دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٢

إسرائيليا ، وإنما كان مصريا ، وبدهي أن شكي هذا لا يتصل بحال من الأحوال بقيمة موسى عليه‌السلام من الناحية الدينية أو التاريخية ، ذلك لأن هذه القيمة لم تأت من كونه إسرائيليا ، وإنما لأنه كليم الله ورسوله الكريم ، ولأنه أحد أولي العزم الخمسة من الرسل ، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وتلك أمور لا تتغير بتغير جنسه ومن ثم فلا يؤثر في مكانة النبي الكريم ، سيدنا موسى عليه‌السلام ، أن يكون مصريا أو إسرائيليا.

ومن ثم فإن شكي في مصرية موسى إنما يرجع لأسباب أخرى ، منها (أولا) أن الجمهور على أن موسى إنما كان أخا شقيقا لهارون عليهما‌السلام ، حتى وإن ذهب البعض إلى أنه كان أخاه من الأم ، وهارون كان إسرائيليا دونما ريب ، وبالتالي كان شقيقه موسى كذلك ، ومنها (ثانيا) أن الرسل إنما تبعث في أقوامها ، وموسى قد أرسل إلى بني إسرائيل ، ومن ثم فهو إسرائيلي ، ومنها (ثالثا) أن دعوة موسى عليه‌السلام كان موضوعها ، بجانب دعوة فرعون إلى الإقرار بتوحيد الله وربوبيته ، إنما هو إطلاق سراح بني إسرائيل من فرعون وقومه المصريين ، كما يبدو ذلك واضحا في عدة آيات من الذكر الحكيم (الأعراف : آية ١٠٤ ـ ١٠٥ ، طه : آية ٤٧ ، الشعراء : آية ١٦ ـ ١٧) ، والأمر كذلك بالنسبة إلى نصوص التوراة (سفر الخروج ٣ ـ ٢٢ ، ٥ ـ ٣ ، ٦ ـ ١٣) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي وردت في الإصحاحات من السادس إلى العاشر من سفر الخروج ، والتي تتحدث عن إخراج بني إسرائيل من مصر ، مما يشير بوضوح إلى أن دعوة موسى عليه‌السلام ، كما تصورها التوراة ، إنما هو إخراج بني إسرائيل من مصر ، وأن يقيهم شر العذاب المهين الذي كانوا يتعرضون له في أرض الكنانة ، وليس من المنطق أن يكون موسى مصريا ، ثم تكون دعوته إطلاق بني إسرائيل من مصر ، من فرعون وملئه ، ثم الخروج بهم من مصر

٤٠١

إلى كنعان ، إلى الأرض المقدسة التي كتب الله لهم ، وكما يقول صاحب البحر المحيط : وليس بنو إسرائيل من قوم فرعون المصريين ، ألا ترى أن بقية المصريين (القبط كما يسميهم خطأ) وهم الأكثر ، لم يرجع إليهم موسى.

ومنها (رابعا) أن اسم موسى المصري ، لم يطلقه عليه أبوه ، كما يزعم فرويد ، وإنما أطلقته عليه امرأة فرعون ، وبدهي أن الملكة المصرية ، لحما ودما ، لغة وثقافة ، إنما تطلق على موسى اسما مصريا ، وليس عبريا ، وكما أشرنا من قبل ، فهي ملكة مصرية تتكلم اللغة المصرية وتفكر بها ، وما كان لها أن تتحدث العبرية في حياتها وبين مواطنيها ، حتى تتخذ للطفل ، مع كراهية شائعة للعبريين يومئذ ، اسما عبريا ، ومنها (خامسا) أن وصف التوراة لموسى ، على لسان بنات رعوئيل ، بأنه رجل مصري ، أمر طبيعي ، ذلك لأن موسى عليه‌السلام ، وقد تربى في قصر فرعون ، وعاش في مصر عمره كله ، والذي ربما وصل وقت ذاك إلى أربعة عقود من الزمان ، من البدهي أن يكون مصريا في لسانه وهيئته ، بل إن قومه الإسرائيليين أنفسهم ، وقد عاشوا في مصر قرابة أربعة قرون ، قد أصبحوا مصريين ، أو على الأقل متمصرين ، بل إن القرآن الكريم ليصفهم بأنهم «طائفة منهم» ، هذا فضلا عن أن ابنة رعوئيل ما كانت تعرف حتى ذلك الوقت جنسا يدعى «بنو إسرائيل» ، ذلك لأن اليهود قبل موسى ونبوته ، ما كان لهم وجود كأمة في مجتمعات الشرق القديم ، صحيح أن القبائل الإسرائيلية التي كانت تعيش في مصر منذ عهد يوسف الصديق عليه‌السلام ، على أيام الهكسوس ، كانت تدرك ، حتى قبل ظهور موسى ، أنها تنتمي إلى أرومة واحدة ، ولكنها مع ذلك لم تؤلف شعبا واحدا حتى حدث الاستعباد المصري لهم ، ونجح موسى في أن يوحد بين هذه العشائر التي تراخت أواصر القربي بينها ، ويجعلها أمة واحدة ، وذلك بفضل نبوته ومعجزته الكبرى.

