دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٢

الكنانة ، ذلك لأن البدو إنما كانوا يعملون في تربية الحمير والغنم والماعز «وأن كل راعي غنم رجس عند المصريين» (١) ، ومن هنا ، وفي عهد سيادة الهكسوس فحسب ، يجد الأسيوي الفرصة سانحة ليصل إلى أعلى المراكز في الدولة ـ والأمر كذلك في أيام الضعف ـ ومن هنا فقد وجدنا موظفين يحملون أسماء سامية في عصر الهكسوس (٢) وإن كانت نبوة يوسف وتأويله الأحاديث هما سبب وصوله إلى منصبه ، وليس لأنه أسيوي.

ومنها (رابعا) أن هناك «جعولا» من ذلك العصر ، جاءت بها أسماء رؤساء مثل «يعقوب حر» و «عنات حر» ، ومهما يكن معنى «حر» هذه ، فإن «عنات» هي الإلهة السامية المعروفة ، وإنه لمن الصعب أن ننحى وجهة النظر القائلة بأن الأب يعقوب قد خلد ذكره في الإسم الآخر (٣) ، مما جعل المؤرخ الأمريكي «جيمس هنري برستد» يعتبر ذلك إشارة إلى أن قائد قبيلة يعقوب الإسرائيلية ، ربما نال الفرصة ليصل إلى بعض السلطة في وادي النيل في تلك الفترة المظلمة ، والتي تتناسب مع احتمال دخول بني إسرائيل إلى مصر وقت ذاك.

ومنها (خامسا) ما ذهب إليه «حبيب سعيد» من أن دخول الإسرائيليين إلى مصر ، إنما حدث خلال حكم الهكسوس لمصر ، لأنه في مثل هذا الاضطراب التاريخي فقط ، يتسنى لهم أن يلقوا ترحابا ، وهم الغرباء النازحون ، ومنها (سادسا) أن هناك من الباحثين من يجعل الهكسوس من أصول سامية شمالية غربية ، (شمال غربي الجزيرة العربية) ومن ثم فهم

__________________

(١) تكوين : ٤٦ : ٣٤.

(٢) W.Keller ,op ـ cit ,p. ١٠٧ ـ ١٠٥.

(٣) A.Gardiner ,Egypt of the Pharaohs ,p. ١٥٧.

١٠١

أقرباء للعبرانيين ، مما جعل يوسف العبراني يجد الفرصة ليصل إلى مركز القوة في البلاط المصري (١) ، وبالتالي فقد قوبل أبوه وإخوته بالترحاب من الهكسوس الساميين ، والذين سمحوا لهم بالإقامة في «جوشن» (٢).

ومنها (سابعا) ما ذهب إليه بعض الباحثين من أن دخول الإسرائيليين إلى مصر ، إنما كان في عصر الهكسوس ، على أساس أن هذا يعطي الإسرائيليين أربعة قرون كفترة إقامة في مصر ، حتى تم طردهم منها على أيام رعمسيس الثاني (٣) أو ولده ومنها (ثامنا) ما ذهب إليه «فلندرز بيتري» من أن عصر يوسف إنما كان على أيام الهكسوس ، ويظهر ذلك عن طريق اللقب البابلي الذي أعطى له ، وهو"Abrek " ، والذي هو"Abarakhu " ، وهو واحد من ضباط الدولة الخمسة العظام (٤).

ومنها (تاسعا) ما ذهبنا إليه من قبل من أن القرآن الكريم قد حرص في سرده لقصة يوسف ، على أن يلقب الحاكم الذي عاصره بلقب «ملك» (٥) ، بينما حرص على أن يلقب الحاكم الذي عاصر موسى بلقب «فرعون» ، وقد أثبتنا من قبل أن لقب «فرعون» (٦) لم يستعمل للدلالة على شخص الملك إلا منذ أيام تحوتمس الثالث (٧) ، وبصفة مؤكدة منذ أيام «أخناتون» (٨) ، مما يدل

__________________

(١) ١٥.p ، ١٩٧٠. I.Epotein ,Judais m ,

(٢) ٤ C.Both ,Op ـ Cit.,P ..

(٣) ٢٤٢ G.Roux.Op ـ Cit.,P.

(٤) ٢٧.W.M.F.Petrie ,Op ـ Cit ,P

(٥) سورة يوسف : آية ٤٣ و ٥٠ و ٤ F W. O. E. Oesterley, Egypt and Israel, in the Legacy of

(٦) سورة الأعراف : آية ١٠٣ ـ ١٠٤ ، ١٠٩ ، ١١٢ ، ١٢٣ ، ١١٧ ، ١١٧ ، يونس. آية ٧٥ ، ٧٦ ، ٨٣ ، ٨٨ ، ٩٠ ، هود : آية ٩٧ ، الإسراء : آية ١٠١ ـ ١٠٢ ، طه : آية ٢٤ ، ٤٣ ، ٦٠ ، ٧٨ ، ٧٩ ، المؤمنون : آية ٤٦ ... وهكذا.

(٧) ٥٢. A Gardiner ,Op ـ Cit.,P

(٨) ٧٥.p ، ١٩٦٦. A Gandiner ,Egyptian grammar ,

١٠٢

على أن عصر يوسف إنما كان قبل عصر الأسرة الثامنة عشرة التي أستعمل فيها لقب «فرعون» (١) ، وبالتالي فهو في عصر الهكسوس.

