دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٢

هذا وقد نقل القاضي عياض عن جمهور الفقهاء أن مريم ليست بنبية ، وذكر النووي في الأذكار عن إمام الحرمين أنه نقل الإجماع على أن مريم ليست نبيّة ، ونسبه في «شرح المهذب» لجماعة ، وجاء عن الحسن البصري : ليس في النساء نبيّة ، ولا في الجن (١).

٤ ـ وظائف الرسل :

بيّن القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهرة بوضوح وجلاء وظائف الرسل ، عليهم‌السلام ، ومهماتهم ، ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد أوكل إلى الأنبياء أهم الواجبات ، وأقدس المهمات ، وأشرف الغايات ، والتي من أهمها (أولا) أنهم الدعاة البررة إلى عبادة الله الواحد القهار ، وهذه في الحقيقة هي الوظيفة الأساسية ، بل هي المهمة الكبرى التي بعث من أجلها الرسل الكرام ، وهي تعريف الخلق بالخالق ، جل وعلاه وتخصيص العبادة له دون سواه (٢) ، كما قال جل ثناؤه : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (٣) ، وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (٤) ، وقال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ

__________________

(١) فتح الباري ٦ / ٤٧١ ، ٤٧٣ ، عمر سليمان الأشقر : الرسل والرسالات ، الكويت ١٩٨٥ ص ٨٦ ـ ٨٩.

(٢) انظر : محمد بيومي مهران : النبوة والأنبياء عند بني إسرائيل ـ الإسكندرية ١٩٧٨ ص ٧٧ ـ ٨١ ، محمد علي الصابوني : النبوة والأنبياء ، بيروت ١٩٨٠ ص ٢٣ ـ ٢٥ ، عمر سليمان الأشقر : الرسل والرسالات ـ الكويت ١٩٨٥ ص ٤٣ ـ ٥٤.

(٣) سورة النحل ، آية ٣٦ ، وانظر : تفسير الطبري ١٤ / ١٠٣ ، تفسير الفخر الرازي ٢٠ / ٢٦ ـ ٢٧ ، تفسير أبي السعود ٣ / ٣٦٠ ـ ٣٦١.

(٤) سورة الأنبياء : آية ٢٥ ، وانظر كذلك من سورة هود : الآيات ٢٥ ، ٥٠ ، ٦١ ، ٨٤ ، تفسير الطبري ١٥ / ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ، تفسير روح المعاني ١٢ / ٣٥ ـ ٣٧ ، ٧٧ ـ ٨٠ ، ٨٨ ، ١١٤ ـ ١١٥ ، ١٧ / ٣١ ـ ٣٢.

٢١

عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١) ، وقال تعالى : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) (٢) ، وقال تعالى : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) (٣) ، وقال تعالى : (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤).

ومنها (ثانيا) إنارة الطريق أمام الناس ، وهدايتهم إلى سواء السبيل ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) (٥) ، وهكذا كان كل رسول يدعو قومه إلى الصراط المستقيم ، ويبيّنه ويهديهم إليه ، فضلا عن مقاومة الانحراف الحادث في عهده ومصره ، وهكذا أنكر هود على قومه الاستعلاء في الأرض والتجبر فيها ، وأنكر صالح على قومه الإفساد في الأرض وإتباع المفسدين ، وحارب لوط جريمة اللواط التي استشرت في قومه ، وقاوم شعيب في قومه جريمة التطفيف في المكيال والميزان (٦).

ومنها (ثالثا) أن من رحمة الله على عباده أن يرسل إليهم الرسل قبل أن يقع عليهم عقابه ، ومن ثم لا تكون للعاصين منهم حجة على الله بعد الرسل ، قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٧) ، وقال تعالى : (رُسُلاً

__________________

(١) سورة الأعراف : آية ٥٩ ، وانظر تفسير ابن كثير ٣ / ٤٢٧ ـ ٤٢٨ ، تفسير القرطبي ص ٢٦٦٨ ـ ٢٦٧٠ (ط الشعيب).

(٢) سورة هود : آية ٥٠.

(٣) سورة الأعراف : آية ٧٣.

(٤) سورة العنكبوت : آية ١٦.

(٥) سورة الأحزاب : آية ٤٥ ـ ٤٦.

(٦) عمر سليمان الأشقر : المرجع السابق ص ٥١.

(٧) سورة الإسراء : آية ١٥.

٢٢

مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (١) ، وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (٢) ، ومن ثم ففي يوم القيامة عند ما يجمع الله الأولين والآخرين يأتي الله لكل أمة برسولها ليشهد عليها بأنه بلغها رسالة ربه ، وأقام عليها الحجة ، قال تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ، يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ ، وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) (٣).

ومنها (رابعا) أن الرسل سفراء الله إلى عباده وحملة وحيه ، فهم الذين يقومون بتبليغ أوامر الله تعالى ونواهيه إلى عبادة قال تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (٤) ، وقال تعالى : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) (٥) ، ومنها (خامسا) تذكير الناس ، كل الناس ، بيوم الدين (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٦) ، ذلك أن من مهمة الأنبياء التبشير والإنذار ، قال تعالى : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (٧) ، مبشرين المؤمنين بالحياة الطيبة ، ومنذرين العصاة بعذاب الله في الآخرة (٨).

