دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٢

المحن الأخرى التي تعرضوا لها ، لقد كان فرعون يقتل أبناءهم ويستحي نساءهم ، وها هم الآن يقتلون أنفسهم بأنفسهم ، وهكذا نرى أن ما حل ببني إسرائيل في ظل فرعون ، كان من جنس ما حلّ بهم في ظل موسى ، فقد كان ذلك بلاء من الله ، وكان هذا بأمر من الله ، وكلاهما محنة تنزل بالعصاة (١) ، فلقد كانت توبتهم عن عبادة العجل أن يقتلوا أنفسهم بأنفسهم ، قال تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٢) ، يقول المفسرون أنهم أمروا أن يقتل من لم يعبد العجل من عبده ، وكان الرجل منهم يرى قريبه فلا يقدر أن يمضي لأمر الله تعالى ، فأرسل الله تعالى ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون بهما ، فأخذوا يقتتلون من الغداة إلى العشى ، حتى دعا موسى وهارون عليهما‌السلام ، فكشفت السحابة ونزلت التوبة ، وكان القتلى سبعين ألفا ، وقال السدى في قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) : اجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه (أي العجل) بالسيوف ، فكان من قتل من الفريقين شهيدا ، حتى كثر القتلى ، حتى كادوا أن يهلكوا ، وحتى قتل منهم سبعين ألفا ، وحتى دعا موسى وهارون ربنا أهلكت بني إسرائيل ، ربنا البقية الباقية ، فأمرهم أن يلقوا السلاح وتاب عليهم ، فكان من قتل منهم من الفريقين شهيدا ، ومن بقي مكفرا عنه ، فذلك قوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

وروى ابن جرير بسنده عن ابن عباس : أمر موسى قومه ، عن أمر ربه عزوجل ، أن يقتلوا أنفسهم ، قال : وأخبر الذين عبدوا العجل فجلسوا ، وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم ، وأصابتهم ظلمة

__________________

(١) عبد الرحيم فودة : المرجع السابق ص ٢٠٤.

(٢) سورة البقرة : آية ٥٤.

٣٦١

شديدة فجعل يقتل بعضهم بعضا ، فانجلت الظلمة عنهم ، وقد جلوا عن سبعين ألف قتيل ، كل من قتل منهم كانت له توبة ، وكل من بقي كانت له توبة ، على أن هناك من يرى أن التوبة لم تكن بالقتل ، وإنما بالنجع أو بقطع الشهوات (١).

(٥) طلب بني إسرائيل رؤية الله جهرة :

وهذا نوع آخر من ردة بني إسرائيل ، فرغم تتابع الحجج عليهم والآيات ، ورغم سبوغ النعم من الله تعالى عليهم ، فإن موسى عليه‌السلام لم يجد منهم إلا العناء ، فما أن جاوزوا البحر ، فأتوا على قوم يعكفون على أصنامهم ، حتى قالوا لموسى اجعل لنا إلها ، كما لهم آلهة ، وكأن الله تعالى ، الذي فرق لهم البحر ليس هو إلههم الواحد الأحد ، وما أن تمضي بضعة أيام حتى يتذمر القوم من حياتهم الجديدة ، بسبب عدم وجود الماء العذب مرة ، وبسبب حرمانهم من طعام كانوا يحصلون عليه من فتات الموائد وفضلات المصريين مرة أخرى ، وما أن يمضي حين من الدهر حتى يعودوا إلى ما ألفوه من عبادة العجول في مصر ، وهكذا أتعب بنو إسرائيل أنفسهم ، واتعبوا نبي الله معهم ، لا يطيعون أمره ، ولا ينتهون عما نهى عنه ، وكأن شعارهم «سمعنا وعصينا» ، حتى إذا ما دعاهم إلى قتال عدوهم ، أجابوه : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، وإذا أمرهم أن ادخلوا الباب سجدا ، وقولوا حطة ، نغفر لكم خطاياكم ، قالوا مستهزئين : حنطة في شعيرة ، ويدخلون الباب من قبل أستاهم (٢) ، إلى غير ذلك من أفعالهم

__________________

(١) أنظر : تفسير الطبري ١ / ٢٨٥ ـ ٢٨٨ ، تاريخ الطبري ١ / ٤٢٤ ، ابن كثير : مختصر التفسير ١ / ٦٤ ـ ٦٥ ، البداية والنهاية ١ / ٢٨٨ ، تفسير الخازن ١ / ٦٢ ، تفسير النسفي ١ / ٤٨ ـ ٤٩ ، تفسير أبي السعود ١ / ١٧٥ ـ ١٧٦ ، تفسير البغوي ١ / ٦٢ ، تاريخ ابن الأثير ١ / ١٠٨ ، ثم قارن : خروج ٣٢ / ٢٢ ـ ٢٩.

(٢) قال الحسن البصري : أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم ، وإن استبعده الرازي ، ـ

٣٦٢

القبيحة التي آذوا بها نبيّهم ، والتي تكاد لا تحصى.

وفي هذه المرة يطلب بنو إسرائيل من موسى عليه‌السلام ، حتى يؤمنوا ، أن يروا الله جهرة ، وكأنهم بعد كل هذه المعجزات لم يؤمنوا بموسى وإله موسى ، فيطلبون منه ، في مقابل إيمانهم ، رؤية الله جهرة ، قال تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ، ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١) ، هذا وقد اختلف العلماء في طلب الرؤية ، وهل كانت قبل التوبة من عبادة العجل أم بعدها ، فمن قائل إنها كانت قبل التوبة ، ومن قائل إنها بعدها ، وهذا ما نميل إليه ، روى الطبري عن السدي : أن بني إسرائيل لما تابت من عبادة العجل ، وتاب الله عليهم بقتل بعضهم بعضا ، أمر الله تعالى موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ووعدهم موعدا ، فاختار موسى من قومه سبعين رجا على عينه ، ثم ذهب بهم ليعتذروا ، فلما أتوا إلى ذلك المكان ودنا موسى من الجبل ووقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله ، ودنا القوم حتى دخلوا في الغمام وقعوا سجودا ، فسمعوا الله يكلم موسى يأمره وينهاه ، فلما انكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم ، فقالوا له : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) ، فإنك قد كلمته فأرناه ، فأخذتهم الصاعقة فماتوا ، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول : رب ما ذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم ، وقد أهلكت خيارهم ، رب لو شئت أهلكتهم وإياي ، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ، فأوحى الله إليه : إن هؤلاء السبعين ممن اتخذ العجل ، ثم إن الله تعالى

