دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٢

الأمثل بأنه الحاكم العادل الكفء الذي لا يحمل في قلبه شرّا لرعيته ، ويعمل جهده على جمع كلمتها وتوحيد صفوفها ، إنه كالراعي يصرف يومه في جمع قطيعه بعضه إلى بعض ، ومن ثم فإن الثورة رغم أنها أبقت على مبدأ الملكية الإلهية ، فإنها في الوقت نفسه نادت بحقوق الأفراد وبالعدالة الاجتماعية مما جعل الملك المؤله راعيا لشعبه يسهر على مصالحهم ويضني نفسه في سبيل سعادتهم ، وهكذا لم يعد الملك ذلك الحاكم الجبار ، فوق البشر ، وإنما غدا إنسان له ما للإنسان من ضعف ونزوات ، وحاكما يعمل لخير شعبه ، ويجهد نفسه على أن يكون دائم اليقظة ، حتى لا يؤخذ على غرة ، شأنه في ذلك ، شأن أي إنسان ، قد يفعل الخير فيجد خيرا ، وقد لا يجد سوى الشر.

هذا وقد أشرنا من قبل عن أن مصر لم تكن أبدا تعرف عبادة الملك الحي طوال العصور الفرعونية ، وإن حاول ذلك «أمنحتب الثالث» ، وعلى استحياء شديد في النوبة ، وليس في مصر نفسها ، ثم حاول كذلك رعمسيس الثاني في معابده التي أقامها في النوبة للآلهة المصرية وفي «هربيط» وكانت مدينة عسكرية ، ثم رعمسيس الثالث في منف وفي العاصمة «بي رعمسيس» ، وإن لم تشر سجلات عصره في بردية هاريس ومدينته هابو إلى ذلك أبدا (١).

__________________

(١) أنظر عن الموضوع والمراجع (محمد بيومي مهران : الثورة الاجتماعية الأولى ، الإسكندرية ١٩٦٦ ص ١٩٠ ـ ٢٤٠ ، الحضارة المصرية ـ الإسكندرية ١٩٨٤ ص ٩٧ ـ ١٢٨).

٢٢١
٢٢٢

الباب الثاني

خروج بني إسرائيل من مصر

٢٢٣
٢٢٤

الفصل الأول

الخروج ـ أسبابه وتاريخه ومكانه

(١) أسباب الخروج :

يختلف العلماء في أسباب خروج بني إسرائيل من مصر ، أو طردهم منها ، ولعل السبب في ذلك تناقض نصوص التوراة بشأنها ، فهي تصوره ، وكأنه إضراب عن العمل ، ومن ثم فإنها تتحدث عن تمرد العمال العبرانيين على رؤسائهم المصريين ، كما تتحدث عن تكاسلهم عن القيام بواجباتهم بسبب رغبتهم في الخروج إلى البرية ليذبحوا للرب إلههم ، ولكن فرعون يرفض ذلك (١) ، الأمر الذي دفع «وارد» إلى القول بأن الخروج لم يكن إلا إضرابا عن العمل (٢) ، ويذهب «كيلر» إلى أن الإسرائيليين إنما كانوا يكوّنون رصيدا هائلا من الأيدي العاملة الرخيصة ، والأجنبية كذلك ، وما كان المصريين براغبين في تركهم يخرجون من البلاد (٣) ، في فترة البناء النشطة في عهد رعمسيس الثاني (١٢٩٠ ـ ١٢٢٤ ق. م) والذي كان اهتمامه مركزا في الدلتا الشرقية ، ومن هنا حاول الإسرائليون الهروب ضد رغبة المصريين (٤) ،

__________________

(١) خروج ٥ / ٤ ـ ٥.

(٢) ول ديورانت : قصة الحضارة ٢ / ٣٢٦ ، وكذا ٧٦ Ward ,Ancient Lowly ,II ,p ..

(٣) ١٢٣.p ، ١٩٦٧. W.Keller ,The Bible as History ,

(٤) ١١٤.p ، ١٩٦٥. M.Noth ,The History of Israel ,London ,

٢٢٥

على أن هناك من يذهب إلى أن مصر عند ما قررت التوسع شرقا إلى بابل ، رأت أنه من ضروريات السياسة الجديدة إقرار البدو نشرا للأمن ، فضلا عن الاستقرار ، فشق هذا الوضع الجديد على بني إسرائيل الذين كانوا ينزلون «وادي جوشن» من عهد يوسف عليه‌السلام ، كبدو يروحون ويغدون ، وهم بحكم هذا الضرب من الحياة تغلب عليهم النزعة الفردية ، وينفرون من الملكية الجماعية ، ومن ثم فقد تمردوا مفضلين البداوة والترحال ، على الحضارة والاستقرار (١).

على أن هناك وجها آخر للنظر ، يذهب إلى أن الخروج إنما قد تم برغبة المصريين ، ذلك لأن الطاعون قد انتشر بين الإسرائيليين ، مما اضطر المصريون إلى أن يتركونهم يخرجون حتى لا ينتشر الوباء بين المصريين أنفسهم ، ولعل هذا الرأي إنما يتفق مع ما رواه «يوسف اليهودي» نقلا عن مانيتو ، من أن خروج بني إسرائيل من مصر ، إنما كان رغبة من المصريين في أن يتقوا وباء فشا بين اليهود المستعبدين المملقين ، وأن موسى نفسه إنما كان كاهنا مصريا خرج للتبشير بين اليهود المجذومين ، وأنه علمهم قواعد النظافة على نسق القواعد المتبعة عند الكهنة المصريين ، هذا فضلا عن أن المؤرخين الأغارقة والرومان إنما يفسرون قصة الخروج على هذا النحو (٢).

