دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٢

أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ، إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ، رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً ، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (١).

ومنها (اثنان وعشرون) أن قصة التوراة تتحدث دائما عن ملك مصر ، على أنه فرعون مصر (٢) ، بينما يتحدث القرآن على أنه الملك وليس الفرعون (٣) ، ويرى الأستاذ حبيب سعيد أن هذه كانت هي العادة المتبعة في القرنين التاسع عشر والثامن عشر ق. م (٤) ، والحقيقة غير ذلك تماما ، فمن المعروف تاريخيا أن كلمة «فرعون» في صيغتها المصرية ، «بر ـ عا» أو «بر ـ عو» ، كانت تعني ـ بادئ ذي بدء ـ البيت العالي ، أو البيت العظيم ، وكانوا يشيرون بها إلى القصر الملكي ـ وليس إلى ساكنه ـ ثم سرعان ما تغيرت وغدت تعبيرا محترما ، يقصد به الملك نفسه ، وذلك منذ الأسرة الثامنة عشرة (٥) ، وأما متى حدث هذا التغيير في استعمال لقب فرعون ، فإن «سير ألن جاردنر» ـ العالم الحجة في اللغة المصرية القديمة ـ يحدد ذلك بعهد الفرعون «تحوتمس الثالث» (١٤٩٠ ـ ١٤٣٦ ق. م) ، حيث بدئ في إطلاق الاصطلاح «أي فرعون» على الملك نفسه ثم في عهد الداعية الديني المشهور «أخناتون» (١٣٦٧ ـ ١٣٥٠ ق. م) ، مستندا في ذلك على خطاب من عهده ، ثم استعمل منذ الأسرة التاسعة عشرة (١٣٠٨ ـ ١١٨٤ ق. م)

__________________

(١) سورة يوسف : آية ٩٩ ـ ١٠١ ، وأنظر : تفسير الطبري ١٦ / ٢٦٤ ـ ٢٧٧ (دار المعارف ـ القاهرة ١٩٦٩).

(٢) تكوين ٤٠ : ٧ ـ ٤١ : ١٥ ، ٤٦ : ٣١ ـ ٥٠ : ٧.

(٣) سورة يوسف : آية ٤٣ ، ٥٠ ، ٥٤ ، ٧٢ ، ٧٦.

(٤) حبيب سعيد : المدخل إلى الكتاب المقدس ص ٧٦.

(٥)١٠٢.p ، ١٩٦٣.J. A. Wilson, The Culture of Ancient Egypt, Chicago ,

١٢١

وفيما بعد ، في بعض الأحايين ، كمرادف لكلمة «جلالته» ، ومن هذا الوقت أصبحنا نقرأ : «خرج فرعون» و «قال فرعون ... وهكذا (١)».

ومن ثم ، فإن القرآن الكريم ـ فيما يبدو لي ـ أراد أن يفرق بين حاكم مصر الأجنبي على أيام يوسف الصديق في عهد الهكسوس (٢) فأطلق عليه لقب «ملك» ، وبين حاكم مصر الوطني على أيام موسى ـ مثلا ـ الذي أطلق عليه لقب «فرعون» ، وهو اللقب الذي كان يطلق على ملوك مصر منذ عهد إخناتون ، هذا فضلا عن أن ذلك من إعجاز القرآن ، الذي لا إعجاز بعده ، وإذا ما عدنا إلى التوراة ، لوجدنا أن الحقائق التاريخية تقف ضد ما أوردته التوراة بشأن استعمال لقب فرعون ، إذ أنها تستعمله حين يجب أن تستعمل لقب ملك ، وذلك قبل الأسرة الثامنة عشرة ، وتستعمل لقب ملك حين يجب أن تستعمل لقب فرعون ، وذلك منذ عهد الأسرة الثامنة عشرة (١٥٧٥ ـ ١٣٠٨ ق. م) ، وفيما بعدها.

ومنها (ثلاث وعشرون) أن رؤيا يوسف في القرآن الكريم واحدة (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) ، بينما هي في التوراة حلمان ، الواحد رأى فيه يوسف أنه وإخوته حازمون حزما في الحقل ، وأن حزمته قامت وانتصبت فاحتاطت حزم أخيه فسجدت حزمهم لحزمته ، فقاله إخوته ألعلك تملك علينا ملكا أم تتسلط علينا

__________________

(١) ٥٢.p ، ١٩٦٤ A.H.Gardiner ,Egypt of the Pharaohs ,Oxford , وكذا

٧٥.p ، ١٩٦٦.A.H.Gandiner ,Egyptian Grammar ,oxford ,

(٢) حوالي (١٧٢٥ ـ ١٥٧٥ ق. م) ، وأنظر آراء أخرى في كتابنا «حركات التحرير في مصر القديمة» دار المعارف ١٩٧٦ ص ١٣٧ ـ ١٣٨ ، وكذا D. B. Redford, The Hyksos. Invasion in

وكذا J. Bottero The Near East The Arly Civilization,

٢٣p ، ١٩٧٠History and Tradition ,

٣٩٣.p ، ١٩٦٧. وكذا ١٥٩J.A Wilson op ـ cit ,p وكذا A.H.Gardiner ,Egypt of ١٦٥ .. the Pharaohs ,p.