__________________

ـ وقال السدي عن ابن مسعود : قيل لهم ادخلوا الباب سجدا فدخلوا مقنعي رءوسهم ، أي رافعي رءوسهم ، خلاف ما أمروا ، وروى البخاري عن أبي هريرة مرفوعا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قيل لبني إسرائيل أدخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ، فدخلوا يزحفون على أستاههم ، فبدلوا وقالوا حبة في شعرة» (مختصر تفسير ابن كثير ١ / ٦٨).

(١) سورة البقرة : آية ٥٥ ـ ٥٦.

٣٦٣

أحياهم ، فقاموا وعاشوا ، رجلا رجلا ، ينظر بعضهم إلى بعض ، كيف يحيون ، وذلك قول الله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

ويقول ابن كثير : إن أهل الكتاب غلطوا في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عزوجل ، فإن موسى الكليم عليه‌السلام قد سأل ذلك فمنع منه ، فكيف يناله هؤلاء السبعون (١) ، وهو يشير في ذلك إلى قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي ، فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) ، ومن هنا كما يقول النسفي في التفسير ، تعلقت المعتزلة بهذه الآية في نفي الرؤية ، لأنه لو كان جائز الرؤية لما عذبوا بسؤال ما هو جائز الثبوت ، قلنا (أي النسفي) إنما عوقبوا بكفرهم ، لأن قولهم : إنك رأيت الله ، فلن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة كفر منهم ، ولأنهم امتنعوا عن الإيمان بموسى بعد ظهور معجزته ، والإيمان بالأنبياء واجب بعد ظهور معجزاتهم ، ولا يجوز اقتراح الآيات عليهم ، ولأنهم لم يسألوا سؤال استرشاد ، بل سؤال تعنت وعناد.

ثم يقول الإمام النسفي في تفسير آية الأعراف (١٤٣) (قالَ رَبِّ أَرِنِي

__________________

(١) تقول التوراة إن الله أمر موسى أن يصعد إليه هو وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل ، وأن يسجدوا للرب من بعيد ، ولا يقترب إلا موسى ، ثم صعدوا «ورأوا إله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف وكذات السماء في النقاوة ، ولكنه لم يمد يده إلى أشراف بني إسرائيل ، فرأوا الله وأكلوا وشربوا» (خروج ٢٤ / ١ ـ ١١) ومن عجب أن التوراة نفسها ، وفي نفس سفر الخروج تقول إن موسى طلب أن يرى الله ، فقال له : «لا تقدر أن ترى وجهي ، لأن الإنسان لا يراني ويعيش» ، ثم أمره أن يقف على صخرة ، وأن الرب حين يجتاز الصخرة سيضع موسى في نقرة من الصخرة ويستره بيده حتى يجتاز «ثم أرفع يدي فتنظر ورائي ، وأما وجهي فلا يرى» (خروج ٣٣ / ٢٠ ـ ٢٣) ، وانظر عن هذا التناقض في روايات التوراة وغيره (محمد بيومي مهران : إسرائيل ٣ / ٢٢٤ ـ ٢٥٢).

٣٦٤

أَنْظُرْ إِلَيْكَ) يعني مكّني من رؤيتك بأن تتجلى لي حين أراك ، وهو دليل لأهل السنة على جواز الرؤية ، فإن موسى عليه‌السلام اعتقد أن الله تعالى يرى حتى سأله ، واعتقاد جواز ما لا يجوز على الله كفر ، (قالَ لَنْ تَرانِي) بالعين الفانية ، بل بالعطاء والنوال بعي باقية ، وهو دليل لنا أيضا ، لأنه لم يقل «لن أرى» ليكون نفيا للجواز ، ولو لم يكن مرئيا لأخبر بأنه ليس بمرئي ، إذا الحالة حالة الحاجة إلى البيان ، ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني» ، وهو دليل لنا أيضا ، لأنه على الرؤية باستقرار الجبل ، وهو ممكن ، وتعليق الشيء بما هو ممكن يدل على إمكانه ، كالتعليق بالممتنع يدل على امتناعه ، والدليل على أنه ممكن قوله : (جَعَلَهُ دَكًّا) ، ولم يقل اندك ، وما أوجده تعالى كان جائز أن لا يوجد ، لو لم يوجده ، لأنه مختار من فعله ، ولأنه تعالى ما آيسه عن ذلك ولا عاتبه عليه ، ولو كان ذلك محالا لعاتبه ، كما عاتب نوحا عليه‌السلام بقوله : «إني أعظك أن تكون من الجاهلين» ، حين سأله إنجاء ابنه من الغرق (١).

__________________

(١) تفسير النسفي ١ / ٤٩ ، ٢ / ٧٥ ، تفسير الطبري ١ / ٢٨٩ ـ ٢٩٣ ، تاريخ الطبري ١ / ٤٢٨ ، ابن كثير : مختصر التفسير ١ / ٦٥ ـ ٦٦ ، ٢ / ٤٨ ـ ٤٩ ، البداية والنهاية ١ / ٢٨٣ ـ ٢٨٦ ، ٢٨٩ ، الكامل لابن الأثير ١ / ١٠٨ ـ ١٠٩ ، صفوة التفاسير ١ / ٥٩ ـ ٦٠ ، ٤٦٩.

