دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٢

لم يكونوا وحدهم فقد كانت القوافل ترد مصر بكثرة كاثرة لتمتار الغلة من أرض الكنانة في السنين العجاف ، غير أن يعقوب ما كان يبحث عن أعذار ، ومن ثم فقد انصرف إلى ربه يدعوه ويضرع إليه ويقول : «بل سولت لكم أنفسكم أمرا ، فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا ، إنه هو العليم الحكيم» ، وتولى عنهم يبكي ولدا بعد ولد ، والجرح الأول أعمق ، والجرح على الجرح أنكى وأشد ، «وقال يا أسفا على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم» ، ويبلغ الحقد بقلوب بنيه لا يرحموا ما به ، وأن يلسع قلوبهم حنينه ليوسف وحزنه عليه ذلك الحزن الكامد الكظيم ، فلا يسرون عنه ولا يعزونه ، ولا يعللونه بالرجاء ، بل يريدون أن يطمسوا في قلبه الشعاع الأخير ، «قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين» ، ويرد عليهم بأن يتركوه لربه ، فهو لا يشكو لأحد من خلقه ، وهو على صلة بربه غير صلتهم ، ويعلم من حقيقته ما لا يعلمون ، ثم يوجههم إلى تلمس يوسف وأخيه ، وألا ييأسوا من رحمة الله في العثور عليهما ، فإن رحمته واسعة وفرجه دائما منظور (١).

وجهز القوم جهازهم وحملوا متاعهم وبضاعتهم ، ودخلوا مصر ، للمرة الثالثة ، وقد هدّهم التعب وكدهم العيش ، وضاقت بهم السبل ، وكاد أن يقضي عليهم القحط القاتل ، فلقد أضرت بهم المجاعة ، ونفدت منهم النقود ، وجاءوا ببضاعة رديئة هي الباقية لديهم يشترون بها الزاد ، يدخلون وفي حديثهم انكسار لم يعهد في أحاديثهم من قبل ، وشكوى من المجاعة تدل على ما فعلت بهم الأيام ، ودخلوا على يوسف فقالوا : يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضرّ وجئنا ببضاعة مزجاة من صوف ودراهم زيوف أو رديئة ، قال ابن عباس ، فيما يروي الرازي ، كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطعام ،

__________________

(١) في ظلال القرآن ٤ / ٢٠٢٥ ـ ٢٠٢٦.

٨١

ثم سألوه «فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين» ، وكان الصديق عليه‌السلام دقيق الحس ، رقيق القلب ، لطيف الوجدان ، وإلى هذا الحد لا يطيق أن يرى على إخوته الذل والتذلل ، والمهانة والاستكانة ، وطلب الصدقة والمعونة ، ومن ثم فقد أعلمهم بحقيقة أمره وعفا عنهم ، وقال لهم «اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا ، وأتوني بأهلكم أجمعين» ، وأما كيف عرف الصديق أن رائحته سترد على أبيه بصره الكليل ، فذلك مما علمه الله ، والمفاجأة تصنع في كثير من الحالات فعل الخارقة ، وما لها لا تكون خارقة ، ويوسف نبيّ رسول ، ويعقوب نبيّ رسول (١).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن صياغة التوراة لدعوة يوسف أباه وأهله أن يأتوا إليه في مصر ، إنما تعطي تأكيدا يكشف عن مطامع يهود في مصر ، تقول التوراة «خذوا أباكم وبيوتكم (خيامكم) وتعالوا إلي فأعطيكم خيرات أرض مصر وتأكلون دسم الأرض ... خذوا لكم من أرض مصر عجلات لأولادكم ونسائكم واحملوا أباكم وتعالوا ، ولا تحزن عيونكم على أثاثكم لأن خيرات جميع أرض مصر لكم (٢)» ، كما أن التوراة لم تهمل كذلك أن تؤكد أن رحلة هؤلاء المجهدين الجياع إلى مصر المضيافة ، دائما وأبدا ، إنما كانت للقوت ، ولكنها تؤكد كذلك أنها لتحقيق مؤامرة على الأرض الطيبة التي استضافتهم (٣).

وعلى أية حال ، فإن يعقوب عليه‌السلام ، سرعان ما يصل إلى مصر ، بعد أن ارتد بصيرا ، ويصف القرآن الكريم لقاء يوسف بأبيه وإخوته في قول الله تعالى : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ

__________________

(١) في ظلال القرآن ٤ / ٢٠٢٦ ـ ٢٠٢٧ ، تفسير الفخر الرازي ١٨ / ٢٠١.

(٢) تكوين ٤٥ / ١٨ ـ ٢٠.

(٣) تكوين ٤٦ / ١ ـ ٤.

٨٢

شاءَ اللهُ آمِنِينَ ، وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ، رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ، ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ. نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (١).

وتذهب التوراة إلى أن يعقوب عليه‌السلام ، إنما جاء ومعه كل أفراد أسرته «ست وستون نفسا» ، فضلا عن نساء بني يعقوب ، وأبناء يوسف اللذان ولدا في مصر نفسان ، جميع نفوس بيت يعقوب التي جاءت إلى مصر سبعون (٢).

(٣) استقرار بني إسرائيل في أرض جوشن :

تروي التوراة أن يوسف عليه‌السلام طلب من أبيه وإخوته أن يقولوا للملك إذا ما سألهم عن صناعتهم : عبيدك أهل مواشي منذ صبانا إلى الآن نحن وآباؤنا جميعا لكي تسكنوا في أرض جاسان ، لأن كل راعي غنم رجس للمصريين (٣)» ، وهكذا يذهب إخوة يوسف إلى ملك مصر يسألونه السكنى

__________________

(١) سورة يوسف : آية ٩٩ ـ ١٠٢ ، وانظر : تفسير الكشاف ٢ / ٥٠٤ ـ ٥٠٧ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٣٣٤ ـ ٣٣٧ ، تفسير الطبري ١٣ / ١١٨ ـ ١٢٦ ، تفسير الفخر الرازي ١٧ / ٢١٠ ـ ٢١٧ ، تفسير أبي السعود ٤ / ٢٩٣ وما بعدها ، تفسير القرطبي ص ٣٤٩٢ ـ ٣٤٩٤ ، الدار المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي ٤ / ٢٧ ـ ٤٠ ، محمد رشيد رضا : تفسير سورة يوسف ص ١٢٦ ـ ١٣٠ (القاهرة ١٩٣٦) ، تفسير النسفي ٤ / ٢٣٥ ـ ٢٤٠ ، صفوة التفاسير ٢ / ٦٨ ـ ٦٩ (بيروت ١٩٨١).