__________________

(١) سورة النساء : آية ١٦٥.

(٢) سورة طه : آية ١٣٤.

(٣) سورة النساء : آية ٤١ ـ ٤٢.

(٤) سورة المائدة : آية ٦٧.

(٥) سورة الأحزاب : آية ٣٩.

(٦) سورة الشعراء : آية ٨٨ ـ ٨٩.

(٧) سورة الكهف : آية ٥٦.

(٨) انظر : سورة النحل : آية ٩٧ ، طه : آية ١٢٣ ، النور : آية ٥٥ ، النساء : آية ١٣ ـ ١٤ ،

الواقعة : آية ٢١٥ ـ ٣٨ ، ٤١ ـ ٥١ ـ ٥٦.

٢٣

ومنها (سادسا) أن الرسل ، صلوات الله وسلامه عليهم ، هم الأسوة الحسنة للناس جميعا ، قال تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (١) ، وقال تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (٢) ، وقال تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ، وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٣) ، وقال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (٤) ، وقال تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) (٥) ، وذلك لأن الرسل صفوة من خليفته ، وخيرته من عبادة (٦) ، طهرهم ، وعلمهم ما شاء أن يعلمهم ، ثم أرسلهم إلى الناس ليأخذوهم بأسباب الهداية ، وينأوا بهم عن معاهد الضلالة ، ولذلك كان من كليات أصول المسلمين ، أن شرع من قبلنا شرع لنا ، إلا إذا ورد من رسول الله (ص) ما ينسخه (٧).

__________________

(١) سورة الأحزاب : آية ٢١.

(٢) سورة الممتحنة : آية ٤.

(٣) سورة الممتحنة : آية ٦.

(٤) سورة الأنعام : آية ٩٠.

(٥) سورة الأنبياء : آية ٧٣.

(٦) وتصديقا لهذا فلقد جاء في الحديث الشريف ، الذي رواه مسلم والترمذي ، أنه (ص) قال : «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم ، فأنا خيار من خيار من خيار» ، ومن مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي عن النبي (ص) أنه قال : أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، إن الله تعالى خلق الخلق فجعلني في خيرهم ، ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة ، ثم جعلهم قبائل فجعلني من خيرهم قبيلة ، ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا ، فأنا خيركم بيتا ، وخيركم نفسا» (انظر : صحيح مسلم المواهب للقسطلاني ١ / ١٣ ، ابن كثير : السيرة النبوية ١ / ١٩١ ، عبد الحليم محمود : دلائل النبوة ومعجزات الرسول ، القاهرة ١٩٧٣ ص ٦٨ ، أحمد حسن الباقوري : مع القرآن ، القاهرة ١٩٧٠ ص ٢١).

(٧) محمود أبو رية : دين الله واحد على ألسنة جميع الرسل ـ القاهرة ١٩٧٠ ص ٥٨.

٢٤

ومن هنا فقد أوجب الله للرسل العصمة الكاملة ، لتصح بهم القدوة ، وتقوم بهم الحجة ، فلا يكون من أحدهم عمل ينال من كرامته أو يقدح في عدالته أو يحط من منزلته العلية بين ذوي المروءات والعقول الرجحة (١) ، ذلك أمر ضروري ، إذ لو لم يكن ذلك كذلك ، ولما كانوا أهلا لهذا الاختصاص الإلهي الذي يفوق كل اختصاص ، اختصاصهم بوحيه ، والكشف لهم عن أسرار حلمه ، ولو لم تسلم أبدانهم من المنفرات ، لكان انزعاج النفس لمرآهم حجة للمنكر في إنكار دعواهم ، ولو كذبوا أو خافوا أو قبحت سيرتهم ، لضعفت الثقة فيهم ، ولكانوا مضلين لا مرشدين ، فتذهب الحكمة من بعثهم ، والأمر كذلك لو أدركهم السهو أو النسيان فيما عهد إليهم بتبليغه من القصائد والأحكام (٢).

ومنها سابعا : سياسة الأمة المسلمة ، ذلك أن الذين يستجيبون للرسل يكوّنون جماعة وأمة ، وبالتالي يحتاجون إلى من يسوسهم ويقودهم ويدبر أمورهم ، والرسل يقومون بهذه المهمة في حال حياتهم ، فهم يحكمون بين الناس بحكم الله قال تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) (٣) ، وقال تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) (٤) وفي الحديث ، الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجة ، عن النبي (ص) «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلما هلك نبي قام نبي» ، ومن ثم فقد أوجب الله طاعتهم ، قال تعالى:(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٥).

__________________

(١) كمال أحمد عون : اليهود من كتبهم المقدسة ـ القاهرة ١٩٧٠ ص ١٠٦.

(٢) محمد عبث : رسالة التوحيد ـ القاهرة ١٩٦٩ ص ٧٧.