١٢٢

تسلطا ، فازدادوا له بغضا من أجل أحلامه ومن أجل كلامه ، والثاني. رأى فيه يوسف أن الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا ساجدة له ، ولما قصه على أبيه وإخوته نهره أبوه وقال له : ما هذا الحلم الذي حلمت هل نأتي أنا وأمك وإخوتك لنسجد لك إلى الأرض ، فحسده إخوته ، وأما أبوه فحفظ الأمر ، وأما القرآن الكريم فيقول (يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (١).

ومنها (أربع وعشرون) أن الجب الذي ألقى فيه يوسف إنما هو في التوراة بئر فارغة ليس بها ماء ، ولكنه في القرآن إنما كان به ماء (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ) (٢) ، ومنها (خمس وعشرون) أن الذي اشترى يوسف من مصر ، إنما هو في التوراة رئيس الشرطة ، وهو العزيز في القرآن الكريم ، وفرق كبير بين المنصبين (٣) ، ومنها (ست وعشرون) أن التوراة تذهب إلى أن يوسف دخل السجن بمجرد أن سمع العزيز كلام امرأته ، ودونما أي تحقيق ، ذلك «أن غضبه حمى ، وأخذ يوسف ووضعه في بيت السجن المكان الذي كان أسرى الملك محبوسين فيه» ، بينما يؤكد القرآن الكريم أن الصديق قد أودع السجن ، بعد ما ظهرت أدلة براءته ، كقد القميص وقطع الأيدي وشهادة الصبي وغير ذلك (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (٤) ، وهذا يدل على أن سجن الصديق لم يكن بسبب غضب فجائي من العزيز للموقف المخزي الذي رأى فيه امرأته ، وإنما تم ذلك بتدبير وتخطيط الهدف منه أن ينسى الناس قصة أو قل فضيحة امرأة العزيز التي لاكتها الألسن كثيرا بين أوساط الناس.

__________________

(١) سورة يوسف : آية ٤ ـ ٥ ، تكوين ٣٧ / ٥ ـ ١١.

(٢) سورة يوسف : آية ١٩ ، تكوين ٣٧ / ٢٤.

(٣) سورة يوسف : آية ٢١ ، ٣٠ ـ تكوين ٣٧ / ٣٦.

(٤) سورة يوسف : آية ٢٣ ـ ٣٥ ، تكوين ٣٩ / ٧ ـ ١٩.

١٢٣

ومنها (سبع وعشرون) أن رؤيا الملك في القرآن واحدة ، وأما في التوراة فقد رأى الملك رؤياه على مرتين ، في الأولى رأى البقرات السبع السمان يأكلهن سبع عجاف ، ثم نام فرأى السنابل الرقيقة تبتلع السنابل السمينة وقد علّلت التوراة تكرار حلم الملك مرتين ، وفي صورتين مختلفتين ، «لأن الأمر مقرر من قبل الله ، والله مسرع ليصنعه» (١) ، ومنها (ثمان وعشرون) أن التوراة تذهب إلى أن فرعون قد أرسل إلى يوسف في السجن من يستدعيه لتأويل رؤياه «فأسرعوا به من السجن ، فحلق وأبدل ثيابه ودخل على فرعون» ، وفسر له حلمه ، ثم اقترح عليه أن يختار رجلا بصيرا وحكيما ويجعله على أرض مصر (٢) ، على أن القرآن الكريم (٣) على غير ذلك ، فصاحب يوسف الذي نجا من السجن هو الذي أشار على الملك أن يرسله إلى الصديق ليعرف منه تأويل رؤيا الملك ، وأن يوسف لم يذهب إلى الملك ، وإنما فسر الحلم ، بل وأشار بالحل الذي يمكّن البلاد من اجتياز هذه المحنة ، وبشر بعام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ، وهو ما يزال بعد في زوايا الأرض سجينا (٤) ، ومنها (تسع وعشرون) أن القرآن الكريم إنما يذكر أن يوسف الصديق إنما أمر بوضع صواع (مكيال) الملك في رحل أخيه ، بينما تذكر التوراة أنه أمر بوضع طاسة الفضة في رحل أخيه بنيامين (٥).

ومنها (ثلاثون) أن القرآن الكريم يشير إلى أن الصديق عليه‌السلام ، لما اتهم إخوته بسرقة صواع الملك سألهم رجاله (فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ ، قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) ،

__________________

(١) سورة يوسف : آية ٤٣ ، تكوين ٤١ / ١ ـ ٧ ، ٢٣.

(٢) تكوين ٤١ / ١٤ ـ ٣٦.