(٢) تكوين ٤٦ / ٢٦ ـ ٢٧.

(٣) تكوين ٤٦ / ٣٣ ـ ٣٤.

٨٣

في أرض جاسان ، ويجيب الملك سؤلهم (١) ، ولعل في اختيار هذا المكان ، إلى جانب جودته ، روعى فيه قربه من حدود مصر الشرقية ، وسيناء المطلة على أرض كنعان ، حيث ورد يعقوب وبنوه ، كي يقيموا ما أحبوا الإقامة ، ويرحلوا متى شاءوا الرحيل (٢).

وهكذا استقر المطاف ببني يعقوب إلى الاستقرار في مصر ، حيث نزلوا أرض جوشن (جسم أو جسام ، كما قرئ اسمها في النصوص المصرية (٣)) ، أو أرض «جاسان» ، كما وردت في توراة يهود ، ويكون استقرارهم هذا في تلك البقعة من وادي طميلات شرقي الدلتا ، فاتحة لقصة تاريخ أكبر تشعبت أحداثه ، وتقلبت فصوله.

على أن هناك خطأ تاريخيا في رواية التوراة ، حيث تقول في سفر التكوين أن يوسف قد أسكن أباه وأخوته في «أرض رعمسيس» ، ذلك لأن كلمة «رعمسيس» لا تستعمل إلا منذ الأسرة التاسعة عشرة (١٣٠٨ ـ ١١٩٤ ق م) ، وليس منذ عهد الهكسوس (حوالي ١٧٢٥ ـ ١٥٧٥ ق. م) ، وهو العصر الذي يفترض دخول بني يعقوب فيه مصر ، كما سوف نفصل ذلك فيما بعد.

وعلى أي حال ، فلقد قام جدل طويل حول موقع «أرض جوشن» أو جاسان ، وربما كان ذلك لأن «أرض جوشو» لم تذكر في أي نقش مصري (٤) ، وإنما بدلا عنها «أرض جسم أو جاسم» (٥) ، هذا فضلا عن أن

__________________

(١) تكوين ٤٨ / ٥ ـ ٦.

(٢) كمال عون : اليهود من كتابهم المقدس ـ القاهرة ١٩٧٠ ص ٨٥.

(٣).P.Montet ,L\'Egypt et la Bible ,. ٥٧.p ، ١٩٥٩.

(٤) جيمس بيكي : الآثار المصرية في وادي النيل ـ الجزء الأول ، ترجمة لبيب حبشي وشفيق فريد ، مراجعة محمد جمال الدين مختار ، القاهرة ١٩٦٣ ص ٤٩.

(٥).P.montet ,L\'Egypte et la Bible ,p. ٥٧.

٨٤

التوراة نفسها ، إنما هي مضطربة في تحديدها بالنسبة إلى مصر ، فهي في بعض نصوص التوراة ، إقليم يقع على مقربة من مصر ، ملائم لرعي الماشية ، ولكنه غير مسكون بالمصريين (١) ، وهي في نصوص أخرى ـ توراتية كذلك (٢) ـ ليست إقليما مجاورا لمصر ، ولكنه جزء من مصر نفسها (٣) ، وليت الأمر اقتصر على ذلك بل إن التوراة إنما تطلق نفس هذا الإسم (أرض جوشن) ، على منطقة في فلسطين الجنوبية ، تقع فيما بين غزة وجبعون (٤) ـ وتقع في مكانها الآن قرية الجيب ، على مبعدة خمسة أميال إلى الشمال الغربي من أورشليم (٥) ـ أحيانا ، وعلى واحدة من مجموعة مدن في جبال يهوذا أحيانا أخرى (٦).

وقد أدى ذلك كله إلى وجود أكثر من رأي بشأن موقع «أرض جوشن» فهناك من يرى مطابقتها بالمدينة والإقليم المعروف لدى المصريين باسم «بر ـ سوبد» (صفط الحنة الحالية) (٧) ، وهناك فريق ثان يذهب إلى أنها إنما تقع في وادي طميلات ، وتمتد من بحيرة التمساح حتى النيل (٨) ، على أن هناك من يرى أن وادي طميلات إنما يمتد من فرع النيل الشرقي حتى بحيرة التمساح الحالية ، التي تقع في وسط قناة السويس ، ويمثل اتساعا من أراض زراعية على الحد الشرقي لدلتا النيل المصرية ، مجاورا لصحراء سيناء

__________________

(١) تكوين ٤٦ : ٣٤ ، خروج ٩ : ١٦.

(٢) تكوين ٤٧ : ٦ ، خروج ٣ : ٢٢٨٢١ ، ١١ : ٢.

(٣) A Gardiner ,JEA , ٢٦٢.p ، ١٩١٨ ، ٥ وكذاE.naville JEA ,. ١٠ ٣١.p ، ١٩٢٤. ١٠

(٤) قاموس المتاب المقدس ١ / ٢٤٦.

(٥) يشوع ١٠ : ٤١ ، ١١ : ١٦.

(٦) يشوع ١٥ : ٥١ ، قاموس الكتاب المقدس ١ / ٢٧٧ (بيروت ١٩٦٤).

(٧) جيمس بيكي : المرجع السابق ص ٤٩.

(٨) MF.unger ,op.cit ,p. ٤٢٠.

٨٥

مباشرة ، ويبدو أن وادي طميلات ـ وربما جزءا منه ـ كان له اسم في العصور القديمة يظهر في التوراة على شكل «أرض جوشن» أو «جاسان» ، وطبقا لما جاء في سفر الخروج (١) فإنه كان في أرض جوشن التي استقر فيها الإسرائليون إبان هبوطهم مصر (٢).