(٣) سورة المائدة : آية ٤٨.

(٤) سورة (ص) : آية ٢٦.

(٥) سورة النساء : آية ٨.

٢٥

(٥) وحدة الهدف في دعوات الرسل :

لا ريب في أن دين الله واحد في الأولين والآخرين ، لا يختلف إلا في صورة ومظاهره ، وأما روحه وحقيقته ، وهو ما طولب به العالمون أجمعون على ألسنة جميع الأنبياء والمرسلين ، فلا يتغير ، وهو إيمان بالله الواحد الأحد ، وإخلاص له في العبادة ، وأن يتعاون الناس على البر والتقوى ، وألا يتعاونوا على الإثم والعدوان ، هذا هو دين الله الذي أرسل في كل أمة ، ولكل قوم على مدى الدهور والأزمان (١) ، ولا ريب كذلك في أن هذا الدين هو الإسلام (٢) ، وصدق ربنا جل وعلا حيث يقول : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (٣) ويقول : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٤) ، والإسلام ، في لغة القرآن ، ليس اسما لدين خاص ، وإنما هو اسم للدين المشترك الذي هتف به كل الأنبياء ، وانتسب إليه كل أتباع الأنبياء (٥) ، ومن ثم فإن الإسلام شعار عام يدور في القرآن على ألسنة الأنبياء وأتباعهم منذ أقدم العصور التاريخية إلى عصر البعثة المحمدية (٦).

__________________

(١) محمود أبو رية : المرجع السابق ص ٣٥.

(٢) الإسلام : هو دين الله في الأولين والآخرين ، وهو الطاعة والامتثال (تفسير الطبري ٢ / ٥١٠ ـ ٥١١) ويقول الإمام ابن تيمية : الإسلام هو أن يستسلم الإنسان لله ، لا لغيره ، فيعبد الله ولا يشرك به شيئا ، ويتوكل على الله وحده ، ويرجوه ويخافه وحده ، ويحب الله المحبة التامة ، لا يحب مخلوقا كحبه لله ، بل يحب لله ويبغض لله ، ويوالي لله ويعادي لله ، فمن استكبر عن عبادة الله لم يكن مسلما ، ومن يعبد مع الله غيره لم يكن مسلما (ابن تيمية : كتاب النبوات ـ القاهرة ١٣٤٦ ه‍ ص ٨٧ ـ ٨٨).

(٣) سورة آل عمران : آية ١٩.

(٤) سورة آل عمران : آية ٨٥.

(٥) محمد الراوي : الدعوة الإسلامية دعوة عالمية ص ٥١.

(٦) محمود الشرقاوي : الأنبياء في القرآن الكريم ص ٧٥ ـ ٧٦.

٢٦

وهكذا أخبر القرآن في غير موضع أن الأنبياء جميعا إنما كان دينهم الإسلام ، كما في سورة البقرة وآل عمران والمائدة والأعراف ويونس ويوسف والأنبياء والحج والنمل والقصص والشورى وغيرها (١) ، وهكذا يبدو واضحا أن دين الله واحد منذ الأزل إلى مبعث محمد (ص) إلى يوم الدين «إن الدين عند الله الإسلام» ، فالدين منذ القدم هو دين الإسلام «هو حاكم المسلمين من قبل» ، من قبل مبعث محمد ، ومن قبل مبعث إبراهيم ، وقد سمي الله منذ الأزل «مسلما» كل من اعتنق أسس هذه الدين ، دين الله ، وسار على مضامينه من : إسلام الوجه لله ، وانقياد له ، وتوكل عليه ، وتسليم الأمر لمدبر الأمر وصرف الكون ، ومن هذا يتضح أن وصف الإسلام ليس منصبا على كل من آمن بدعوة محمد (ص) في عهد محمد أو من بعده فحسب ، بل هو وصف ولقب أطلقه الله من قبل على كل من آمن برسوله الذي بعث في زمنه ، وبكل من وحّد ربه وأسلم وجهه وقلبه وأمره كله لله رب العالمين ، والمسلم في عرف القرآن هو كل من آمن برسوله وكل من وحّد الله من الأزل حتى اليوم ، ومن هذا يتضح أن محمد (ص). لم يأت بدين جديد مستقل ، وإنما جاء ليصلح دين الله مما طرأ عليه من مغالاة وزيادة وجهالة ، وليهدي الأمم القادمة على الطريق إلى الدين الأول الذي أرسل الله به سائر الرسل ، والذي كمله محمد (ص) وأتمه الله على يد محمد (ص) بما جعله

