دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٢

هوشع ، وإنما هي تتكرر في كتابات معظم الأنبياء اللاحقين ، بل إنها ـ فيما يرى سيللين ـ أساس التوقعات القادمة بمقدم المسيا (المسيح). وقرب نهاية الأسر البابلي (٥٨٦ ـ ٥٣٩ ق. م) انبثق الأمل بين الشعب اليهودي في أن الرجل الذي اغتالوه بكل قسوة ، سوف يعود من مملكة الموتى ، ليقود شعبه النادم ـ وربما غير شعبه أيضا ـ إلى أرض النعيم الخالد.

ثم يعترض «فرويد» على ما ذهب إليه «سيللين» من أن الحادث العنيف قد وقع عند «شيتم shittim» بشرق الأردن ، وإنما يفترض أن ذلك الحادث إنما وقع قبل اتحاد القبائل الخارجة من مصر ، مع ذوي قرباها ، في الأرض الواقعة بين مصر وكنعان ـ وفي قادش ، فيما يرى ماير وجرسمان وآخرون ـ ثم استبدل بعد ذلك موسى المصري في التقاليد ، بموسى آخر ، هو الذي أسس فيما بعد ديانة «يهوه» ، وهو زوج ابنة «يثرون» كاهن مدين ، والذي أطلقوا عليه اسم «موسى» كذلك (١).

ونحن لا نعرف ، على أي حال ، شخصية موسى الآخر ، الذي يحجبه تماما موسى الأول أو المصري ، فيما عدا بعض مفاتيح شخصيته التي تقدمها التناقضات التي يمكن العثور عليها في تصوير التوراة لشخصية موسى ، ففي الوقت الذي يوصف فيه بأنه قوي حاد المزاج ، بل عنيف أحيانا ، يقال عنه في مواضع أخرى ، إنه كان أكثر الرجال صبرا وتواضعا ، ومن الواضح أن مثل هذه الصفات الأخيرة ، لا يمكن أن تكون ذات فائدة لموسى المصري الذي قام بمثل هذه المشروعات الشاقة العظيمة ، ولربما تعزي هذه الصفات إلى موسى الآخر ، موسى مدين.

ولعل لنا الحق بعد ذلك ، فيما يرى فرويد ـ أن نفصل بين الشخصيتين احداهما عن الأخرى ، ونفترض أن موسى المصري لم يذهب مطلقا إلى

__________________

(١) ٤٦ ـ ٤٢. S.Freud ,op ـ cit ,p ,

٤٢١

«قادش» ، كما أن موسى مدين لم يضع قدمه في مصر ، ولم يعرف شيئا عن «آتون» ولكن من أجل أن يصبح الاثنان واحدا جعلت التقاليد ـ أو الأساطير ـ موسى المصري يذهب إلى مدين ، وهكذا نرى أن أكثر من تفسير يمكن أن يقدم (١).

والرأي عندي أن ذلك أمر غير مقبول ، وأنه تحميل للنصوص أكثر مما تحتمل ، صحيح أن التوراة تروي أن هناك ثورات عنيفة قامت أثناء فترة التيه في صحراوات سيناء ضد موسى (٢) ، وأن واحدة من هذه الثورات كانت من اللاويين ، رهط موسى الأدنين (٣) ، بل إن أخرى إنما كانت من بيت موسى نفسه ، من أخويه هارون ومريم (٤) ، وصحيح أن واحدة من هذه الثورات إنما قد طالبت علانية بخلع موسى والعودة إلى مصر (٥) ، وصحيح أن رواية التوراة عن موت موسى وهارون إنما هي جد غامضة ، وأنها تجعل خيانتهما للرب ـ والعياذ بالله ـ سببا في هذا الموت (٦).

كل تلك أمور حدثتنا عنها التوراة ، بل وصحيح كذلك أن قتل النبيين عند اليهود أمر مألوف ، وصدق عز من قال : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (٧) ، وقد قتلت يهود

__________________

(١) ٣٠٨ A.Lesd ,op ـ cit ,p .. وكذا ،٤٩ ـ ٤٦. S.Freud ,op ـ cit ,p.

(٢) خروج ١٥ : ٢٣ ـ ٢٥ ، ١٦ : ٢ ـ ٣ ، ١٧ : ١ ـ ٧.

(٣) عدد ١٦ : ١ ـ ٤١.

(٤) عدد ١٢ : ١ ـ ١٥.

(٥) عدد ١٤ : ٢ ـ ٤.

(٦) تثنية ٣٢ : ٤٨ ـ ٥٣.

(٧) سورة البقرة : آية ٨٧ ، وانظر : سورة البقرة : آية ٦١ ، ٩١ ، سورة آل عمران : آية ١١٢ ، سورة المائدة ٧٠ ، وكذا : تفسير الطبري ٢ / ١٣٩ ـ ١٤٢ ، ٣٢٣ ـ ٣٢٤ ، ٣٢٣ ـ ٣٢٤ ، ٣٥٠ ـ ٣٥٤ ، ٧ / ١١٦ ـ ١١٨ ، ١٠ / ٤٧٧ (دار المعارف) ، تفسير ابن كثير ١ / ٤٥ ـ ١٤٧ ، ١٧٥ ـ

٤٢٢

يحيى عليه‌السلام (١) ، كما حاولت نفس الأمر مع المسيح عيسى بن مريم ، ولكن الله جلت قدرته نجاه من كيد الفاسقين ، وصدق الله العظيم حيث يقول : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ ، وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ ، وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً ، بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ ، وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (٢).