(٣) سورة يوسف : آية ٤٥ ـ ٤٨.

(٤) سورة يوسف : آية ٤٩.

(٥) سورة يوسف : آية ٧٠ ـ ٧٢ ، تكوين ٤٤ / ٢.

١٢٤

وأما في التوراة فقد قال إخوة يوسف ، دون أن يسألهم أحد عن عقاب من يوجد عنده صواع الملك ، «الذي يوجد معه من عبيدك (يعنون أنفسهم) يموت ، ونحن أيضا نكون عبيدا لسيدي ، قال نعم الآن بحسب كلامكم هذا يكون ، الذي يوجد معه يكون لي عبدا ، وأما أنتم فتكونون أبرياء» ، ومع ملاحظة التناقض في نص التوراة ، فهي تذكر أن من يوجد معه يحكم عليه ، بالموت ، بينما يصبح الباقون أبرياء ، فإن حكم يوسف عليهم أن من وجد معه يصبح وحده عبدا له ، وأما الباقون فأبرياء ، رغم هذا التناقض ، فإن التوراة لم تذكر ما أضافه القرآن الكريم عن أن ذلك القانون إنما كان شريعتهم هم ، وما كان يطبق في الشرائع المصرية ، ومن ثم فما كان من حق يوسف عليه‌السلام أن يأخذ أخاه في دين الملك ، لأنه لم يكن من حكم ذلك الملك المصري وقضائه أن يسترق أحد بالسرقة ، فضلا عن أن يحكم عليه بالموت (١).

ومنها (واحد وثلاثون) أن القرآن وحده من دون التوراة ، هو الذي أشار إلى أن إخوة يوسف سرعان ما قالوا ، عند ما وجد صواع الملك في رحل أخيهم بنيامين «إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل» (يعنون يوسف عليه‌السلام) ، (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ ، قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) (٢) ، ومنها (اثنان وثلاثون) أن القرآن وحده ، من دون التوراة ، هو الذي أشار إلى قول يعقوب لبنيه (يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ ، وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٣).

__________________

(١) سورة يوسف : آية ٧٤ ـ ٧٦ ، تكوين ٤٤ / ٩ ـ ١٠.

(٢) سورة يوسف : آية ٧٧.

(٣) سورة يوسف : آية ٦٧.

١٢٥

ومنها (ثلاثة وثلاثون) أن القرآن الكريم وحده ، من دون التوراة ، هو الذي أشار إلى قول إخوة يوسف (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) ، ولما كانوا يخشون أن يكذبهم ، نظرا لتجربة يوسف السابقة ، فإنهم طلبوا منه أن يسأل القرية التي كانوا فيها ، (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (١) ، ومنها (أربع وثلاثون) أن القرآن الكريم يشير إلى أن الصديق هو الذي سأل إخوته عما فعلوه به وبأخيه فعرفوه ، ثم اعترفوا بخطئهم في حقه ، وأن الله تعالى قد آثره عليهم ، وحينئذ عفا يوسف عنهم (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ، قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ ، قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ، وأن ذلك إنما قد حدث بعد أن أخذ يوسف أخاه منهم ، وبعد أن عادوا إلى أبيهم وأعلموه أن ابنه سرق ، وفي التوراة ، فإن يوسف هو الذي قدّم نفسه لهم ، بعد أن أحضروا أخاهم ، وقبل أن يعودوا إلى أبيهم ، وبعد أن سألهم عن أبيهم وهل ما يزال حيا ، وأنهم ارتاعوا منه ، ولم يستطيعوا أن يجيبوه (٢).

ومنها (خمس وثلاثون) أن القرآن الكريم وحده ، من دون التوراة ، الذي يشير إلى أن يوسف عليه‌السلام بعد أن عفا عن إخوته ، وأكرم وفادتهم ، قال (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ، وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ ، قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ، فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى

__________________

(١) سورة يوسف : آية ٨١ ـ ٨٢.

(٢) سورة يوسف : آية ٨٩ ـ ٩٢ ، تكوين ٤٥ / ١ ـ ١٤.

١٢٦

وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (١). وأما كيف عرف يوسف أن رائحته سترد على أبيه بصره الكليل ، فلقد سبق أن أشرنا أن ذلك مما علمه الله والمفاجأة تصنع في كثير من الحالات فعل الخارقة ، وما لها لا تكون خارقة ، ويوسف نبي رسول ، ويعقوب نبي رسول (٢).