ولعل الوصول إلى رأي في المشكلة يقرب من الصواب ، أو يكاد ، من وجهة نظر التوراة ، إنما يتطلب منا الرجوع إلى نصوص التوراة نفسها ، وبخاصة فيما يتصل بدعوة موسى عليه‌السلام ، وهل كانت لهداية المصريين والإسرائيليين سواء بسواء ، أم أنها كانت تهدي إلى إخراج بني إسرائيل من

__________________

(١) فؤاد حسنين : إسرائيل عبر التاريخ ١ / ٥٤ ـ ٥٥.

(٢) ول ديورانت : المرجع السابق ص ٣٢٦ ، وكذا A. Lods, Israel, From its Beginnings to

١٦٨.p ، ١٩٦٢. Middle of the Eighth Century, Londmn, the

٢٢٦

مصر فحسب ، ومن هنا لعلنا نعرف قدر الطاقة ، هل خرج بنو إسرائيل من مصر راغبين أم مكرهين؟

إن التوراة تزخر بالنصوص التي تدل على أن دعوة موسى عليه‌السلام ، إنما كانت تهدف إلى إخراج بني إسرائيل من مصر ، وإطلاق سراحهم من عبودية المصريين ، يبدو هذا واضحا خاصة من الإصحاحات العشرة الأولى من سفر الخروج (١) ، ومن ثم فالهدف من دعوة موسى ، كما تصورها التوراة ، إنما هو إخراج بني إسرائيل من مصر ، وأن يقيهم شر العذاب المهين الذي كانوا يتعرضون له في أرض الكنانة.

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن القول بأن موضوع رسالة موسى إنما كان إطلاق بني إسرائيل من عبودية فرعون وقومه ، إنما هو أمر يقرره القرآن الكريم في عدة سور ، من ذلك قول الله تعالى : (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ، حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (٢) ، وقوله تعالى : (فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ) (٣) ، وقوله تعالى : (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ ، أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) (٤) ، ويقول صاحب الظلال : وواضح من هذا أن موسى عليه‌السلام لم يكن رسولا إلى فرعون وقومه ليدعوهم إلى دينه ويأخذهم بمنهج رسالته ، إنما كان رسولا إليهم ليطلب إطلاق بني إسرائيل ليعبدوا ربهم كما يريدون ، وقد كانوا أهل دين منذ أبيهم إسرائيل ، وهو يعقوب أبو يوسف

__________________

(١) أنظر : خروج ٣ / ٧ ـ ١١ ، ٥ / ١ ـ ٥ ، ١٠ ـ ١٣ ، ٢٦ ـ ٧ / ٢ ـ ٥ ، ١٤ ، ٨ / ١ ـ ٢ ، ٢٠ ـ ٣٢ ، ٩ / ١ ـ ٢ ، ١٣ ، ١٧ ، ٢٨ ، ٣٥ ، ١٠ / ٣ ، ٧ ـ ١١ ، ٢٠.

(٢) سورة الأعراف : آية ١٠٤ ـ ١٠٥.

(٣) سورة طه : آية ٤٧.

(٤) سورة الشعراء : آية ١٦ ـ ١٧.

٢٢٧

عليهما‌السلام، فبهت هذا الدين في نفوسهم ، وفسدت عقائدهم ، فأرسل الله إليهم موسى لينقذهم من ظلم فرعون ، ويعيد تربيتهم على دين التوحيد ، ويقول في مكان آخر من تفسيره أن موضوع رسالتهما (أي موسى وهارون) (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ) ، ففي هذه الحدود كانت رسالتهما إلى فرعون ، لاستنقاذ بني إسرائيل ، والعودة بهم إلى عقيدة التوحيد ، وإلى الأرض المقدسة التي كتب الله لهم أن يسكنوها إلى أن يفسدوا فيها فيدمرهم تدميرا (١).

ويقول أبو حيان في بحره المحيط في تفسير آية الأعراف (١٠٥) لم يطلب موسى من فرعون في هذه الآية إلا إرسال بني إسرائيل معه ، وفي غيرها دعاه إلى الإقرار بتوحيد الله وربوبيته ، قال تعالى : (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى ، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) (٢) ، وكل بدعوته إلى توحيد الله ، وقوله تعالى حكاية عن فرعون : (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) (٣) فهذا ونظائره دليل على أنه طلب منه الإيمان ، خلافا لمن قال إن موسى لم يدعه إلى الإيمان ، ولا إلى التزام شرعه ، وليس بنو إسرائيل من قوم فرعون ولا من المصريين (القبط) ، ألا ترى أن بقية المصريين ، وهم الأكثر ، لم يرجع إليهم موسى (٤).

وعودا على بدء ، عودا إلى التوراة ، حيث نرى اتجاه النصوص يتغير عند ما يعلن فرعون موافقته على رغبة موسى بإطلاق الرجال من بني إسرائيل ليعبدوا للرب إلههم في البرية ، غير أن موسى لا يرضى إلا أن يخرج

__________________

(١) في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٣٧ ، ٥ / ٢٥٩٠.

(٢) سورة النازعات : آية ١٨ ـ ١٩.

(٣) سورة المؤمنين : آية ٤٧.