كل ذلك وغيره صحيح ، ولكنه صحيح كذلك ، أن التوراة والإنجيل والقرآن العظيم ، وهي دون شك مصدرنا الأساسي عن الأنبياء عليهم‌السلام ، لم تقل أن موسى عليه‌السلام ، مات مقتولا ، أو حتى لقي ميتة عنيفة ، ولم يقدم لنا «سيللين» أو «فرويد» نصا واحدا صريحا من نصوص التوراة ، التي زعما أنها تشير إلى ذلك ، كما أن الدليل التاريخي على هذا الحدث المؤلم مفقود تماما ، ومن هنا فالأمر ، فيما أومن به واعتقد ، مجرد ظن ، وإن بعض الظن إثم.

ومن ثم فلنا أن نعتبر ما ذهب إليه «سيللين وفرويد» من شطحات

__________________

ـ ١٧٩ ، ٢ / ٧٧ ـ ٨٦ ، ٣ / ١٤٨ ، تفسير المنار ١ / ٢٧٣ ـ ٢٧٦ ، ٣١١ ـ ٣١٢ ، ٣١٧ ـ ٣١٨ ، / ٥٧٤ ـ ٥٨ ، ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

(١) متى ١٤ : ٢ ـ ١١ ، مرقس ٦ : ١٧ ـ ٢٨ ، تاريخ يوسفيوس ص ٢١٤ ، فيلب حتى : المرجع السابق ص ٤٢٠ ، ٤٢٢ ثم قارن ابن الأثير ١ / ٣٠١ ـ ٣٠٢ ، تاريخ الطبري ١ / ٥٨٥ ـ ٥٩٣ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ١٤٤ ، ابن كثير : قصص الأنبياء ٢ / ٣٦٢ ـ ٣٦٦ ، الثعلبي : قصص الأنبياء ص ٣٤٠ ـ ٣٤١ ، عبد الرازق نوفل : يوحنا المعمدان ص ٥٩ ـ ٨٦ ، كتابنا «دراسات في تاريخ العرب القديم» ص ٥١٦ ـ ٥١٨ (الرياض ١٩٧٧ ـ أصدرته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، تحت رقم ١ من المكتبة التاريخية).

(٢) سورة النساء : آية ١٥٧ ـ ١٥٨ ، وانظر : تفسير الطبرسي ٦ / ٢٧٩ ـ ٢٨٤ ، تفسير الطبري ٨ / ٣٧٦ ـ ٣٧٩ ، في ظلال القرآن ٦ / ١٩ ـ ٢١ ، الجواهر في تفسير القرآن الكريم ٣ / ١٠٨ ـ ١٠٩ ، تفسير النسفي ١ / ٣٧٦ ـ ٣٧٧ ، تفسير الكشاف ١ / ٥٨٤ ـ ٥٨٩ ، تفسير روح المعاني ٤ / ١٠ ـ ١٢ ، تفسير أبي السعود ١ / ٨٠٨ ـ ٨١٠ ، تفسير الفخر الرازي ١٠ / ٩٩ ـ ١٠٢ ، تفسير ابن كثير ٢ / ٣٩٩ ـ ٤١٩ تفسير المنار ٦ / ١٠ ـ ٢٠ ، تفسير القرطبي ص ٢٠٠٥ ـ ٢٠٠٦.

٤٢٣

الباحثين ، أو حتى أساطيرهم ، التي لا تعتمد على نص سماوي صريح ، أو حتى دليل مادي من التاريخ ، وما أكثرها ، بل إننا ما كان لنا لنهتم بها ، لو لا أنها تتعلق بواحد من المصطفين الأخيار ، أنبياء الله الكرام البررة ، سيدنا موسى عليه‌السلام ، فنظائرها في كتب التاريخ كثيرة ، خاصة في كتب هذا النوع من الباحثين الذين عرفوا بالجرأة على إصدار أحكام ، باسم العلم ، والعلم منها برىء ، براءة الذئب من دم ابن يعقوب ، كما يقولون ، ولكن ما حيلتنا ، وهناك الكثير من الشباب الذي لم يدرس تاريخ الأنبياء في مصادرها الأصلية إنما يصدقون ما يقوله هؤلاء الباحثون من المستشرقين والمستغربين ، هدانا الله وإياهم إلى سواء السبيل.

٤٢٤

الفصل الرّابع

مكانة موسى في التاريخ اليهودي

(١) مكانة موسى عند المسلمين : ـ

لا ريب في أن سيدنا موسى عليه‌السلام ، إنما يحتل مكانة ممتازة عند المسلمين ، ذلك لأن كليم الله في القرآن الكريم إنما هو من المرسلين الكبار ، أولي العزم الخمسة المنصوص على أسمائهم تخصيصا من بين سائر الأنبياء في آيتين من آي الذكر الحكيم ، هما قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (١) ، وقوله تعالى. (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى ، أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (٢)

ولموسى منزلة كبرى عند الله تعالى : ولنقرأ هذه الآية من سورة طه :

__________________

(١) سورة الأحزاب : آية ٧ ، وانظر : تفسير القرطبي ص ٥٢٠٨ ـ ٥٢٠٩ ، تفسير النسفي ٣ / ٢٩٥ ، زاد المسير لابن الجوزي ٦ / ٣٥٤ ، وانظر : تفسير البيضاوي (١ / ١١٤) حيث يقول : خصهم الله بالذكر لأنهم مشاهير أرباب الشرائع ، وقدم نبينا عليه الصلاة والسلام تعظيما له وتكريما لشأنه ، وقال ابن كثير (مختصر التفسير ٣ / ٨٣) بدأ بالخاتم لشرفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبيانا لعظم مكانته ، ثم رتبهم حسب وجودهم في الزمان.