ومنها (سادسا) الاعتماد على أن موسى عليه‌السلام «كان بطيئا في

٤٠٢

الكلام» أو كان عييّا لا يكاد يبين حين يتكلم ، وبالتالي فقد استعان في تبليغ رسالته إلى بني إسرائيل بأخيه هارون ، دليل على أنه كان مصريا ، ولم يكن إسرائيليا ، استنتاج فيه من الخطأ أكثر ما فيه من الصواب ، ذلك لأن بني إسرائيل ما كانوا يتحدثون العبرية في مصر ، فمن المعروف تاريخيا أن أسلاف العبرانيين كانوا يتكلمون الآرامية قبل أن يستقروا في فلسطين ، ثم بدءوا يتحدثون لغة الشعوب المضيفة لهم ، ففي مصر كانوا يتكلمون اللغة المصرية ، وفي كنعان كانوا يتكلمون الكنعانية ، وأما اللغة العبرية ، والتي كانت خليطا من الآرامية والكنعانية وكثير من اللغات السامية وغير السامية ، فيرجع تاريخ ظهورها إلى ما قبيل عام ١١٠٠ قبل الميلاد ، وبعد خروج بني إسرائيل من مصر ، كما أشرنا من قبل.

ومنها (سابعا) أن ما جاء في التوراة والقرآن العظيم من أن الكليم عليه‌السلام عييّ لا يكاد يبيّن ، ومن ثم فقد سأل ربه الكريم (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي (١) ، وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هارُونَ أَخِي) ، فهو أفصح منه لسانا ، إلى غير ذلك من الأدلة التي اعتمد عليها البعض ، على أنها

__________________

(١) اختلف المفسرون في زوال العقدة بكاملها،فمن قال به تمسك بقوله تعالى:(قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) ، ومن لم يقل به احتج بقوله تعالى : (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي) ، وقوله تعالى : (وَلا يَكادُ يُبِينُ) ، وأجاب عن الأول بأنه لم يسأل حل عقدة لسانه بالكلية ، بل حل عقدة تمنع الإفهام ولذلك نكرها ، وقال : «عقدة من لسان» أي عقدة كائنة من عقد لساني ، وجعل قوله تعالى : (يَفْقَهُوا قَوْلِي) جواب الأمر ، وغرضا من الدعاء ، فبحلها في الجملة يتحقق إيتاء سؤله ، والحق ، كما يقول أبو السعود ، أن ما ذكر لا يدل على بقائها في الجملة ، ولكن الحسن البصري قال : حل عقدة واحدة ، ولو سأل أكثر من ذلك أعطى ، وأما قوله تعالى : (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي) لا تستدعي عدم البقاء لأن الأفصحية توجب بثبوت أصل الفصاحة في المفضول أيضا ، وذلك مناف للعقدة أصلا ، وأما قوله تعالى : (وَلا يَكادُ يُبِينُ) فمن باب غلو فرعون في العتو والطغيان ، وإلا لدلّ على عدم زوالها أصلا ، وتنكيرها يفيد قلتها (تفسير أبي السعود ٦ / ١٢).