على أن هناك فريقا ثالثا ، إنما يذهب إلى أن أرض جوشن إنما تقع في شبه جزيرة سيناء ، وتمتد فيما بين تانيس ومنطقة العريش ، فضلا عن وادي طميلات الذي ينحدر من الشرق إلى الغرب فيما بين الزقازيق والإسماعيلية (٣) ، وإن كان هناك فريق رابع يتردد في ذلك ، على أساس أن هناك «جوشن» أخرى ، قد ذكرت مع «قادش» وغزة في جنوب فلسطين ، وتقع في تخوم نهر مصر (وادي العريش) ، وبما أن هاجر أم إسماعيل دعيت في التوراة «مصرية» ، فمن المستطاع إذن القول باتساع اسم مصر ، والأمر كذلك بالنسبة إلى «برية أرض مصر» حيث وضع «حزقيال» (٤) ـ على ما يبدو ـ هؤلاء الإسرائليين الرحل (٥).

وهناك فريق خامس ، يذهب إلى أن أرض جوش إنما هي وادي طميلات ـ والذي يرى أنه يمتد شرقا وغربا من الزقازيق حتى الإسماعيلية ـ غير أن هذا التوحيد غير مؤكد (٦) ، ذلك لأن الدكتور «سير ألن جاردنر» (١٨٧٩ ـ ١٩٦٢ م) يرى أن الكلمة المصرية التي قرأها «هينرش بروجش» (١٨٢٧ ـ ١٨٩٤ م) و «إدوارد نافيل» (١٨٧٥ ـ ١٩١٤ م) ، على أنها

__________________

(١) خروج ٨ : ١٨. ٩ : ٢٦.

(٢) M.Noth.The History of Israel ,London , ١١٣.p ، ١٩٦٥.

(٣) حسن محمود : حضارة مصر والشرق القديم ـ العبرانيون ص ٣٥١.

(٤) حزقيال ٢٠ : ٢٦.

(٥) S.A.cooks ,CAH ,III ,Cambridge , ٣٥٩.p ، ١٩٦٥.

(٦)A. Lods, Israel, Form its Beginnings to the middle of the Eight Century London ١٧٨.p ، ١٩٦٢.

٨٦

«جوشن» كانت اسما لسيناء (١) ، وهناك تقاليد يهودية عديدة وضعت مكان استيطان العبرانيين بعيدا إلى الشمال ، ناحية تانيس وبلوزيوم (٢).

ومع ذلك ، فهناك احتمال أن يكون وادي طميلات ، على الأقل جزءا من «أرض جوشن» ، ذلك لأن مدينة «بيشوم» (٣) ، كانت بالتأكيد في هذا الوادي والأمر كذلك بالنسبة إلى مدينة «هيرونبوليس» والتي وحدتها الترجمة السبعينية التي تمت بمصر في عهد بطليموس الثاني (٢٨٤ ـ ٢٤٦ ق. م) ، مرتين بجوشن (٤) ، هذا فضلا عن أن وادي طميلات إقليم بدوي تخترقه ترعة تتغذى من مياه النيل ، وفي الوقت الحاضر ـ وطبقا للتطور الزراعي ـ تستطيع إعالة اثنى عشر ألفا من السكان المزارعين ، ولكن كان يسكنها منذ قرن مضى أربعة آلاف من البدو ، وهكذا كانت طبيعة هذا الوادي وقت أن سمح موظف الحدود على أيام مرنبتاح (١٢٢٤ ـ ١٢١٤ ق. م) لقبائل البدو الشاسو من أدوم بالدخول (٥).

والرأي عندي ، أن «أرض جوشن» هذه ، إنما تقع في وادي طميلات والذي يمتد من فرع النيل الشرقي (البيلوزي) متجها نحو الشرق ، حتى بحيرة التمساح ـ ذلك لأننا لا نستطيع أن نجعل «أرض جوشن» هذه في جنوب فلسطين ، أو في المنطقة الممتدة من وادي العريش حتى غزة ، إذ أن ذلك إنما يتعارض تعارضا تاما مع القول بأن الإسرائيليين دخلوا مصر وعاشوا فيها

__________________

(١).A. H. Gardiner, The Supposed Egyptian Equivalent of the Name of Goshen JEA,

٢٣ ـ ١٨.p ، ١٩١٨ ، ٥.

(٢) مزمور ٧٨ : ١٢.

(٣) خروج ١ : ١١.

(٤) تكوين ٤٥ : ٢٨ ـ ٢٩.

(٥).A.Lods ,op.cit ,p. ١٧٤ ـ ١٧٢.

٨٧

هذا فضلا عن أن إطلاق اسم «جوشن» على منطقة بجنوب فلسطين ، ربما كان إحياء لذكرى مصر التي ترسبت في نفوس القوم ، دون أن يجدوا لها فكاكا ، وقد ظهر ذلك الإسم على مدينة في جبال يهوذا كذلك ، ربما لأن هذه المنطقة إنما كانت خصبة بدرجة تشبه في ذلك منطقة جوشن في مصر ، كما أن الاضطهاد الذي تحدثت عنه التوراة قد ارتبط ببناء مدينتي رعمسيس وفيثوم ، وكانت الأولى في موقع على الأقل ليس ببعيد عن وادي طميلات ، أما الثانية «فيثوم» (بيثوم بر ـ أتوم) ، فهي بالتأكيد في هذا الوادي ، كما أن خروج بني إسرائيل إنما تمّ من هذه المنطقة (من رعمسيس إلى سكوت ... الخ) ، وليس هناك من دليل ـ أو حتى مجرد إشارة ـ على أن الإسرائيليين قد نقلوا من منطقة استقرارهم الأولى على أيام يوسف الصديق ، وحتى الخروج على أيام موسى الكليم ، عليهما‌السلام.

وأيا ما كان الأمر ، فقد دخل الإسرائيليون مصر ، واستقروا في «أرض جوشن» ، وإن كان بعض الباحثين إنما يحاول أن يتشكك في ذلك كله ، وأن ينفي دخول العبرانيين مصر من أساس ، معتمدين في ذلك على عدة أسباب ، منها (أولا) أنه لا توجد وثائق غير إسرائيلية تؤكد صحة التقاليد العبرية الخاصة بإقامة الإسرائيليين في مصر وخروجهم منها ، وإن كان بعض المفسرين قد بحثوا جادين لإعطاء النصوص والتفسيرات المطلوبة.