ومنها (عاشرا) أن هناك ما يشير إلى أن يوسف قد وصل إلى ما وصل إليه من النفوذ في عصر الهكسوس ـ وربما ليس بعد عام ١٧٠٠ ق. م ـ ففي سفر التكوين ما يشير إلى أن قصر الملك لم يكن بعيدا عن «أرض جوشن» ، وهذا يعني أن العاصمة المصرية كانت في منطقة الدلتا ، وهو أمر يتفق وعصر الهكسوس ، حيث كانت عصمتهم «أواريس» (حت وعرت ـ صان الحجر الحالية) ، هذا فضلا عن أن سفر الخروج يقرر أن مدة إقامة الإسرائيليين في مصر ، إنما كانت ٤٣٠ سنة (٢) ، وحيث أن الخروج قد تم بعد عام ١٣٠٠ ق. م (الأمر الذي سنناقشه فيما بعد) ، فإن ذلك يرجع بعهد يوسف إلى حوالي عام ١٧٠٠ ق. م ، وهي فترة تتفق وحكم الهكسوس (٣).

بل إننا نستطيع أن نصل إلى نفس النتيجة من إشارة سفر التكوين من أن قصر الملك كان في «أرض جوشن» ، ذلك أن عاصمة مصر لم تكن في الدلتا الشرقية إلى في عصر الهكسوس ، ثم في عصر الرعامسة بعد ذلك ، حيث كانت «أواريس» في العصر الأول ، و «بر ـ رعمسيس» في العصر الثاني ، ولما كان عصر يوسف لا يمكن أن يكون ـ بحال من الأحوال ـ في عصر الرعامسة ، فهو إذن في عصر الهكسوس ، بل إنني أعتقد أن تحديد إقامتهم في أرض جوشن ـ وهي منطقة نفوذ الهكسوس الأساسية ، وقاعدة هذا النفوذ ، كما نعرف ـ إنما يعد دليلا على أن عصر وجود الإسرائيليين في مصر ، إنما كان على أيام الهكسوس.

__________________

(١) ١٠٢.p ، ١٩٦٣ ، J. A. Wilson, the cuture of ancient Egypt, Chicago ,

وانظر عبد العزيز صالح : حضارة مصر القديمة وآثارها ، الجزء الأول القاهرة ١٩٦٢ ، ص ٣٠ ـ ٣١.

(٢) خروج ١٢ : ٤٠.

(٣) ٢٨The Westminester Historical Atlas to the Bible, p.

١٠٣

ومنها (حادي عشر) أن هناك ما يشير إلى أن يوسف قد حمل إلى مصر ، حيث كانت تجارة الرقيق من البنين والبنات الأسيويين تلقي يومئذ رواجا دلّ عليه ما كشفت عنه بردية في متحف بروكلين (١) بالولايات المتحدة الأمريكية ، فقد جاء فيها ذكر ما يربو على أربعين أسيويا من نيف وثمانين ، كانوا يعملون خدما في بيت واحد من عصر الأسرة الثالثة عشرة قبل مجيء الهكسوس ، ولم يكن من سبيل بحكم ما هو معروف من تاريخ تلك الفترة ، وأحوال مصر المتواضعة ، أن يكون هؤلاء مع إخوان لهم في بيوت أخرى ، من أسرى الحرب في زمان لم تقع فيه حروب (٢).

وأما عدم ذكر «يوسف» في الآثار المصرية ، رغم أنه شغل منصب الوزير للملك ، فهذه ـ فيما أظن ـ هذا الرأي ولا ننقضه ، إذ لو كان يوسف عاش في غير عصر الهكسوس ، لكان من الممكن أن نعثر على دليل أثري يؤيد وجوده ، أو على الأقل يشير إلى الأحداث التي روتها التوراة ، ذلك لأن التاريخ المصري ، رغم أنه يمتاز على تاريخ الشرق الأدنى القديم بوضوحه وكثرة آثاره ، فإن عصر الهكسوس بالذات يمتاز بالغموض ، بل إنه ليعد واحدا من أغمض فترات التاريخ المصري القديم ، ذلك لأن المصريين ما كانوا براغبين في تسجيل ذكرى هذا العصر البغيض إلى نفوسهم (٣) ، بل إنهم لم يحاولوا حتى الإشارة إليه إلا على أيام الملكة «حتشبسوت» (٤) ، (١٤٩٠ ـ ١٤٦٨ ق. م) ، هذا فضلا عن تدميرهم لآثار الهكسوس بعد نجاحهم في طردهم وتحرير البلاد من سيطرتهم.

أضف إلى ذلك كله ، أن يوسف ، على الرغم من أنه كان ذا مكانة في

__________________

(١) ١٩٥٥. W. C. Hayes Apapyrus of the Late middle Kingdom in the Brooklyn museum

(٢) أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ٤٣.

(٣) أنظر : كتابنا «حركات التحرير في مصر القديمة» ص ١٠٣ ـ ١٠٦.

(٤) أنظر : A.Gardiner JEA , ٤٨ ـ ٤٥.p ، ١٩٤٦ ، ٣٢.

١٠٤

حكومة مصر ، غير أنه لم يعد أن يكون وزيرا فحسب ، وأن كل عمل عظيم يقوم به ويستحق التسجيل ، إنما كان ينسب إلى الملك ، الذي كانت النقوش تهدف إلى تعظيمه والإشادة بذكره ، لأن كل شيء كان في مصر من وحيه هو ، وعلى ذلك فإن اسم يوسف لم يكن ليظهر بطبيعة الحال (١).

وانطلاقا من هذا ، إذا أردنا أن نحدد ـ قدر استطاعتنا ، وفي الوقت نفسه حدسا غير يقين ـ ملك مصر الذي عاصر الصديق ، مستعينين في ذلك بقوائم الملوك من تلك الفترة ، ومستعينين في الوقت نفسه بالمصادر الإسلامية ، لوجدنا أن واحدا من ملوك الهكسوس كان يدعي «سا أوسر إن رع ـ خيان» (٢) من ملوك الأسرة الخامسة عشرة الهكسوسية ـ أي في بداءة عصر الهكسوس ـ لوجدنا في الوقت نفسه ، أن المصادر الإسلامية تذكر أن ملك مصر على أيام الصديق ، إنما كان من ملوك العرب ، المعروفين بالرعاة (الهكسوس) (٣) وأنه كان يدعي «الريان» (٤) ، وإني لأظن ـ وليس كل الظن إثما ـ أنه ليس من الصعب كثيرا تصحيف الإسم «ريان» إلى «خيان» وإن كانت هناك قصة قديمة تجعلهم يصلون مصر على أيام الملك (إيبيبي (٥)).