٤٠٣

دليل على مصرية موسى ، وربما كانوا يعنون عدم إجادته اللغة المصرية ، فالرأي عندي أنها لا تدل على شيء من ذلك ، فربما كان سببها أن موسى عليه‌السلام قد أصيب بحبسة في لسانه نتيجة لتأخر في رضاعة أو لسبب آخر ، أضعفه من الناحية العلمية قصة التمر الأحمر أو الياقوت والجمر (١) ، وعلى أية حال ، فالإمام الفخر الرازي تفسير لاستعانة موسى بأخيه هارون يذهب فيه ، كما أشرنا من قبل ، إلى أن فرعون ربما كذب موسى ، والتكذيب سبب لضيق القلب ، وضيق القلب سبب لتعثر الكلام على من يكون في لسانه حبسة ، لأنه عند ضيق القلب تنقبض الروح والحرارة الغريزية إلى باطن القلب ، وإذا انقبضا إلى الداخل وخلا منهما الخارج ، ازدادت الحبسة في اللسان ، فالتأذي من الكذب سبب لضيق القلب ، وضيق القلب سبب للحبسة ، فلهذا السبب بدأ بخوف التكذيب ، ثم ثنى بضيق الصدر ، ثم ثلث بعدم انطلاق اللسان ، وأما هارون فهو أفصح منه ، وليس في حقه هذا المعنى ، فكان إرساله لائقا (٢).

ومنها (ثامنا) أن الذين اعتمدوا على أن هناك حبسة في لسان موسى لا تمكنه من أداء رسالته نحو بني إسرائيل ، ثم توصلوا من وراء ذلك إلى أن موسى كان يتكلم لغة أخرى ، ولم يكن قادرا على التفاهم مع شعبه الجديد من الساميين (أي بنو إسرائيل) بدون مساعدة مترجم ، على الأقل في بداية عهده بهم ، وفي هذا دليل على صحة نظرية أن موسى كان مصريا ، أو لغته على الأقل ، نسوا ، أو تناسوا ، أنهم اعتمدوا في ذلك على نصوص التوراة (سفر الخروج ٤ ـ ١٦ ، ٢٧ ـ ٣١) ، وأن هذه النصوص التوراتية

__________________

(١) أنظر عن القصة : تفسير الطبري ١٦ / ١٥٩ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٩٠ ، تفسير القرطبي ص ٤٢٣٢ ، تفسير النسفي ٣ / ٥٢ ، تفسير أبي السعود ٦ / ١٢ ، تفسير صفوة التفاسير ٢ / ٢٣٣ ، ابن الأثير ١ / ٩٨.

(٢) تفسير الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٢.

٤٠٤

المتداولة اليوم ، ليست هي توراة موسى عليه‌السلام ، وإنما قد داخلها كثير من التحريف والتصحيف ، وأن القرآن الكريم قد جاء لتصحيح هذا التحريف ، وذلك التصحيف ، ومن هنا فإن شكوى موسى من حبسة لسانه في القرآن الكريم إنما كانت في مواجهة فرعون ، وليس في مواجهة بني إسرائيل ، وهذا ما تدل عليه الآيات بوضوح في سورة طه (٢٤ ـ ٣٢) (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ، قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) ، وفي سورة الشعراء (١٠ ـ ١٣) (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ ، قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ، وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) ، وفي سورة القصص (٣٠ ـ ٣٥) وفي سورة الزخرف (٥١ ـ ٥٢) (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ، وَلا يَكادُ يُبِينُ).

ومنها (تاسعا) أن موسى عليه‌السلام كان على صلة بقومه الإسرائيليين قبل خروجه إلى مدين ، بدليل قتله المصري عند ما استغاث به الإسرائيلي على المصري الذي سماه القرآن «عدوه» (أي عدو موسى) ، ولا يمكن أن يستغيث الإسرائيلي بموسى إلا إذا كان على معرفة أنه من بني إسرائيل ، بل إن قوله تعالى : (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) إنما يستشف منه أن موسى كان يستخدم نفوذه في مناصرة بني إسرائيل ، وكيف أيدى المصريين عنهم ، بل إن موسى كاد أن يتورط في محنة جديدة بسبب ذلك الإسرائيلي الذي استصرخه بالأمس ويستصرخه اليوم ، حتى ليكاد أن يفعل ما ندم عليه بالأمس ، فيهم بأن يبطش بالذي هو عدو لهما (أي المصري) ، وبدهي أن كل هذا إنما يدل على أن موسى إسرائيلي ، وأنه كان يعرف تماما تلك الحقيقة.