وأخيرا فإن القرآن الكريم إنما يختم قصة يوسف عليه‌السلام ، بقول الله تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) ، أي ذلك الذي أخبرناك عنه يا محمد من أمر يوسف وقصته من الأخبار المغيبة التي لم تكن تعلمها قبل الوحي ، وإنما نعلمك نحن بها على أبلغ وجه ، وأدق تصوير ، ليظهر صدقك في دعوى الرسالة (٣).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن التوراة إنما قد انفردت ، من دون القرآن الكريم ، بأمور ، تتفق في بعضها وخلق يهود ، وتبتعد في بعضها الآخر عن الحقائق التاريخية ، ومن هذه الأمور (أولا) أن التوراة في عرضها لقصة يوسف الصديق ، عليه‌السلام ـ بعكس القرآن الكريم ـ إنما تعطي تأكيدا يكشف عن مطامع يهود في مصر ، ولنقرأ هذا النص «خذوا أباكم وبيوتكم وتعالوا إليّ فأعطيكم خيرات أرض مصر ، وتأكلون دسم الأرض ... خذوا لكم من أرض مصر عجلات لأولادكم ونسائكم واحملوا أباكم وتعالوا ، ولا تحزن عيونكم على أثاثكم ، لأن خيرات جميع أرض مصر لكم» (٤) ، كما لم تهمل التوراة كذلك أن تؤكد أن رحلة هؤلاء المجهدين

__________________

(١) سورة يوسف : آية ٩٣ ـ ٩٦.

(٢) في ظلال القرآن ٤ / ٢٠٢٧.

(٣) سورة يوسف : آية ١٠٢ ، صفوة التفاسير ٢ / ٦٩.

(٤) تكوين ٤٥ : ١٨ ـ ٢٠.

١٢٧

الجياع إلى مصر ، إنما كانت للقوت ، ولكنها تؤكد أيضا أنها لتحقيق مؤامرة على الأرض التي استضافتهم (١).

ومنها (ثانيا) أن التوراة تزعم أن يوسف قد اشترى كل أرض مصر ـ من عليها وما عليها ـ للفرعون (وهو اصطلاح لم يكن قد أستعمل في مصر بعد ، كما أشرنا آنفا) يعد أن امتلأت الأرض جوعا (٢) ، الأمر الذي لم يثبت تاريخيا ، فضلا عن أنني ـ علم الله ـ لست أدري : لما ذا تريد التوراة ـ أو بالأحرى يريد كاتبوها ـ أن يصوروا النبي الكريم في صورة صوت عذاب المصريين ، يستغل حاجتهم للمقومات الضرورية للحياة نفسها ، فيستولي على أرض مصر كلها ـ باستثناء أرض الكهانة ـ لمصلحة الملك الهكسوسي؟. ثم وهل كان ملك مصر على أيام الهكسوس ـ وهو العصر الذي نرجع فيه دخول بني إسرائيل إلى أرض الكنانة (٣) ـ يسيطر على مصر كلها ، حتى يستولي له يوسف ـ عليه‌السلام ـ على كل حال أراضيها؟.

إن جمهرة المؤرخين ، إنما ترى أن الهكسوس لم يمدوا نفوذهم أبدا إلى أبعد من القوصية (٤) جنوبا ، اللهم إلا في احتلال مؤقت قصير لإقليم (بي حتحور) ، قام به «أبو فيس» ـ ربما آخر من حمل هذا اللقب ـ وليس هناك من دليل حقيقي على أن غيره من الهكسوس قد تم له هذا الأمر (٥) ، أما أمر جبايتهم للضرائب من مصر العليا والسفلى على السواء ، فموضع شك على الأقل ، ذلك لأن وجهة النظر التي ترى احتلال الهكسوس للبلاد كلها ، ليست سوى وهم قضى عليه النص الكبير للملك «كاموزا» الذي يتضمن في وضوح

__________________

(١) تكوين ٤٦ : ١ ـ ٤.

(٢) تكوين ٤٧ : ١٣ ـ ٢٦ ، وأنظر تفسير الخازن ٣ / ١٩٣.

(٣) راجع كتابنا «إسرائيل» ص ٢٣٧ ـ ٢٤٥ ، وأنظر.

(٤).Pahor Labib, Die Herrschaft der Hyksos in Aegypten und ihr Sturz, p. FF١٨.

(٥).A.H.Gardiner ,op ـ cit ,p ، ١٦٨.

١٢٨

أن الغزاة لم يتقدموا إطلاقا فيما وراء جبلين ، والذي يشير إلى أنهم اضطروا بعد قليل إلى إرساء حدهم عند «خمون» (الأشمونين مركز ملوي) (١).

ومنها (ثالثا) أن التوراة تصور لنا شعور المصريين تجاه الإسرائيليين بأنه شعور عدائي ، أو على الأقل غير ودي ، منذ اللحظة الأولى التي قدم الإسرائيليون فيها بأخيهم بنيامين ، إذ نرى يوسف يولم وليمة تكريم لأخيه ، ولكنه يضطر إلى أن تكون له وليمة خاصة ، وثانية لإخوته ، وثالثة للمصريين ، وذلك «لأن المصريين لا يقدرون أن يأكلوا طعاما مع العبرانيين ، لأنه رجس عند المصريين» (٢) ، وهكذا تبدو نظرة المصريين للعبرانيين واضحة لنا منذ أول لقاء بينهما ، وفي ضيافة يوسف العبراني نفسه ، وهي نظرة لا تدل بحال من الأحوال على احترام المصريين للعبرانيين ، وإنما تدل على أنفة المصريين وتأبيهم عن مخالطة العبرانيين ، وعدم استعدادهم حتى للأكل معهم ، رغم أنهم يعرفون أنهم إخوة يوسف عزيز مصر وقت ذاك ، والأمين على خزائنها ، والأثير عند مليكها ، وليس من شك أن هذا إن دلّ على شيء ، فإنما يدل على أن القطيعة بين الفريقين كانت واضحة لا تحتاج إلى بيان (٣).