__________________

(١) سليم حسن : مصر القديمة ـ الجزء السابع ـ القاهرة ١٩٥٠ ص ١٠٧ ـ ١٠.

(٢) أنظر : عن هذا الملك : محمد بيومي مهران : حركات التحرير في مصر القديمة ص ١٤٥ ـ ١٤٨ ، وكذا ٦٣.p ، ١٩٥١ ،T .. gsave ـ Saderbergh ,JEA , وكذاA.Gardiner.Egypt of

١٥٨Pharaohs ,p .. وكذا W. C. Hayes, Egypt from the Death of Ammenemes, III, to Seqenenre

٢٢.p ، ١٩٦٥.II ,Cambridge ,

(٣) محمد رشيد رضا : تفسير سورة يوسف ، القاهرة ١٩٣٦ ص ٦٨.

(٤) الإمام الطبري : تاريخ الطبري ١ / ٣٢٥ ـ ٣٣٦ ، تفسير الطبري ١٦ / ١٧ الإمام ابن كثير : قصص الأنبياء ١ / ٣٠٦ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٣٠٦ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٧٥ ـ ٧٦ ، المسعودي : مروج الذهب ١ / ٦١ ، سعد زغلول عبد الحميد : في تاريخ العرب قبل الإسلام ص ١٠٤ (بيروت ١٩٧٥).

(٥) نجيب ميخائيل : مصر والشرق الأدنى القديم ١ / ٤٠٣.

١٠٥

(ب) الرأي الثاني :

ويذهب إلى أن الإسرائيليين قد هبطوا مصر على أيام «أمنحتب الثاني» (١٤٣٦ ـ ١٤١٣ ق. م) وينادى به «برني وجرسمان» ، ذلك أن «برني» كتب في عام ١٩١٨ م مقالا عن الموضوع (١) ، ثم عاد إليه مرة أخرى في عام ١٩٢٠ م في تعليقه على «سفر القضاة» (٢) ، وفيه رأي : أن بعضا من قبائل العبريين قد استقر في مصر على أيام الهكسوس وطردوا منهم وهذا يتفق مع هبوط إبراهيم الخليل ـ عليه‌السلام ـ مصر ، وخروجه منها (٣).

هذا وقد وجد تحوتمس الثالث في فلسطين إحدى المجموعات العبرية ، وتدعى «يعقوب إل» ، بعد أن طردها الآدوميون من كنعان (هروب يعقوب من عيسو) ، ثم غزت البلاد مرة أخرى (غزو الخابير وحوالي عام ١٤٠٠ ق. م) لأن «لابان» ـ صهر يعقوب وخاله ـ كان يتعقبهم (أي القبائل الآرامية وساجاز تل العمرانية) ، وأن هؤلاء الخابير والذين سموا «عابيرو» (العبرانيين) قد وجهوا هجومهم نحو «شكيم» بصفة خاصة ، وأن جماعة منهم ـ متضمنة يوسف ، وربما شمعون ولاوى ـ قد أخذت طريقها نحو مصر أثناء حكم أمنحتب الثاني ، حوالي عام ١٤٣٥ ق. م ، لأن هؤلاء قد استقروا هناك ـ طبقا للترجمة السبعينية ـ مدة ٢١٥ (٤) عاما ، ولكن الجزء الأساسي من الإسرائيليين قد بقي في فلسطين ، ومن ثم فقد ذكر سبط «أشير» في سجلات «سيتي الأول» (١٣٠٩ ـ ١٢٩١ ق. م) ورعمسيس الثاني (١٢٩٠ ـ ١٢٢٤

__________________

(١) ١٩١٨. C.F.Burney ,Israel Settlement in Canaan ,

(٢) ١٩٢٠. C.F.Burney ,the Book of Judges ,

(٣) تكوين ١٢ : ١٠ ـ ٢٠.

(٤) خروج ١٢ : ٤٠ ـ ٤١ ، مع ملاحظة أن بعض المصادر الإسلامية ذهبت إلى هذا الإتجاه (أبو الفداء : المختصر في أخبار البشر ١ / ٢٠ ، ابن حزم الفصل في الملل والأهواء والنحل ـ الجزء الأول ص ١٠).

١٠٦

ق. م) ، والأمر كذلك بالنسبة إلى إسرائيل عصر مرنبتاح ، أو في فترة الاضطرابات التي تلت موته (١).

وأما الملامح الخاصة لنظرية «جرسمان» ، فهي ضغط الأحداث إلى أقصر فترة زمنية ممكنة ، فهو يرى أن الخابير وينتمون إلى موجة من موجات الغزاة الآراميين سابقة للتي أتت بالإسرائيليين ، وأن الأخارى قد وصلوا إلى حدود فلسطين حوالي عام ١٣٠٠ ق. م ، وأن جزءا منهم قد اتجه إلى مصر مباشرة ، وأقاموا هناك فترة جيلين فقط ، وهو الزمن الذي يتطلبه الجزء الأقدم من التقاليد الإسرائيلية (٢) ، ولنقل أنها كانت خمسين عاما ، وأنهم هربوا أثناء حكم فرعون الاضطهاد ، واستقروا في كنعان حوالي عام ١٢٣٠ ق. م ، ومن ثم فليس من الغريب أن يذكر مرنبتاح إسرائيل بين الشعوب التي أخضعها أثناء حملته إلى فلسطين.