٤٠٥

ومنها (عاشرا) أن قصة موسى ، كما جاءت في سورة القصص (٣ ـ ٢١) والشعراء (١٨ ـ ٢٢) لا تدع مجالا لشك في أن كليم الله عليه‌السلام ، إنما كان من بني إسرائيل ، فلقد ولد في تلك الفترة العصيبة التي سلط الله فيها فرعون على بني إسرائيل ، يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم ، فأخفته أمه حينا من الدهر ، ولما خشيت أن يفتضح أمرها فزعت إلى الله مما تخشى على وليدها ، فكان ، كما فصلنا من قبل ، أن أوحى الله إليها (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ، وهكذا أراد الله أن ينشئ موسى في قصر فرعون ، وبدهي أن موسى عليه‌السلام لو كان مصريا ، ولم يكن إسرائيليا ، ما تعرض لكل هذه المحن والبلايا ، ولما ألقته أمه في اليم ، ولما نشأ في قصر فرعون ، ذلك لأن فرعون ما كان يقتل أبناء المصريين ويستحي نساءهم ، وإنما كان يفعل ذلك مع بني إسرائيل ، دون غيرهم من رعيته ، سواء أكانوا من المواطنين المصريين أو من أبناء الامبراطورية المصرية في إفريقيا أو آسيا ، والحق أن قصة موسى عليه‌السلام في القرآن الكريم ، وخاصة ما جاء منها في سورتي الشعراء (١٨ ـ ٢٢) والقصص (٣ ـ ٢١) لا يدع مجالا للشك في أن النبي الكريم سيدنا موسى عليه‌السلام ، إنما كان من بني إسرائيل ، من ذرية أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه‌السلام ، الذي جعل في ذريته النبوة والكتاب.

٤٠٦

الفصل الثّاني

الوجود التّاريخي لموسى عليه‌السلام

من الغريب المؤلم أن شك شراح التوراة وعلماء اليهود لم يقتصر على جنسية كليم الله عليه‌السلام ، وإنما تجاوزه إلى الوجود التاريخي لموسى عليه‌السلام نفسه ، ولعل السبب في ذلك إنما هي التقاليد العجيبة التي اكتنفت شخصية موسى ، كما تبرز في نصوص التوراة ، فكأننا أمام تضارب تقييم ، شخصية صكت بني إسرائيل بعقد عميقة الجذور ، فهم عنها وإليها بين شد وجذب عنيفين.

فالتفسيرات جميعا تكاد تتفق ، في سعي خبيث ، إلى التهوين من قدر موسى عليه‌السلام ، فأنبياء بني إسرائيل المتأخرون (١) ، دون غيرهم ، أصحاب الفضل في إرساء أركان الديانة ـ المتسامية بأخلاقياتها زعموا ـ ولا بأس من التسليم لموسى ، بأن كان علما على منعرج حاسم في تاريخ بني إسرائيل ، كفاه أن هيأ لهم بعقيدة اصطفاء ، أسبابا من تماسك وتلاحم ، تفسيرات تكاد تكون انعكاسا صادقا لما طرأ عبر العصور على كتابات اليهود ، فلا ذكر لموسى عليه‌السلام ، أو يكاد ، في الأصول التوراتية القديمة ، ولا تقع على اسمه إلا خطفا ، حتى في كتابات أنبياء القرن الثامن

__________________

(١) أنظر عن هؤلاء الأنبياء (محمد بيومي مهران : النبوة والأنبياء عند بني إسرائيل ـ الاسكندرية ١٩٧٨ ص ٥٠ ـ ٦٠).

٤٠٧

قبل الميلاد ، عاموس (٧٦٠ ـ ٧٤٦ ق. م) وهو شع (٧٤٠ ـ ٧٣٠ ق. م) وإشعيا الأول (٧٤٠ ـ ٧٠٠ ق. م) وميخا (٧٣٥ ـ ٧٠٠ ق. م) (١) ، فالنبي إشعياء في المرة الوحيدة التي ذكر فيها موسى في نهايات سفره يقول : «ثم ذكر الأيام القديمة موسى وشعبه ، أين الذين أصعدهم من البحر مع راعي غنمه ، أين الذين جعل في وسطهم روح قدسه ، الذي سيّر ليمين موسى ذراع مجده الذي شق المياه قدامهم ، ليصنع لنفسه اسما أبديا» (٢).

وهكذا أصبح موسى عليه‌السلام ، في كتابات اليهود ، نسيا منسيا أولا ، ثم وجها أسطوريا فولكوريا فقط ، منذ أيام سليمان ، عليه‌السلام (٩٦٠ ـ ٩٢٢ ق. م) إلى قرب نهاية دولة اليهود في فلسطين ، يشهد بذلك أيضا الموضع الوحيد الذي تحدث فيه النبي إرميا (٦٢٦ ـ ٥٨٠ ق. م) عن موسى (٣) بهذه العبارة : «وقال له الرب : لو أن موسى وصموئيل وقفا أمامي لما توجهت نفسي إلى هذا الشعب ، فأطرحهم عن وجهي وليخرجوا (٤)».