ومنها (ثانيا) أن النقوش المصرية المختلفة تسجل دخول الأسيويين مصر ، ولكن ليس واحدا منها يشير إلى دخول بني إسرائيل أرض الفراعين ، وإن كانت قد أشارت إلى العمال الأسيويين الذين كانوا يفدون إلى مصر ، ويستخدمهم الفراعين في أعمال البناء ، وكان يطلق عليهم «عبر» (,P.R) ، وتقرأ «عابيرو» (Apuriu) ، وقد استدل عليهم كثير من علماء المصريات ، مثل «شاباس» ، وعلماء العبرية ـ من أمثال هومل وسكنر ودرايفر وكريجلز ـ الذين وحوهم بالعبريين ، إلا أن ذلك لم تثبت صحته بسبب الصعوبات

٨٨

اللغوية ، وأما عن عن وجود «العابيرو» في مصر ، فأمر تؤيده نقوش مصرية ، ترجع إلى أيام «رعمسيس الرابع» (١١٥١ ـ ١١٤٥ ق. م) ـ من الأسرة العشرين ـ وهي ترجع إلى فترة متأخرة عن أي تاريخ مقترح لخروج بني إسرائيل من مصر ، ومن هنا يمكننا ـ اعتمادا على سكوت المصادر المصرية ـ أن نستنتج أن دخول الإسرائيليين مصر ، إنما هو خيال بحت ، لا يعتمد على أي أساس تاريخي.

ومنها (ثالثا) أن كلمة «مصرايم» التي وردت في التوراة لا تدل على مصر ، وإنما على الإقليم الواقع شمال شبه الجزيرة العربية والذي يمتد غربا حتى حدود مصر الشرقية ، ولهذا فإن ما يقال عن إقامة العبريين في مصر ، معناه إقامتهم في جنوب فلسطين ، أو في شبه جزيرة سيناء ، ذلك أن الخروج ـ طبقا لنظرية العالم اليهودي هوجو فنكلر ـ لم يحدث من مصر ، إذ أن «فنكلر» يعتقد أن اسم «مصرايم» لم يكن مقصورا على الإشارة إلى مصر ، ولكنه كان كذلك يشمل الإقليم الذي سماه الجغرافيون البابليون «مصر» (أو موصري) ، والذي يقع جنوب البحر الميت شمال شبه جزيرة العرب ، ويمتد غربا حتى حدود مصر الشرقية ويضم جبل سعير ومدينة البتراء وأراضي مدين وأدوم.

ويعتقد «فنكلر» أن التقاليد الأصلية عند ما تحدثت عن إقامة الآباء ـ وبخاصة موسى ـ في «مصرايم» ، فقد كانت تشير إلى ذلك الزمن ، حيث عاش أسلاف العبرانيين في صحراء جنوب فلسطين ، ثم بدأ سكان كنعان يستخدمون اصطلاح «مصرايم» على المراعي الجنوبية ، وكذا على مصر نفسها ، ذلك البلد الذي يقع بالنسبة إليهم فيما وراء الصحراء ، ولعل مما يفسر افتراضنا هذا ، أن الوادي القريب من غزة سمي «نهر مصرايم» ، بالرغم من أنه كان على مسيرة ثلاثة أيام من الحدود المصرية ، ومن هنا فمن الممكن أن يشير اسم «مصرايم» في بعض النصوص والتقاليد العبرية إلى الصحراء

٨٩

المصرية ، وليس إلى اسم مصر بالذات (١).

غير أن هناك كثيرا من الصعاب التي تقف عقبة كئود في سبيل قبولنا لوجهة النظر هذه ، منها (أولا) أن التقاليد الإسرائيلية لا تتحدث عن مجرد الإقامة المؤقتة في «مصرايم» ، ولكنها تتحدث كذلك عن استبعاد الآباء الأولين فيها ، وليس من المقبول أن بتحدث العبرانيون عن استعبادهم في مصر بهذه الصورة ، لمجرد الثناء على قوة الرب التي يعزون إليها خلاصهم (٢).

ومنها (ثانيا) أن مصر ، وإن لم تقدم دليلا مباشرا على إقامة العبريين فيها ، فإنها قدمت ما يجعل الإقامة والخروج منها أمرا مقبولا تماما ، فهناك صلات عديدة بين الحياة في مصر ، كما نعرفها من الآثار ، وتفصيلات الرواية الإسرائيلية عن هذه النقطة (٣) ، ذلك لأن التقارير الخاصة عن أقدم صورة للتقاليد الإسرائيلية (في المصدر إليهوي) بشأن أسلوب الحياة في «جوشن» ومدن المخازن (رعمسيس وبيثوم) ، تتفق مع الحقائق التي قدمتها الحفريات عنها (٤) ، هذا فضلا عن أن ما جاء بالتوراة من وصف لجو مصر وأحوالها ، إنما يدل على إقامة فعلية في مصر ، فقد وصفوا ماء النيل وقت الفيضان ، وأشاروا إلى ما يعقب هبوط مستوى النيل بعد الفيضان من انتشار الأوبئة

__________________

(١) حسن محمود : المرجع السابق ٣٥٠ ، هز جز ويلز : معالم تاريخ الإنسانية ٢ / ٢٨٦ (ترجمة عبد العزيز جاويد) ، محمد العزبي : مجلة الهلال يونية ١٩٧١ ص ٦٥ وأنظر : مادةThe Jewish Encyclopidia في EXOdus وكذا :١٨٩٨. H. Winckler. Musri, Meluhha, Main, MVG, I, Berlin,

(٢) A.Lods.op ـ cit ,p. ١٦٩

(٣) G.E.Wright ,Biblical Archacology.F ٥٣.p. ١٩٥٦.

وكذاJ.Finegan op ـ cit.p. ١٣٤.

(٤) A.Lods op ـ cit.P , ١٦٩.