(٤) تفسير البحر المحيط ٤ / ٣٥٦.

٢٢٨

الإسرائيليون جميعا ، بل حتى الغنم والبقر ، وهنا يرفض الفرعون ، وإن كان لا يمضي طويل وقت حتى يوافق على خروج بني إسرائيل جميعا ، وإن استثنى من ذلك الأغنام والأبقار ، غير أن موسى لا يقبل إلا بخروج أغنامهم وأبقارهم معهم ، لأن بني إسرائيل ، فيما ترى توراتهم ، ما كانوا بقادرين على عبادة ربهم بدون مواشيهم (١) ، ويصر الفرعون على رأيه ، وهنا تبدأ التوراة لا تتحدث عن خروج بني إسرائيل من مصر ، وإنما تتحدث عن طردهم (٢) ، كما تبدأ النصوص التوراتية تخطط لسرقة المصريين (٣) ، وعن البلاياء التي نزلت بمصر مما اضطر فرعون إلى أن يوافق على خروج الإسرائيليين بأغنامهم وأبقارهم (٤) ، وهنا لا يتورع كتبة التوراة أن يدونوا في نصوصها أن مشروع سرقة المصريين الذي كان قد دبر بليل ، إنما قد تم تنفيذه الآن «وأعطي الرب نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم ، أمتعة فضة وأمتعة ذهب ، فسلبوا المصريين (٥)» ، وأن هذا قد تم برضى من موسى وبأمر منه ، وفي الحقيقة أن الإساءة إلى الأنبياء الكرام من بني إسرائيل أنفسهم ، أمر معروف في التوراة ، ونظائره كثيرة.

وأيا ما كان الأمر ، فإن نصوص التوراة تشير إلى أن الخروج إنما قد تم بأمر فرعون وموافقته ، بل إنها تشير صراحة إلى أن بني إسرائيل قد أكرهوا على الخروج من مصر (٦) ، أو على الأقل ، فإنهم لم يكونوا جميعا راضين عن الخروج ، إذ وافق عليه فريق ، وأنكره آخرون ، إلا أن الغلبة إنما كانت

__________________

(١) خروج ١٠ / ٩ ـ ١١ ، ٢٤ ـ ٢٦ ، ١١ / ١ ـ ٢.

(٢) خروج ٦ / ١.

(٣) خروج ١١ / ١ ـ ٣.

(٤) خروج ١٢ / ٢٩ ـ ٣٣.

(٥) خروج ١٢ / ٣٤ ـ ٣٦.

(٦) خروج ١٢ / ٣٩.

٢٢٩

للأولين على الآخرين ، ومن هنا فإن الله لم يهدهم إلى أقرب الطرق إلى كنعان «لئلا يندم الشعب إذا رأوا حربا ويرجعوا إلى مصر (١)» ، بل إن هناك نصوصا توراتية تقرر أن بني إسرائيل إنما كانوا يعارضون فكرة الخروج من مصر منذ أن عرضها عليهم موسى ، بادئ ذي بدء ، وأنهم حين خرجوا منها ، سواء أكان ذلك بأمر فرعون أو بتحريض من موسى ، فقد كانوا لذلك من الكارهين ، ومن هنا فقد كثرت ثوراتهم على موسى في سيناء ، بل حتى وهم على أبواب كنعان ، حيث نادوا بخلع موسى ، والمناداة برئيس جديد يستطيع أن يعود بها إلى أرض الكنانة «أليس خيرا لنا أن نرجع إلى مصر ، فقال بعضهم لبعض نقيم رئيسا ونرجع إلى مصر (٢)».

على أن آي الذكر الحكيم إنما تقرر أن الخروج من مصر ، إنما كان بوحي من الله تعالى إلى موسى عليه‌السلام ، قال تعالى : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) (٣) ، وقال تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) (٤) ، وقال تعالى : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ، وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) (٥) وهذا كله يفيد أن الخروج إنما كان بأمر من الله لموسى عليه‌السلام ، فلقد أوحى الله تعالى إلى موسى أن يسري بعباده ، وأن يرحل بهم ليلا ، بعد تدبير وتنظيم ، ونبأه أن فرعون سيتبعهم بجنده ، وأمره أن يقود قومه إلى ساحل البحر (٦) ، وبدهي أنه ليس بعد قول الله تعالى قول ،

__________________

(١) خروج ١٣ / ١٧ ـ ١٨.

(٢) خروج ١٤ / ١١ ـ ١٢ ، عدد ١٤ / ٣ ـ ٤.

(٣) سورة طه : آية ٧٧.

(٤) سورة الشعراء : آية ٥٢.

(٥) سورة الدخان : آية ٢٣ ـ ٢٤.

(٦) في ظلال القرآن ٥ / ٢٥٩٧.

٢٣٠

وبالتالي فإن الخروج من مصر إنما تم بأمر الله تعالى ، وليس بأمر موسى أو فرعون.

(٢) تاريخ الخروج :

اختلف المؤرخون ، القدامى منهم والمحدثون ، في تاريخ خروج بني إسرائيل من مصر ، وبالتالي في الاستقرار الذي تلاه في كنعان (فلسطين) ، ومن ثم فقد قدموا لنا نظريات مختلفة ، يصل الفرق بين أقدمها وأحدثها إلى أربعة قرون ، ومن ثم فقد رأينا البعض يجعل من طرد الهكسوس من مصر (حوالي عام ١٥٧٥ ق. م) تاريخا للخروج ، بينما يتأخر آخرون إلى ما بعد عصر رعمسيس الثالث (١١٨٢ ـ ١١٥١ ق. م) ، والفرق بينهما ، كما رأينا ، كبير ، يصل إلى أربعة قرون ، وفي نفس الوقت ، إنما يشير إلى الغموض الذي يرين على تاريخ خروج بني إسرائيل من مصر ، بقيادة موسى عليه‌السلام.