٣٦٥
٣٦٦

الفصل الثّاني

بنو إسرائيل في التيه

(١) ظهور فكرة الوطن عند بني إسرائيل : ـ

بدأ بنو إسرائيل يفكرون في وطن يستقرون فيه ، وكان هذا الوطن هو أرض كنعان ، رغم أنها لم تكن لهم من قبل دار قرار ، إذ أنهم لم يقيموا فيها إلا لفترة وجيزة ، لا تتجاوز أيام إسحاق ويعقوب عليهما‌السلام ، ثم هاجروا منها بسبب قحط عم وطال ، فكانت أرض النيل الطيبة هي الملجأ أو المأوى ، فقدموا إليها بدعوة من يوسف الصديق عليه‌السلام ، والذي كان قد أصبح وقت ذاك عزيز مصر (١) ، وفي تلك الآونة التي أقاموا فيها هناك في الجنوب الفلسطيني لم يمتلكوا ، كما تقول توراتهم ، حتى مكان خيامهم أو موضع قبورهم (٢) ، وها هم الآن بعد أن خرجوا من مصر ، أو على الأصح ، بعد أن هربوا منها ، يهيمون في صحراوات سيناء المقفرة ، وهنا ، وهنا فقط ، بدأت فكرة الوطن عندهم ، ذلك لأن ربهم «يهوه» كان ، فيما تروي توراتهم (٣) ، قد وعدهم بأرض كنعان ، ففكرة الوطن عند اليهود جاءت بعد ظهور بني إسرائيل ، وعادة تتطور الشعوب في ظل أوطانها ، ولكن بني

__________________

(١) سورة يوسف : آية ٥٨ ـ ١٠٠ ، تكوين ٤١ / ٥٦ ـ ٤٦ / ٣٤.

(٢) تكوين ٢٣ / ١ ـ ٢٠ ، ٣٧ / ١ ، ٤٧ / ٩.

(٣) خروج ٣ / ٨ ، ٣٢ / ١٣ ، ٣٣ / ١ ـ ٢.

٣٦٧

إسرائيل ظهروا إلى الوجود أولا ، ثم ادعوا ملكية أرض كانت لغيرهم ، ولا حق لهم فيها (١).

ولعل سائلا يتساءل : لم وقع اختيار بني إسرائيل على فلسطين لتكون وطنا لهم؟ ولعل الإجابة إنما تكمن في الأسباب التالية ، والتي منها (أولا) أن العبرانيين قد اعتادوا العيش في أرض مصر الغنية ، ومن ثم فهم لا يستطيعون البقاء في الصحراء ، ولا بدلهم من الاندفاع تجاه وطن أفضل من هذه الصحراوات القاحلة في شبه جزيرة سيناء ، وما داموا لن يستطيعوا العودة إلى أرض مصر الغنية ، فليس أمامهم سوى كنعان ، ومن المعروف أن العبرانيين ، مهما قيل عن أسلافهم وأصلهم التاريخي ، فقد كانوا قبائل رحلا ، ولما كانوا رحلا في الشرق الأدنى ، فقد عاشوا ، لا في السهول الخضراء التي لا تنتهي ، وإنما في رقعة بين البادية وبين الزرع ، بين أخصب البقاع وبين نفي الحياة العام ، ذلك لأنه في هذه البقعة العجيبة من العالم ، إنما يتجاور الخصب والبوار ، ومن ثم فلا بد أنهم قد اختبروا رفاه الحياة وعنتها في كلا الحالين ، وقد تاق العبرانيون إلى الاستقرار في السهول الممرعة ، ولكنهم كانوا يحملون بأرض تفيض غلالا ، كالتي تخيلها المصريون لآخرتهم (٢)

ومنها (ثانيا) ذلك السبب التقليدي ، إذ كانت هذه القبائل الرحل ، ولعدة أجيال متتالية ، ترنوا بناظريها إلى «أرض الميعاد» (٣) ، حيث كان الأجداد يعيشون قبل رحيلهم إلى مصر (٤) ، ومنها (ثالثا) أن بني إسرائيل حين

__________________

(١) عبد الحميد زائد : الشرق الخالد ، القاهرة ١٩٦٦ ص ٣٧٩.

(٢) ٢٤٦.p ، ١٩٤٩. H.Frankfort and others ,Before Philosophy ,

(٣) أنظر : محمد بيومي مهران : قصة أرض الميعاد بين الحقيقة والأسطورة ـ مجلة الأسطول ـ العدد ٦٦ ، ٦٧ ، الاسكندرية ١٩٧٠.

(٤) ٤٠٩.H.R.Hall ,op ـ cit ,P.

٣٦٨

خرجوا من مصر فرارا من آل فرعون ، أصبح عددهم يكفي لأن يقوم عليه مجتمع ، له كيان ونظام ومكان ، وقد جاءت التوراة بالنظام فأين يجدون المكان؟ إن أقرب مكان تطمح إليه أنظارهم ، بعد مصر ، إنما هو فلسطين (١) ، أو كنعان كما كانوا يسمونها ، فهي ، كما حدثتهم توراتهم في أسفار موسى الخمسة ، تفيض لبنا وعسلا (٢) ، ومنها (رابعا) أن موسى عليه‌السلام أمرهم بدخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم ، سواء أكانت هذه الأرض هي فلسطين بعامة أو القدس أو أريحا فيما يرجح البعض ، تنفيذا لأمر الله تعالى : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) (٣).