(٢) سورة الشورى : آية ١٣ ، وانظر : تفسير ابن كثير ٧ / ١٨٢ ـ ١٨٣ ، تفسير النسفي ٤ / ١٠٢ ، تفسير القرطبي ص ٥٨٢٩ ـ ٥٨٣٠ ، صفوة التفاسير ٣ /

٤٢٥

(وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ، وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) ، وما كان في مقدرة لسان بشر أن يصف خلقا يصنع على عين الله ، إنها لمنزلة ، وإنها لكرامة أن ينال إنسان لحظة من العناية الإلهية ، فكيف بمن يصنع صنعا على عين الله ، إنه بسبب من هذا أطاق موسى أن يتلقى ذلك العنصر العلوي الذي تلقاه ، ثم يقول سبحانه وتعالى بعد ذلك : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) أي خالصا مستخلصا يمحّضا لي ولرسالتي ودعوتي ، ليس بك شيء من هذه الدنيا ولا لهذه الدنيا ، إنما أنت للمهمة التي صنعتك على عيني لها ، واصطنعتك لتؤديها ، فما لك في نفسك شيء ، وما لأهلك منك شيء ، وما لأحد فيك شيء ، فامض لما صنعتك له (١) ، روى البخاري عن تفسير هذه الآية عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : التقى آدم وموسى ، فقال موسى : أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة ، فقال آدم : وأنت الذي اصطفاك الله برسالته ، واصطفاك لنفسه وأنزل عليك التوراة ، قال : نعم ، قال : فوجدته مكتوبا علي قبل أن يخلقني ، قال : نعم ، فحجج آدم موسى» (٢).

ثم إن موسى عليه‌السلام ، هو الذي كلمه الله ، ومن ثم فقد اشتهر بأنه كليم الله ، قال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) ، يعني موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم (٣) هذا وكان من وجاهة موسى عليه‌السلام أن شفع في أخيه عند الله ، وسأله أن يكون معه وزيرا ، وذلك في قول الله تعالى : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) ، وقول الله تعالى : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) ، فأجاب الله دعاءه فقال (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) ، ولهذا قال بعض السلف : ما

__________________

(١) في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٣٥ ـ ٢٣٣٦.

(٢) ابن كثير : مختصر التفسير ٢ / ٤٨٢.

(٣) نفس المرجع السابق ١ / ٢٢٦.

٤٢٦

شفع أحد شفاعة في الدنيا ، أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبيا ، قال الله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) ، وقال ابن عباس : نبىء هارون ساعتئذ ، وحين نبىء موسى ، عليهما‌السلام ، روى عن عائشة أنها خرجت فيما كانت تعتمر ، فنزلت ببعض الأعراف فسمعت رجلا يقول : أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه ، قالوا لا ندري ، قال أنا والله أدري ، قالت فقلت في نفسي في حلفه لا يستثني ، إنه ليعلم أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه ، قال : موسى حين سأل لأخيه النبوة ، فقلت : صدق والله (أخرجه ابن أبي حاتم) (١).

وقد نبه سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مكانة موسى عليه‌السلام في قوله الشريف ، الذي رواه البخاري ومسلم وأبو داود بسنده عن أبي سعيد الخدري قال : جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد لطم وجهه وقال : يا محمد إن رجلا من أصحابك من الأنصار لطم وجهي ، قال ادعوه ، فدعوه ، قال لم لطمت وجهه ، قال يا رسول الله ، إني مررت باليهودي فسمعته يقول : والذي اصطفى موسى على البشر ، قال : وعلى محمد ، قال فقلت : وعلى محمد ، وأخذتني غضبة فلطمته ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تخيروني من بين الأنبياء ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور».

وروى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : استب رجلان ، رجل من المسلمين ورجل من اليهود ، فقال المسلم : والذي اصطفى محمد على العالمين ، فقال اليهودي : والذي اصطفى موسى على

__________________

(١) سورة مريم : آية ٥٣ ، طه : آية ٢٩ ـ ٣٢ ، القصص : آية ٣٤ ، وانظر : تفسير النسفي ٣ / ٥١ ـ ٥٢ ، ١٧٩ ، ٢٣٦ ، صفوة التفاسير ٢ / ٢٣٣ ، ٣٧٥ ـ ٣٧٦ ، ٤٣٣ ـ ٢٣٤ ، مختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٤٥٥ ، ٤٧٤.

٤٢٧

العالمين ، فغضب المسلم على اليهودي فلطمه ، فأتى اليهودي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله فأخبره ، فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاعترف بذلك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تخيروني على موسى ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فإذا بموسى ممسك بجانب العرش ، فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عزوجل».