ومنها (رابعا) أن التوراة قد حددت اسم من اشترى يوسف ووظيفته ، وأنه «فوطيفار خصي فرعون رئيس الشرطة» (٤) وبدهي أن القرآن الكريم لم يفعل ذلك ، لأنه ـ كما قلنا من قبل ـ ليس كتاب حوادث وتواريخ ، وإنما قصصه للعبرة والعظة ، وإن لقّبه «بالعزيز» ، ولا شأن للقرآن بروايات

__________________

(١) ١٦٨ Ibid ,P وكذا كتابنا «حركات التحرير في مصر القديمة» ص ١٤٣ ـ ١٤٥.

(٢) تكوين ٤٣ : ٣٢ ، قارن : الظاهرة القرآنية ص ٣٠٥.

(٣) كتابنا «إسرائيل» ص ٢٤٣ (الإسكندرية ١٩٨٣).

(٤) تكوين : ٣٩ : ١.

١٢٩

المفسرين عن اسمه واسم ملك مصر في عهده واسم امرأة العزيز ، فتلك اجتهادات ، وفوق كل ذي علم عليم (١).

وهنا لنا أن نتساءل عن وصف التوراة لفوطيفار بأنه «خصي فرعون» (٢)؟ وهل يتزوج الخصيان؟ والحق أنني لست أدري كيف دار في خلد كاتب التوراة أن رئيس الشرطة المصري كان خصيا (٣)؟ أو لم يكن شافعا له في دحض هذه الفسرية بأنه زوج أجمل سيدة في البلاد ، ولكن ما الحيلة وصاحب سفر التكوين ـ أول أسفار التوراة ـ يرى أن حاشية القصر كلها من الخصيان ، ومنهم رئيس السقاة ورئيس الخبازين (٤) ، وهو أمر اعتدناه في مصر الفراعنة ، وما حدثنا به تاريخا ، وإنما ذلك رأي يهود الأسر البابلي ، حين كتبوا توراتهم على ضفاف الفرات ، متأثرين بكل الحضارات القديمة التي شاهدوها ـ أو التي عاشوا في ظلالها ـ من ناحية ، وبحقدهم الأعمى على مصر من ناحية أخرى ، حتى أعماهم هذا الحقد عن حقائق التاريخ ، فجعلوا كل رجال البلاط المصري من الخصيان.

ولعل من المفيد أن نشير هنا إلى أن الآية الكريمة (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) قد تفيد أن الرجل كان عقيما ، لم يكن له ولد ، وما كان يرجو أن يكون له ، ولكنها لن تفيد أنه كان خصيا (٥).

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ١٧٤ ـ ١٧٦ تفسير المنار ١٢ / ٢٧٢ ، تفسير ابن كثير ٤ / ١٧.

(٢) تكوين ٣٩ : ١.

(٣) من عجب أن هذه الأكاذيب قد انتقلت إلى بعض كتب التفسير (الطبري ١٢ / ١٧٥ ، القرطبي ٩ / ١٦٠) ، وأن رفضتهما جمهرة المفسرين (تفسير البيضاوي ١ / ٤٩١ ، تفسير المنار ١٢ / ٢٧٢ ، تفسير الألوسي ١٢ / ٢٠٧ ، مؤتمر تفسير سورة يوسف ١ / ٤٣٤ ، ٥٠٣ ، ٥٠٤ ، قارن ١ / ٥٢٥ ، ٥٢٦ ، ٢ / ٨٧٣).

(٤) تكوين : ٤٠ : ٢.

(٥) تفسير المنار ١٢ / ٢٧٢ ، تفسير البيضاوي ١ / ٤٩١ ، روح المعاني ١٢ / ٢٠٧ ، تفسير القرطبي ٩ / ١٦٠.

١٣٠

ومنها (خامسا) ما تردده التوراة من أن يوسف إنما كان يتهم إخوته بأنهم «جواسيس جاءوا ليروا عورة الأرض» ، فضلا عن أن يوسف إنما كان يكرر القسم بحياة فرعون (١) ، الأمر الذي لا يتفق ومكانة النبوة بحال من الأحوال.

