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٤.

(٢) الكافي ١ : ٥٤٧ / ٢٤ ، الوسائل : الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، ذيل الحديث ٤.

(٣) راجع : كمال الدين : ٥٢٠ / ٤٩ و ٥٢٢ / ٥١ ، والاحتجاج : ٤٧٩ و ٤٨٠ ، والوسائل : الباب ٣ من أبواب الأنفال ، الحديث ٦ و ٧.

(٤) في الكافي : حكيم مؤذن ابن عيسى. وفي التهذيبين : حكيم مؤذّن بني عبس ؛ بالباء الموحدّة.

(٥) الأنفال ٨ : ٤١.

١٠٣

ذلك ليزكوا» (١).

وما في بعض الروايات (٢) من الإشعار باختصاصه بالإمام ـ عليه‌السلام ـ ، وأنّه حقّه بالخصوص ، فليس إلّا لكونه وليّ أمره ، وكون سائر الأصناف المستحقّين له أمرهم آئلا إليه وكونهم عيالا له.

وقد ورد في كثير من الأخبار ما يستشعر أو يستظهر منه اختصاص مطلق الخمس ـ من أيّ قسم يكون ـ بالأئمّة ـ عليهم‌السلام ـ وأنّه حقّهم خاصّة ، مع أنّه لم يقصد بها ما ينافي استحقاق سائر الأصناف المذكورين في الآية قطعا ، كخبر عبد الله بن سنان ، قال : قال أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : «على كلّ امرئ غنم أو اكتسب الخمس ممّا أصاب لفاطمة ـ عليها‌السلام ـ ، ولمن يلي أمرها من بعدها من ذريّتها الحجج على الناس ، فذلك لهم خاصة يضعونه حيث شاؤا ، وحرّم عليهم الصدقة حتّى الخيّاط ليخيط ثوبا بخمسة دوانيق فلنا منه دانق إلّا من أحللناه من شيعتنا لتطيب لهم به الولادة ، إنّه ليس من شي‌ء عند الله يوم القيامة أعظم من الزنا ، إنّه ليقوم صاحب الخمس فيقول : يا ربّ سل هؤلاء بما نكحوا (٣)» (٤) فإنّه إ في عدم الفرق بين خمس الأرباح والغنيمة ، وأنّ جميعه مخصوص فاطمة ومن يلي أمرها من ذريتها الحجج ـ عليها وعليهم‌السلام ـ ، فتخصيص الجميع بهم مع إشعار نفس هذا الخبر ،

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٤٤ / ١٠ ، التهذيب ٤ : ١٢١ / ٣٤٤ ، الإستبصار ٢ : ٥٤ / ١٧٩ ، الوسائل : الباب ٤ من أبواب الأنفال ، الحديث ٨.

(٢) راجع : التهذيب ٤ : ١٦ / ٣٩ و ١٢٣ / ٣٥٣ ، والاستبصار ٢ : ١٧ / ٤٨ و ٥٥ / ١٨٢ ، والوسائل :الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٢ و ٣.

(٣) في التهذيب : بما أبيحوا.

(٤) التهذيب ٤ : ١٢٢ / ٣٤٨ ، الإستبصار ٢ : ٥٥ / ١٨٠ ، الوسائل : الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٨.

١٠٤

فضلا عن غيره ، بل ظهوره في أنّ مناط الحكم هو حرمة الصدقة عليهم التي لا اختصاص لها بهم ، بل لجميع بني هاشم ، لعلّه لكونهم هم الأصل فيه ، وكون استحقاق من عداهم تبعا لهم وكرامة عليهم ، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع ، فلا مجال للارتياب في أنّ مصرف هذا القسم من الخمس أيضا هو مصرف خمس الغنيمة.

وأمّا الأخبار الواردة في إباحته للشيعة فهي أيضا كثيرة ، بل أكثر.

منها : رواية حكيم وعبد الله بن سنان المتقدمتان (١).

وصحيحة الحارث بن المغيرة النصري عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : قلت له : إنّ لنا أموالا من غلّات وتجارات ونحو ذلك ، وقد علمنا أنّ لك فيها حقّا ، قال : «فلم أحللنا إذا لشيعتنا إلّا لتطيب ولادتهم ، وكلّ من والى آبائي فهو من حلّ ممّا في أيديهم من حقّنا ، فليبلّغ الشّاهد الغائب» (٢).

وخبر يونس بن يعقوب ، قال : كنت عند أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ فدخل عليه رجل من القمّاطين (٣) ، فقال : جعلت فداك تقع في أيدينا الأموال والأرباح وتجارات نعلم أنّ حقّك فيها ثابت وإنّا عن ذلك مقصّرون ، فقال : «ما أنصفناكم إن كلّفناكم ذلك اليوم» (٤).

ورواية أبي خديجة عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، قال ، قال له رجل وأنا حاضر : حلّل لي الفروج ، ففزع أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، فقال له

__________________

(١) تقدّمتا في صفحة ١٠٣ و ١٠٤.