على أن هناك كثيرا من العقبات التي تقف في وجه قبولنا لرأي «برني» هذا ، منها (أولا) أنه يتعارض تماما مع التوراة ـ مصدرنا الأساسي في هذه الفترة من تاريخ بني إسرائيل ـ ، ذلك لأن التوراة إنما تذهب إلى أن بني إسرائيل إنما قدموا إلى مصر ، بسبب مجاعة حلت بأرض كنعان ، ثم بدعوة من يوسف ـ عليه‌السلام (٣) ـ وليس بسبب طرد الآدوميين لهم ، ومنها (ثانيا) أنه يختصر مدة إقامة بني إسرائيل في مصر إلى ٢١٥ عاما ، والتوراة صريحة في ذلك ، إذ تحدد مدة إقامتهم ب ٤٣٠ عاما (٤) ـ وإن كان ما ذهب إليه يتفق مع الترجمة السبعينية.

__________________

(١) ١٨٥ ـ ١٨٤.A.Lods ,op ـ cit ,p

(٢) تكوين ١٥ : ١٦ ، خروج ١ : ٦ ـ ٨ ، ٦ : ٢٠.

(٣) سورة يوسف : آية ٥٨ ـ ١٠٠ ، تكوين ٤١ : ٥٦ ـ ٤٥ : ٢٨.

(٤) خروج ١٢ : ٤٠ ـ ٤١.

١٠٧

ومنها (ثالثا) أنها ترتبط بين نزول إبراهيم وخروجه منها ، وبين عهد الهكسوس ، الأمر الذي رفضناه من قبل ، ومنها (رابعا) أنها ترتبط بين روايات إسرائيلية تتعلق بأحداث مبكرة في فلسطين ، وبين قصة دخول الإسرائيليين مصر ، ومنها (خامسا) أنها تجعل دخول الإسرائيليين مصر ، إنما كان مقصورا على أسباط معينة ، علما بأن التوراة تجعل ذلك للإسرائيليين عامة (١).

ومنها (سادسا) أن يوسف الصديق كان ـ كما هو معروف ـ قد شغل منصبا كبيرا في الدولة ، ولم يكن من عامة القوم ، فكيف لم تشر إليه النصوص المصرية؟ وهي التي أشارت كثيرا إلى الوزراء وكبار الموظفين ، بجانب ملوكهم ، وهو أمر قد عللناه في عصر الهكسوس بغموض هذا العصر وضياع آثاره ، وهذا ما لم يقل به أحد ممن أرخوا لعصر أمنحتب الثاني (١٤٣٦ ـ ١٤١٣ ق. م).

أما نظرية «جرسمان» فهي تضغط الأحداث بدرجة كبيرة ، هذا فضلا عن اعتمادها على تفسيرات معينة لنصوص معينة ، وفي نفس الوقت ، فإنها تتجاهل نصوصا أخرى تحدد بصراحة مدة الإقامة ب ٤٣٠ سنة ، أضف إلى ذلك أن تحديدها لدخول بني إسرائيل مصر في عام ١٣٠٠ ق. م ، والخروج بعام ١٢٣٠ ق. م ، يجعل مدة إقامة بني إسرائيل في مصر ، حوالي ٧٠ عاما ، كما يحددها جرسمان نفسه ـ وهو أمر يخالف كل التقاليد العبرية ، بل إن القصة كلها ـ كما يقدمها لنا جرسمان ـ إنما تخالف كل التقاليد اليهودية ، الخاصة بقصة دخول وخروج بني إسرائيل من مصر.

وهكذا يبدو لي أن عصر الهكسوس ـ وليس غيره ـ إنما هو العصر الذي دخل الإسرائيليون فيه أرض الكنانة.

__________________

(١) تكوين ٤٥ : ١٦ ـ ٢٨.

١٠٨

الفصل الثّالث

قصّة يوسف بين آيات القرآن

وروايات التّوراة

١ ـ تمهيد :

من البدهي أن تحمل قصص التوراة بعض أوجه شبه بالقصص القرآني ، وإن كان قليلا ، ذلك لأن التوراة في الأصل ، إنما هي كتاب مقدس ، فالإسلام الحنيف إنما يؤمن بموسى ، كنبي وكرسول وككليم لله تعالى ، ثم يقرر بعد ذلك ، دونما لبس أو غموض ، أن موسى جاءته صحف (١) ، وأنزلت عليه توراة (٢) ، غير أن توراة موسى هذه سرعان ما امتدت إليها أيد أثيمة ، فحرفت وبدلت ، ثم كتبت سواها ، بما يتلائم مع يهود ، ويتواءم مع مخططاتهم ، ثم زعموا ، بعد كل هذا ، أنها التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه‌السلام (٣) (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) (٤).

__________________

(١) سورة النجم : آية ٣٦ ، الأعلى : آية ١٩.

(٢) جاءت كلمة التوراة في القرآن الكريم ١٨ مرة (أنظر : آل عمران : ٣ ، ٤٨ ، ٥٠ ، ٦٥ ، ٩٣ ، المائدة : ٤٣ ، ٤٤ ، ٤٦ ، ٦٦ ، ٦٨ ، ١١٠ ، الأعراف : ١٥٧ ، التوبة. ١١١ ، الفتح : ٢٩ الصف : ٦ الجمعة : ٥).

(٣) قدم المؤلف دراسة مستقلة عن التوراة (أنظر : محمد بيومي مهران : إسرائيل ـ الجزء الثالث ـ الإسكندرية ١٩٧٩).

(٤) سورة الكهف : آية ٥.

١٠٩

والذي تولى هذا التصحيف والتأويل والتعمية ، إنما هي طائفة متخصصة من أحبار يهود ، بغية الحفاظ على مكانتها ومكاسبها ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) (١) ، و (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (٢).