ويقول ابن كثير : والكلام في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تخيروني على موسى» كالكلام على قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تفضلوني على الأنبياء ، ولا على يونس بن متى» ، قيل من باب التواضع ، وإلا فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم الأنبياء ، وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة قطعا جزما لا يحتمل النقيض ، كما أختصه الله تعالى بالمقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون الذي تحيد عنه الأنبياء والمرسلون ، حتى أولو العزم الأكملون ، كما ظهر شرفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء على جميع المرسلين والأنبياء ، وكما ثبت أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : سأقوم مقاما يرغب إلى الخلق حتى إبراهيم».

والذي يؤمن المسلمون بأنه أفضل الرسل إطلاقا ، بعد سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس أدل على هذه الأفضلية من أن المسلمين يصلون على إبراهيم وماله ويباركونهم ، كما يصلون على نبيهم محمد وآله ويباركونهم ، ثم يأتي بعد ذلك ، كما يقول ابن كثير في التفسير ، موسى بن عمران كليم الرحمن (١).

(٢) مكانة موسى في التاريخ اليهودي : ـ

وأما مكانة موسى ، عليه‌السلام ، في التاريخ اليهودي ، فهي مكانة لا يسمو إليها واحد من معاصريه ، أو من اللاحقين به من بني قومه ، ولهذا فهو

__________________

(١) ابن كثير : مختصر التفسير ١ / ٢٢٦ ـ ٢٢٧ ، ٢ / ٤٨ ـ ٥٠ ، البداية والنهاية ١ / ٢٨٣ ـ ٢٨٥ ، ٣١٢ ـ ٣١٥ ، محمد بيومي مهران : إسرائيل ١ / ٥٢ ـ ٥٣ ، صحيح البخاري ، صحيح مسلم.

٤٢٨

يعدّ حقا شيخا للأمة الإسرائيلية ، بل هو الذي كان سببا في وجود اليهود كأمة ، صحيح أن القبائل الإسرائيلية كانت تدرك ـ قبل ظهور موسى ـ أنها تنتمي إلى أرومة واحدة ، ولكنها مع ذلك لم تؤلف شعبا واحدا ، حتى حدث الاستعباد المصري ، ونجح موسى في أن يوحد بين هذه العشائر التي تراخت أواصر القرى بينها ، ويجعلها أمة واحدة ، وذلك بفضل نبوته ومعجزته الكبرى ، فقد كان موسى يؤمن ـ الإيمان كل الإيمان ـ أن معه إلها أكبر من كل آلهة مصر ، معه «يهوه» الذي لا يريد تحرير القبائل العبرية فحسب ، بل يريد كذلك أن يكونوا أمة واحدة ، وأن شعب موسى لا بد أن يعتقد أن معه قوة فرعون وكل جنده ، وقد نجح موسى بفضل عميق إيمانه بدينه الجديد في إقناع اليهود بذلك ، رغم كل المتاعب التي وقفت عقبة كئود في طريقه ، والتي لم تخفها أسفار التوراة (١).

وهكذا استطاع موسى أن ينشئ من الأسباط الاثنى عشر ، اتحادا فيدراليا منذ أول خطوة من رحلة الخروج ، محددا لكل سبط مهمته ومسئوليته في المجموعة ، وكان لعشيرة موسى ـ أي سبط اللاويين ـ الزعامة الدينية والاجتماعية على سائر الأسباط ، وكان لهذا المجتمع مجلس تشريعي ، يقابل ما يسمى أحيانا «مجلس الشيوخ» ، ويتكون من السبعين رجلا الذين اختارهم موسى ـ والذين يرى فيهم فرويد السحرة المصريين الذي آمنوا به ـ وكان هو نفسه رئيس المجلس ، وهذا التنظيم ما يزال يحاكى في المجتمعات اليهودية ، ويوكل إليه ـ كما كان قديما ـ أمر تطبيق الشريعة الموسوية وتنفيذها وتفسيرها والإفتاء بمقتضاها في الحالات المشكلة (٢).

ومع هذا فإن هذا العمل السياسي الضخم الذي بدأه موسى ، عليه

__________________

(١) تيودور روبنسون : المرجع السابق ص ١٠٥.

(٢) حسن ظاظا : الساميون ولغاتهم ـ الاسكندرية ١٩٧١ ـ ص ٧٦ ـ ٧٧ وكذا,p. ٣١٠ ، ١٧٥ ..A.Lods ,op ـ cit

٤٢٩

السلام ، لا يكاد يذكر ، إلى جانب دعوته الدينية ، والتغيير الاجتماعي الذي سببته هذه الدعوة بين العبرانيين ، ذلك لأن موسى لم يؤسس أمة فحسب ، وإنما أرسى كذلك قواعد دين ، وكان الكليم كحامل لوحي ديني ـ على مثال مولانا وسيدنا محمد رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعد ذلك بحوالي ألفي سنة ـ استطاع أن ينهض بتحويل بعيد المدى في عادات البدو الساميين للقبيلة ، التي لو لا ذلك لظلت باقية على ما هي عليه ، وقد ثبّت عبادة «يهوه» لتكون عبادة شعب ، وبهذا أتى إلى حيز الوجود بأمة جديدة ، ومنذ ذلك الحين ، صار «يهوه» إله العبرانيين ، الذي أطلق سراح آبائهم من العبودية ، وقادهم خلال أخطار البرية ، إلى أرض الموعد (١).