ولعل صعوبة الوصول إلى رأي محدد بشأن تاريخ الخروج ، إنما يرجع ، في أكبر الظن ، إلى أسباب ثلاثة ، أولها : أن الآثار المصرية ، وكذا الفلسطينية ، لم تقدم لنا تاريخا محددا عن هذا الحدث الخطير ، والذي أصبح له تأثير ضخم على التاريخ الديني ، وما برح حتى الآن يؤثر في نفسية اليهود ، بل إنه هو الذي أثمر بصفة عامة ذاتيتهم الخاصة ، وأما سبب عدم ذكر هذا الحادث في الآثار أو الوثائق المصرية ، فيرجع ، فيما نرى ، إلى أمرين ، أولهما : أن احتمال العثور على أسماء الأنبياء والرسل ، صلوات وسلامة عليهم ، في النصوص الإنسانية ، وخاصة المصرية ، ضعيف إلى درجة كبيرة ، في ذلك لأن حقيقة الصراع بين القيم السماوية والبشرية ، ربما كان سببا ، وهو كذلك ، في إغفال ذكرها ، وهذه ظاهرة يلمسها المؤرخ في تاريخ الشرق الأدنى القديم بوجه عام ، بالنسبة إلى تعمد عدم التعريف

٢٣١

بالمعارضين (١) ، وثانيهما : أن المصادر المصرية القديمة ، والتي تمتاز عن غيرها من مصادر الشرق الأدنى القديم بوضوحها وكثرة آثارها ونصوصها ، كان من المنتظر أن تمدنا هذه المصادر المصرية بمعلومات كافية عن موسى عليه‌السلام ، غير أن هذه المصادر ، في غالبيتها ، إنما كتبت بأمر من الملوك ، أو بوحي منهم ، أو على الأقل برضى منهم ، فإذا تذكرنا أن الملك كان في العقيدة المصرية القديمة مؤلها ، كان من الطبيعي ألا يستسيغ الفكر المصري أن يهزم الملك المؤله أو الإله في حرب خاض غمارها ، ولهذا فالنصر كاد أن يكون حليفه فيها ، وقد تكون الحقيقة غير ذلك (٢) ، ومن المعروف أن قصة موسى ، كما جاءت في التوراة والقرآن العظيم ، إنما انتهت بغرق الفرعون وجنوده في البحر ، ونجاة موسى ومن آمن معه بالواحد الأحد ، وليس من المقبول ، طبقا للعقيدة الملكية الإلهية في مصر القديمة ، أن تسجل النصوص غرق الفرعون الإله ، ونجاة عبيده العبرانيين ، ومن هنا كان من الصعب العثور على اسم موسى وقصة خروجه ببني إسرائيل من مصر ، حتى الآن على الأقل ، رغم ضخامة التركة الأثرية التي خلفتها لنا مصر في العصور الفرعونية (٣).

وأما ثاني الأسباب فإنما يرجع إلى الاضطراب الواضح بين نصوص التوراة ، حتى استطاع العلماء أن يستخرجوا منها تاريخين مختلفين للخروج في وقتين مختلفين ، يكاد الواحد منهما يبعد عن الآخر بأكثر من قرنين من الزمان ، حيث اعتمد البعض على نص في سفر الملوك ، توصلوا إلى أن الخروج إنما كان على أيام تحوتمس الثالث (١٤٩٠ ـ ١٤٣٦ ق. م) (٤) بينما

__________________

(١) رشيد الناضوري : الفكر الديني ـ بيروت ١٩٦٩ ص ١٧٤.

(٢) محمد بيومي مهران : الثورة الاجتماعية الأولى في مصر الفراعنة ص ٣.

(٣) محمد بيومي مهران : إسرائيل ١ / ٣١٤ ـ ٣١٥.

(٤) ملول أول ٦ / ١.

٢٣٢

اعتمد آخرون على نص في سفر الخروج توصلوا منه إلى أن الخروج إنما كان على أيام رعمسيس الثاني (١٢٩٠ ـ ١٢٢٤ ق. م) (١).

وأما ثالث الأسباب ، فيرجع إلى أن القرآن الكريم ، وكذا التوراة ، لم يذكر أي منهما اسم الفرعون الذي عاصر موسى عليه‌السلام وذلك على الرغم من أن أبرز قصص الأنبياء في القرآن الكريم قصتان مسهبتان في أجزائه لأنهما ترويان نبأ الرسالة بين أعرق أمم الحضارات الإنسانية ، وهما أمة وادي النهرين وأمة وادي النيل ، وكانت الثورة فيهما على ضلال العقل في العبادة ، جامعة لأكثر العبادات المستنكرة في الزمن القديم ، ولعل السبب في عدم ذكر القرآن لاسم فرعون موسى ، أن الإسم لا أهمية له في موضوع القرآن أو في صميم رسالته ، فإنه كتاب هداية وإرشاد ، ومن ثم فهو يكتفي من القصة والوقائع التاريخية الصحيحة بالقدر الذي يستخلص منه العبرة ، ويقتضيه المقام ، ومن ثم فهدف قصة موسى في القرآن ، كهدف غيرها ، ليس التأريخ لهما ، وإنما عبرا تفرض الإفادة بما حل بالسابقين.