(٢) الخوف من دخول كنعان : ـ

وهكذا بدأ موسى يسير بقومه نحو كنعان ، ولكن كنعان كانت عامرة بالسكان ، ومن ثم فإن محاولة دخولها إنما تعني الحرب بين بني إسرائيل وبين سكان فلسطين الأصليين ، وهنا ، وفي برية فاران ، أمر الرب موسى أن يرسل بعضا من رجاله يمثلون الأسباط جميعا لكي يتجسسوا أرض كنعان ، ويقوم الجواسيس بمهمتهم ثم يعودون إلى موسى بتفاصيل عما وجدوه في الأرض من تحصينات ، وما فيها من نقاط ضعف وقوة (٤) ، غير أن الرسل إنما ينقسمون إلى فريقين ، الواحد ويضم عشرة رجال ، يرى أن اليهود أضعف من أن يقوموا ، «لأن الأرض التي مررنا فيها لنتجسسها هي أرض تأكل سكانها ، وجميع الشعب الذي رأينا فيها أناس طوال القامة ، وقد رأينا هناك الجبابرة

__________________

(١) عبد الرحيم فودة : المرجع السابق ص ٢١٠.

(٢) خروج ٣ / ٨ ، ٣٢ / ١٣ ، ٣٣ / ٣ ، عدد ١٤ / ٨ ، تثنية ٢٦ / ١٥.

(٣) سورة المائدة : آية ٢١ ، وانظر : تفسير الطبري ١ / ٢٩٩ ـ ٣٠٣ ، تفسير النسفي ٢ / ٢٧٨ ، تفسير روح المعاني ١ / ٢٦٤ ، تفسير الخازن ١ / ٦٤ ، تفسير البيضاوي ١ / ١٤٨.

(٤) عدد ١٣ / ١ ـ ٢٩.

٣٦٩

فكنا في أعيننا كالجراد ، وهكذا كنا في أعينهم» (١) ، وأما الفريق الآخر ، ويضم رجلين ، كالب بن يقنة ويشوع بن نون ، فقد عارض هذا الإتجاه الجبان ، بل إن كالب ليقول : «إننا نصعد ونمتلكها لأننا قادرون» (٢).

وهنا يثور بنو إسرائيل على موسى وهارون ، ومع ذلك فإن موسى إنما يبدأ يحرضهم على القتال ، ولكنهم مع كثرتهم ، (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) (٣) ، كانوا يخافون الحرب ويهابون القتال ، إذ تمكنت منهم المذلة والصغار ، فصاحوا بموسى وهارون قائلين : «ليتنا متنا في أرض مصر ، أو ليتنا متنا في هذا القفر ، ولما ذا أتى بنا الرب إلى هذه الأرض لنسقط بالسيف ، تصير نساؤنا وأطفالنا غنيمة» (٤) ، بل وقد ذهب بهم التمرد ، طبقا لرواية التوراة ، إلى حد الثورة على موسى شخصيا ، والمناداة بخلع رئاسته ، وقيام سلطة جديدة تعود بهم إلى مصر ، «أليس خير لنا أن نرجع إلى مصر ، فقال بعضهم لبعض نقيم رئيسا ونرجع إلى مصر» (٥).

ويصور القرآن الكريم هذا الحادث تصويرا صادقا ، الصدق كل الصدق ، مبينا أن صفة الجبن عند الإسرائيليين ، ليست صفة عرضية تزول بزوال أسبابها ، وإنما هي جوهر مكوّن للشخصية الإسرائيلية ، يتناسق مع بقية الصفات الجوهرية الأخرى ، لأن القرآن الكريم إنما يصفهم بالجبن ، وبين ظهرانيهم نبيّهم الكريم يحرضهم على القتال للدخول إلى أرض كنعان ، والناس حين يكون بينهم نبيّهم يكونون أكثر تشوقا للاستشهاد تحت

__________________

(١) عدد ١٣ / ٣١ ـ ٣٣.

(٢) عدد ١٣ / ٣٠.

(٣) سورة الحشر : آية ١٤.

(٤) عدد ١٤ / ١ ـ ٤.

(٥) عدد ١٤ / ٣ ـ ٤ ، وانظر : صفوة التفاسير ١ / ٣٣٦ ، التسهيل ١ / ١٧٣.

٣٧٠

قيادته وفي ظل لوائه ، ولكن الإسرائيليين شعب لم يؤمن بنبيّه (١) ، شعب ليس في كيانه إلا عواطف ذليلة خانعة ، وكيف يستطيع شعب ذليل لا يعرف سوى رائحة الشواء عند قدور اللحم في مصر ، وإن استعبد من أجل ذلك وذل ، وكيف يستطيع شعب كهذا أن يخوض المعارك ، حتى وإن كان قائده كليم الله موسى عليه‌السلام.

وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ، قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ ، قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها ، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) (٢).

ويقول ابن كثير في التفسير : وهذا نكول منهم عن الجهاد ومخالفة لرسولهم ، وتخلف عن مقاتلة الأعداء ، ويقال إنهم لما نكلوا على الجهاد وعزموا على الانصراف والرجوع إلى مصر ، سجد موسى وهارون عليهما‌السلام قدام ملأ من بني إسرائيل ، إعظاما لما هموا به ، وشق يوشع بن نون وكالب بن يفنة ثيابهما ، ولا ما قومهما على ذلك ، فيقال إنهم رجموهما ، وجرى أمر عظيم وخطر جليل (٣) ، وقال الصابوني في صفوة التفاسير : وهذا

__________________

(١) عبد الراجحي : الشخصية الإسرائيلية ـ الاسكندرية ١٩٦٨ ص ٩٠.

(٢) سورة المائدة : آية ٢١ ـ ٢٤ ، وانظر : تفسير روح المعاني ٤ / ١٠٦ ـ ١٠٨ ، تفسير الطبرسي ٦ / ٦٥ ـ ٦٨ ، تفسير الطبري ١٠ / ١٧١ ـ ١٨٧ ، تفسير المنار ٦ / ٢٦٥ ـ ٢٧٦ ، تفسير الكشاف ١ / ٦١٩ ـ ٦٢١ ، تفسير القرطبي ص ٢١٢٠ ـ ٢١٢٥ ، تفسير النسفي ١ / ٢٧٨ ـ ٢٧٩ ، في ظلال القرآن ٦ / ١٢٤ ـ ١٢٦.