ومن هنا نرى «جيمس هوسمر» يقرر أن مكانة موسى ؛ إنما جاءت من كفاءته التي استطاع بها أن يقود بني إسرائيل ويخرجهم من مصر ، ثم من مقدرته على إملاء التوراة ، التي كانت قانون هذه الجماعة ، بعد إن لم يكن لها قانون ، كما كانت القاعدة التي قام عليها بناء الدولة من الناحية السياسية (٢).

وهكذا تجمع الآراء على أنه لو لا موسى ـ عليه‌السلام ـ لما كان لبني إسرائيل ، أو لعقيدتهم وجود ، حتى إنه ليقال في الأساطير اليهودية نفسها ، أنه لو لم يوجد موسى ، لاضطروا إلى ابتداع شخصيته بخيال ، فإن ذكراه الحية هي التي تتأممهم إلى وجود (٣) ، ومن ثم نستطيع تفسير وجود الشعب اليهودي ، بآرائه وشريعته وفلسفته ودينه (٤).

__________________

(١) و. ج. دي بورج : تراث العالم القديم ، ترجمة زكي سوسن ـ الجزء الأول ، القاهرة ١٩٦٥ ص ٦٦.

(٢) أحمد شلبي : اليهودية ، القاهرة ١٩٦٧ ، ص ١٤٦ ، وكذا ١٤Jams Hosmer ,The Jews ,P ,.

(٣) حسين ذو الفقار صبري : المجلة ، العدد ١٥١ «يولية ١٩٦٩ ص ١٨ ، وكذاA.L.Sachar ,A

١٧ ـ ١٦.p ، ١٩٤٥. History of The Jews N ,Y ,

(٤) ٧ C.Roth ,op ـ cit ,P ..

٤٣٠

الباب الخامس

قصّة موسى

بين آيات القرآن وروايات التّوراة

٤٣١
٤٣٢

من عجب أن موسى عليه‌السلام ، رغم أنه أعظم أنبياء بني إسرائيل ، وإليه تنسب توراتهم ، أو بمعنى أدق ، الأسفار الخمسة الأولى منها (التكوين والخروج واللاويون والعدد والتثنية) ، وأنه يحتل مكانة في التاريخ اليهودي ، لا يسمو إليها واحد من معاصريه أو اللاحقين به من قومه (١) ، ولهذا فهو يعدّ شيخا للأمة اليهودية ، بل إنه هو الذي كان سببا في وجود اليهودية كأمة ، مع ذلك كله ، فإنه لم ينج من كيد يهود وتطاولهم عليه ، ومن ثم فإننا نرى توراة يهود ، وليست توراة موسى عليه‌السلام ، تتهمه ، مع أخيه هارون ، «بخيانة الرب ولم يقدسانه وسط بني إسرائيل» ، ومن ثم فقد كتب عليه ألا تطأ قدماه الأرض المقدسة أبدا (٢) ، وحين يتوسل إلى ربه الكريم ، أن يجعل من نصيبه عبور الأردن ، فإن رب إسرائيل إنما يغضب عليه ، ويطلب منه ألا يحدثه في هذا الأمر ، لأنه من نصيب فتاة يشوع ، دون سواه (٣).

وأما هارون عليه‌السلام ، فهو ، في توراة يهود ، ومرة أخرى نقول

__________________

(١) تثنية ٣٤ / ١٠ ـ ١٢.

(٢) تثنية ٣٢ / ٤٨ ـ ٥٢.

(٣) تثنية ٣ / ٢٥ ـ ٢٩.

٤٣٣

وليست توراة موسى ، إنما هو الذي صنع العجل الذهبي ، وأغوى به بني إسرائيل ، وليس السامري ، بعبادته ، وذلك حين اتخذ لهم من حليهم عجلا جسدا في أثناء غياب موسى إلى ميقات ربه ثلاثين ليلة ، فلما أتمها له ربه أربعين ليلة ، كفرت خراف بني إسرائيل الضالة بموسى وإله موسى ، وعادت إلى ما ألفته من عبادة العجول في مصر (١) ، والحق أنني لست أدري ، كيف نسي من كتب كل ذلك في توراة يهود المتداولة اليوم ، أن هارون أخو موسى ، ونبي ورسول من الله مع موسى ، ونائب لموسى وخليفته في غيابه ، ولكنهم بنو إسرائيل دائما مع الفاسد المفسد ، ولو كان السامري.

وأما في القرآن الكريم ، فإن هارون عليه‌السلام ، إنما هو نبي الله ورسوله ، وأن الله تعالى قد أرسله ، مع أخيه موسى ، إلى فرعون وملئه (٢) ، وليس هو الذي صنع العجل الذهبي ، وحاشاه أن يفعل ذلك ، وأغوى بني إسرائيل بعبادته ، وإنما ذلك هو السامري (٣).