__________________

(١) انظر : سورة البقرة : آية ١٢٨ ، ١٣٢ ، ١٣٦ ، آل عمران : آية ٥١ ـ ٥٣ ، ٦٤ ـ ٦٧ ، ٨٣ ـ ٨٥ ، المائدة : آية ٣ ، ٤٤ ، ١١ ، الأعراف : آية ١٢٦ ، يونس : آية ٧٢ ، ٨٤ ، ٩٠ ، يوسف : آية ١٠١ ، الأنبياء : آية ١٠٨ ، الحج : آية ٧٨ ، النمل : آية ٣١ ، ٣٨ ، ٤٢ ، القصص : آية ٥٢ ، الزمر : آية ١٢ ، فصلت : آية ٣٣ ، الشورى : آية ١٣ ، وانظر : محمد بيومي مهران : المرجع السابق ص ١٣٤ ـ ١٣٥ ، محمد عبد الله دراز : الدين : بحوث ممهدة لدراسة الأديان ـ القاهرة ١٩٦٩ ص ١٨٣ ، محمود أبو رية : المرجع السابق ص ٦٠ ـ ٦٧ ، مناع القطان : الإسلام شريعة الله الخالدة إلى البشر كافة ـ الرياض ١٩٧٤ ص ١١ ـ ٤٠ ، تفسير المنار ١ / ٦٧ ، ٤٧٧.

٢٧

دينا أزليا للناس كافة إلى يوم الدين (١).

وفي هذا يقول سيدنا رسول الله (ص) ، فيما أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة ، «مثلي في النبيين كمثل رجل بني دارا فأحسنها وأكملها وأجملها وترك فيها موضع لبنة لم يضعها ، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون لو تم موضع هذه اللبنة ، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة» (٢) ، وفي رواية للبخاري. «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي ، كمثل رجل بنى بيتا فحسنه وجمله إلا موضع لبنة فجعل الناس يطوفون به ، ويعجبون ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة ، فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النبيين» (٣).

ومن هنا فإن نبوة القرآن الكريم إنما تؤمن بكل ما سبقها من نبوات ، لأن الهدف واحد ، والعقيدة واحدة ، فالأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم ، دينهم واحد ، وإن تنوعت شرائعهم (٤) ، وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال : «إنا معشر الأنبياء ديننا واحد» (٥) ، قال تعالى :

__________________

(١) محمود بن الشريف : الأديان في القرآن ـ جدة ١٩٧٩ ص ٣٠ ـ ٣٣.

(٢) الحديث : اخرجه أيضا الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن جابر بن عبد الله ، وأخرجه الإمام أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري.

(٣) صحيح البخاري ـ كتاب المناقب ـ باب خاتم النبيين ـ دار الشعب ـ القاهرة ١٣٧٨ ه‍ ٤ / ٢٢٦.

(٤) مجموعة فتاوي ابن تيمية ـ الرياض ١٣٨١ ه‍ ١ / ٣٥٧.

(٥) روي الحديث الشريف بعدة روايات ، فرواية في البخاري ومسلم وأحمد ، أنه (ص) قال : «أنا أولى الناس بعيس بن مريم في الدنيا والآخرة ، والأنبياء اخوة من علات ، أمهاتهم شتى ، ودينهم واحد ، وفي رواية أخرى للبخاري «أنا أولى الناس بعيسى بن مريم ، والأنبياء أولاد علات ليس بيني وبينه نبي» ، وفي رواية ثالثة «نحن معاشر الأنبياء اخوة لعلات ديننا واحد» ، يعني بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمه كل كتاب أنزله ، وأبناء العلات أبناء الضرائر ، يكون أبوهم رجلا واحدا ، وأمهاتهم متعددات وكذلك الرسل ربهم الذي أرسلهم إله واحد ، ورسالاتهم متعددة بتعدد بلادهم ، أي إن الدين واحد ، وهو عبادة الله ـ

٢٨

(وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (١) وقال تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ، اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (٢).

ومن هنا كان طلب القرآن الكريم الإيمان بكل الرسل ، كما طلب كذلك الإيمان بما أنزل عليهم ، وكان الإيمان بالبعض دون البعض الآخر خروجا عن دين الله وهديه (٣) ، يقول سبحانه وتعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ

__________________

ـ وحدد لا شريك له ، وإن تنوعت الشرائع التي هي بمنزلة الأمهات ، والمقصود ، كما يقول ابن كثير ، أن الشرائع وإن تنوعت في أوقاتهما إلا أن الجميع آمرة بعبادة الله وحده لا شريك له ، وهو دين الإسلام الذي شرعه الله لجميع الأنبياء ، وهو الدين الذي لا يقبل الله غيره يوم القيامة ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) ، ويقول الإمام محمد عبده : أن القرآن قد صرح بما لا يحتمل الريبة بأن دين الله في جميع الأزمات وعلى ألسن جميع الأنبياء ، واحد ، ويقول الأستاذ الشاذلي وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي ، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراما ثم يحل في الأخرى وبالعكس ، وخفيفا فيزداد في الشدة في هذه دون هذه ، لماله تعالى من الحجة الدافعة والحكمة البالغة ، قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة : «لكل جعلنا منكم شرعة ومنها جما» ، يقول : سبيلا وسنّة ، والسنن مختلفة ، هي في التوراة شريعة ، وفي الإنجيل شريعة وفي الفرقان شريعة ، يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ، والدين الذي لا يقبل الله غيره هو التوحيد والإخلاص لله تعالى الذي جاءت به جميع الرسل (انظر : محمد عبده : المرجع السابق ص ١٦٣ ، عبد الله شحاتة : تفسير سورة الإسراء ، القاهرة ١٩٧٥ ص ١٠ ، الباقوري : المرجع السابق ص ١٣٩ ، عبد المجيد الشاذلي : حد الإسلام وحقيقة الإيمان ـ جامعة أم القرى ـ مكة المكرمة ص ١٠٠ ، محمد بيومي مهران : المرجع السابق ص ٥ ـ ٦ ، مختصر تفسير ابن كثير ١ / ٤٥٩ ، البداية والنهاية ١ / ١٥٣ ـ ١٥٤ ، محمود أبو رية : المرجع السابق ص ٣٥ ـ ٤٥)