(٢) التهذيب ٤ : ١٤٣ / ٣٩٩ ، الوسائل : الباب ٤ من أبواب الأنفال ، الحديث ٩.

(٣) قال المجلسي ـ رحمه‌الله ـ في روضة المتقين ٣ : ١٢٨ : «القمّاطين» : قوم يعملون بيوت القصب.

(٤) التهذيب ٤ : ١٣٨ / ٣٨٩ ، الاستبصار ٢ : ٥٩ / ١٩٤ ، الفقيه ٢ : ٢٣ / ٨٧ ، الوسائل : الباب ٤ من أبواب الأنفال ، الحديث ٦.

١٠٥

رجل : ليس يسألك أن يعترض الطريق ، إنّما يسألك خادمة يشتريها أو امرأة يتزوّجها ، أو ميراثا يصيبه ، أو تجارة أو شيئا أعطيه ، فقال : «هذا لشيعتنا حلال ، الشاهد منهم والغائب ، والميت منهم والحيّ ، وما توالد (١) منهم إلى يوم القيامة فهو لهم حلال ، أما والله لا يحلّ إلّا لمن أحللنا له ، ولا والله ما أعطينا أحدا ذمّة ولا لأحد عندنا ميثاق» (٢).

وصحيحة الفضلاء عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ ، قال : «قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ : هلك الناس في بطونهم وفروجهم لأنهم لم يؤدّوا إلينا حقّنا ، ألا وإنّ شيعتنا من ذلك وآباءهم في حلّ» (٣).

وخبر ضريس الكناسي ، قال ، قال أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ :«أتدري من أين يدخل على الناس الزنا؟ «فقلت : لا أدري ؛ فقال : «من قبل خمسنا أهل البيت إلّا لشيعتنا الأطيبين ، فإنّه محلّل لهم ولميلادهم» (٤).

ورواية محمد بن مسلم عن أحدهما ـ عليهما‌السلام ـ قال : «إنّ أشدّ ما فيه الناس يوم القيامة أن يقوم صاحب الخمس ، فيقول : يا ربّ خمسي ، وقد طيّبنا ذلك لشيعتنا لتطيب ولادتهم ، ولتزكو أولادهم» (٥).

__________________

(١) في النسخة الخطية : توالدوا. وفي التهذيب : وما يولد. وفي الاستبصار : من تولد.

(٢) التهذيب ٤ : ١٣٧ / ٣٨٤ ، الإستبصار ٢ : ٥٨ / ١٨٩ ، الوسائل : الباب ٤ من أبواب الأنفال ، الحديث ٤.

(٣) التهذيب ٤ : ١٣٧ / ٣٨٦ ، الاستبصار ٢ : ٥٨ / ١٩١ ، علل الشرائع : ٣٧٧ / ٢ ، الوسائل : الباب ٤ من أبواب الأنفال ، الحديث ١.

(٤) الكافي ١ : ٥٤٦ / ١٦ ، التهذيب ٤ : ١٣٦ / ٣٨٣ ، الوسائل : الباب ٤ من أبواب الأنفال ، الحديث ٣.

(٥) التهذيب ٤ : ١٣٦ / ٣٨٢ ، الاستبصار ٢ : ٥٧ / ١٨٧ ، الفقيه ٢ : ٢٢ / ٨٢ ، الوسائل : الباب ٤ من أبواب الأنفال ، الحديث ٥.

١٠٦

وما روي عن كتاب إكمال الدين عن محمد بن محمد بن عصام الكليني عن محمد بن يعقوب الكليني عن إسحاق بن يعقوب في ما ورد عليه من التوقيعات بخطّ صاحب الزمان ـ عجّل الله فرجه ـ : «أمّا ما سألت عنه من أمر المنكرين لي ـ إلى أن قال ـ وأمّا الخمس فقد أبيح لشيعتنا ، وجعلوا منه في حلّ إلى أن يظهر أمرنا لتطيب ولادتهم ولا تخبث» (١) إلى غير ذلك من الأخبار التي سيأتي نقلها عند التعرّض لحكم سهم الإمام ـ عليه‌السلام.

ولا يخفى عليك أنّ هذه الروايات وإن كثرت ، ولكن لا يصلح شي‌ء منها ـ ممّا عدا الخبر الأخير ، أي التوقيع المروي عن صاحب الأمر عجّل الله فرجه ـ لمعارضة الأخبار المتقدمة المنافية لها ، فإنّ ظاهر جلّها إباحة مطلق الخمس ، وهذا ممّا يمتنع إرادته إلى آخر الأبد ؛ لمخالفته للحكمة المقتضية لشرعه من استغناء بني هاشم به عن وجوه الصدقات ، فالمراد بها إمّا تحليل قسم خاص منه ، وهو ما يتعلّق بطيب الولادة كأمّهات الأولاد ونحوها ، كما يشعر بذلك التعليل الواقع في جملة منها.

ويومئ إليه قول أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ في رواية الفضيل : «انّا أحللنا أمّهات شيعتنا لآبائهم لتطيبوا» (٢).