(٣) تفسير ابن كثير ٣ / ٦٨ ـ ٧٣.

٣٧١

إفراط في العصيان وما سوء الأدب بعبارة تقتضي الكفر والاستهانة بالله ورسوله (١) ، على أن الإمام النسفي إنما يعلق على رأي بعض العلماء في تفسير قوله تعالى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) من حمله على الظاهر ، وقال إنه كفر منهم ، وليس كذلك ، إذ قالوا ذلك اعتقادا وكفروا به لحاربهم موسى ، ولم تكن مقاتلة الجبارين أولى من مقاتلة هؤلاء ، ولكن الوجه فيه أن يقال : فاذهب أنت وربك يعينك على قتالك ، أو وربك أي سيدك وهو أخوك الأكبر هارون ، أو لم يرد به حقيقة الذهاب ، ولكن كما تقول : كلمته فذهب يجيبني ، تريد معنى الإرادة كأنهم قالوا : أريد اقتالهم «فقاتلا إنا هاهنا قاعدون» ماكثون لا نقاتلهم لنصرة دينكم (٢).

وأيا ما كان المعنى ، فمن الواضح تماما ، أنه لم يستجب لموسى عليه‌السلام ، إلا أخوه هارون ، فيشكو لربه هؤلاء القوم الفاسقين الخانعين ، («قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٣) ، فموسى عليه‌السلام يقول ذلك معتذرا إلى الله ، متبرءا من مقالة السفهاء ، فهو لا يملك إلا نفسه ونفس أخيه وهارون ، وكأن موسى لا يثق حتى بالرجلين المذكورين (يشوع وكالب) كل الوثوق ، فلم يذكر إلا النبي المعصوم ، أخاه هارون ، ثم يطلب من الله تعالى : فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما وعدتنا ، وتحكم عليهم بما وعدتهم ، وهو في معنى الدعاء عليهم ، خاصة وقد وصفهم بالقوم الفاسقين (٤).

ولعل هذا الموقف الجبان من بني إسرائيل مع نبيهم موسى عليه

__________________

(١) صفوة التفاسير ١ / ٣٣٦.

(٢) تفسير النسفي ١ / ٢٧٨ ـ ٢٧٩.

(٣) سورة المائدة : آية ٢٥ ، وانظر تفسير ابن كثير ٣ / ٧٣ ، تفسير المنار ٦ / ٢٧٦ ـ ٢٧٧ ، الجواهر في تفسير القرآن الكريم ٣ / ١٥٤ ، تفسير الطبرسي ٦ / ٦٨ ـ ٦٩.

(٤) تفسير النسفي ١ / ٢٧٩ ، صفوة التفاسير ١ / ٣٣٦.

٣٧٢

السلام ، بعد ما رأوا من الآيات كفلق البحر وإغراق عدوهم وإنزال المن والسلوى وتظليل الغمام ونحو ذلك من الأمور العظام ، يذكرنا ـ مع الفارق الكبير ، بموقف المسلمين ، من مهاجرين وأنصار ، من سيدنا ومولانا محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبيل بداية القتال في غزوة بدر الكبرى ، وكانت القوة الإسلامية تكاد لا تبلغ ثلث القوة القرشية الكافرة ، عددا وعدة ، عند ما وقف «المقداد بن عمرو الكندي» يقول لسيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ، امض لما أراك الله ، فنحن معك ، والله لا نقول لك ، كما قالت بنو إسرائيل لموسى «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا معكما مقاتلون».

ومن هذا المنطق كذلك ، يقف «سعد بن معاذ» ليرد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أراد أن يعرف رأي الأنصار ، «لقد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامضي لما أردت فنحن معك ، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، وما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقي بنا عدونا غدا ، إنا لصبر في الحرب ، صدق عند اللقاء ، لعل الله يريك منا ما تقربه عينك ، فسر بنا على بركة الله» (١)

وهكذا بهذه الروح العالية ، وبهدى من الله ، وبإرشاد من رسول الله ، وباتباع لكتاب الله وسنة رسوله ، استطاع المسلمون أن يجعلوا راية الإسلام ترفرف عالية على ربوع الشرق ، بعد أن طردوا الساسانيين والرومان من شرقنا

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ / ٩٣ ، ٦ / ٦٤ ـ ٦٥ ، مسند الإمام أحمد ١ / ٣٨٩ ـ ٣٩٠ ، ابن هشام : سيرة النبي ١ / ٦١٤ ـ ٦١٥ ، ابن سعد : الطبقات الكبرى ٢ / ٨ ، ابن كثير : السيرة النبوية ٢ / ٣٩٢ ـ ٣٩٣ ، تفسير الطبري ١٠ / ١٨٥ ـ ١٨٦ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٧١ ـ ٧٢ ، الواقدي : كتاب المغازي ١ / ٤٨ ـ ٤٩.

٣٧٣

العربي ، ودكوا عروش الأباطرة ، ونشروا الإسلام ، وشادوا الحضارة العربية الإسلامية.

(٣) التيه : ـ

وهكذا كان حكم الله العادل على هؤلاء القوم الفاسقين من بني إسرائيل بالفناء والتشرد ، تقول التوراة : «إن جميع الرجال الذين رأوا مجدي وآياتي التي عملتها في مصر وفي البرية ، وجربوني الآن عشر مرات ولم يسمعوا لقولي ، لن يروا الأرض التي حلفت لآبائهم ، وجميع الذين أهانوني لا يرونها» (١) ، ثم يقول لموسى : «حي أنا يقول الرب ، لأفعلن بكم تكلمتم في أذني ، في هذا القفر تسقط جثثكم ، جميع المعدودين منكم حسب عددكم ، من ابن عشرين سنة فصاعدا ، الذين تذمروا على ، لن تدخلوا الأرض التي رفعت يدي لأسكنكم فيها ، ما عدا كالب بن يفنة ويشوع بن نون ، وأما أطفالكم الذين قلتم يكونون غنيمة ، فإني سأدخلهم فيعرفون الأرض التي احتقرتموها ، فجثثكم أنتم تسقط في هذا القفر ، وبنوكم يكونون رعاة في القفر أربعين سنة ، ويحملون فجوركم حتى تفني جثثكم في القفر ، كعدد الأيام التي تجسستم فيها الأرض أربعين يوما للسنة ، يوم تحملون ذنوبكم أربعين سنة فتعرفون ابتعادي أنا الرب ، قد تكلمت لأفعلن هكذا بكل هذه الجماعة الشريرة المتفقة عليّ ، في هذا القفر يفنون وفيه يموتون» (٢).

وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى : (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٣).

__________________

(١) عدد ١٤ / ٢٢ ـ ٢٣.

(٢) عدد ١٤ / ٢٨ ـ ٣٥.

(٣) سورة المائدة : آية ٢٦ ، وانظر : تفسير الكشاف ١ / ٦٢١ ، تفسير الطبري ١٠ / ١٩٠ ـ ٢٠٠ ، في ظلال القرآن ٦ / ١٢٩ ـ ١٣٠ تفسير الطبرسي ٦ / ٦٩ ـ ٧١ ، تفسير النسفي ٢ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠ ، تفسير المنار ٦ / ٢٧٧ ـ ٢٧٩ ، تفسير القرطبي ص ٢١٢٦ ـ ٢١٣٠.

٣٧٤

ويقرر بعض العلماء أن «التيه» هو الذي حدد بأربعين سنة ، وليس «التحريم» ، فالتحريم مطلق أبدي (١) ، ومن أجل هذا يوقف في القراءة بعد قوله تعالى : (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) ثم يبتدأ بقوله تعالى : (أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) ذلك لأن الرجال الصالحين للحرب ، الذين عصوا موسى ، ماتوا في البرية أثناء السنين الأربعين ، ولم يدخل أحد منهم إلى أرض الموعد ، فكانت محرمة عليهم بإطلاق (٢) ، ويتفق هذا التفسير للنص القرآني الكريم تماما مع نص التوراة الآنف الذكر ، ومن ثم ترى جمهرة العلماء أن جميع الإسرائيليين الذين خرجوا من مصر ، سوف يموتون في البرية ، ولن يروا أرض الميعاد أبدا ، ما عدا يوشع بن نون وكالب بن يفنة (٣).

وجاء في تفسير ابن كثير عن سعيد بن جبير قال : سألت ابن عباس عن قوله : فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض» قال : فتاهوا في الأرض أربعين سنة يصبحون كل يوم يسيرون ليس لهم قرار ، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه وأنزل عليهم المن والسلوى ، وهذه قطعة من حديث الفتون ، ثم كانت وفاة هارون عليه‌السلام (٤) ثم بعده بمدة ثلاث سنين وفاة

__________________

(١) يرى بعض المفسرين أن التحريم هنا تحريم منع ، لا تحريم تعبد ، كقوله تعالى : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) ، ولذا قيل إن الحرمة مؤبدة حتى يموتوا ويدخلها أبناؤهم (تفسير النسفي ١ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠ ، تفسير الخازن ٢ / ٣٣).

(٢) عبد الوهاب النجار : قصص الأنبياء ص ٢٢٨ ، تفسير الكشاف ١ / ٦٢٢ ، تفسير الطبرسي ٦ / ٧٠ ، تفسير القرطبي ص ٢١٢٦ ـ ٢١٢٧ ، في ظلال القرآن ٦ / ١٢٩ ، تفسير النسفي ١ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠ ، تفسير روح المعاني ٦ / ١٠٩ ، تفسير المنار ٦ / ٢٧٧ ، تاريخ الطبري ١ / ٤٣٦.

(٣) تفسير ابن كثير ٣ / ٧٤ ، تاريخ الطبري ١ / ٤٣٦ ، عدد ١٤ / ٢٦ ـ ٣٠.

(٤) روى الطبري في تفسيره عن الإمام علي كرم الله وجهه في الجنة في تفسير قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا) ، كان هارون حسن الخلق محببا في بني إسرائيل ، فلما مات دفنه موسى ، قال فلما أتى بني إسرائيل قالوا له أين هارون ، قال مات ، قالوا قتلته ، قال فاختار منهم سبعين رجلا ، قال فلما أتوا القبر قال موسى : أقتلت أو مت ، قال مت ، فأصعقوا ، فقال موسى : رب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت ، يقولون أنت قتلتهم قال ـ

٣٧٥

موسى الكليم عليه‌السلام ، وأقام الله فيهم يشوع بن نون نبيا خليفة عن موسى بن عمران ، ومات أكثر بني إسرائيل هناك في تلك المدة ، ويقال إنه لم يبق منهم أحد سوى يوشع وكالب ، وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس قوله : فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض» قال : فتاهوا أربعين سنة ، قال : فهلك موسى وهارون في التيه ، وكل من جاوز الأربعين سنة ، فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم يوشع بن نون ، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى ، وهو الذي افتتحها (أي الأرض المقدسة) (١).

وأما سبب فكرة التيه أربعين سنة في البرية ، فهو موضع خلاف بين العلماء ، فهناك من يرى أنها كانت بسبب خوف الإسرائيليين من المصريين ، وانتظارا للوقت المناسب الذي تضعف فيه السيادة المصرية على كنعان فيدخلونها آمنين (٢) ، ومن ثم فقد مضت أربعون سنة قبل أن يدخل بنو إسرائيل أرض الميعاد ، حيث استطاع موسى أن يكوّن من هؤلاء العبيد المحررين حديثا ، وحدة واحدة ، وأمة منظمة ، وأن يطبعهم بطابع الصفات الخلقية الروحية التي كان يتطلبها قدرهم (٣).