(١) سورة المؤمنون : آية ٥٢ ، وانظر تفسير القرطبي ص ٤٥٢٠ ـ ٤٥٢١ (دار الشعب).

(٢) سورة الشورى : آية ١٣.

(٣) محمد أبو زهرة : العقيدة الإسلامية لما جاء بها القرآن الكريم ـ القاهرة ١٩٦٩ ص ٨٥ ـ ٨٦ ، تفسير المنار ١٠ / ١٨٢ ـ ١٨٣ خالد محمد خالد : كما تحدث القرآن ـ القاهرة ١٩٧٠ ص ٩٩ ـ ١٢٢.

٢٩

وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١) ، ويقول تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ ، مِنْ رَبِّهِ ، وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (٢) ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (٣) ، وقال تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ ، وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٤).

وانطلاقا من كل هذا ، فإن القرآن الكريم إنما يعلمنا أن كل رسول يرسل ، وكل كتاب ينزل إنما قد جاء مصدقا ومؤكدا لما قبله ، فالإنجيل مصدق ومؤكد للتوراة (٥) ، والقرآن مصدق ومؤكد للتوراة والإنجيل ، ولكل ما بين يديه من الكتب (٦) يقول سبحانه وتعالى : (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ ، وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ، وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ

__________________

(١) سورة النساء : آية ١٥.

(٢) سورة البقرة : آية ٢٨٥.

(٣) سورة النساء : آية ١٣٦.

(٤) سورة البقرة : آية ١٣٦.

(٥) من البدهي أننا نعني هنا التوراة والإنجيل اللذين أنزلهما الله على رسوليه موسى وعيسى ، عليهما‌السلام ، وليس توراة اليهود وأناجيل النصارى المتداولة اليوم (انظر عن التوراة الحالية : محمد بيومي مهران : إسرائيل ـ الكتاب الثالث ـ الإسكندرية ١٩٧٩ ص ١ ـ ٣٧٩).

(٦) محمد عبد الله دراز : المرجع السابق ص ١٨٥ ، محمد أبو زهرة : المرجع السابق ص ٨٥ ـ ٨٦.

٣٠

وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ، وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (١).

ويقول المسيح ، عليه‌السلام ، كما جاء في العهد الجديد «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس والأنبياء ، ما جئت لأنقض بل لأكمل ، فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض ولا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل» (٢).

ولا ريب في أن هذا التصديق لا يعني أن الكتب المتأخرة ، إنما هي تجديد للمتقدمة وتذكير بها ، فلا نبدل فيها معنى ولا نغير حكما ، وإنما الواقع غير ذلك ، فقد جاء الإنجيل بتبديل بعض أحكام التوراة ، كما جاء القرآن بتبديل بعض أحكام الإنجيل ، ولكن يجب أن يفهم أن هذا وذاك لم يكن من المتأخر نقضا للمتقدم ، ولا إنكارا لحكمة أحكامه في إبانها ، وإنما كان وقوفا عند وقتها الناسب وأجلها المقدر (٣) ، ومن هنا كان قوله (ص) في الحديث الشريف : «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ، وفي رواية الإمام مالك في الموطأ «إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق». وهكذا فإن الله تعالى ، بمقتضى حكمته في رسالاته ، إنما كان يجعل كل نبي يبشر بمن يجيء بعده ، فالتوراة بشرت بالمسيح وبمحمد ، عليهما الصلاة وأتم التسليم ، والمسيح بشر بمحمد (ص) ، يقول تعالى : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ

__________________

(١) سورة المائدة : آية ٤٦ ـ ٤٨.

(٢) إنجيل متى ٥ / ١٧ ـ ١٨.

(٣) انظر : سورة آل عمران : آية ٥٠ ، الأعراف : آية ١٥٧ ، محمد عبد الله دراز : المرجع السابق ص ١٨٥ ـ ١٨٦.

٣١

يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ، فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (١).