أو تحليل مطلقه في عصر صدور الروايات لحكمة مقتضية له وهي شدّة التقيّة ، فإنّ أخبار التحليل جلّها لولا كلّها صدرت عن الصادقين ـ عليهما‌السلام ـ ، وقد كانت التقية في زمانهما مقتضية لإخفاء أمر الخمس ، وإغماض مستحقّيه عن حقّهم ، وإلّا لم يكونوا مأمونين على

__________________

(١) كمال الدين : ٤٨٥ / ٤ ، الوسائل : الباب ٤ من أبواب الأنفال ، الحديث ١٦.

(٢) التهذيب ٤ : ١٤٣ ذيل الحديث ٤٠١ ، الوسائل : الباب ٤ من أبواب الأنفال ، ذيل الحديث ١٠.

١٠٧

أنفسهم ولا على شيعتهم الذين يؤدّون إليهم حقوقهم فأباحوه لهم ؛ كي لا يقيموا على حرام ، ويطيب مأكلهم ومشربهم ومولدهم.

ومن هنا يظهر قصور تلك الأخبار في حدّ ذاتها عن إفادة إباحته على الإطلاق حتى بالنسبة إلى مثل هذه الأعصار التي لا مانع عن إيصاله إلى مستحقّيه ، ولا مقتضي لإخفاء أمره كما لا يخفى ، بل بعضها ظاهر في إرادة العفو عنه في خصوص تلك الأزمنة لبعض العوارض المقتضية له وراء الجهة المزبورة ، كقوله ـ عليه‌السلام ـ في خبر يونس : «ما أنصفناكم إن كلّفناكم ذلك اليوم» (١).

والحاصل : أنّ من تدبّر في تلك الأخبار ، والتفت إلى العوارض المقتضية للعفو عن الخمس ، الموجودة في عصر صدورها لرأي قصور أغلبها عن إفادة الإباحة المطلقة.

نعم بعضها ـ كرواية أبي خديجة (٢) ـ نصّ في ذلك ، ولكن لا عموم لها من حيث المورد ، بل هي واردة في المناكح والمتاجر والمواريث والعطايا ، وستعرف استثناء هذه الأمور عمّا يجب فيه الخمس ، كما أنّ جملة من الأخبار الواردة في تحليل أمّهات الأولاد أيضا ظاهرة في ذلك ، وهو ممّا نلتزم به ، كما ستعرف.

ثمّ لو سلّم ظهور الأخبار في العفو عن مطلق الخمس أو خصوص الأرباح مطلقا ، لوجب رفع اليد عنه بالأخبار المتقدّمة الصادرة عن

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٣٨ / ٣٨٩ ، الاستبصار ٢ : ٥٩ / ١٩٤ ، الفقيه ٢ : ٢٣ / ٨٧ ، الوسائل : الباب ٤ من أبواب الأنفال ، الحديث ٦.

(٢) التهذيب ٤ : ١٣٧ / ٣٨٤ ، الإستبصار ٢ : ٥٨ / ١٨٩ ، الوسائل : الباب ٤ من أبواب الأنفال ، الحديث ٤.

١٠٨

أبي الحسن الرضا ومن بعده من الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ، الصريحة في عدم رضائهم بالمسامحة في أمر الخمس ، ووجوب إيصاله إلى مستحقّيه ، مضافا إلى ما علم من حالهم من نصب الوكلاء لقبض حقوقهم من الأخماس ، وغيرها.

وأما التوقيع المروي عن صاحب الأمر ـ عجّل الله فرجه ـ : فلعلّه وقع جوابا عن السؤال عن قسم خاص من الخمس ، فأشير بقوله ـ عليه‌السلام ـ : «وأمّا الخمس» إلى ذلك القسم لا جنسه ، كما ربما يستشعر ذلك من تعليل حلّه بطيب الولادة ، وعدم خبثها ، فإنّه لا يقتضي إلّا تحليل ما يتعلّق بالمناكح ، وعلى تقدير إرادة الجنس فهو معارض بأخبار أخر مرويّة عنه ـ عليه‌السلام.

مثل ما رواه سعيد بن هبة الله الراوندي في الخرائج والجرائح عن أبي الحسن المسترق ، عن الحسن بن عبد الله بن حمدان ناصر الدولة ، عن عمّه الحسين في حديث عن صاحب الزمان ـ عليه‌السلام ـ أنّه رآه وتحته ـ عليه‌السلام ـ بغلة شهباء ، وهو متعمّم بعمامة خضراء يرى منه سواد عينيه ، وفي رجله خفّان حمراوان ، فقال : «يا حسين كم ترزأ (١) على الناحية؟ ولم تمنع أصحابي عن خمس مالك؟» ثم قال : «إذا مضيت إلى الموضع الذي تريده تدخله عفوا وكسبت ما كسبته تحمل خمسه إلى مستحقّة» قال ، فقلت : السمع والطاعة (٢) ، ثم ذكر في آخره : أنّ العمري أتاه وأخذ خمس ماله بعد ما أخبره بما كان ، وغير ذلك ممّا سيأتي نقله عند التكلّم في حكم سهم الإمام ـ عليه‌السلام.