والرأي عند «ابن خلدون» أن التية إنما كان لإفناء أبناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة ، وإنشاء جيل آخر عزيز ، لا يعرف

__________________

ـ فأحيوا ، وفي رواية في تفسير الخازن : أن موسى لما اتهم بقتل هارون أمر الله الملائكة فحملوه حتى مروا به على بني إسرائيل وتكلمت الملائكة بموته ، فصدقت بنو إسرائيل أنه مات وبرأ الله موسى مما قالوا ، ثم إن الملائكة حملوه ودفنوه ، ولم يطلع على قبره أحد ، (تفسير الطبري ١٣ / ١٤٢ ـ ١٤٣ ، تفسير الخازن ٢ / ٣٤ ، ثم قارن عدد ٢٠ / ٢٢ ـ! ٢ ، حيث يرى أن هارون مات ودفن على رأس جبل هور).

(١) مختصر تفسير ابن كثير ١ / ٥٠٤ ، وانظر تفسير النسفي ١ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

(٢) حسين فوزي النجار : أرض الميعاد ـ القاهرة ١٩٥٩ ص ١٥٦.

(٣) ٣٢.p ، ١٩٧٠. I.Epstein ,Judaism ,

٣٧٦

الإحكام والقهر ، ولا يسام الذل والهوان ، والعلماء يقررون أن حضانة العلم خمس عشرة سنة ، فإذا ابتدأت أمة تتعلم فإنها تجني ثمرة العلم بعد خمس عشرة سنة ، وأما حضانة الأخلاق فمدتها أربعون سنة ، فإذا أخذت الأمة تستمسك بالأخلاق فإنها لا تجني الثمرة إلا بعد أربعين سنة ، لذلك أراد الله تعالى أن يبقي بنو إسرائيل في البرية أربعين سنة حتى يفنى الجيل الذي نشأ في الذل والاستعباد ، وينشأ جيل ألف الحرية ولم تذله العبودية (١).

على أن هناك فريقا من العلماء يرى أن فترة التيه هذه إنما تتصل اتصالا وثيقا بعقيدة إسرائيل الجديدة ، ذلك لأن فترة الأربعين سنة للتيه إنما كانت ملائمة لغرس العقيدة الجديدة في عقول وقلوب القوم الذين اعتادوا رونق الطقوس المصرية ، كما أن تلك العقيدة ، سوف تتعرض لأخطار أعظم فيما بعد في فلسطين (٢) ، مما يجعلها في أشد الحاجة إلى فترة كافية لتثبيت الإيمان بها.

وأيا ما كان الأمر ، فإن ختام القصة هنا في سورة المائدة بقوله تعالى : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) إنما هو تسلية لموسى عليه‌السلام ، أي لا تأسف ولا تحزن عليهم فيما حكمت عليهم به فإنهم مستحقون ذلك ، وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود وبيان فضائحهم ، ومخالفتهم لله ورسوله ، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمرهم به من الجهاد فضعفت نفوسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ومقاتلتهم ، مع أن بين أظهرهم رسول الله وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك الزمان سيدنا موسى عليه‌السلام ، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم ، هذا مع ما شهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم وهم ينظرون ، لتقر به أعينهم وما بالعهد

__________________

(١) عبد الوهاب النجار : المرجع السابق ص ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

(٢) ٤٩٧.L.Woolley ,op ـ cit ,P.

٣٧٧

من قدم ، ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر ، لا توازي عشر المعشار في عدة أهلها وعدوهم ، فظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام ، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ، ولا يسترها الذيل ، هذا وهم في جهلهم يعمهون ، وفي غيّهم يترددون ، وهم البغضاء إلى الله وأعداؤه ، ويقولون مع ذلك نحن أبناء الله وأحباؤه ، فقبح الله وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقردة ، وألزمهم لعنة تصحبهم إلى النار ذات الوقود ، ويقضي لهم فيها بتأييد الخلود ، وقد فعل ، وله الحمد من جميع الوجود (١).

(٤) عودة التمرد ضد موسى : ـ

وما أن يمضي حين من الدهر قليل ، بعد أن كتب الله على بني إسرائيل أن يتيهوا في الأرض أربعين سنة ، حتى تعود ثورات بني إسرائيل على موسى من جديد ، غير أن الجديد هنا أن ثورة اليوم إنما يتزعمها أحد اللاويين ، سبط موسى نفسه ، ذلك أننا نقرأ في سفر العدد من التوراة أن مائتين وخمسين من شيوخ إسرائيل ، بقيادة «قورح» «اللاوي» قد اتهموا موسى وهارون بأنهما يترفعان على جماعة الرب ، رغم أن كل الجماعة بأسرها مقدسة ، وفي وسطها الرب ، ويحاول موسى أن يهدئ من ثائرة القوم ، وأن يذكر قورح بأن الرب إنما قرب سبطه اللاويين إليه ، دون بقية أسباط بني إسرائيل ، غير أن الثورة لا تهدأ ، ومن ثم يرسل موسى في طلب الزعيمين الآخرين «داثان وأبيرام» ، لعله ينجح في تهدئة القوم عن طريقهما ، إلا أن الرجلين يرفضان مجرد الاجتماع بموسى ، قائلين «أقليل أنك أصعدتنا من أرض تفيض عسلا ولبنا لتميتنا في البرية ، حتى تترأس علينا ، كذلك لم تأت بنا إلى أرض تفيض لبنا وعسلا ، ولا أعطيتنا نصيب حقول وكروم ، هل تقلع أعين هؤلاء القوم ، لا نصعد» (٢) ، ولعل هذا هو السبب في الثورات المتكررة من بني إسرائيل

__________________

(١) مختصر تفسير ابن كثير ١ / ٥٠٥.

(٢) عدد ١٦ / ١ ـ ١٤.