بقيت نقطة أخيرة تتصل بذلك الاضطراب الواضح في قصة التوراة ، ففي سفر التكوين (٣٧ : ٢٦ ـ ٢٨) نجد أن يهوذا هو صاحب الكلمة ، وقد اقترح على إخوته أن يبيعوا يوسف للإسماعيليين بعشرين مثقالا ، في حين نرى في نفس السفر (٣٧ : ٢١ ـ ٢٤) أن راوئين هو صاحب الصوت الأعلى ، يقترح إلقاءه في الجب فيوافق الجميع ، حيث يأخذه التجار المديانيون ، كما في (تكوين ٣٧ : ٢٨) والأمر كذلك بالنسبة إلى بيعه إلى فوطيفار ، ففي أول القصة عن قوم من مدين (٢) ، بينما هم في آخرها من الإسماعيليين (٣).

وبعد : فهذه نظرة سريعة إلى الفروق بين قصص القرآن وروايات التوراة ، فإذا ما تذكرنا أن القرآن الكريم ـ كما هو معروف ـ جاء به محمد النبي الأمي ، الذي لا يكتب ولا يقرأ ، كما قال تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٤) ، مما يدل بوضوح لا لبس فيه ولا غموض ـ أن هذا القرآن من عند الله ، وأنه وإن اتفق مع التوراة في القليل ، فإنه يختلف معها في أكثر الكثير ، كما يدل كذلك على أن هذا النوع من العلم ما كان عند العرب ، وليس لهم به دراية ، وأخيرا فهو يدل على أن هذا القرآن ليس حديثا يفترى ، وليس أساطير الأولين اكتتبها ، ولا

__________________

(١) تكوين ٤٢ : ٩ ـ ١٦.

(٢) تكوين ٣٧ : ٣٦.

(٣) تكوين ٣٩ : ١.

(٤) سورة العنكبوت : آية ٤٨.

١٣١

يمكن أن تملى عليه ، وإذا كان بعض المشركين قد ادعوا أنه تلقاها من بعض الناس في مكة ـ كما يقول بعض المستشرقين الآن ـ فهو لم يثبت اتصاله به ، ولسانه أعجمي ، وهذا كتاب عربي مبين ، وفوق ذلك في القرآن من صادق الأخبار ، ما لم يكن في كتب أهل الكتاب المسطورة ، ولا يأتيه الباطل فيما يقول (١) ، ولست أدري إعجازا بعد هذا الإعجاز (٢).

__________________

(١) محمد أبو زهرة : القرآن ص ٣٦٤ ـ ٣٦٥ ، الباقلاني : إعجاز القرآن ص ٥٣ ـ ٥٤.

(٢) من إعجاز القرآن كذلك إخباره بأمور حدثت في المستقبل ، منها إخباره بانتصار الروم على الفرس بعد أن كانت الهزيمة من نصيب الأولين (الروم ١ ـ ٢) ومنها إخباره بنصر المسلمين في بدر قبل الموقعة الكبرى (الأنفال : آية ٧) وأن ذلك سوف يقع في نفس الوقت الذي سيهزم فيه الفرس أمام الروم (الروم ٣ ـ ٥) ، وغير ذلك من أمور لا يمكن أن تكون حدسا أو تقديرا شخصيا ، وإنما هي من عند علام الغيوب ، كقيام دولة الإسلام الفتية على الأرض (النور ٥٥) وعجز كل القوى عن القضاء عليها (الأنفال ٣٦) والانشقاق بين المسيحيين إلى يوم القيامة (المائدة ١٤) والشتات الإسرائيلي (آل عمران ١١٢) والتفوق المسيحي إلى اليهود حتى يوم القيامة (آل عمران ٥٥) [أنظر : الباقلاني : إعجاز القرآن ص ٧٧ ـ ٧٩ ، تفسير القرطبي ١ / ٧٣ ـ ٧٨ ، الكشاف ٣ / ٢٥٢ ، ٤ / ٤٤٠ ، ٤٤٥ ، مناهل العرفان للزرقاني ٢ / ٢٧٣ ، تفسير الطبري ٢١ / ١٦ ـ ٢١ ، ٢٥ / ١١١ ـ ١١٥ ، تفسير البيضاوي ٢ / ٢١٥ ـ ٢١٦ ، ٤٣٩ ، تفسير الجلالين ص ٢١٥ ـ ٢١٦ (نسخة على هامش البيضاوي) تفسير الألوسي ٢١ / ١٦ ـ ٢٢ ، تفسير الطبرسي ٢١ / ٥ ـ ٩ ، تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٩٥ ـ ٩٨ ، تفسير روح المعاني ٦ / ٩٥ ـ ٩٧ ، تفسير الطبري ٦ / ٤٤٥ ـ ٤٦٤ ، ٧ / ١١٦ ـ ١١٨ ، ١٠ / ١٣٥ ـ ١٤٠ ، ١٣ / ٣٩٨ ـ ٤٠٧ ، ٥٢٩ ـ ٥٣٤ (دار المعارف بمصر) ، تفسير مجمع البيان ٣ / ٩٤ ـ ٩٦ ، ٤ / ١٦٦ ـ ١٦٩ ، ٦ / ٥٤ ـ ٥٥ (دار مكتبة الحياة ، ببيروت ١٩٦١).