__________________

(١) رزأه : نقصه. القاموس المحيط ١ : ١٦.

(٢) الخرائج والجرائح : ٤٧٢ ـ ٤٧٥ / ١٧.

١٠٩

مضافا إلى عدم صلاحية مثل هذه الأخبار الغير المدوّنة في الكتب الأربعة لإثبات حكم شرعي ما لم يعتضد بعمل الأصحاب ، فضلا عمّا لو كان موهونا بمخالفة المشهور أو المجمع عليه ، خصوصا في مثل هذا الحكم المنافي بظاهره لحكمة شرع الخمس المنصوص عليها في الأخبار المستفيضة وغيرها من القواعد الشرعيّة كسلطنة الناس على أموالهم ، وحرمة التصرّف فيها من غير رضاهم ، مع عدم كون هذا الحكم في حدّ ذاته من الأحكام الشرعيّة التي قد يقال فيها بجواز العمل بمطلق الظنّ أو الظنّ الحاصل من مثل هذه الروايات لدليل الانسداد أو غيره ممّا ذكروه في الأصول ، بل من قبيل الموضوعات الخارجية التي يتوقّف ثبوتها على العلم أو ما قام مقامه من البيّنة ونحوها ، فليس هذا التوقيع إلّا بمنزلة ما لو كان بهذا السند مرويا عن «زيد» أنّه وهب جميع ما ملكه لـ «عمرو» فكما لم يكن يثبت ذلك على وارثه بمثل هذا الخبر فكذا في ما نحن فيه.

وكيف كان ، فلا ينبغي الارتياب في أنّه لا يصحّ التعويل على مثل هذه الأخبار الشاذّة الغير المعمول بها في منع بني هاشم ـ زاد الله شرفهم ـ عن حقّهم الذي جعله الله لهم بنصّ الكتاب والسنّة المتواترة.

الموقع الثاني ممّا أشكل الأمر فيه في هذا المبحث : في متعلّق الخمس من هذا القسم ، فإنّ النصوص وكلمات الأصحاب في فتاويهم ومعاقد إجماعاتهم المحكية لا تخلو عن نوع اختلاف وإجمال.

فعن الخلاف أنّه قال : يجب الخمس في جميع المستفاد من أرباح التجارات والغلّات والثمار على اختلاف أجناسها ـ إلى أن قال ـ : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم (١).

__________________

(١) كما في كتاب الخمس للشيخ الأنصاري : ٥٦٤ ، وراجع : الخلاف ٢ : ١١٨ ، المسألة ١٣٩.

١١٠

وعن الغنية (١) : يجب الخمس أيضا في الفاضل عن مئونة الحول على الاقتصاد من كلّ مستفاد بتجارة أو صناعة أو زراعة أو غير ذلك من وجوه الاستفادة أيّ وجه كان بدليل الإجماع المشار إليه ، وطريقة الاحتياط. انتهى.

وعن النهاية (٢) : جميع ما يغنمه الإنسان من أرباح التجارات والزراعات وغير ذلك.

وفي السرائر : ويجب الخمس أيضا في أرباح التجارات والمكاسب وفي ما يفضل من الغلّات والزراعات على اختلاف أجناسها عن مئونة السنة له ولعياله.

ثمّ قال بعد جملة من كلماته : وقال بعض أصحابنا : إنّ الميراث والهدية والهبة فيه الخمس ، ذكر ذلك أبو الصلاح الحلبي في كتاب الكافي ، الذي صنّفه ، ولم يذكره أحد من أصحابنا إلّا المشار إليه ، ولو كان صحيحا لنقل نقل أمثاله متواترا ، والأصل براءة الذمّة ، ولا نشغلها ، ونعلّق عليها شيئا إلّا بدليل (٣). انتهى.

وفي مجمع البحرين في تفسير الغنيمة : نسب إلى فقهاء الإمامية أنّهم عمّموا مسألة الخمس ، وذكروا أنّ جميع ما يستفاد من أرباح التجارات والزراعات والصناعات زائدا عن مئونة السنة ، ثم عدّد بقيّة الأقسام ـ إلى أن قال ـ : يخرج منه الخمس (٤).

__________________

(١) كما في كتاب الخمس للشيخ الأنصاري : ٥٦٤ وجواهر الكلام ١٦ : ٥٢ ، وراجع : الغنية (الجوامع الفقهية) : ٥٠٧.

(٢) حكاه صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٥٢ ، وراجع : النهاية : ١٩٦ ـ ١٩٧.

(٣) السرائر ١ : ٤٨٦ و ٤٩٠ ، وراجع : الكافي في الفقه : ١٧٠.

(٤) مجمع البحرين ٦ : ١٢٩.