٩٠

والأمراض (١) ، فطبقا للمؤرخ العبراني أن سبب ذلك هو أن ماء النيل يصبح «محمرا» وغير صحي في فصول معينة من السنة ، وأن أسراب الضفادع إنما تتكاثر بعد الفيضان ، كما أن البعوض يتكاثر بعد انحسار المياه ، وهكذا اعتقد الإسرائيليون أن مصر قد أصبحت لهذا السبب بلد الأمراض الوبائية والمستوطنة (٢).

ومنها (ثالثا) أن بعض أسماء الأعلام الإسرائيلية من أصل مصري ، فمثلا «فينحاس» ومعناه «زنجي» ، وكذا موسى وهو اسم مصري (٣) ـ كما سوف نشير إلى ذلك بالتفصيل فيما بعد ـ ، ومنها (رابعا) أن هناك فقرات كاملة من أدب الحكمة في مصر ، قد ظهرت في كتابات الإسرائيليين ، كما في المزامير وكتب الحكمة (٤) وأعمال أنبياء بني إسرائيل (٥) ، وكلها تظهر صلة الأدب العبري بالأدب المصري (٦).

__________________

(١) حسن محمود : المرجع السابق ص ٣٥١.

(٢) A.Lods.op ـ cit.p , ١٧٠.

(٣) J.Finegan ,po ـ cit ,P. ١٣٤.

(٤) قارن بين الرموز ١٠٤ ونشيد أخناتون ، وبين المزامير بصفة عامة وقصائد المديح المصري في الإله آمون رع ، ثم قارن بين سفر الأمثال في التوراة وتعاليم الحكيم المصري أمنمؤوبي.

(٥) J.M.Smith ,AJSL ,F ١٧٢.p ، ٤٩.

وكذاW.S.Smith ,JBR ,. ١٥ ـ ١٢.p ، ١٩

وكذاJ.Fingan ,op ـ cit ,P. ١٣٤.

(٦) قدم لنا «أوسترلي» أهم خصائص الأدب المصري التي تشبه خصائص الأدب العبري ، والتي منها (أولا) أن القصائد مقسمة في كل منهما إلى فقرات وأبيات ، ومنها (ثانيا) تكرار استخدام التماثل ، فتأخذ الفكرة في كل منهما تعبيرا مزدوجا ، حتى أن السطر يتكون فيها من جملتين قصيرتين ، توجد فيهما نفس الفكرة بصيغة مختلفة عن الأخرى ، ومنها (ثالثا) أن السطور الشعرية في كل من الأدبين تحتوي على عدد محدد ومنتظم من الأنغام ، ومنها (رابعا) تكرار التلاعب بالألفاظ ، وورود ألفاظ كثيرة متشابهة التطور جنبا إلى جنب ومنها (خامسا) الاستعمال الغريب الذي يظهر أحيانا في أخذ كلمة وردت في سطر ، ثم تكرر في السطر ـ

٩١

ومنها (خامسا) أن هناك نصوصا صريحة في التوراة تتحدث عن دخول الإسرائيليين مصر ، بل وقد ذكر كذلك أسماء الذين دخلوا منهم أرض الكنانة (١) ، فضلا عما جاء في القرآن الكريم بهذا الشأن (٢).

وفي الواقع ـ وكما أشرنا آنفا ـ أن التوراة ليست وحدها من بين الكتب المقدسة التي تحدثت عن دخول بني إسرائيل مصر ، وإنما ذلك أمر تجمع عليه الكتب المقدسة الثلاثة ، فالإنجيل يقول في الرسالة إلى العبرانيين : «بالإيمان يوسف عند موته ذكر خروج بني إسرائيل ، وأوصى من جهة عظامه ، بالإيمان موسى لما كبر أبى أن يدعي ابن ابنة فرعون ، مفضلا بالأحرى أن يذل مع شعب الله (٣).

وأما القرآن الكريم ، فإنه يتحدث بصراحة عن إقامة يوسف في مصر ، وعن قدوم يعقوب وبنيه إليه فيها ، يقول سبحانه وتعالى : (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) (٤) ، ويقول : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ ، وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ

__________________

ـ التالي ، كما كانت الاستعارة كثيرة الاستعمال أيضا ، ومن كل هذا ـ ولوجود هذه الصور في الأدب العبري ـ استنتج العلماء أن اليهود قد اعتمدوا في التركيب النهائي لأدبهم الشعري على النماذج المصرية بدرجة ما ، وبخاصة في مجالات رئيسية ثلاث ، هي : الشعر الديني ، وكتابات الحكمة ، والشعر غير الديني (أنظر :

. ٢٤٢ ـ ٢٤١.p ، ١٩٤٧.A. Erman, the Literature of the Ancient, Egypt, OXford,

(١) تكوين ٤٦ : ١ ـ ٢٧.

(٢) سورة يوسف : آية ٩٩.

(٣) الرسالة إلى العبرانيين ١١ : ٢٢ ـ ٢٩.

(٤) سورة يوسف : آية ٢١.

٩٢

الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (١).

ثم يتحدث كتاب الله الكريم بعد ذلك عن حياة بني إسرائيل في مصر ، وعن نماذج العذاب الذي أنزله فرعون مصر وجنده ببني إسرائيل ، من ذلك قوله تعالى : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (٢) ، ويقول : (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (٣) ، ويقول : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (٤).

وليس هناك من ريب في أن إنكارنا لأمر تجمع عليه الكتب المقدسة لا يتفق ومنتج البحث العلمي ، فضلا عن تعارضه مع إيماننا بما جاء في كتب السماء ـ الأمر الذي لا يقره منطق أو عقل أو دين ، فضلا عن العلم نفسه ـ هذا إلى أن جمهرة المؤرخين وأساتذة علم اللاهوت إنما يتحدثون عن قصة يوسف في مصر.

__________________

(١) سورة يوسف : آية ٩٩ ـ ١٠٠.