١٣٢

الكتاب الثالث

سيرة موسى عليه‌السلام

١٣٣
١٣٤

الباب الأول

موسى من المولد إلى المبعث

١٣٥
١٣٦

الفصل الأول

بنو إسرائيل في مصر

(أ) فيما قبل الاضطهاد :

قدم بنو إسرائيل ، كما رأينا من قبل ، لا كغزاة فاتحين ، وإنما كلاجئين من جدب أصاب أرض كنعان ، فوجدوا في مصر ، وفي ظل أخيهم يوسف عليه‌السلام ، ضيافة كريمة ، فاختاروا ، أو اختار لهم يوسف ، أرض جوشن في وادي طميلات ، لأنهم رعاة أغنام ، وهذه أرض مراع ، ولأنها تبعدهم عن مخالطة أهل البلاد والاندماج فيهم ، والامتزاج بهم ، حيث كانوا يؤثرون الإقامة في جهات خاصة بهم ، ربما لأن تلك طبيعتهم ، وربما بسبب نفور المصريين منهم أو من حرفتهم كرعاة «لأن كل راعي غنم رجس عند المصريين ، ولعلنا نحس بذلك منذ اللحظة الأولى التي قدم فيها بنو إسرائيل بأخيهم بنيامين ، إذ نرى يوسف يولم وليمة تكريما لأخيه ، ولكنه ، فيما تروي التوراة ، يأمر بأن تكون له مائدة خاصة به ، وأخرى لإخوته ، وثالثة للمصريين «لأن المصريين لا يقدروا أن يأكلوا طعاما مع العبرانيين لأنه رجس عند المصريين» (١).

وهكذا تبدو نظرة المصريين للعبرانيين واضحة لنا منذ أول لقاء بينهم ، وفي ضيافة يوسف العبراني نفسه ، وهي نظرة لا تدل ، بحال من الأحوال ،

__________________

(١) تكوين ٤٣ / ٣٢.

١٣٧

على احترام المصريين العبرانيين ، وإنما تدل على أنفة المصريين ، وتأبيهم عن مخالطة العبرانيين ، وعدم استعدادهم حتى للأكل معهم على مائدة واحدة ، لأن الأكل معهم رجس لا يليق بالمصريين ، رغم أنهم يعرفون أنهم إخوة يوسف ، عزيز مصر وقت ذاك ، والأمين على خزائنها ، والأثير عند مليكهما ، وإن دل ذلك على شيء ، فإنما يدل على أن القطيعة بين الفريقين ما كانت تحتاج إلى بيان ، بل إن يوسف نفسه ، طبقا لرواية التوراة ، إنما يسلم بها سلفا ، ومن ثم فقد أعد مائدة للمصريين ، وأخرى لإخوته ، وثالثة له ، ولعل أراد بذلك ألا يغضب أحد الفريقين ، إن جلس على مائدة فريق دون الآخر.

هذا وربما كان من أسباب هذه النفرة بين المصريين والإسرائيليين تلك النظرة المتعالية التي كان ينظر بها المصريون إلى من عداهم من الشعوب ، بل إنهم إنما كانوا يعتبرون أنفسهم وحدهم هم «الناس» أو «الرجال» وأما الأجانب فلا ، ومن ثم فقد كانوا يزدرونهم ويطلقون على رؤسائهم لقب «وغد» (١) ، وزاد الأمر بالنسبة للعبرانيين حرفتهم كرعاة ، «وكل راعي غنم رجس عند المصريين».

وأيا ما كان الأمر ، فلقد عاش بنو إسرائيل في ظل الهكسوس الغزاة ، ما شاء الله لهم أن يعيشوا ، حتى تقوم ثورة التحرير ، التي يحمل لواءها أبناء الصعيد من طيبة ، أولئك الذين لم يخنعوا للهكسوس أو يخضعوا لسلطانهم ، وتنتهي الأمور بمصر بطرد الهكسوس مصر ومطاردتهم حتى زاهى في لبنان ، ومن ثم يسترد المصريون زمام الأمور ، وتقوم الأسرة الثامنة عشرة حوالي عام ١٥٧٥ ق. م ، وعلى رأسها أحمس الأول ، الذي مجّدته الأجيال اللاحقة ،

__________________

(١) محمد بيومي مهران : الثورة الاجتماعية الأولى في مصر الفراغنة ص ١٦٢ ، ٢٠٩ ، وكذا

٣٧ ،.p ١٩٦١. A.H.Gardiner ,Egypt of The Pharoohs ,Oxford ,

١٣٨

كمؤسس للأسرة الثامنة عشرة ، وكبداية لعهد الإمبراطورية المصرية ، وكبطل لا يباري نجح في طرد الهكسوس من مصر (١).