ويعلم الله ، وتشهد ملائكته ، أن موسى وهارون ، عليهما‌السلام ، لم يكونا ، ولن يكونا ، كما صورتهما توراة يهود ، وإنما كانا رسولين كريمين ، بذلا الجهد في تبليغ دعوة ربهما ، وأفنيا عمرهما من أجلها ، حتى لقيا الله تعالى مطمئنين إلى رضاه ، وهكذا يرفع القرآن الكريم هذين النبيين الكريمين إلى الدرجة التي يستحقانها من التكريم والإجلال والمهابة ، ثم يطلب من المؤمنين به أن يرتفعوا إلى مستوى دينهم القويم ، فلا يتأثروا بما يعرفون عن بني إسرائيل في حكمهم على موسى ، عليه‌السلام (٤) ، فيقول

__________________

(١) خروج ٣٢ / ٢ ـ ٦.

(٢) سورة مريم : آية ٥١ ـ ٥٣ ، طه : آية ٢٥ ـ ٣٦ ، ٤٢ ـ ٤٧ ، الشعراء : آية ١٠ ـ ١٦ ، الصافات : آية ١١٤ ـ ١٢٢.

(٣) الأعراف : آية ١٤٨ ـ ١٥٢ ، طه : ٨٣ ـ ٩٨.

(٤) أنظر : محمد بيومي مهران : إسرائيل ٣ / ١٩٧ ـ ٢٠٣ ، عبد الرحيم فودة : من معاني القرآن ص ٢١٤.

٤٣٤

سبحانه وتعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) (١).

وعلى أية حال ، فإن قصة موسى عليه‌السلام في القرآن إنما تختلف عن قصته في التوراة ، طبقا للهدف من كل منهما ، فقصة القرآن ، شأنها في ذلك شأن غيرها من قصص الأنبياء والمرسلين ، إنما أنزلت للعظة والعبرة ، ولبيان الأسوة الحسنة في الجهاد في سبيل الله ، فهدفها ، كهدف غيرها ، ليس التأريخ لها ، وإنما عبرا تفرض الإفادة بما حلّ بالسابقين ، وأما قصة التوراة ، فالغرض منها إنما هو تمجيد بني إسرائيل ، وترديد الحديث عن قصة أرض الميعاد (٢) ، فضلا عن إباحتها لهم سرقة المصريين بالغش والخديعة (٣) ، بل إن مؤلفي التوراة لا يتورعون هنا أن يذكروا في نصوصها ، المقدسة زعموا ، أن مشروع سرقة المصريين إنما كان قد دبر بليل ، وأنه قد نفذ إبان الخروج من مصر ، دون أن يحس المصريون ، بل وحتى دون أن ينتظر بنو إسرائيل أن يختمر عجينهم ، وهكذا لم يعترف كتبة التوراة بجريمة قومهم فحسب ، وإنما زادوا على ذلك أن جعلوها تتم برضى من موسى عليه‌السلام وبأمر منه ، وحاشا بنبي الله الكريم أن يرضى بذلك ، فضلا عن أن يأمر به ، ولكنها توراة اليهود ، والحق أن الإساءة إلى أنبياء الله الكرام من بني إسرائيل أمر معروف في التوراة ، ونظائره كثيرة (٤).

__________________

(١) سورة الأحزاب : آية ٦٩ ، وانظر : تفسير الطبري ٢٢ / ٥٠ ـ ٥٣ ، تفسير القرطبي ١٤ / ٢٥٠ ـ ٢٥٢ ، تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٢٣٥ ، تفسير النسفي ٣ / ٣١٥.

(٢) تكوين ١٧ / ٤ ـ ٨ ، ٢٦ / ٢ ـ ٤ ، ٣٥ / ١١ ـ ١٢ ، ٢٦ ، خروج ٣ / ٦ ـ ٨ ، ٣٣ / ١ ـ ٣ ، تثنية ٧ / ١ ـ ٢ ، ٢٦ / ١٥ ، محمد بيومي مهران : قصة أرض الميعاد بين الحقيقة والأسطورة ـ مجلة الأسطول ، العدد ٦٦ ، ٦٧ الاسكندرية ١٩٧١ م.

(٣) خروج ١٢ / ٣٤ ـ ٣٦ ، محمد بيومي مهران : إسرائيل ١ / ٣٥٥.

٤٣٥

ولعل أهم الاختلافات بين قصة موسى عليه‌السلام في القرآن ، وتلك التي جاءت في التوراة ، (أولا) أن المرأة التي التقطت موسى من اليم وأنقذته من فرعون إنما هي في القرآن امرأة فرعون ، بينما هي في التوراة ابنته (١) ، ومنها (ثانيا) أنه ليس في القرآن الكريم ما يشير إلى أن امرأة فرعون كانت تعرف أن موسى عليه‌السلام إنما كان من أبناء العبرانيين ، بينما هي في التوراة قد عرفت تلك الحقيقة منذ اللحظة الأولى ، بل وقد أعلنت ذلك للملإ (٢) ، ومنها (ثالثا) أن التوراة إنما تصور المصري الذي قتله موسى على أنه كان يضرب رجلا عبرانيا ، وأن موسى عند ما رأى ذلك التفت هنا وهناك ، وعند ما تأكد أن أحدا لا يراه قتل المصري وطمره في الرمل ، وفي اليوم التالي رأى عبريين يتخاصمان ، أحدهما صاحبه بالأمس فزجره ، فقال له صاحبه العبري : أتفكر في قتلي كما قتلت المصري بالأمس ، فلما علم فرعون بالأمر طلب أن يقتل موسى ، ولكنه هرب إلى مدين ، ولكن القصة في القرآن أن موسى (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ ، هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ ، فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ، قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ، قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) ، ولم يكن المجرمون الذين عزم موسى على ألا يظاهرهم ويناصرهم ، إلا هؤلاء من بني إسرائيل ، وهكذا ندم موسى على أن ظاهر الإسرائيلي على المصري ، فكان من نتيجة ذلك أن قتل نفسا حرم الله قتلها ، ومن ثم فقد عزم ، بعد أن تاب وأناب ، ألا يكون ظهيرا للمجرمين ، (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ، فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ

__________________

(١) سورة القصص : آية ٨ ـ ٩ ، خروج ٢ / ٥ ـ ١٠.