وعلى أي حال ، فإن أهم الآراء التي دارت حول تاريخ الخروج خمسة ، أولها رأي يذهب أصحابه إلى أن الخروج إنما تم أثناء طرد الهكسوس من مصر على أيام أحمس الأول ، حوالي عام ١٥٧٥ ق. م ، وثانيهما أنه تم على أيام تحوتمس الثالث (١٤٩٠ ـ ١٤٣٦ ق. م) أو ولده أمنحتب الثاني (١٤٣٦ ـ ١٤١٣ ق. م) ، وثالثها أنه تم في أعقاب أيام إخناتون (١٣٦٧ ـ ١٣٥٠ ق. م) ، وربما في الفترة ما بين موت أخناتون وتوليه حور محب العرش حوالي عام ١٣٣٥ ق. م ، ورابعها أنه تم على أيام رعمسيس الثاني (١٢٩٠ ـ ١٢٢٤ ق. م) ، وخامسها أنه على أيام ولده «مرنبتاح» (١٢٢٤ ـ ١٢١٤ ق. م) ، فإذا كان هذا الرأي صحيحا ، وهذا ما

__________________

(١) خروج ١ / ١٠.

٢٣٣

نميل إليه ونرجحه ، فإن الخروج لا بد وأن يكون في العام الأخير من حكم مرنبتاح ، سواء أكان هذا العام العاشر من الحكم (حوالي عام ١٢١٤ ق. م) أو العام الثامن من الحكم (حوالى عام ١٢١٦ ق. م) ، على خلاف في الرأي ، وذلك لأن التوراة (١) والقرآن العظيم إنما يقولان إن الفرعون قد غرق في البحر ، وإن أضاف القرآن الكريم أن جثة الفرعون قد انتشلت لتكون آية لمن خلفه (٢) ، على أن هناك آراء أخرى ، ذهب أولها إلى أن الخروج تم على أيام «سيتي الثاني» ، وذهب ثانيها إلى أنه كان في نهاية الأسرة التاسعة عشرة ، وأما ثالث الآراء فقد تأخر به إلى ما بعد عهد رعمسيس الثالث ، ثاني ملوك الأسرة العشرين ، الأمر الذي سنناقشه بالتفصيل في الفصل الثالث (فرعون موسى) من هذا الباب الثاني.

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الوصول إلى تاريخ محدد ، على وجه اليقين أو حتى على وجه التقريب ، أمر في غاية الأهمية من الناحيتين التاريخية والدينية ، فأما من الناحية التاريخية ، فلعلنا نستطيع ، عن طريق معرفتنا لتاريخ الخروج ، أن نعرف وقت دخول بني إسرائيل فلسطين ، وبالتالي بداية التاريخ الإسرائيلي ، ذلك لأن تاريخ بني إسرائيل كشعب ، لا يبدأ إلا بالخروج من مصر ، وأما من الناحية الدينية ، فإننا نستطيع أن نعرف بداية ظهور اليهودية ، ذلك أننا إذا عرفنا فرعون مصر الذي خرج اليهود في عهده من مصر ، فإننا نستطيع ، اعتمادا على وضوح التاريخ المصري على أيام الفراعين ، أن نحدد عصر موسى عليه‌السلام ، ذلك العصر الذي يعتبر واحدا من أهم الأعصر في تاريخ البشرية الديني ، لأنه العصر الذي ظهرت فيه أولى الديانات السماوية الثلاثة الكبرى المعاصرة ، اليهودية والمسيحية والإسلام.

__________________

(١) خروج ١٤ / ٢٦ ـ ٣١ ، ١٥ / ١ ـ ٥ ، الرسالة إلى العبرانيين ١٥ / ٢٩.

(٢) سورة يونس : آية ٩٠ ـ ٩٢.

٢٣٤

ولعل مما يزيد الأمر أهمية أننا نعرف البداية المؤكدة للمسيحية والإسلام ، عن طريق معرفتنا لتاريخ نبيّيهما الكريمين سيدنا عيسى وسيدنا ومولانا محمد رسول الله ، صلوات الله وسلامه عليهما ، فأما المسيح عليه‌السلام ، فقد ولد على أيام أول قياصرة روما «أوغسطس» (٢٧ ق. م ـ ١٤ م) ، وأيام «هرودوس الكبير» (٣٧ ـ ٤ ق. م) أو ولده «إرخيلاوس» (٤ ق. م ـ ٦ م) حاكمي اليهودية من قبل الرومان ، وعلى أيام «الحارث الرابع» (٩ ق. م ـ ٤٠ م) ملك الأنباط ، هذا ويذهب البعض إلى أن المسيح ولد ما بين عامي ٦ ، ٢ قبل الميلاد ، بينما رأى آخرون أنه ولد عام ٥ ق. م ، أو أوائل عام ٤ ق. م ، أما الاحتفال بمولده في ٢٥ ديسمبر ، فقد بدأ في القرن الرابع الميلادي ، ومن ثم فربما كان مولده في ٢٥ ديسمبر عام ٥ ق. م ، وهذا يجعله سابقا للتاريخ الذي وضعه «ديونيسيوس» في ٢٥ ديسمبر عام ١ م ، بخمس سنوات ، على أن هناك من يراه قد ولد في عام ٤ م ، وأنه رفع إلى السماء في عام ٢٧ م ، وربما في ٢٣ مارس عام ٢٩ م ، على أن هناك من يرى المسيح بدأ دعوته ، وقد ناهز الثلاثين من عمره في عهد الإمبراطور «تيبريوس» (١٤ ـ ٣٧ م) (١).