هذا وقد عمد لفيف من رؤسائهم الدينيين إلى أخفاء بعض الأسفار في الهيكل ، وهي التي عرفت بالأسفار الخفية (٣) ، ثم اختلفت نظرتهم إليها ، إذ كان بعضها ، فيما يعتقدون ، غير مقدس ، بينما بعضها الآخر موحي به من عند الله ، وإن رأى الأحبار إخفاءه في الهيكل حتى لا يطلع عليه العامة من القوم ، كما رأوا عدم إدراجه بين أسفار التوراة ، ربما لأن ما به من حقائق لا يتفق وأهواءهم ، وربما لأن ما به من بشارات لا يتلاءم وميولهم العنصرية ، ومن هذا يقول القرآن الكريم (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) (٤) ، ومن ثم فقد كان حكم الإسلام على كتاب اليهود المتداول اليوم ، أنه يحمل بعض لمحات من توراة موسى ، ذلك لأن اليهود إنما قد أوتوا نصيبا منها ، ونسوا نصيبا وخطا ، فلم يحفظوها كلها ، ولم يضيفوها كلها ، وإنما قد حرفوا ما أتوه عن مواضعه تحريفا لفظيا ومعنويا (٥).

ويقول الإمام ابن تيمية : أما من ذهب إلى أنها كلها (أي التوراة) مبدلة من أولها إلى آخرها ، ولم يبق منها حرف إلا بدلوه ، فهذا بعيد ، وكذا

__________________

(١) سورة النساء : آية ٤٦.

(٢) سورة البقرة : آية ٧٩.

(٣) أنظر : عن الأسفار الخفية في التوراة (محمد بيومي مهران : إسرائيل ٣ / ٢١٩ ـ ٢٢٣).

(٤) سورة الأنعام : آية ٩١.

(٥) تفسير المنار ١ / ٢١٣.

١١٠

من قال لم يبدل شيء منها بالكلية بعيد أيضا ، والحق أنه دخلها تبديل وتغيير وتصرفوا في بعض ألفاظها بالزيادة والنقص ، كما تصرفوا في معانيها ، وهذا معلوم عند التأمل (١).

ومن ثم فليس صحيحا ما ذهبت إليه بعض المستشرقين من أن القرآن الكريم قد اعتمد إلى حد كبير في قصصه على التوراة والإنجيل (٢) ، وزاد بعض من تابعهم من الباحثين العرب أن القرآن الكريم جعل هذه الأخبار مطابقة لما في الكتب السابقة ، أو لما يعرفه أهل الكتاب من أخبار ، حتى ليخيل إلينا (أي الباحثين العرب) أن مقياس صدقها وصحتها من الوجهة التاريخية ، ومن وجهة دلالتها على النبوة والرسالة ، أن تكون مطابقة لما يعرفه أهل الكتاب من أخبار (٣).

وذهب الأستاذ مالك بن نبي أن هناك تشابها عجيبا بين القرآن والكتاب المقدس (التوراة والإنجيل) وأن تاريخ الأنبياء يتوالى منذ إبراهيم إلى زكريا ويحيى ومريم والمسيح ، فأحيانا نجد القرآن يكرر نفس القصة ، وأحيانا يأتي بمادة تاريخية خاصة به ، مثل هود وصالح ولقمان وأهل الكهف وذي القرنين (٤) ، ومن عجب أن الدكتور البوطي ينقل عنه ، فيما يزعم ، أن القرآن جاء بقصص الأنبياء والأمم الغابرة ، على نحو يتفق جملة وتفصيلا مع ما أثبتته التوراة والإنجيل من عرض تلك الأخبار والقصص ، وأن ذلك دليلا لا

__________________

(١) ابن كثير : البداية والنهاية ٢ / ١٤٩.

(٢) جولد تسيهر : العقيدة والشريعة تب الإسلام ـ ترجمة محمد يوسف موسى ـ القاهرة ١٩٤٦ ص ١٢ ، ١٥ وكذا : ٦٢ ـ ٦١.p ، ١٩٦٤Alfred Guillaume ,Islam (Pelican Boots) ,

(٣) محمد أحمد خلف الله : الفن القصصي في القرآن الكريم ـ القاهرة ١٩٥٣ ص ٢٢ ، وأنظر ص ٢٧ ، ٢٨ ، ٤٥ ، ١٧٣ ، ١٧٥ ، ١٨٢.

(٤) مالك بن بني : الظاهرة القرآنية ـ ترجمة الدكتور عبد الصبور شاهين ـ بيروت ١٩٦١ ص ٢٥١.

١١١

يقبل الشك بأن هذا القرآن ما كان حديثا يفترى ، ولكنه وحي من الله عزوجل (١) ، ولست أدري كيف نقل البوطي كل ذلك دون تعليق ، والمستشرقون المبغضون للقرآن لم يقولوا أكثر من ذلك ، فضلا عن أن الجملة التي قالها مالك بن بني لا تعني ما ذهب إليه ، وإن اقتربت منه.

وقد ناقشنا ذلك كله في الجزء الأول من هذه السلسلة ، وبيّنا بطلانه ، ثم أثبتنا ذلك البطلان بعقد مقارنة لكثير من قصص الأنبياء ، مثل نوح وإبراهيم وموسى وهارون وداود وسليمان ومريم والمسيح عليهم‌السلام ، كما جاءت في القصص القرآني وروايات التوراة (٢).

(٢) قصة يوسف بين آيات القرآن وروايات التوراة : ـ

لعل قصة يوسف عليه‌السلام ، إنما كانت أكثر القصص الذي طال الجدل واشتد حولها ، حتى زعم «الفرد جيوم» أنها تدل على أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يعرف قصة الآباء الأوائل ، كما جاءت في سفر التكوين من التوراة ، فحسب ، بل إنه يعرف كذلك التطور اليهودي المتأخر للقصة (٣) ، حيث تداخلت مصادر التوراة الثلاثة (إليهوي والإلهيمي والكهنوتي) ، وكونت قصة تكون مزيجا عجيبا من هذه المصادر جميعا (٤).