(٢) سورة القصص : آية ٧ ـ ٩ ، خروج ٢ / ٦.

٤٣٦

يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) ، وهكذا فإن القرآن إنما ينفرد من دون التوراة ، بأن تدخل موسى إنما كان بناء على استغاثة هذا الذي من شيعته ، وعلى أن موسى قتل مصريا عن غير عمد ، وعلى ندم موسى على قتل المصري ، وعلى استغفاره لربه ، وأن الله تعالى قد غفر له ، وعلى عزمه ألا يكون ظهيرا للمجرمين ، وعلى أن موسى قد مرّ بمن استصرخه بالأمس ، فإذا به يستصرخه مرة أخرى ضد مصري آخر ، وعلى أن موسى قد وصف ذلك الإسرائيلي بأنه غوي مبين بسبب ميله إلى المشاكسة والخصام ، وعلى أن موسى حين همّ بنصرته على عدوهما المصري قال له : (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ ، إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) ، بينما رواية التوراة تذهب إلى أن أحدا لم يستصرخ موسى ، وإنما هو الذي التفت هنا وهناك ، وحين تأكد أن أحدا لن يراه قتل المصري وطمره في الرمل ، كما أن المخاصمة الثانية كانت ، في رواية التوراة ، بين رجلين عبرانيين ، وليس بين مصري وعبراني وحين أراد موسى أن يفض النزاع الذي نشب بينهما ، إذا بصاحبه الذي استصرخه بالأمس يرفض تدخله ، ويعلن أنه هو الذي قتل المصري بالأمس ، فلما طلبه فرعون للقصاص هرب إلى مدين ، ولا تتعرض لشيء آخر ، مما جاء في القصة القرآنية (١).

ومنها (رابعا) أن القرآن إنما يحدثنا عن ابنتين لشيخ مدين الذي صاهر موسى عليه‌السلام ، بينما تتحدث التوراة عن سبع بنات ، فضلا عن أنها تجعل الرجل كاهنا لمدين (٢) ، ومنها (خامسا) أن إقامة موسى عليه‌السلام في

__________________

(١) سورة القصص : آية ١٥ ـ ١٩ ، خروج ٢ / ١١ ـ ١٥.

(٢) سورة القصص : آية ٢٣ ـ ٢٦ ، خروج ٢ / ١٦.

٤٣٧

مدين ، إنما هي في القرآن الكريم سنون ثمان ، والأرجح أنها كانت عشرا ، فلقد روى عن سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قضي أكثر الأجلين وأطيبهما» ، وفي رواية : «قضى أوفاهما وتزوج صغراهما» ، كما أشرنا بالتفصيل من قبل ، وهي في التقاليد اليهودية والنصرانية أربعون عاما (١) ، ومنها (سادسا) أن موسى عليه‌السلام في القرآن تلقى الدعوة من ربه من جانب الطور الأيمن في الوادي المقدس طوى ، بينما كان ذلك في التوراة على جبل الله حوريب (٢) ، ومنها (سابعا) أن التوراة تذهب إلى أن الفتاة التي تزوج منها موسى إنما كانت تدعى «صفورة» (٣) ، بينما أغفل القرآن الكريم ذكر اسمها ، كما أغفل اسم أبيها ، وكما أغفل أسماء النساء عامة ، إلا مريم ابنة عمران ، أم المسيح عليه‌السلام ، فإنها انفردت بمعنى تذكر به وتشتهر ، وتذكر به قدرة الله التي أوجدت عيسى من غير أب ، وإلى ذلك يشير القرآن الكريم (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) (٤).

ومنها (ثامنا) أن القرآن الكريم لم يذكر لنا اسم ذلك الشيخ الذي أصهر إليه موسى عليه‌السلام ، بينما لم تستقر التوراة على رأي معين بشأنه ، وكذا قبيلته ، فهو في سفر الخروج «يثرون» كاهن مديان ، وهو في سفر العدد «حوباب بن رعوئيل» ، وهو مرة ثالثة في سفر الخروج كذلك «رعوئيل» نفسه ، وهو كاهن مديان كذلك ، بل إن التوراة لا تستقر على رأي واحد بشأن تلك القبيلة التي صاهرها موسى ، فهي مرة قبيلة مديانية ، كما رأينا كذلك ، وهي مرة أخرى ، كما في سفر القضاة ، قبيلة قينية ، ثم هي مرة ثالثة ، في سفر

__________________

(١) سورة القصص : آية ٢٧ ـ ٢٨ ، تفسير النسفي ٣ / ٢٣٤ ، مختصر تفسير ابن كثير ٣ / ١١ ، خروج ٧ / ٧ ، أعمال الرسل ٧ / ٣٠ ، قاموس الكتاب المقدس ٢ / ٩٣١.