(٢) سورة البقرة : آية ٤٩ ، وأنظر : تفسير الكشاف ١ / ١٣٧ ـ ١٣٨ ، تفسير الطبري ٢ / ٣٦ ـ ٣٩ ، تفسير النسفي ١ / ٤٩ ، تفسير روح المعاني ١ / ٢٥٢ ـ ٢٥٤ ، تفسير الطبرسي ١ / ٢٣١ ـ ٢٣٥ ، التفسير الكاشف ١ / ٩٨ ـ ١٠٠ (لمحمد جواد مغنية) ، تفسير البحر المحيط ١ / ١٨٧ ـ ١٨٨ ، تفسير المنار ١ / ٣٠٨ ـ ٣١٣ ، تفسير ابن كثير ١ / ١٢٨ ـ ١٢٩ الدر المنثور في التفسير بالمأثور ١ / ٦٨ ـ ٦٩ في ظلال القرآن ١ / ٧٠ ـ ٧٢ ، تفسير الجواهر ص ١ / ٥٩ ـ ٦١.

(٣) سورة الأعراف : آية ١٤١.

(٤) سورة إبراهيم : آية ٦.

٩٣

ويضيف «كيلر» إلى ذلك ، أن قصة بيع الإسماعيليين للصديق عليه‌السلام إنما هي جد مقبولة ، ذلك لأن القوم إنما كانوا يترددون على مصر لبيع التوابل والعطور التي كانت تستخدم في الخدمة الدينية ، ذلك لأن هذه الأخشاب العجيبة ذات الرائحة الزكية إنما كانت تحرق في المعابد ، ويستخدمها الأطباء في إبراء المرضى ، والكهان في تحنيط أجساد الموتى من النبلاء (١) ، بل إن هناك ما يشير إلى أن هذه التجارة قد استمرت إلى زمن متأخر جدا بعد هذا الحادث ، فهناك كتابة مدونة بخط المسند في الجيزة ، ذهب «أدولف جرومان» إلى أنها إنما ترجع إلى عام (٢٦٤ ـ ٢٦٣ ق. م) (٢) ـ وربما إلى ما بعد عام ٢٦١ ق. م ، أو حتى إلى عام ١٥٩ ق. م ، فيما يرى بعض الباحثين (٣) ـ وتشير إلى وجود جالية معينة كانت تقيم في مصر ، وتتجر في الطيب والبخور ، ثم «فوطيفار» وهو اسم رئيس الشرطة المصري الذي اشترى يوسف الصديق ، وهو اسم وطني تماما ، فهو يعني في المصرية القديمة (با ـ دي ـ بارع) بمعنى «عطية الإله رع» (٤).

وهكذا يبدو لنا بوضوح أن الروايات الإسرائيلية التي تتحدث عن إقامة القوم في مصر إنما هي روايات جد صحيحة ، وأنه ليس من الغريب أن تستضيف أرض الكنانة على حدودها الشرقية بعضا من البدو والرعاة ، فذلك أمر عهدناه كثيرا طوال تاريخ مصر على أيام الفراعين ، وإن كان يختلف في فترات ضعفها عنه في فترات قوتها.

ومن النوع الأول ما حدث في أوائل عصر الثورة الاجتماعية الأولى ، حين ضعفت البلاد من الإجهاد الداخلي الذي أصابها في أعقاب الدولة

__________________

(١) W.Keller ,op ـ cit ,p. ١٠٣ ـ ١٠٣

(٢) A.Grohmann ,Arabian ,Munchen , ٢٦.p ، ١٩٦٣

(٣) فؤاد حسنين : التاريخ العربي القديم ص ٢٦٩ ، وكذا.BASOR. ٧.p ، ١٩٣٩ ، ٧٣

(٤) W.Keller ,The Bible As History , ١٠٣.p ، ١٩٦٧

٩٤

القديمة ، فتركت الحدود مفتوحة دونما أية حماية ، ومن ثم فقد تدفق البدو الأسيويون إلى الدلتا واستقروا فيها (١).

ومن النوع الثاني تلك القبيلة الآسيوية التي صورت على مقبرة «خنم حتب» ببني حسن ، من عهد «سنوسرت الثاني» (١٨٩٧ ـ ١٨٧٧ ق م) ، وعدتها ٣٧ شخصا ، يتقدمهم رئيس الجماعة «أبشاي» (٢) ، ومن هذا النوع كذلك ما عرف «بتقرير موظف الحدود» ؛ والذي يرجع إلى السنة الثامنة من عهد «مرنبتاح» (١٢٢٤ ـ ١٢١٤ ق م) ، وقد جاء فيه : أنه سمح لقبائل البدو من أدوم بدخول الدلتا الشرقية ، ليظلوا أحياء ولتظل ماشيتهم حيّة ، ويشير هذا الموظف إلى أن هناك أياما يستطيع البدو فيها أن يدخلوا من استحكامات الحدود لمثل هذه الأغراض (٣).

وبدهي أننا لا نستطيع القول أن واحدة من هذه الهجرات الأسيوية إنما هي هجرة العبرانيين إلى مصر ، إلا أن تقرير موظف الحدود هذا يبدو منه أن تقاليد التوراة إنما تشير إلى نوع من الأحداث التي كانت تقع في أغلب الأحايين ، كما يصور كذلك نوع الباعث الذي قاد الإسرائيليين إلى مصر (٤).

وهكذا نستطيع أن نصور دخول الإسرائيليين مصر ـ فيما يرى أدولف لودز ـ بأن جماعة من البدو العبرانيين من الصعب أن نطلق عليهم اسم قبائل ـ والذين كوّنوا فيما بعد بيت يوسف (أفرايم ومنسي وبنيامين) ، ثم لحقت بهم

__________________

(١) محمد بيومي مهران : الثورة الاجتماعية الأولى في مصر الفراعنة ص ٩٩ ، حركات التحرير في مصر القديمة ص ٧٣ ـ ٨٨.

(٢) جيمس بيكي : الآثار المصرية في وادي النيل ـ الجزء الثاني ص ٧٢ ـ ٧٣.

(٣) ANET ، ٢٥٩.p ، ١٩٦٦. وكذاA.Lods ,op ـ cit ,p. ١٧٢ ـ ١٧١

وكذاJ.Wilson ,op ـ cit ,p. ٢٥٨

وكذا J. H. Breasted, Ancient Records of Egypt, III, No. f ٦٣٦.

(٤) Martin North ,Op ـ cit ,P. ١١٣.