ولعل أفضل ما نفعله للرد على مزاعم «جيوم» وغيره من المستشرقين ، بل وبعض المسلمين للأسف ، أن نعقد مقارنة بين القصتين ، ذلك لأن قصته التوراة ، وإن كانت تحمل بعض أوجه شبه من القصة القرآنية ، فإن هناك

__________________

(١) محمد سعيد البوطي : من روائع القرآن ـ دمشق ١٩٧٢ ص ٢٢١.

(٢) أنظر : محمد بيومي مهران : دراسات تاريخية من القرآن ـ الجزء الأول ـ في بلاد العرب ـ الرياض : ١٩٨ ص ٤٧ ـ ٨٨.

(٣) مالك بن بني : المرجع السابق ص ٢٥١ وكذا ٦١ A.Guillaume ,op ـ cit ,p.

(٤) أنظر عن مصادر التوراة : محمد بيومي مهران : إسرائيل ٣ / ٩٧ ـ ١٠٦ ، حسن ظاظا : الفكر الديني الإسرائيلي ـ الإسكندرية ١٩٧١ ص ٢٨ ـ ٣١.

١١٢

خلافات جوهرية بين القصتين ، كما جاءت في الذكر الحكيم (سورة يوسف) وفي سفر التكوين من التوراة (الإصحاحات ٣٧ ، ٣٩ ـ ٥٠) ، تثبت ، دونما أي ريب ، أن المصدر الأول لم يعتمد على الثاني ، بل إن سيدنا محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما يؤكد الباحثون من المستشرقين ، حتى المتعصبين منهم ، لم يقرأ التوراة أو أي كتاب آخر من كتب أهل الكتاب (١).

وأما هذه الخلافات الجوهرية بين قصة يوسف القرآنية ، وتلك التي جاءت في التوراة ، فمنها (أولا) تلك الملامح الروحية التي تتميز بها القصة القرآنية ، فضلا عن أن شخصية يوسف النبي ، أكثر وضوحا في القصة القرآنية ، منها في رواية التوراة ، ومنها (ثانيا) أن حب يعقوب ليوسف إنما تصوره التوراة ، على أن الصديق إنما كان يأتي لأبيه «بنميمة أخوته الرديئة» ، ولأنه ابن شيخوخته ، في الدرجة الأولى ، ثم رؤيا يوسف في الدرجة الثانية (٢) ، وأما في القرآن الكريم ، فإن السبب إنما هو الرؤيا الصادقة ، ثم إحساس عميق من يعقوب النبي ، بما سوف يكون للصديق من مستقبل في عالم النبوة وتأويل الأحاديث (٣) ، ومنها (ثالثا) أن القرآن الكريم وحده هو الذي يشير إلى أن مؤامرة إخوة يوسف عليه ، إنما بدأت قبل أن يذهب معهم ، فضلا عن توضيح رأي أبناء يعقوب في أبيهم ، ولنقرأ هذه الآيات الكريمة (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ، إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ

__________________

(١) راجع عن تفسير سورة يوسف : تفسير المنار ١٢ / ٢٥١ ـ ٣٢٤ ، ١٣ / ١ وما بعدها+ تفسير سورة يوسف لرشيد رضا ، تفسير البيضاوي ١ / ٤٨٦ ـ ٥١١ ، تفسير الطبري ١٢ / ١٤٩ ـ ٢٣٨ ، ١٣ / ١ ـ ٩١ ، تفسير القرطبي ٩ / ١١٨ ـ ٢٧٧ ، تفسير الألوسي ١٢ / ١٧٠ ـ ٢٦١ ، ١٣ / ١ ـ ٨٤ مؤتمر تفسير سورة يوسف (جزءان) ، تفسير النسفي ٢ / ٢١٠ ـ ٢٤١.

(٢) تكوين ٣٧ : ٢ ـ ١١.

(٣) سورة يوسف : آية ٦.

١١٣

اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) (١).

ومنها (رابعا) إن قصة التوراة تذهب إلى أن يعقوب هو الذي طلب من يوسف أن يذهب إلى إخوته الذين يرعون أغنامهم عند شكيم (٢) ـ والتي يحتمل أنها تل بلاطة شرق نابلس الحالية ـ بينما يرى القرآن الكريم أن أخوة يوسف هم الذين طلبوا من أبيهم أن يذهب يوسف معهم ، لأن أباه إنما كان يخشى عليه من حقدهم ، (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ، أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٣) ، ومنها (خامسا) أن القرآن الكريم إنما يشير إلى ارتياب يعقوب في بنيه عقب تنفيذ المؤامرة ـ فضلا عن ارتيابهم في أنفسهم ـ (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ ، وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ، قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) (٤) ، بينما تشير رواية التوراة إلى سرعة تصديق يعقوب لفرية أولاده ، ويأسه عقب المؤامرة (٥) ، «فتحققه (أي قميص يوسف) وقال قميص ابني وحش رديء أكله ، افترس يوسف افتراسا فمزق يعقوب ثيابه ووضع مسحا على حقويه ، وناح على ابنه أياما كثيرة» ومنها (سادسا) أن الحيوان الذي ألصقت به تهمة قتل يوسف ، إنما هو «تيس من المعزى» في التوراة (٦) ، ولكنه الذئب في القرآن الكريم (٧).

ومنها (سابعا) أن التوراة في عرضها لقصة يوسف مع امرأة العزيز ، لم

__________________

(١) سورة يوسف : آية ٧ ـ!.

(٢) تكوين ٣٧ : ١٢ ـ ١٦.

(٣) سورة يوسف : آية ١١ ـ ١٢.

(٤) سورة يوسف : آية ١٧ ـ ١٨.

(٥) مالك بن بني : المرجع السابق ص ٣٠٢.

(٦) تكوين ٣٧ : ٣٣ ـ ٣٤.

(٧) سورة يوسف : آية ١٣ ـ ١٤ ، ١٧.