(٢) سورة طه : آية ١٢ ، سورة القصص : آية ٢٩ ـ ٣٠ ، خروج ٣ / ١ ـ ٢.

(٣) خروج ٢ / ٢١.

(٤) سورة الأنبياء : آية ٩١.

٤٣٨

القضاة أيضا ، فينية ، على وجه اليقين ، كما جاء في قصة «دبورة» قاضية إسرائيل ونبيتها (١) ، ومنها (تاسعا) أن دعوة موسى في القرآن إنما بدأت بعد أن قضى الأجل الذي بينه وبين صهره شيخ مدين ، وبعد أن قرر العودة إلى مصر بأهله ، وفي الطريق إلى مصر ، وعند طور سيناء ، وفي ليلة مباركة ، اختاره الله تعالى رسولا نبيّا ، وعهد إليه برسالته إلى فرعون ، بينما هي في التوراة بدأت ، وموسى ما يزال عند صهره كاهن مدين يعمل عنده ويرعى غنمه (٢).

ومنها (عاشرا) أن من معجزات موسى وآيات نبوته أن يدخل يده في جيبه ، فتخرج ، كما في القرآن ، من غير سوء ، أي من غير برص ولا أذى ، بينما هي في التوراة تخرج برصاء مثل الثلج (٣) ، ومنها (حادي عشر) أن استعانة موسى بأخيه هارون عليهما‌السلام في أداء الرسالة وتبليغ الدعوة ، إنما سببها في التوراة أن موسى احتج بأنه «ثقيل الفم واللسان» ، وأنه لن يستطيع أداء مهمته عند فرعون ، فحمى غضب الرب على موسى وقال : أليس هارون اللاوي أخاك ، أنا أعلم أنه يتكلم ..... فتكلمه وتضع الكلمات في فمه ، وأنا أكون مع فمك وفمه ، وأعلمكما ما ذا تصنعان ، وهو يكلم الشعب عنك ، وهو يكون لك فما وتكون له إلها» ، ومرة أخرى يقول موسى لربه : «هو ذا بنو إسرائيل لم يسمعوا لي ، فكيف يسمعني فرعون ، وأنا أغلق الشفتين» ، ولكن الأمر في القرآن غير ذلك ، فموسى عليه‌السلام هو الذي دعا ربه ، بعد أن كلفه برسالته (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي ، يَفْقَهُوا قَوْلِي ، وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) ، فأجابه ربه : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى)

__________________

(١) خروج ٢ / ١٦ ـ ١٨ ، ٣ / ١ ، عدد ١٠ / ٢٩ ، قضاة ١ / ١٦ ، ٤ / ١١.

(٢) سورة طه : آية ٩ ـ ١٤ ، القصص : آية ٢٩ ـ ٣٠.

(٣) سورة طه : آية ٢٢ ، القصص : آية ٣٢ ، خروج ٤ / ٦ ـ ٧.

٤٣٩

، وفي سورة القصص يقول موسى : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ، قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) (١) ، وهكذا يبدو واضحا أن الله تعالى في التوراة هو الذي يطلب من موسى أن يلجأ إلى أخيه هارون ، بينما في القرآن موسى هو الذي يدعو ربه أن يعينه بأخيه هارون في أداء مهمته العظيمة والخطيرة كذلك ، بمعنى آخر أن موسى في القرآن هو الذي سأل النبوة لأخيه هارون ، لأنه أفصح منه لسانا ، كما أشرنا إلى ذلك من قبل بالتفصيل.

ومنها (ثاني عشر) أن عصا موسى ، إحدى معجزاته ، إنما هي في التوراة ، عصا هارون ، وليس موسى ، وأن الذي ألقاها أمام فرعون وملئه ، إنما هو هارون ، وليس موسى ، ولكن الأمر في القرآن جد مختلف ، فالعصا معجزة موسى ، وليس هارون ، وأن الذي ألقاها فإذا هي ثعبان مبين ، إنما هو موسى وليس هارون ، وأن موسى فعل ذلك أول مرة أمام فرعون وملئه ، ثم مرة ثانية حين اجتمع السحرة لمناظرة موسى يوم الزينة (٢) ، ومنها (ثالث عشر) أن معجزة انغلاق البحر لموسى إنما هي في التوراة بسبب ريح شرقية هبت فأزالت الماء ، وظهرت اليابسة ، وحينئذ عبر بنو إسرائيل ، واندفع المصريون وراءهم ، فرجع الماء ، وأغرق جميع مركبات وفرسان جيش فرعون ، ورأى بنو إسرائيل ما صنعه الرب بالمصريين فخافوا فآمنوا بالرب وبعبده موسى ، وأما في القرآن فالمعجزة واضحة ، حيث أمر الله تعالى موسى : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ

__________________

(١) سورة طه : آية ٢٥ ـ ٣٦ ، القصص : آية ٣٢ ـ ٣٥ ، خروج ٤ / ١٠ ـ ١٦ ، ٦ / ١٢.

(٢) سورة الأعراف : آية ١٠٤ ـ ١٢٢ ، طه : آية ٥٧ ـ ٧٠ ، الشعراء : آية ٣٠ ـ ٤٨ ، خروج ٧ / ٨ ـ ١٢

٤٤٠