ومن المعروف أن أحمدا من أسماء رسول الله (ص). ومن ثم فقد جاء في الحديث الشريف ، قوله (ص) : «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، يهودي أو نصراني ولا يؤمن بي إلا دخل النار» (٢) ، وفي بعض الأحاديث «لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا أتباعي» (٣) ، وأن النبي (ص) وقف على «مدراس» اليهود في المدينة المنورة فقال : يا معشر يهود أسلموا ، فو الذي لا إله إلا هو لتعلمون أني رسول الله إليكم ، فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم ، قال : ذلك أريد» (٤) ، ومن ثم فالذي يقطع به في كتاب الله وسنّة رسوله ، ومن حيث المعنى ، أن رسول الله (ص) قد بشرت به الأنبياء قبله ، وأتباع الأنبياء يعلمون ذلك ، ولكن أكثرهم يكتمونه ويخفونه (٥)

هذا وقد أخذ الله الميثاق على كل نبي ، إذا جاءه رسول وصدق لما معه أن يؤمن به وينصره (٦) ، يقول تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما

__________________

(١) سورة الصف : آية ٦ ، وعن بشارات التوراة بسيدنا رسول الله (ص) (انظر : سفر التثنية ١٨ / ١٥ ، ١٨ ، ٢٣ / ٣ ، أشعياء ٦٠ / ١ ـ ٧ ، ٤٢ / ١٠ ـ ١٢ ، حبقوق ٣ / ٣ ـ ٤) وعن بشارة الإنجيل (انظر : متى ٧ / ٢١ ـ ٢٣ ، ١٥ / ٨ ـ ٩ ، ٢٣ / ٤٢ ـ ٤٣) ثم انظر : إبراهيم خليل أحمد : محمد في التوراة والإنجيل والقرآن ـ الطبقة الخامسة ـ القاهرة ١٩٨٣ ص ٣٣ ـ ٩٥ ، بشرى زخاري ميخائيل : محمد رسول الله ـ هكذا بشرت به الأناجيل ـ القاهرة ١٩٧٢ ، ابن كثير : السيرة النبوية ١ / ٢٨٦ ـ ٣٤٠ (القاهرة ١٩٦٤).

(٢) صحيح مسلم ١ / ٣٦٧ (دار الشعب ـ القاهرة ١٩٧١).

(٣) مختصر تفسير ابن كثير ١ / ٢٩٦.

(٤) ابن كثير : شمائل الرسول ودلائل نبوته وفضله وخصائصه ـ القاهرة ١٩٦٧ ص ٣٣٩ ، ثم قارن : ابن الجوزي : الوفا بأحوال المصطفى ـ الجزء الأول ـ القاهرة ١٩٦٦ ص ٣٦ ـ ٣٧ ، عماد الدين خليل : دراسة في السيرة ـ بيروت ١٩٧٤ ص ٣١٩ ـ ٣٢٢.

(٥) ابن كثير : المرجع السابق ص ٣٣٩ ، ابن الجوزي : المرجع السابق ص ٣٧.

(٦) محمد عبد الله دراز : المرجع السابق ص ١٨٥.

٣٢

آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ») (١). قال الإمام علي وابن عباس ، رضي‌الله‌عنهما ، ما بعث الله نبيا من الأنبياء ، إلا أخذ عليه الميثاق ، لئن بعث الله محمدا : وهو حي ، ليؤمنن به ولينصرنه ، وقال الحسن البصري وقتادة : أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا ، وهذا لإيضاح ما قاله علي وابن عباس ولا ينفيه بل يستلزمه ويقتضيه (٢).

وصدق سيدنا رسول الله (ص) حين صوّر الرسالات السماوية في جملتها أحسن تصوير في قوله (ص) : «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني بيتا فأحسنه وجمّله إلا موضع لبنة ، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة ، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» (٣).

وقريب من هذا ما يراه بعض الباحثين من أن صلاة المصطفى (ص) بالأنبياء ، ليلة أن أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، إنما تشير إلى وحدة الرسالات والنبوات ، وأنها جميعا من عند الله ، وأن الأنبياء والمرسلين إنما أرسلوا من أجل هداية الناس ، ودعوتهم إلى التوحيد (٤).

وبدهي أن ذلك كذلك ، لأن دين جميع الأنبياء واحد في التوحيد وروح العبادة ، وتزكية النفس بالأعمال التي تقوّم الملكات وتهذب

__________________

(١) سورة آل عمران : آية ٨١ ، وانظر : تفسير المنار ٣ / ٢٨٧ ـ ٢٩٠ ، تفسير ابن كثير ٢ / ٥٥ ـ ٥٧ ، تفسير الطبري ٦ / ٥٥٠ ـ ٥٦١.

(٢) مختصر تفسير ابن كثير ١ / ٢٩٦.

(٣) صحيح البخاري ٤ / ٢٢٦ (دار الشعب ـ القاهرة ١٣٧٨ ه‍).

(٤) عبد الله شحاتة : المرجع السابق ص ٨ ، وانظر : عماد الدين خليل : المرجع السابق ص ١١٥ ـ ١١٦.

٣٣

الأخلاق ، وهكذا فالأنبياء في الأساس العام دعاة إلى توحيد الله وهداة إلى الفضائل. ومكارم الأخلاق ، ومن ثم فإن الديانات إنما تلتقي على فكرة التوحيد وحسن السلوك ، وإن اختلفت الوسيلة لتهذيب هذا السلوك من نبي لآخر ، وهكذا رأينا من الأنبياء من حارب رذائل معينة انتشرت بين قومه ، كتطفيف الكيل الذي حاربه شعيب ، وكالانحراف الجنسي الذي وقف أمامه لوط بكل إصرار وحزم (١).