١١١

وفي المدارك : المشهور بين الأصحاب وجوب الخمس في جميع أنواع التكسّب من تجارة وصناعة وزراعة وغير ذلك عدا الميراث والصداق والهبة (١) ، انتهى. ولا يخفى ما في هذا الاستثناء ـ إلى غير ذلك من كلماتهم التي ربما يظهر من بعضها إناطة الحكم بصدق عنوان الاستفادة ، ومن أغلبها بصدق عنوان التكسّب.

وكأنّ مراد الجميع أو الأغلب ـ على ما يظهر بالتدبّر في كلماتهم ـ هو الفوائد الحاصلة من وجوه المعاملات ، أو من كدّ يمينه ، أو من أمواله المعدّة للاستفادة باجرتها أو نمائها من عقار أو حيوان أو غير ذلك ، فإنّها بأسرها من وجوه التكسّب وإن لا يطلق في بعضها على فاعلها عرفا اسم الكاسب ، دون ما يدخل في ملكه بغير هذه الأسباب ، كالإرث والصدقة والصداق والعطيّة ونحوها ، فإنّه خارج عن موضوع كلماتهم جزما.

واحتمل شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ إرادتهم بالاستفادة والتكسّب مطلق ما يملكه ولو بإرث ونحوه ـ مع اعترافه بمخالفته لظاهر عناوينهم ـ نظرا إلى ما في كلمات جملة منهم ممّا يستشعر منه إرادة الأعمّ (٢).

وفيه : أنّه يمتنع عادة إرادة ثبوت الخمس في مثل الإرث والهبة مع عموم الابتلاء بهما وكونهما من أشيع ما يملكه الإنسان ، من غير تصريح به ، فضلا عن تأديته بمثل هذه العبارة الظاهرة في خلافه.

كيف ، ولو كان هذا مرادهم لم يكن وجه ـ يعتدّ به ـ لحصرهم الخمس في فتاويهم ومعاقد إجماعاتهم المحكية في أقسام معدودة ؛ كي يوهم ذلك خلاف مقصودهم ، بل كيف يحتمل كون كلّ الأصحاب أو جلّهم

__________________

(١) مدارك الأحكام ٥ : ٣٨٤.

(٢) كتاب الخمس : ٥٣١.

١١٢

أو كثير منهم قائلين بثبوت الخمس في الإرث ونحوه ، ولم يشتهر ذلك بين العوام اشتهار الشمس في رابعة النهار ، مع عموم الابتلاء به!.

مضافا إلى ما يظهر من الحلّي وغيره ، بل من كلّ من تعرّض له مخالفة القول بثبوت الخمس في الإرث والهبة والصدقة للمشهور ، بل اختصاص القول به في القدماء بالحلبي.

نعم ربما مال إليه بعض المتأخّرين.

وكيف كان ، فلا ينبغي الارتياب في أنّ كلّ من كان في مقام بيان متعلّق الخمس ولم يصرّح بثبوته في الإرث ونحوه ، هو ممّن لا يقول به فلا تغترّ بما يوهمه بعض العبائر المشعرة أو الظاهرة في تعلّقه بكلّ ما يستفيده الإنسان من أيّ وجه يكون ، كعبارة الغنية المتقدّمة (١) من إرادة ما يعمّ الإرث ونحوه ، فإنّه لو لم نقل بانصرافه في حد ذاته إلى إرادة التعميم بالنسبة إلى وجوه التكسّب ، يتعيّن صرفه إلى ذلك بواسطة جملة من القرائن الداخلية والخارجية التي تقدّمت ، الإشارة إلى بعضها.

والغرض من إطالة الكلام نفي احتمال اشتهار القول بوجوب الخمس في كل مال (٢) يحصل للإنسان من أيّ سبب يكون ولو بالإرث ؛ كي تجعل الشهرة جابرة لضعف بعض الأخبار الآتية الدالّة بظاهرها على ذلك.

وأمّا الأخبار : فربّما يظهر من جملة منها تعلّقه بكلّ ما يملكه الإنسان ، ويستفيده من أيّ سبب يكون.

منها : ما روي عن الحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ ، في كتابه للمأمون ، قال : «والخمس من جميع المال

__________________

(١) تقدّمت آنفا في صفحة ١١١.

(٢) في الطبعة الحجرية بدل مال : ما.

١١٣

مرّة واحدة» (١).

وما روي عن بصائر الدرجات عن عمران بن موسى عن موسى بن جعفر ـ عليه‌السلام ـ ، قال : قرأت عليه آية الخمس ؛ فقال : «ما كان لله فهو لرسوله ، وما كان لرسوله فهو لنا» ثمّ قال : «والله لقد يسّر الله على المؤمنين أرزاقهم بخمسة دراهم جعلوا لربّهم واحدا ، وأكلوا أربعة» ثم قال : «هذا من حديثنا صعب مستصعب لا يعمل به ، ولا يصبر عليه إلّا مؤمن ممتحن» (٢).