٩٥

قبائل أخرى ، وأجزاء من قبائل ـ قد سمح لهم بالاستقرار على حدود مصر في منطقة رعوية ، تقع بين الدلتا والصحراء الشرقية (العربية) ، ذلك لأنهم كانوا قد اضطروا أن يتركوا أماكنهم المعتادة ، بسبب مجاعة ألمت بهم نتيجة الجفاف ، على رواية ، وبسبب إخوتهم ـ أي البدو الآخرين ـ طبقا لرواية أخرى (قصة يوسف في التقاليد العبرية وغيرها (١)). والأمر بهذه الصور مقبول نوعا ما رغم اختلافه في بعض الأمور مع رواية الكتاب المقدس.

ويبدو أن هذا الخلاف بين روايات التوراة وآراء المؤرخين لم يكن مقصورا على دخول الإسرائيليين مصر ، وإنما امتد كذلك إلى الأسباط التي عاشت في مصر كذلك ، ومن ثم فإنه على الرغم من أن التوراة تروي في سفر التكوين أن يوسف قد استدعى أباه وإخوته جميعا للإقامة معه في أرض الكنانة ، وأن يعقوب قد أتى إلى مصر ، (ومعه كل نسله ، بنوه وبنو بنيه معه ، وبنات بنيه وكل نسائه ، جاء بهم معه إلى مصر) (٢) ، هذا فضلا عن أن التوراة إنما ذكرت أسماء بني إسرائيل الذين جاءوا إلى مصر وعددهم. (٣)

رغم هذا كله ، فإن هناك فريقا كبيرا من المؤرخين يذهب إلى أن هناك جزءا كبيرا ممن أطلق عليهم اسم «الإسرائيليين» لم تطأ أقدامهم أرض النيل أبدا ، أو على الأقل ـ فيما يرى البعض ـ لم يبقوا بها حتى الخروج المشهور على أيام موسى ، عليه‌السلام ، وهكذا رأينا «تيودور روبنسون» يذهب إلى أن شعب إسرائيل الذي يتحدث التاريخ عنه ، إنما يشمل عشائر كثيرة لم تطأ أقدامها أرض مصر مطلقا ، بل إن الإصحاح الثامن والثلاثين من سفر التكوين قد يفهم منه أن يهوذا قد استقر في الجزء الجنوبي من كنعان ، وأن

__________________

(١) A.Lods ,op ـ cit ,p.١٧١.

(٢) تكوين ٤٥ : ١٦ ـ ٢٨.

(٣) تكوين ٤٦ : ٧ ـ ٢٧ ، أنظر : سورة يوسف : آية ٩٣ ـ ١٠١.

٩٦

قبيلة أشير كانت قد أقامت في ديارها التي استقرت فيها عند ولادة موسى (١) ، ويكاد «فيليب حتى» يعتقد أن الإسرائيليين الذين دخلوا مصر ، إنما هم قبيلة «راحيل» (أفرايم ومنسي وبنيامين) ، في زمن الهكسوس (٢).

ويرى «ستانلي كوك» أن الذين هبطوا مصر لم يكونوا كل الإسرائيليين ، وأن أولئك الذين بقوا في كنعان إنما كانت لهم تقاليد جد مختلفة عن تلك التي حدثت في الخروج (٣) ، والأمر كذلك بالنسبة إلى دائرة المعارف اليهودية ، ويتجه «السير فلندرز بتري» نفس الإتجاه ، مستندا في ذلك إلى وجود أسماء مثل «يعقوب إل» و «يوسف إل» ، في قوائم انتصارات فرعون مصر العظيم «تحوتمس الثالث» (١٤٩٠ ـ ١٤٣٦ ق. م) ، ثم يفترض بعد ذلك أن هذه الأسماء ، إنما هي أسماء أولئك الإسرائيليين الذين عادوا إلى كنعان مباشرة بعد انتهاء القحط الذي ألم بها (٤).

وأما المؤرخ اليهودي «سيسل جوزيف روث» ، فالرأي عنده أن بيت يوسف ـ متضمنا سبطي أفرايم ومنسي ـ هم الذين كانوا في مصر ، ومن ثم فإنه يذهب إلى أن موسى نفسه إنما كان عبرانيا أو إسرائيليا ، مع نوع من الانتساب المصري ، وفي كل الاحتمالات فإن الكليم إنما ينتمي إلى قبيلة أفرايم ، أكثر من انتمائه إلى قبيلة لاوى ، التي نسب إليها عن طريق التقاليد العبرية ، ثم يرى بعد ذلك أن هناك موجات بدوية كثيرة دخلت فلسطين ، وأن أكثرها أهمية تلك التي دعيت «بيت يوسف».

ومن هنا ، فالرأي عنده أن هناك بعضا من القبائل الإسرائيلية لم تكن قد

__________________

(١) تيودور روبنسون : تاريخ العالم ـ إسرائيل في ضوء التاريخ ، ترجمة عبد الحميد يونس ص ١٠٨.

(٢) فيلب حتى : المرجع السابق ص ١٩٣.

(٣) S.A.Cook.op ـ cit ,p. ٣٦٠.

(٤) W.M.Petrie ,Egyptand Israel ,London , ٣٤ ، p ، ١٩٢٥.

٩٧

شاركت في العبودية المصرية أو في الخروج من مصر ، وبخاصة قبيلة يهوذا ، والتي كانت بطنا كنعانيا ، أكثر منه جماعة أرامية مهاجرة ، وقد دخلت هذه القبيلة في المجموعة الإسرائيلية وامتصت مظاهرها القومية في تاريخ متأخر نسبيا ، وربما كان ذلك في عصر الحروب والعناء الطويل الذي نجح آخر الأمر في إدخال العبرانيين إلى فلسطين (١).

ويرى «أدولف لودز» أن الجزء الأكبر من القبائل الإسرائيلية لم تهاجر إلى مصر ، وإنما عاشوا حياة حل وترحال حول الواحات الجنوبية (بئر سبع وقادش) ، وأن بعض هذه القبائل هو الذي ذهب مهاجرا إلى مصر ، وهناك استعبدهم «رعمسيس الثاني» (١٢٩٠ ـ ١٢٢٤ ق. م) ، أو أحد أسلافه ، ثم هربوا بعد فترة ونصبوا خيامهم في واحة قادش ، ويبدو أنهم اتحدوا هناك مع القبائل التي بقيت في هذا الإقليم ، وكونوا معا أمة واحدة (٢).