٣٧٨

على موسى وأخيه وهارون عليهما‌السلام ، ذلك لأن هؤلاء الرحل الشاردين الحائرين الذين كانوا يسعون جاهدين وراء حياة أفضل من الارتحال ، ويحلمون ، بعد أن ذاقوا مرارة التنقل واشتد حنينهم إلى أرض كأرض مصر ، بأرض تفيض لبنا وعسلا ، ما داموا لا يستطيعون العودة إلى مصر ، ومن ثم فلم يلبثوا أن انحنوا باللائمة على من أثارهم ضد أصحابها (١).

وعلى أي حال ، فإن الثورة قد انتهت بإبادة زعمائها ، إذ «فتحت الأرض فاها وابتلعتهم وبيوتهم» ، ثم سرعان ما خرجت نار من عند الرب فأكلت المائتين والخمسين رجلا ، وأما بقية بني إسرائيل فقد سلط الله عليهم وباء كاد أن يفنيهم عن بكرة أبيهم ، لو لا أن موسى قد أمر ابن هارون بأن يسرع بإيقاد البخور للتكفير عن جماعة الرب ومع ذلك فقد مات بهذا الوباء «أربعة عشر ألفا وسبع مائة ، عدا الذين ماتوا بسبب قورح» (٢).

ولم يكتف بنو إسرائيل بثورة «قورح» هذه ، إذ سرعان ما تعاودهم آفتهم القديمة ، فيعاودون التمرد على موسى ، بل إن الثورة هذه المرة إنما تتجاوز كل الحدود ، حتى تصل إلى ذات الله العلية ، وذلك حين «تكلم الشعب على الله وعلى موسى قائلين لما ذا أصعدتمانا من مصر لنموت في البرية ، لأنه لا خبز ولا ماء ، وقد كرهت أنفسنا الطعام السخيف» (يعني المن والسلوى) ، فسلط الله عليهم الحيات فمات قوم كثيرون من بني إسرائيل ، ولم يرفع الله عنهم هذا البلاء ، إلا بتضرع من موسى «فصلى موسى لأجل الشعب ، فقال الرب لموسى : اصنع لك حية محرقة وضعها على راية فكل من لدغ ونظر إليها يحيا (٣) ، فصنع موسى حية من نحاس ووضعها على الراية

__________________

(١) نجيب ميخائيل : المرجع السابق ص ٢٢٢.

(٢) عدد ١٦ / ٣٢ ـ ٥٠.

(٣) من عجب أن يذهب المؤرخ الكبير «برستد» إلى أن موسى كان يتمسك ببعض الذكريات عن ـ

٣٧٩

فكان متى لدغت حية إنسانا ونظر إلى حية النحاس يحيا» (١).

(٥) بنو إسرائيل على تخوم كنعان : ـ

ويبدأ موسى عليه‌السلام يستعد لدخول أرض كنعان ، فيرسل رسلا من «قادش» (عند طرف برية صين غرب وادي العربة ، ويرجح أنها عين قضيرات على مقربة من عين قديس جنوبي بئر سبع بحوالي ٥٠ ميلا) إلى ملك أدوم (٢) ، قائلا : «دعنا نمر في أرضك ، لا نمر في حقل ولا في كرم ولا نشرب

__________________

ـ التماثيل الدينية المصرية ، فقد كان يحمل عصا سحرية عظيمة في صورة «ثعبان» تسكن فيها قوة «يهوه» ، كما كان ينصب ثعبانا من النحاس البراق ليشفي به الناس ، وكان هذا الثعبان أحد الثعابين المقدسة العديدة في مصر ، وقد بقيت صورة ذلك الإله المصري القديم عند العبرانيين إلى ما بعد استيطانهم فلسطين بزمن طويل واستمروا في إطلاق البخور له من مدة خمسة قرون بعد موسى ، ولم يبعد عن البيت المقدس إلا في حكم «حزقيا» (٧١٥ ـ ٦٨٧ ق. م) ملك يهوذا ، وأما الدكتور هانئ رزق فيرى الحدث رمزا لصلب المسيح ، فكما رفع موسى الحية لكي يحيا كل من ينظر إليها ، هكذا رفع يسوع المسيح على الصلب لكي يحيا كل من يؤمن به (عدد ٢١ / ٩ ، ملوك ثان ١٨ / ٤ ، هاني رزق : يسوع المسيح في ناسوته وألوهيته ص ١٥٢ ـ ١٥٣ وكذاJ.H.Breasted ,The Dawn of Conscience ,N.Y , ٣٥٤.p ، ١٩٣٩.

(١) عدد ٢١ / ٥ ـ ٩.

(٢) أدوم : نسبة إلى عيسو (العيص) بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ، والشقيق التوأم ليعقوب ، ومن ثم فهم أقرب الناس إلى آل يعقوب ، دما ولغة ، ومع ذلك فكان بنو إسرائيل يعدون الآدوميين من ألد أعدائهم ، حتى أن المنازعات السياسية بينهم قد استمرت حتى انتهى الأمر بفناء الآدوميين وامتزاجهم باليهود من ناحية ، وبالأنباط من ناحية أخرى ، وأما موطن الآدوميين فكان في أقصى جنوب بلاد شرق الأردن وجنوب وادي الحسا ، وتطلق التوراة على هذا الإقليم اسم «سعير» وكانت عاصمتهم «سالع» وهي نفسها «البتراء» التي أصبحت عاصمة الأنباط فيما بعد ، وتقع على مبعدة ٥٠ ميلا جنوب البحر الميت ، ومن أهم مدنهم «بصرة» وهي بصيرة الحديثة على مبعدة ٢٠ ميلا جنوب شرق البحر الميت ، ثم «تيمان» على مقربة من البتراء ، ثم «عصيون جابر» وهي تل الخليفة على الطرف الشمالي لخليج العقبة بالقرب من «إيلات» ، وأما نظامهم السياسي فكانوا أولا يحكمون بأمراء أشبه برؤساء العشائر ، ثم كونوا مملكة ربما كان ملوكها منتخبين ، وقد جلس على عرشها ثمانية ملوك قبل قيام الملكية ـ

٣٨٠