كان الإسرائيليون مرتبطين بالهكسوس بأوثق رباط ، فيوسف الصديق عليه‌السلام ، وصل إلى ما وصل إليه في عهدهم ، كما أن بني إسرائيل قد ساعدوا الغاصب الأجنبي ومن ثم فقد تركهم في مراعيهم آمنين ، ولعل هذا كان واحدا من الأسباب التي جعلت المصريين ينفرون من اليهود ، ويضمرون لهم أشد المقت ، هذا إلى أنهم ربما كانوا على اتصال بالهكسوس ، اتصال الملق والمصانعة ، وتقديم كافة الخدمات ، ومن بينها خدمات التجسس ، ونتج عن ذلك أن تشابهت بعض الأسماء بين الفريقين ، وإن كان علماء اليهود يردون ذلك إلى أن الهكسوس إنما كانوا أيضا قبائل من بينها العبرانيين (٢) ـ الأمر الذي سوف نناقشه فيما بعد ـ ولعل هذا الذي يقوله علماء اليهود هو ذاته على ما كان بين الغزاة الهكسوس ، والضيوف الإسرائيليين ، من صلات وثيقة أقرها اليهود في تراثهم العبري ، وعزوا إليها استقرار العبرانيين في مصر.

على أنه يجب أن نشير هنا إلى أن الإسرائيليين إنما قد تأثروا كثيرا بسادتهم الهكسوس ، الذين حاولوا بدورهم أن يكسبوا ود المصريين ، ويتكيفوا بالحضارة المصرية ، فتبنوا ثقافة البلاد ، وطريقتها في الكتابة ، بل وعبدوا الإله «رع» ، وكانوا يقرنون اسمه بألقابهم مثل «عاقن رع» ـ وهو الملك أبو فيس ـ كما عبدوا الإله المصري «ست» ، والذي كان يشبه إلههم الأصلي «تشوب» ، وكانوا يطلقون عليه أحيانا «سوتخ» (٣).

__________________

(١) أنظر عن عصر الهكسوس في مصر وحرب التحرير (محمد بيومي مهران : حركات التحرير في مصر القديمة ـ القاهرة ١٩٧٦ (ط دار المعارف) ص ١٠١ ـ ٢٢٣).

(٢) ١٥ I.Epstein ,op ـ cit ,p وكذا ٥ C.Roth ,op ـ cit ,p ...

(٣) محمد بيومي مهران : المرجع السابق ص ١٥٥ ـ ١٦٠ ، عبد العزيز صالح : مصر والعراق ص ١٩١.

١٣٩

ومن هنا ، فأكبر الظن ، أن الإسرائيليين قد تأثروا بالهكسوس في اعتناق الديانة المصرية ، ومن ثم فقد رأينا «دين ستانلي» يقول : إن إقامة بني إسرائيل في مصر ، قد أثرت فيهم كثيرا ، فيما يتصل بحريتهم السابقة ونشاطهم السابق ، وإن كان الأهم من ذلك كثيرا ، أن الديانة السابقة التي تمتع بها عصر الآباء البطارقة الأقدمين ، إنما قد تلاشت الآن كثيرا.

وتقدم لنا التوراة الكثير من الأدلة على أن الإسرائيليين إنما كانوا يعبدون آلهة البلاد التي كانت تستضيفهم ، ومن هنا جاء في سفر يشوع قول الرب : «انزعوا الآلهة الذين عبدهم آباؤكم عبر النهر ، وفي مصر ، واعبدوا الرب» (١) ، كما جاء في سفر حزقيال : «في ذلك اليوم رفعت لهم يدعني لأخرجهم من أرض مصر ، إلى الأرض التي تجسستها لهم ، تفيض لبنا وعسلا ، هي فخر كل الأراضي ، وقلت لهم : اطرحوا كل إنسان منكم أرجاس عينيه ، ولا تتنجسوا بأصنام مصر ، فتمردوا عليّ ... ولم يتركوا أصنام مصر» (٢).

وهكذا عاش الإسرائيليون في مصر فترة رخاء في بادئ الأمر ، واعتنقوا ديانة المصريين ، ثم مضت فترة لا ندري مداها على وجه التحقيق ، وإن كنا لا نظن أن الاضطهاد قد بدأ بعد التحرير مباشرة ، وإنما يبدو لي أن ذلك ، إنما كان بعد حين من الدهر.

(ب) الاضطهاد ـ أسبابه ونتائجه :

ترجع التوراة أسباب اضطهاد المصريين للإسرائيليين إلى أنه «قام ملك جديد على مصر ، لم يكن يعرف يوسف ، فقال لشعبه : هو ذا بنو إسرائيل شعب أكثر وأعظم منا ، هلم نحتال لهم ، لئلا ينموا فيكون إذا حدثت حرب

__________________

(١) يشوع ٢٤ : ١٤.

(٢) حزقيال ٢٠ : ٦ ـ ٨.

١٤٠