وأما المولد النبوي الشريف لمولانا وسيدنا وجدنا محمد رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد كان ، طبقا للمصادر الإسلامية ، في عام الفيل (٢) ،

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس ٢ / ٦٨٤ ، ه. ج. ويلز : تاريخ العالم ـ القاهرة ١٩٦٧ ص ١٧٢ ، ٤١٦ ، فيليب حتى : المرجع السابق ١ / ٣١١ ـ ٣١٢ ، ٣٦٣ ، محمد بيومي مهران : إسرائيل ١ / ٣٥٩ ، ٢ / ١١٤٥ وكذا ٤ ، ٦ XV ٥ ، ٣ ، ٨، XIV Josephus ,Antquities وكذاJosephus ,The

٨ Jewish War ,I ,XIII ,.

(٢) تاريخ الطبري ٢ / ١٥٥ ـ ١٥٧ ، ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ٢٥٩ ـ ٣٦٣ ، سيرة ابن هشام ١ / ١٥٨ ـ ١٥٩ ، دلائل النبوة للبيهقي ، عماد الدين خليل : دراسة في السيرة ص ٣٧ ، محمد بيومي مهران : دراسات تاريخية من القرآن الكريم ١ / ٣٨٨ ـ ٤١٠ (الرياض ١٩٨٠).

٢٣٥

غير أن عام الفيل نفسه غير معروف على وجه التحديد (١) ، والأمر كذلك إلى من يرونه يتفق وموقعه «ذي قار» (٢) ، ومن ثم فقد اعتمد العلماء على تاريخين محققين من السيرة النبوية الشريفة ، لتحقيق المولد النبوي الشريف ، وهما : تاريخ الهجرة في عام ٦٢٢ م ، وتاريخ الانتقال إلى الرفيق الأعلى في عام ٦٣٢ م ، ومع ذلك لم يصل العلماء ، إلى نتائج مؤكدة.

وعلى أية حال ، فإن «جوستاف لوبون» يرى أن مولد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما كان يوم ٢٧ أغسطس عام ٥٧٠ م ، بينما يتأخر به «كوسان دي برسيفال» يومين ، فيراه في ٢٩ أغسطس ٥٧٠ م ، وأما محمود باشا الفلكي فقد حدد لمولد مولانا وسيدنا وجدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم ٩ ربيع الأول ، الموافق ٢٠ أبريل عام ٥٧١ م ، ويتفق معه في ذلك «سلفستر دي ساسي» ، والحق أن الإمام السهيلي (١١١٤ ـ ١١٨٥ م) قد سبق كلا من الفلكي وسلفستر في تاريخهما للمولد النبوي الشريف بيوم ٢٠ أبريل (نيسان) ، على أن المترجمين لحياة سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما يجمعون على أنه ولد يوم الاثنين من الأسبوع الثاني من شهر ربيع الأول من عام الفيل ، ويذهب جمهور كبير من العلماء على أن هذا التاريخ يوافق العام الثالث والخمسين قبل الهجرة ، أي عام ٥٧١ م ، وأما الانتقال إلى الرفيق الأعلى فقد كان يوم ١٢ أو ١٣ ربيع الأول عام ١١ ه‍ ، الموافق ٧ أو ٨ يونيه عام ٦٣٢ م ، بعد أن بلغ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ٦٣ عاما قمريا بالكامل ، أي أكثر من واحد وستين عاما شمسيا ، بحوالي شهر وأكثر من نصف الشهر ، روى البخاري ومسلم والترمذي عن ابن عباس أنه قال : مكث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة يوحي إليه ، وبالمدينة عشرا ، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة (٣)».

__________________

(١) تتراوح تقديرات العلماء فيما بين أعوام ٥٥٢ م ، ٥٦٣ م. ٥٧٠ م ، ٥٧١ م.

(٢) أنظر : محمد بيومي مهران : دراسات في تاريخ العرب القديم ص ٥٩٤ ـ ٥٩٧.

(٣) محمود الفلكي : التقويم العربي قبل الإسلام ص ٣٨ ، محمد عبد الله دراز : مدخل إلى ـ

٢٣٦

(٣) مكان الخروج وبدايته :

التف بنو إسرائيل حول موسى عليه‌السلام في مصر ، لا كنبي ، وإنما كقائد يرجي على يديه الخلاص من استعباد المصريين ، وبدأ موسى مسيرة الخروج ، ومعه بطانة من السحرة المصريين الذين آمنوا به وصدقوه ، بل كما وصفهم القرآن الكريم (أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) ، هذا فضلا عن الإسرائيليين ومن لاذ بهم ممن آمنوا بموسى ودعوته ، وكانت بداية المسيرة من مدينة «بي رعمسيس» مقر الفرعون وعاصمة الإمبراطورية المصرية وقت ذاك ، والتي قام جدل طويل بين العلماء حول موقفها ، وإذا كان صحيحا ما ذهبنا إليه من دراسات سابقة لنا ، فإنها تقع مكان قرية «قنتير» ، على مبعدة ١٩ كيلا إلى الجنوب من صان الحجر ، وعلى مبعدة ٩ كيلا إلى الشمال الشرقي من فاقوس شرقية (١).