١١٤

تحاول أن تركز على براءة يوسف ، كما فعل القرآن الكريم الذي عرض البراءة في جلاء ووضوح ، ومنها (ثامنا) أن القرآن الكريم يصور لنا يوسف بعد حادث المراودة ، وهو يفر من أمام امرأة العزيز ، غير أنها سرعان ما تلحق به ، فتتعلق بقميصه ، ويتمزق منه ما علقت يدها به ، وهنا يصل العزيز ويفاجأ بما لا يتصوره ، فتبادر المرأة إلى دفع التهمة عن نفسها ، وترمي بها على يوسف في جرأة ، ثم لا تنتظر رأي العزيز في صحة الاتّهام ، فتغريه به وتعمل على توكيده في نفسه ، بأن تطلب إليه رأيه في الجزاء الذي يجزّى به هذا المتهم (١) ، يقول تعالى : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢) ، بينما تتجاهل رواية التوراة حضور العزيز ، وتذهب إلى أن امرأة العزيز قد أخبرت أهل البيت بأن الرجل العبراني قد حاول الاعتداء عليها ، وأنه لم يتركها إلا بعد أن استغاثت بمن في البيت ، ومن ثم فقد ترك ثوبه وخرج ، وأبقت الثوب حتى إذا ما جاء بعلها أخبرته أن عبده العبراني حاول الاعتداء على شرفها ولما صرخت ترك ثوبه بجوارها وفر هاربا ، ولعل من المفيد هنا الإشارة إلى ما في النص التوراتي من اضطراب ، فمرة لا يوجد أحد في البيت ، ومرة أخرى ، فإن البيت مليء بأهله ، ومرة يوصف يوسف بأنه رجل عبراني ، وأخرى عبد عبراني وفرق بين العبارتين في مثل هذه الحالة النفسية (٣).

ومنها (تاسعا) أن القرآن الكريم وحده هو الذي يشير إلى أن الله سبحانه وتعالى ـ قد أظهر براءة يوسف على يد شاهد من أهل امرأة العزيز

__________________

(١) عبد الكريم الخطيب : القصص القرآني ص ١٠٠.

(٢) سورة يوسف : آية ٢٥.

(٣) تكوين ٣٩ : ١١ ـ ١٨.

١١٥

نفسها ، تروي كتب التفسير أنه صبي في المهد ، وذلك حين قال (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ ، وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ، قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (١) ، كما شهدت ببراءته النسوة للآتي قطعن أيديهن بقولهن (حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) (٢) ، بينما لم تذهب التوراة إلى أكثر من أن العزيز حين سمع بالقصة لم يزد عن «أن غضبه حمى ، فأخذ يوسف ووضعه في بيت السجن (٣)».

ومنها (عاشرا) أن القرآن الكريم وحده هو الذي يشير إلى أن عزيز مصر ، حينما عرف الحقيقة ، فإذا به يطلب من يوسف كتمان الأمر ، وعدم إذاعته بين الناس ، وفي نفس الوقت فإنه يتجه إلى امرأته يأمرها أن تستغفر لذنبها وأن تتوب إلى ربها (٤) ، فإن العبد إذا تاب إلى الله تاب الله عليه ، وأهل مصر ـ وإن كانوا وقت ذاك غير موحدين ـ إلا أنهم إنما كانوا يعلمون أن الذي يغفر الذنوب ويؤاخذ بها ، إنما هو الله وحده ، لا شريك له في ذلك (٥) ، ومنها (حادي عشر) أن التوراة لم تتعرض لحادث النسوة اللاتي أخذن يرددن في المدينة ، (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا ، إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً ، وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ، وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً ، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (٦).

__________________

(١) سورة يوسف : آية ٢٦ ـ ٢٨.

(٢) سورة يوسف : آية ٥١.

(٣) تكوين ٣٩ : ١٩ ـ ٢٠.

(٤) سورة يوسف : آية ٢٩.

(٥) ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ٢٠٤ التفسير ٤ / ٢٢.

(٦) سورة يوسف : آية ٣٠ ـ ٣١.

١١٦

ومنها (ثاني عشر) أن القرآن الكريم وحده هو الذي يشير إلى أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ قد فضل السجن ، على أن يقترف الفاحشة ، وذلك حين خيّر بين أن تنال المرأة منه ما تريد ، وإلا فإن أبواب السجن مفتوحة على مصراعيها لاستقباله ، (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ، فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١).

ومنها (ثالث عشر) إن القرآن الكريم وحده هو الذي يشير إلى أن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ حينما فقد في عاصفة هو جاء من عواصف الفتنة والحسد ، أعز فلذات كبده ـ يوسف الصديق ـ لم يغلبه الحزن الذي عصف بقلبه ، على الصبر الذي ملأ كيانه (٢) ، فإذا به يتقبل المأساة بما يتفق ومكان النبوة السامي ، (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (٣) ، بينما تصوره التوراة في صورة لا نرتضيها للنبي الكريم ، «فأبى أن يتعزى ، وقال إني أنزل إلى ابني نائحا إلى الهاوية» (٤) ، وحين تتكرر المأساة مرة أخرى ، ويفقد يعقوب بنيامين ـ كما فقد يوسف من قبل ـ فإن الجواب في القرآن الكريم ، (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (٥) ، وأما الجواب في التوراة ـ وحتى قبل وقوع الكارثة ـ «إذا أصابته أذية تنزلون شيبتي بشر إلى الهاوية» (٦) ، بل إن القرآن الكريم ليشير بوضوح إلى أن مر السنين ، وكر الأيام ، لا يفقد الأمل في نفس النبي الكريم ،

__________________

(١) سورة يوسف : آية ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) عبد الكريم الخطيب : المرجع السابق ص ٢١١.

(٣) سورة يوسف : آية ١٨.

(٤) تكوين ٣٧ : ٣٥.

(٥) سورة يوسف : آية ٨٣.