وأما «هوجو جرسمان» فالرأي عنده أن القبائل التي نزلت إلى مصر إنما كانت قبائل بيت يوسف ، وربما شمعون ، ومن المحتمل كذلك لاوى ، ولكن الجزء الأساسي من الإسرائيليين قد بقي في فلسطين (٣).

ويرى «مارتن نوث» أن الرحيل من مصر ، والخلاص الذي تم عن «طريق البحر» ، لا يفترض عدد أكبر من قبائل كاملة ، وإنما جماعة صغيرة كانت في موقف يضطرها بسبب صغر حجمها إلى الهروب ، وأما اسم الجماعة فهي «جماعة راحيل» التي يقع الاختيار عليها غالبا بسهولة ، ولكن الأسباب التي تدعو إلى ذلك لا تبدو سليمة تماما ، وعلى أي حال ، فإنه من الخطأ أن نسأل عن : أي القبائل الإسرائيلية هي التي كانت في مصر ، لأن

__________________

(١) ٨ ـ ٧. J. Roth, A Short History of the Jewish People, p

(٢) ١٨٩ ـ ١٨٨. A.Lods ,op ـ cit ,p

(٣) ١٨٤Ibid ,p ..

٩٨

هذه القبائل الإسرائيلية قد تكونت في وحدات معينة عند ما وصلت إلى فلسطين فحسب ، وأنها قد أخذت أسماءها المعروفة هناك في فلسطين كذلك.

وعلى أي حال ، فيمكن الظن بأن هؤلاء المهاجرين إلى مصر ، إنما كانت لهم صلات بهذه البلاد في أوقات تغيير المرعى ، وربما رجع هؤلاء المهاجرون إلى نفس الإقليم مرة أخرى بعد الخروج من مصر ، وإن كنا لا ندري كيف حدث هذا ، وأيا ما كان الأمر ، فإن العناصر التي أتت إلى مصر إنما قد وصلت إلى حدود أقاربها الذين كانوا يعيشون في مجاورات فلسطين ، وربما كانوا على صلة بهذه البطون إبان إقامتهم في مصر ، وأنهم قد أخبروهم بقصة «معجزة الخلاص الإلهية» التي أثرت فيهم بعمق ، لدرجة أنهم نقلوا القصة إلى كل مكان ، ثم إلى أحفادهم من بعدهم ، على أنها قد حدثت لهم جميعا ، وليس فقط إلى هؤلاء الذين كانوا في مصر وبهذه الطريقة كان الاعتراف بالعقيدة في الله ، الذي أوضح عن نفسه بمهابة ، وذلك عن طريق تخليصهم من أيدي المصريين القوية ، ثم أصبحت هذه القصة ملكية شائعة لكل بني إسرائيل ، وواحدة من الأسس الخاصة بالعقيدة التي كانت حيوية في نظام اتحاد القبائل الاثني عشر ، تحت حماية قانون الرب الإجباري (١)

(٤) عصر يوسف عليه‌السلام :

يختلف العلماء في تحديد عصر يوسف عليه‌السلام ، وبالتالي في وقت دخول بني إسرائيل مصر ، ولعل السبب الأساسي في ذلك أن التوراة والقرآن العظيم ، لم يحددا وقتا لدخول الصديق عليه‌السلام أرض الكنانة ، بل إنهما حتى لم يذكرا اسم الملك الذي عاصر يوسف الصديق عليه‌السلام ، هذا

__________________

(١) Martin Noth ,op ـ cit ,p. ١١٩ ـ ١١٧.

٩٩

فضلا عن أن مصر ـ وهي البلد التي كان يأمل العلماء أن يجدوا فيها وثائق معاصرة للأحداث التي جاءت في التوراة ـ لم تشر أبدا إلى هبوط الإسرائيليين إليها ، بل ليست هناك أية إشارة في التاريخ المصري القديم إلى إسرائيل ، فيما قبل عصر مرنبتاح (١٢٢٤ ـ ١٢١٤ ـ ق. م) ، ومن هنا كان الخلاف بين العلماء على تحديد ذلك العصر الذي دخل الإسرائيليون فيه مصر ، فهناك من رأى أنهم قد هبطوا مصر على أيام الهكسوس (حوالي ١٧٢٥ ـ ١٥٧٥ ق. م) ، وهناك من تأخر بهم إلى أيام أمنحتب الثاني (١٤٣٦ ـ ١٤١٣ ق. م).

(١) الرأي الأول :

يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن عصر الهكسوس (١) إنما هو العصر الذي هبط بنو إسرائيل فيه مصر ، معتمدين في ذلك على أدلة كثيرة ، منها (أولا) أن التوراة تروي في سفر التكوين أن يوسف كان يركب في عربة الفرعون الثانية على أساس أنه «نائب الملك» ، وفي هذا دلالة على عصر الهكسوس ، ذلك لأن «حكام البلاد الأجنبية» هؤلاء ، إنما كانوا أول من أدخل عربة الحرب السريعة إلى مصر ، ومنها (ثانيا) أن الهكسوس هم أول من استعمل العربات الرسمية في المناسبات العامة في مصر ، وكانت العربة الأولى من نصيب الملك ، بينما كانت الثانية من نصيب وزيره الأول (٢).

ومنها (ثالثا) أن «ساكن الرمال» ما كان يستطيع أن يصل إلى منصب الوزير على أيام الفراعين المصريين في تلك العصور المجيدة من تاريخ

__________________

(١) أنظر عن عصر الهكسوس : محمد بيومي مهران : «حركات التحرير في مصر القديمة» (وهو الجزء الثالث من سلسلة «دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم») ـ دار المعارف ـ القاهرة ١٩٧٦ ، ص ١٢٧ ـ ١٣٠ ، ٢١١.

(٢) W.Keller ,op ـ cit ,p. ١٠٥ ـ ١٠٣.

١٠٠