وعلى أية حال ، فلقد ارتحل بنو إسرائيل من «بي رعمسيس». (رعمسيس في التوراة) إلى سكوت (٢) ، وكان عددهم ، فيما تروي التوراة ،

__________________

القرآن الكريم ص ٢٢ ، وانظر : صحيح البخاري ٦ / ١٩ ، صحيح مسلم ١٥ / ٩٩ ـ ١٠٤ (بيروت ١٩٨١) وكذا Cussin de Perceval, Essai sur L\'Histoire des Arabes avant L\'Islamisme,

Le Proplem de Mahomet R.Blachere ٢٨٣ P I وكذا P. Lammanens, Age de

٢٠٩ ,. , ,. Mohammad , P .. ١٥ p

(١) محمد بيومي مهران : مصر والعالم الخارجي في عصر رعمسيس الثالث ـ الإسكندرية ١٩٦٩ ص ٤٦ ـ ٦٢ ، إسرائيل ١ / ٤٣٩ ـ ٤٤٣.

(٢) سكوت : مكان غير معروف الآن بالضبط ، ولكنها تقع في الإقليم الثامن من أقاليم الدلتا ، وكان يسمى «واع إيب» أو «نفر إيب» ويقع في نهاية الدلتا الشرقية بين وادي طميلات والبحر الأحمر ، ويذهب البعض إلى أن سكوت هي تل المسخوطة على مبعدة ١٥ كيلا شرقي الإسماعيلية ومن يرى أنها «بيثوم» (فيثوم) (بر آتوم) وهي تل سليمان على مبعدة ٣ كيلا من غربة أبو سعيد ، قريبا من القصاصين ، وعلى مبعدة ١٣ كيلا غربي تل المسخوطة ، أو هي التل الكبير على مبعدة ٤٩ كيلا غربي الإسماعيلية ، ومن يرى أنها «ثكو» عند المصريين القدامى ـ

٢٣٧

نحو ستمائة ألف ماش من الرجال ، عدا الأولاد (١) ، وقد تابع بعض المؤرخين والمفسرين (٢) التوراة في ذكر تلك الأرقام ، التي أثارت جدلا بين العلماء حول صحتها ، ذلك لأن رقم (٦٠٠ ألف) إنما يصل ببيت يعقوب ، والذين كانوا سبعين نفسا يوم دخلوا مصر على أيام يوسف (٣) منذ ٢١٥ عاما ، طبقا للترجمة السبعينية (٤) للتوراة ، أو ضعف هذا الرقم طبقا لرواية التوراة العبرية ، يصل بهم الآن ، وعند الخروج من مصر ، إلى ما يزيد عن المليونين ، وربما الثلاثة ، تقول التوراة : كان من بينهم «نحو ست مائة ألف ماش من الرجال ، عدا الأولاد ، فكان جميع الأبكار الذكور ، من ابن شهر فصاعد ، اثنين وعشرين ألفا ومائتين وثلاثة وسبعون (٥)» ، فإذا ضاعفنا هذا الرقم كان الأبكار من الجنسين قرابة ٤٥ ألفا.

ومن ثم فقد رفض كثير من العلماء هذه الأرقام ، وإن قبلها آخرون ، بينما حاول فريق ثالث إيجاد تفسير آخر لهذه الأرقام ومن ثم فقد ذهب «فلند

__________________

ـ على مبعدة ١٠ كيلا من قنتير ، وإن رأى فريق رابع أن ذلك أمرا يحتمل الكثير من الشك ، (محمد بيومي مهران : الحضارة المصرية ـ الإسكندرية ١٩٨٤ ص ١٧٢ ـ ١٧٣).

(١) خروج ١٢ / ٣٧.

(٢) أنظر : تاريخ الطبري ١ / ٤٠٤ ، تاريخ ابن خلدون ١ / ٩٤ ، الكامل لابن الأثير ١ / ١٠٦ ، البداية والنهاية لابن كثير ١ / ٢٧٠ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٣٦ ، مروج الذهب للمسعودي ١ / ٦١ ، تفسير روح المعاني ١ / ٢٧٠ ، تفسير الدر المنثور ٥ / ٨٤ ، تفسير أبي السعود ٦ / ٢٤٤ ، ثم قارن ذلك بما جاء في تفسير النسفي (٣ / ٦٠) حيث جعل بني إسرائيل سبعين ألفا فقط ، وأن فرعون ركب إليهم في ستمائة ألف ، هذا وقد جاء في تفسير السيوطي (٥ / ٨٥) : روى ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : كان أصحاب موسى الذين جاوزوا البحر اثنى عشر سبطا ، فكان في كل طريق اثنى عشر ألفا ، كلهم ولد يعقوب عليه‌السلام.

(٣) تكوين ٤٦ / ٢٦ ـ ٢٧.

(٤) أنظر عن الترجمة السبعينية للتوراة : محمد بيومي مهران : إسرائيل ٣ / ١٠٧ ـ ١١٢.

(٥) خروج ١٢ / ٣٢ ، عدد ٤٣ / ٤٣ ، وانظر : عصام الدين حفني ناصف : محنة التوراة على أيدي اليهود ـ القاهرة ١٩٦٥ ص ٣٥.