(٦) تكوين ٤٢ : ٣٦ ـ ٣٨ ، ٤٤ : ٢٩ ـ ٣١.

١١٧

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ ، إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) بينما تنعى التوراة على موت يوسف «لا ينزل ابني معكم ، لأن أخاه (أي يوسف) قد مات ، وهو وحده باق».

ومنها (رابع عشر) أن القرآن وحده هو الذي يشير إلى أن يوسف قد تنبأ بعام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ، بعد سبع سنوات من القحط (١) ، ومنها (خامس عشر) أن القرآن وحده هو الذي يشير إلى أن يوسف بعد أن فسر الحلم لملك مصر ، ورسم له الطريق الصحيح للخروج من الأزمة بسلام ، رفض في إباء وشمم أن يقبل المنصب الخطير الذي عرض عليه ، حتى يتحقق الملك ورجاله ـ بل والناس جميعا ـ من براءته ونزاهة عرضه ، مما نسب إليه بشأن امرأة العزيز ، وكان سببا في أن يلبث في السجن بضع سنين ، (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) (٢) ، والآية الكريمة تفيد أن يوسف لم يشأ أن يقال عنه مجرم سرّ منه الملك ، فعفا عن جريمته وأخرجه من السجن ، وتجيء الشواهد كلها ـ بعد بحث دقيق ـ بعفة الصديق وطهارته ، وعندئذ يتقدم الصديق في ثقة وثبات ، (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ، وهكذا يتحمل يوسف المسئولية كاملة في صدق وشجاعة ، وينجح آخر الأمر في أن يرسي السفينة على مرفإ الأمن والسلامة (٣) ، والأمر عكس ذلك تماما في التوراة ، فما أن يفسر الصديق الحلم للملك ، وما أن يعرض الملك الأمر عليه ، حتى يقبله فورا (٤).

__________________

(١) سورة يوسف : آية ٤٧ ـ ٤٩.

(٢) سورة يوسف : آية ٥٠ ، وأنظر : تفسير الطبري ١٦ / ١٣٣ ـ ١٣٧.

(٣) سورة يوسف : آية ٤٦ ـ ٥٧.

(٤) تكوين ٤١ : ٣٧ ـ ٤٦.

١١٨

ومنها (سادس عشر) أن قصة يوسف إنما تشير إلى أن المصريين ، ربما كانوا يعيشون في حرية شخصية إلى حد ما ، حتى مع نفس الملك القابض على السلطة في مصر ، وإن هذا الملك قد قبل أن يأمر بشيء في حق عبد دخيل ، فيأبى عليه ذلك العبد امتثال أمره ، إلا بعد إجراء التحقيق ، مع أنه يمكنه الجمع بين امتثال إرادة الملك وأجراء التحقيق ، بأن يبادر يوسف بالخروج من السجن ، ثم يطلب من الملك التحقيق في قضيته (١).

ومنها (سابع عشر) إن التوراة لم تشر إطلاقا إلى قيام يوسف ـ عليه‌السلام ـ بدعوة التوحيد ، بعكس القرآن الكريم الذي يشير إلى أن الصديق قد انتهز الثقة المكينة التي اكتسبها بين السجناء ، بسبب تفسير الرؤيا وتأويل الأحلام ، فيقوم بدعوته الدينية ، شارحا عقيدة الأنبياء جميعا في وحدانية الله الخالق العظيم. وهاتفا بمستمعيه (٢) ، (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ، ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ، ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ، يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ، ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣) ، وذلك لأن يوسف لم يكن عالما يؤول الرؤيا فحسب ، بل كان رسولا مصلحا ، فما كان يرى فرصة يتنفس فيها برسالته إلا انتهزها ، ولا نهزة صالحة للدعوة إلا علق بها (٤) ، ولهذا فإن الإشارة إلى

__________________

(١) مؤتمر تفسير سورة يوسف ٢ / ٨٣٩.

(٢) محمد رجب البيومي : البيان القرآني ص ٢٢٥ عبد الوهاب النجار : قصص الأنبياء ص ١٤٠.

(٣) سورة يوسف : آية ٣٧ ـ ٤٠.

(٤) محمد أحمد جاد المولي وآخرون : قصص القرآن ص ١٠٣.

١١٩

الآخرة في قصة يوسف مقصورة على القرآن (١) دون التوراة.

ومنها (ثامن عشر) إن القرآن الكريم هو وحده الذي يشير إلى إعلان امرأة العزيز براءة يوسف ، وأنها هي التي راودته عن نفسها ، (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ، ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) (٢) ، وهكذا تقدم لنا القصة القرآنية امرأة العزيز ، وهي تتحدث بلغة تليق بضمير إنساني وخزه الندم وأرغمته طهارة التضحية ونزاهتها على الاستسلام للحق ، فإذا بالخاطئة تعترف في النهاية بغلطتها وتقر بخطيئتها (٣).

ومنها (تاسع عشر) إن يوسف عليه‌السلام قد وصف في القرآن الكريم بالصديق وبالعزيز (٤) ، وفي التوراة بـ «صفنات فعنج» (٥) ، ومنها (عشرون) إن القرآن الكريم وحده هو الذي يتحدث عن نبوة عزيز مصر الصادقة في يوسف الصديق ، (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ، وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٦) ، ومنها (واحد وعشرون) أن القرآن الكريم وحده هو الذي يشير في ختام قصة يوسف مع أبيه وأخوته إلى تحقيق حلمه الأول ، (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ ، وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ، وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ

__________________

(١) سورة يوسف : آية ٥٧.

(٢) سورة يوسف : آية ٥١ ـ ٥٢.

(٣) مالك بن نبي : الظاهرة القرآنية ص ٣٠٤ ـ ٣٠٥.

(٤) سورة يوسف : آية ٤٦ ، ٨٨.

(٥) تكوين ٤١ : ٤٥.

(٦) سورة يوسف : آية ٢١.

١٢٠