وهنا علينا أن نلاحظ أن هناك فرقا بين الدين في ثباته وعدم تبدله بتبدل الأنبياء ، وبين تبدل الشرائع وتغيرها بتبدل الأنبياء وتغيّرهم ، بل ينبغي أن يكون هذا الفرق واضحا في الذهن ، سائقا في الفهم ، وهو كذلك فيما يقرر القرآن الكريم ، فأما من ناحية العقل والفكر ، فإن الدين ، أي دين ، إنما هو قائم على أصول ثلاثة : أولها : الإيمان بأن لهذا الكون إلها خالقا مدبرا ، ومحيط العلم ، بالغ القدرة ، لا يغرب عن علمه شيء ، ولا يعترض قدرته شيء ، وثاني الأصول الدعوة إلى العمل الصالح الذي يشيع على الإنسانية الأمن والسلام ، وثالث الأصول أن الله لم يخلق الناس عبثا ، ولن يتركهم سدى ، وأنهم لا بد راجعون إليه ، ومحاسبون بين يديه ، ومجازون على ما عملوا إن خيرا فخيرا ، وإن شرا فشرا.

هذا ما يتصل بالدين في عدم قبوله التغيير والتبديل ، وأما ما يتصل بالشرائع حيث هي مجموعة قوانين تنظم السلوك في المجتمع ، فإنها قابلة للتغيير والتبديل ، بمقتضى تغيّر البيئات واختلاف المصالح ، وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم والحديث الشريف (٢).

__________________

(١) أبو الحسن الماوردي : أعلام النبوة ـ القاهرة ١٩٧١ ص ٢٢ ، محمود أبو رية : المرجع السابق ص ١١٩ ، عبد الله شحاتة ، المرجع السابق ٨ ـ ٩.

(٢) مجموعة فتاوي ابن تيمية ١ / ٣٥٧ ، وانظر : الباقوري : المرجع السابق ص ١٣٧ ـ ١٣٩ ، خالد محمد خالد : المرجع السابق ، ص ١١٥ ، عبد الله شحاتة : المرجع السابق ص ١٠.

٣٤

بقيت الإشارة هنا إلى أن النبوة فضل يسبغه الله على من يشاء من عباده ، وهبة ربانية يمنحها الله لمن يريد من خلقه ، وهي لا تدرك بالجد والتعب ، ولا تنال بكثرة الطاعة والعبادة ، ولا يتوسل إليها بسبب ولا نسب ، وإنما هي بمحض الفضل الإلهي ، فالله يختص برحمته من يشاء ، وهي تأتي إلى النبي من تلقاء نفسها ، وعلى غير توقع منه ، فهي إذن اصطفاء واختيار من الله سبحانه وتعالى للمصطفين الأخيار من عباده (١) ، وصدق الله العظيم حيث يقول : «الله أعلم حيث يجعل رسالته» (٢).

ومن ثم فإن الله سبحانه وتعالى إنما يختص بهذه الرحمة العظيمة ، والمنقبة الكريمة ، من كان أهلا لها ، بما أهله ، جل شأنه ، من سلامة الفطرة ، وعلو الهمة ، وزكاة النفس ، وطهارة القلب ، وحب الخير والحق ، وكان أذكياء العرب في الجاهلية ، على شركهم بالله تعالى ، يعلمون أن الصادقين محبي الحق ، وفاعلي الخير من الفضلاء ، أهل لكرامته تعالى وعنايته ، كما يؤخذ من استنباط أم المؤمنين خديجة في حديث أم المؤمنين عائشة ، رضي‌الله‌عنهما ، في بدء الوحي ، فإنه (ص) لما قال لخديجة : «لقد خشيت على نفسي» ، قالت له : «كلا فو الله لا يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث ، وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم،وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق» (٣).

__________________

(١) تفسير المنار ٨ / ٣٣ ـ ٣٤ ، محمد علي الصابوني : النبوة والأنبياء ـ بيروت ١٩٨٠ ص ٨.

(٢) سورة الأنعام : آية ١٢٤ ، وانظر : تفسير روح المعاني ٨ / ٢١ ـ ٢٣ ، تفسير المنار ٨ / ٣٢ ـ ٣٥ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٣٢٣ ـ ٣٢٦.

(٣) صحيح مسلم ١ / ٣٧٩ ـ ٣٨٠ ، وانظر : ابن كثير : السيرة النبوية ١ / ٣٩٤ ـ ٣٩٥ ، تفسير المنار ٨ / ٣٤ ، عبد الحليم محمود : المرجع السابق ص ٣٥٤.