٢٣٨

رزبتري» إلى القول بأن الألف إنما تعني الأسرة والجماعة أو العشيرة أو الخيمة ، وعلى ذلك فإن ٤٠٠ و ٥٤ مثلا ، لا تعني إن هناك ٥٤٤٠٠ شخصا ، وإنما تعني (٥٤) عشيرة ، عدتها (٤٠٠) فردا ، ثم يفترض «بتري» بعد ذلك أن الخيمة الواحدة كانت تضم في المتوسط تسعة أفراد ، هم الجدين والوالدين وثلاثة أطفال ، فضلا عن اثنين من الرعاة أو التابعين من الجمهور المختلط الذي صعد معهم ، وهذا على اختلاف بين القبائل ، فالقبيلة الفقيرة كانت تضم خيامها خمسة أفراد وثلاثة أطفال ، بينما تضم القبيلة الغنية أطفالا أكثر ، ثم يقترح «بتري» بعد ذلك أن المجموع الكلي كان ٥٥٥٠ (خمسة آلاف وخمسمائة وخمسون شخصا) وبهذا يمكن لموسى عليه‌السلام أن يحكم في كل الخصومات التي تنشب بين حوالي ستمائة خيمة أو مجموعة ، لأن الفصل بين ستمائة ألف رجل جد محال (١).

هذا فضلا عن أن هناك قابلتين ، هما شفرة وفوعة (٢) ، كانتا تقومان بمساعدة نساء بني إسرائيل في مصر أثناء الوضع ، وربما كان مقر الواحدة منهما في مدينة «بي رعمسيس» ، والأخرى «فيثوم» (بر أتوم) ، وهو أمر مقبول بالنسبة لمجموعة تعدادها ستة آلاف ، ومواليدها بمعدل مولود كل أسبوع (٣) ، أضف إلى ذلك أننا لو أخذنا الرقم الأكبر ، وهو ستمائة ألف ، فهذا يعني ١٤٠ مولودا في كل يوم ، وهو أمر جد محال بالنسبة لأية قابلة (٤) ، هذا فضلا عن أننا لو قسمنا عدد الجماعة على الأبكار لخلصنا إلى أن المرأة الإسرائيلية كانت تلد زهاء ٦٥ وليدا ، وهذا أمر لا يستقيم مع المنطق ، فضلا عما تعرضوا له من ذل وعسف تحت رؤساء التسخير ، ولا مع ما روى من عبورهم البحر في

__________________

(١) ٤٤ ـ ٤٢.p ، ١٩٢٥. W.M.F.Petric ,Egypt and Israel ,London ,

(٢) خروج ١ / ١٥.

(٣) ٤٦ ـ ٤٤.W.M.F.Petrie ,op ـ cit ,p.

(٤) نجيب ميخائيل : مصر والشرق الأدنى القديم ٣ / ٣٨٨.

٢٣٩

سويعات قصار ، ومن ثم فإن علماء اللاهوت والمؤرخين سواء بسواء ، أصبحوا الآن لا يعلقون على هذه الأرقام التي ذكرتها التوراة أية أهمية ، ويعتبرونها محض خيال إسرائيلي (١)

وعلى أية حال ، فإن التوراة تروي أن الرب كان يعلم ما في الإسرائيليين «من صغر النفس ومن العبودية القاسية» ، وأنهم لم يصبحوا بعد أكفاء لدفع ثمن الحرية ، أو حتى جادين في الخروج من مصر ، حرصا منهم على حياة ، وتقاعسا عن جهاد ، وخوفا من موت ، ومن ثم فإنه لم يهدهم إلى أقرب الطرق إلى كنعان ، مع أنها قريبة ، «لئلا يندم الشعب إذا رأوا حربا ويرجعوا إلى مصر ، فأدار الله الشعب في طريق بحر سوف (٢)» ، وربما كان السبب أن لا يمروا بجوار الحصون المصرية التي كانت تحمي البلاد من غارات البدو ، وبخاصة عند «ثارو» (وهي تل أبو صيفة الحالي في مجاورات القنطرة شرق) وقد علمنا من نص موظف الحدود ، ويرجع إلى العام الثامن من عهد مرنبتاح ، كيف كانت سلطات الأمن تسيطر سيطرة كاملة على حركات الناس والبدو في تلك البقاع من تخوم مصر الشرقية (٣).

وهكذا ارتحل بنو إسرائيل من سكوت ، ونزلوا في «إيثام» في طريق البرية ، ثم كلم الرب موسى قائلا «كلم بني إسرائيل أن يرجعوا ، وينزلوا أمام فم الحيروث ، بين مجدل والبحر ، أمام بعل صفون ، مقابله تنزلون عند البحر (٤)».

__________________

(١) عصام الدين حفني ناصف : المرجع السابق ص ٣٥ ، أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ٧٣ ، وكذا ٣٥٨.p ، ١٩٣١.S.A.Cook ,The Rise of Israel ,in CAH ,II ,

(٢) خروج ١٣ / ١٧ ـ ١٨.

(٣) أنظر : محمد بيومي مهران : إسرائيل ١ / ٤١٥ ـ ٤١٦ ، وكذاA.H.Gardiner ,Egyptian J

Grammar وكذا ٢٥٩ ـ ٢٥٨ J.Wilson ,ANET ,P وكذا.H.Breasted ,ARE

٧٧ ـ ٧٦.p ، ١٩٦٦

٦٣٨ ـ ٦٣٦. III ,No

(٤) خروج ١٣ / ٢٠ ، ١٤ / ١ ـ ٢.

٢٤٠