وما حكي عن ابن طاوس ـ قدّس الله روحه ـ بسنده عن أبي الحسن موسى بن جعفر عن أبيه ـ عليهما‌السلام ـ : «أنّ رسول الله قال لأبي ذر وسلمان والمقداد : أشهدوني على أنفسكم بشهادة أن لا إله إلّا الله ـ إلى أن قال ـ وأنّ عليّ بن أبي طالب وصيّ محمد ، وأمير المؤمنين ، وأنّ طاعته طاعة الله ورسوله والأئمّة من ولده ، وأن مودّة أهل بيته مفروضة واجبة على كلّ مؤمن ومؤمنة مع إقام الصلاة لوقتها ، وإخراج الزكاة من حلّها ، ووضعها في أهلها ، وإخراج الخمس من كلّ ما يملكه أحد من الناس حتّى يرفعه إلى وليّ المؤمنين وأميرهم ومن بعده من الأئمّة من ولده ، فمن عجز ولم يقدر إلّا على اليسير من المال فليدفع ذلك إلى الضعفاء من أهل بيتي من ولد الأئمة ، فمن لم يقدر على ذلك فلشيعتهم ممّن لا يأكل بهم الناس ولا يريد بهم إلّا الله ، فهذه شروط الإسلام وما بقي أكثر» (٣).

ورواية محمد بن الحسن الأشعري قال : كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني ـ عليه‌السلام ـ : أخبرني عن الخمس أعلى جميع ما يستفيد

__________________

(١) تحف العقول : ٤١٨ ، الوسائل : الباب ٢ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ١٣.

(٢) بصائر الدرجات : ٤٩ / ٥ ، الوسائل : الباب ١ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٦.

(٣) الوسائل : الباب ٤ من أبواب الأنفال ، الحديث ٢١.

١١٤

الرجل من قليل وكثير من جميع الضروب ، وعلى الضياع (١) ، وكيف ذلك؟ فكتب ـ عليه‌السلام ـ بخطّه «الخمس بعد المئونة» (٢) وظاهره تقرير السائل من حيث عموم المتعلّق.

وخبر سماعة ، المروي عن الكافي ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الخمس ، فقال : «في كلّ ما أفاد الناس من قليل أو كثير» (٣).

وربما يستدلّ له أيضا : بعموم الآية (٤) الشريفة ، بناء على تفسير الغنيمة بمطلق الفائدة ، كما يؤيّد ذلك استدلال المشهور ـ على ما نسب (٥) إليهم ـ بعمومها لإثبات الخمس في سائر الموارد.

وقوله ـ عليه‌السلام ـ في خبر حكيم ، الوارد في تفسيرها : «هي والله الإفادة يوما بيوم إلّا أنّ أبي جعل شيعتنا في حلّ من ذلك» (٦).

بل هذه الرواية بنفسها شاهدة للعموم.

وما في ذيلها من التصريح بتحليله للشيعة غير ضائر ؛ لما عرفت ـ في ما سبق ـ من لزوم حمله ـ كسائر أخبار التحليل ـ على بعض المحامل التي لا ينافيها وجوبه في هذه الأزمنة.

ولكن قد ينافيه ما عن العلّامة في المنتهى ، والفاضل المقداد (٧) ـ كما

__________________

(١) في المصادر : الصناع. وفي هامش النسخة : الصنائع خ ل.

(٢) التهذيب ٤ : ١٢٣ / ٣٥٢ ، الإستبصار ٢ : ٥٥ / ١٨١ ، الوسائل : الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ١.

(٣) الكافي ١ : ٥٤٥ / ١١ ، الوسائل : الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٢.

(٤) الأنفال ٨ : ٤١.

(٥) الناسب هو الشيخ الأنصاري في كتاب الخمس : ٥٣١.

(٦) التهذيب ٤ : ١٢١ / ٣٤٤ ، الوسائل : الباب ٤ من أبواب الأنفال الحديث ٨.

(٧) كما في كتاب الخمس للشيخ الأنصاري : ٥٣١ ، وراجع : منتهى المطلب ١ : ٥٤٨ ، والتنقيح الرائع ١ : ٣٣٧.

١١٥

في مجمع البحرين (١) ـ من تفسير الغنيمة بالفائدة المكتسبة ، فلا تشمل حينئذ مثل الإرث بل الصدقة والهبة أيضا ، بل لعلّ هذا هو أيضا منصرف خبر حكيم ؛ فإنّ الإفادة والاستفادة بمعنى ، والمنساق منها إرادة التكسّب كما يومئ إلى ذلك سوق الخبر وتمثيله بمسألة الخيّاط.

فالإنصاف : أنّه لا يظهر من هذه الرواية إرادة الأعمّ من أرباح المكاسب من الإفادة يوما بيوم ، بل لا يبعد دعوى انصراف لفظ «الإفادة» و «الاستفادة» الواردتين في مكاتبة الأشعري وخبر سماعة (٢) أيضا إلى الأرباح ، فاستظهار العموم من مثل هذه الروايات لا يخلو عن نظر ، بل وكذا غيرها من الأخبار المزبورة عدا الخبر (٣) المحكي عن ابن طاوس ـ قدس‌سره ـ مع ما في جميع تلك الأخبار من ضعف السند.