٣٥
٣٦

الكتاب الثّاني

سيرة يوسف عليه‌السلام

٣٧
٣٨

الفصل الأول

يوسف فيما قبل الوزارة

(١) يوسف وأخوته في كنعان :

يوسف الصديق عليه‌السلام هو : يوسف النبي بن يعقوب النبي بن إسحاق النبي بن إبراهيم النبي ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وقد أثنى عليه ربنا جل جلاله في القرآن الكريم بقوله تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) كما أثنى عليه سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة ، حيث وصفه بقوله الشريف «إن الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم ، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» وقد جاءت قصته في سورة كاملة من القرآن الكريم هي سورة يوسف (١).

__________________

(١) انظر عن قصة يوسف كاملة من وجهة النظر الإسلامية : سورة يوسف آية ١ ـ ١٠٢ ، تفسير الطبري ١٥ / ٥٤٧ ـ ٥٨٦ ، ١٦ / ١ ـ ٣١٥ (دار المعارف) تفسير الفخر الرازي ١٧ / ٨٣ ـ ٢٢٩ ، تفسير الطبري ١٣ / ٥ ـ ١٣٤ ، تفسير النسفى ٢ / ٣٥٢ ـ ٣٩٧ ، تفسير أبي السعود ٣ / ٧٧ ـ ١٤٣ ، في ظلال القرآن ٤ / ١٩٤٩ ـ ٢٠٣٧ (بيروت ١٩٨٢) تفسير المنثور للسيوطي ٤ / ٢ ـ ٤٢ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٢٩٤ ـ ٣٤٩ ، تفسير القرطبي ص ٣٣٤٧ ـ ٣٥٠٦ ، تفسير المنار ١٢ / ٢١٣ ـ ٢٦٨ ، محمد رشيد رضا ، تفسير سورة يوسف (القاهرة ١٩٣٦) ، صفوة التفاسير ٢ / ٣٩ ـ ٧١ ، تفسير الجلالين ص ٣٠٢ ـ ٣٢٠ ، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ٤ / ٣ ـ ٤١ ، تفسير الخازن ٣ / ٢٦٢ ـ ٢٩٣ ، تفسير البغوي (على هامش الخازن) ، ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ١٩٧ ـ ٢٢٠ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٣٠ ـ ٣٦٤ ، تاريخ ابن خلدون ـ

٣٩

هذا وتشير التوراة إلى أن يوسف الصديق قد ولد لأبيه من زوجته الثانية «راحيل» ، ابنة خال أبيه لابان في «حاران» (وتقع على نهر بلخ على مبعدة ٦٠ ميلا من اتصاله بالفرات ، وإلى الغرب من تل حلفا ، وعلى مبعدة ٢٨٠ ميلا إلى الشمال الشرقي من دمشق) ، وكان يعقوب عليه‌السلام قد تزوج من أختها الكبرى «ليئة» ، ثم تزوج من راحيل ، ثم من جاريتها بلهة ، ثم من زلفة جارية ليئة (١) ، وهكذا جمع يعقوب تحته الشقيقتين ، فضلا عن جاريتيهما ، وكان ذلك ، فيما يرى ابن كثير ، سائغا في ملتهم ، ثم نسخ في شريعة التوراة ، وهذا وحده دليل كاف على وقوع النسخ ، لأن فعل يعقوب عليه‌السلام دليل على جواز هذا وإباحته لأنه معصوم (٢) ، بل إن الطبري (٣) يرى في ذلك قوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) ، وإن كان المفسرون يجمعون أو يكادون ، على أن المراد بقوله تعالى : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) أي في الجاهلية قبل الإسلام ، وليس قبل نزول التوراة ، كما ذهب ابن كثير ، أي أن النسخ كان بالقرآن ، وليس بالتوراة ، على أية حال ، فلقد ماتت راحيل أم يوسف ، وهي تضع ابنها الثاني «بنيامين» ودفنت في بيت لحم (على مبعدة خمسة أميال جنوبي القدس) حيث ولد داود والمسيح عيسى بن مريم ، عليهما‌السلام. (٤)

هذا وقد زود يعقوب عن زوجاته الأربع باثنى عشر ولدا ، فضلا عن

__________________

ـ ٢ / ٤٤ ـ ٤٧ ، تاريخ ابن الأثير ١ / ٧٨ ـ ٨٨ ، تفسير ابن عباس ٢ / ٤٩٧ ـ ٥٠٢ ، حسن محمد باجودة : الوحدة الموضوعية في سورة يوسف عليه‌السلام ، جدة ـ ١٩٨٣ م.

(١) تكوين ٢٩ / ٢٣ ، ٢٨ ، ٣٠ / ٥ ، ٧٩.

(٢) تاريخ ابن كثير ١ / ١٩٥.

(٣) تاريخ الطبري ١ / ٣٢٠.

(٤) تكوين ٣٥ / ١٩ ـ ٢٠ ، تاريخ ابن كثير ١ / ١٩٧ ، محمد بيومي مهبران : إسرائيل ٢ / ٦٤٦ (الاسكندرية ١٩٧٨) ، وانظر عن قصة يوسف من الناحية التاريخية ودخول بني إسرائيل مصر (محمد بيومي مهران ـ إسرائيل ١ / ٢١٢ ـ ٢٦٠ ـ الاسكندرية ١٩٧٨)

٤٠