ونحوها في قصور الدلالة : خبر علي بن راشد ، الذي رواه عنه علي بن مهزيار ، وهو أوضح ما في هذا الباب من حيث كونه مسوقا لبيان ما يتعلّق به الخمس من هذا القسم.

قال علي بن مهزيار : قال لي أبو علي بن راشد : قلت له : أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقّك ، فأعلمت مواليك بذلك ، فقال لي بعضهم :وأي شي‌ء حقّه؟ فلم أدر ما أجيبه ، فقال «يجب عليهم الخمس» فقلت : ففي أيّ شي‌ء؟ فقال : «في أمتعتهم وصنائعهم» ـ وفي بعض النسخ : «وضياعهم» ـ قلت : فالتاجر عليه والصانع بيده؟ فقال : «ذلك إذا أمكنهم بعد مؤونتهم» (٤).

__________________

(١) مجمع البحرين ٦ : ١٢٩.

(٢) تقدّما في صفحة ١١٤ و ١١٥.

(٣) تقدّم في صفحة ١١٤.

(٤) التهذيب ٤ : ١٢٣ / ٣٥٣ ، الإستبصار ٢ : ٥٥ / ١٨٢ ، الوسائل : الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٣.

١١٦

بل ظاهر هذه الرواية عدم تعلّقه بمطلق ما يملكه الإنسان ، فإنّ المتاع ـ كما في القاموس (١) ـ : المنفعة والسلعة والأداة وكلّ ما تمتّعت به من الحوائج ، جمعه أمتعة.

وفي المجمع : المتاع : المنفعة وكلّ ما ينتفع به كالطعام والبرّ وأثاث البيت ـ إلى أن قال ـ والجمع : أمتعة (٢).

والأنسب بالمقام إمّا إرادة المعنى الأول ، أي المنفعة ، أو السلعة.

وعلى الثاني أيضا لا يبعد انصرافها إلى إرادة الخمس في ما يستفيد بها لا في ذواتها.

ولعلّ السائل أيضا لم يفهم من كلامه ـ عليه‌السلام ـ إلّا ذلك ، فأراد بقوله : فالتاجر عليه والصانع بيده ؛ التفريع على ما فهمه من كلامه ـ عليه‌السلام ـ من اقتضائه انحصار الخمس في التاجر ومن يكتسب شيئا بكدّ يمينه ، لا كلّ من ملك شيئا ولو بإرث ونحوه ؛ فنبّهه الإمام ـ عليه‌السلام.

على أنّ ذلك أيضا ليس على إطلاقه ، بل إنّما ذلك إذا أمكنهم بعد مؤونتهم.

وعلى تقدير صحة نسخة «وضياعهم» يكون التفريع بملاحظة الأغلب من عدم كونهم صاحب الضيعة ، فليتأمّل.

ولكن في بعض النسخ : والتاجر ؛ بالواو ؛ ولعلّه من سهو القلم ، وعلى تقدير صحته فهو لا يخلو عن إجمال.

وكيف كان ، فالرواية وإن لا تخلو عن تشابه إلّا أنّ ظاهرها لأجل

__________________

(١) القاموس المحيط ٣ : ٨٣.

(٢) مجمع البحرين ٤ : ٣٨٩.

١١٧

كونها مسوقة لبيان ما يتعلّق به الخمس : عدم تعلّقه بأموالهم التي لا تعدّ عرفا من الأمتعة والضياع ، كالنقد المنتقل إليه بإرث ، ونحوه ، أو غير ذلك ممّا لا يطلق عليه في العرف اسم المتاع ، سواء فسّر بالمنفعة أو السلعة أو غير ذلك من معانيه المذكورة في اللغة ، إلّا على نحو من التوسّع.

ولكن ربما يظهر من بعض الأخبار تعلّقه بمطلق الفائدة ، وأنها هي المرادة بالغنيمة ، مع وقوع التمثيل فيها بالإرث والجائزة ؛ كقوله ـ عليه‌السلام ـ في صحيحة علي بن مهزيار : «فأمّا الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كلّ عام ، قال الله تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ» (١) إلى آخرها ـ إلى أن قال ـ والغنائم والفوائد يرحمك الله فهي الغنيمة يغنمها المرء ، والفائدة يفيدها ، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر ، والميراث الذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن (٢) ، ومثل عدوّ يصطلم فيؤخذ ماله ، ومثل مال يوجد ولا يعرف له صاحب ، ومن ضرب ما صار إلى موالي من أموال الخرميّة الفسقة» (٣) الحديث.

وعن الفقه الرضوي بعد ذكر الآية قال : وكلّ ما أفاد الناس غنيمة ، ولا فرق بين الكنوز والمعادن والغوص ـ إلى أن قال : وربح التجارة وغلّة الضيعة وسائر الفوائد والمكاسب والصناعات والمواريث وغيرها ، لأنّ الجميع غنيمة وفائدة (٤).

__________________

(١) الأنفال ٨ : ٤١.

(٢) بهامش النسخة : من غير أب وأمّ. خ ل.

(٣) التهذيب ٤ : ١٤١ / ٣٩٨ ، الإستبصار ٢ : ٦٠ / ١٩٨ ، الوسائل : الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٥.

(٤) الفقه المنسوب للإمام الرضا ـ عليه‌السلام ـ : ٢٩٤ بتفاوت.

١١٨

وخبر يزيد ، قال : كتبت جعلت لك الفداء تعلّمني ما الفائدة وما حدّها؟ رأيك أبقاك الله أن تمنّ عليّ ببيان ذلك ؛ لكي لا أكون مقيما على حرام لا صلاة لي ولا صوم ، فكتب «الفائدة ممّا يفيد إليك في تجارة من ربحها ، وحرث بعد الغرام أو جائزة» (١).

ويدلّ على ثبوته في خصوص الهبة ـ مضافا إلى ما ذكر ـ خبر أبي بصير ، المروي عن مستطرفات السرائر نقلا من كتاب محمد بن علي بن محبوب عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، قال : كتبت إليه في الرجل يهدي إليه مولاه والمنقطع إليه هدية تبلغ ألفي درهم أو أقلّ أو أكثر ، هل عليه فيها الخمس؟ فكتب ـ عليه‌السلام ـ «الخمس في ذلك».

وعن الرجل يكون في داره البستان فيه الفاكهة يأكله العيال ، إنّما يبيع منه الشي‌ء بمائة درهم أو خمسين درهما ، هل عليه الخمس؟ فكتب «أمّا ما أكل فلا ، وأمّا البيع فنعم هو كسائر الضياع» (٢).

وخبر علي بن الحسين بن عبد ربّه ، قال سرّح الرضا ـ عليه‌السلام ـ بصلة إلى أبي ، فكتب إليه أبي : هل عليّ في ما سرّحت إليّ خمس؟فكتب إليه «لا خمس عليك في ما سرّح به صاحب الخمس» (٣) فإنّ ظاهره أنّ وجه عدم الخمس هو كون المسرّح به صاحب الخمس ، لا لكونه تسريحا.

ويدلّ أيضا على ثبوته في مثل الهبة والإرث في أصل الشرع : رواية أبي خديجة ، المتقدّمة (٤) في أخبار التحليل ، التي وقع فيها السؤال عن

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٤٥ / ١٢ ، الوسائل : الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٧.

(٢) السرائر ٣ : ٦٠٦ ، الوسائل : الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ١٠.

(٣) الكافي ١ : ٥٤٧ / ٢٣ ، الوسائل : الباب ١١ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٢.

(٤) تقدّمت في صفحة ١٠٥.

١١٩

تحليل خادمة يشتريها ، أو امرأة يتزوّجها ، أو ميراث يصيبه ، أو تجارة ، أو شي‌ء أعطيه ، فقال له ـ عليه‌السلام ـ : «هذا لشيعتنا حلال ـ إلى أن قال ـ أما والله لا يحلّ إلّا لمن أحللنا له».

إلّا أن يناقش في دلالتها على المدّعى : بأنّه لا يكاد يظهر من هذا الخبر أزيد من أنّ لهم في كلّ شي‌ء في الدنيا نصيبا ، فلا يحلّ ذلك لمن جرت يده عليه إلّا بتحليلهم له ، كما في الأمة التي يشتريها ، وأمّا أنّه بعد أن حلّلوه وجعلوه ملكا له ، أو دفع ذلك الشخص إليه خمسه ، ثمّ انتقل منه إلى ثالث ببيع أو هبة أو إرث يحدث لهم بهذا النقل أيضا من حيث هو حقّ ، فلا يحلّ للثالث أيضا إلّا بتحليلهم ، كما هو المدّعى ، فلا يفهم من هذا الخبر.

وكيف كان فعمدة ما يصحّ الاستشهاد به لإثباته في مثل الإرث والهبة هي صحيحة علي بن مهزيار (١) ، وما بعدها من الروايات ، وقد قيّد الميراث في الصحيحة بكونه ممّن لا يحتسب من غير أب ولا ابن ، وكذا الجائزة بكونها خطيرة.

ولا يبعد مساعدة العرف أيضا على اعتبارهما في إطلاق لفظ «الغنيمة» فقضية الجمع بينها وبين الأخبار المطلقة ـ على تقدير تجويز العمل بهذه الأخبار ـ إنما هو تقييد إطلاقها بهذه الصحيحة ، ولكن لم ينقل الالتزام به عن أحد ، فإنّ من (٢) حكي عنه القول بثبوت الخمس في الهبة والمواريث لم يفصّل بين مصاديقهما.

فمن هنا قد يضعف القول بثبوته في الإرث بأنّ عمدة مستنده هذه

__________________

(١) تقدّمت في صفحة ١١٨.

(٢) وهو أبو الصلاح الحلبي.

١٢٠