فإذا ما تكاثفت الأخطار حول مملكة يهوذا ، يتهددها سوء مصير ، أن يحيق بها ما حاق بمملكة إسرائيل في الشمال ، تهيأت الفرصة ـ فإن الإيمان لهو ملاد الشعب في الملمات ـ لنفر من «لاويين» ، ربما هم أحفاد بطانة موسى من كهنوت مصري ، فتنبعث ذكرى كليم الله ، وتلك الوصايا التي عهد بها إليه الرب في سيناء ، بعد أن ظلت مطوية مطمورة في أعماق الوجدان زهاء قرون ستة أو يزيد (٥).

__________________

(١) حسين ذو الفقار صبري : إله موسى في توراة اليهود ـ المجلة ـ العدد ١٦٣ ـ يوليو ١٩٧٠ ص ٥ ـ ٦.

(٢) إشعياء ٦٣ / ١١ ـ ١٢.

(٣) حسن ظاظا : الصهيونية العالمية وإسرائيل ص ٢١.

(٤) أرمياء ١٥ : ١ ، قارن الترجمة العربية للتوراة.

(٥) حسين ذو الفقار صبري : المرجع السابق ص ٦.

٤٠٨

ولكن مؤلفي التوراة حرصوا مع ذلك على الاستنقاص من مكانته ـ إعلاء لشأن داود وبيت داود ـ في أمور أشد ما تكون التصاقا بالعقيدة التوحيدية ، كما عند الأنبياء المتأخرين ، غمزا ولمزا في سفر الخروج (١) ، فكأن موسى لم يختن شأن أي أقلف ، وأن قد ظل كذلك ، مخالفا تعاليم الرب كما أنزلت على إبراهيم ، من حيث السمة الدالة على العهد الأبدي الموثق (٢) ، بل متحديا ما دفع به الرب مباشرة (٣) ، فكأن نبي الله ، حامل رسالته إلى شعب بني إسرائيل ، إنما ناكث لعهد الرب (٤).

ثم صراحة ودون مواربة ، إذ تعزى إليه شوائب من وثنية ، فهو صاحب «حية النحاس» (٥) «نحثتان» صنعها بيديه ورفعها أمام القوم على سارية (٦) ، هي من أسباب غواية بني إسرائيل ، يقدمون لها القرابين متعبدين ، فيسحقها

__________________

(١) خروج ٤ : ٢٤ ـ ٢٦.

(٢) تكوين ١٧ : ١٠ ـ ١٤.

(٣) خروج ١٢ : ٤٨.

(٤) حسين ذو الفقار : المرجع السابق ص ٦.

(٥) يرى «برستد» أن موسى كان يتمسك ببعض الذكريات عن التماثيل الدينية المصرية ، فقد كان يحمل عصا سحرية عظيمة ، في صورة «ثعبان» تسكن فيها قوة «يهوه» ، كما كان ينصب ثعبانا من النحاس البراق ليشفي به الناس ، وكان هذا الثعبان أحد الثعابين المقدسة العديدة في مصر ، وقد بقيت صورة ذلك الإله المصري القديم عند العبرانيين إلى ما بعد استيطانهم فلسطين بزمن طويل ، واستمروا في إطلاق البخور له مدة خمسة قرون بعد عهد «موسى» ولم يبعد من البيت المقدس إلا في حكم ملك يهوذا حزقيا ، وليس من شك في أن برستد يخطئ في كثير مما ذكره (أنظر : ملوك ثان ١٨ : ٤) ، J.H.Breasted ,The Dawn of Conscience ,P., ٣٥٤.

(٦) يرى الدكتور هاني رزق : معبرا عن وجهة النظر المسيحية أن هذا الحدث إنما كان رمزا لصلب المسيح ، فكما رفع موسى الحية لكي يحيا كل من ينظر إليها ، هكذا رفع يسوع المسيح على الصليب لكي يحيا كل من يؤمن به (هاني رزق : يسوع المسيح في ناسوته وألوهيته ، القاهرة ١٩٧١ ص ١٥٢ ـ ١٥٣).

٤٠٩

حزقيا ملك يهوذا (٧١٥ ـ ٦٨٧ ق. م) ، ضمن ما كان قدحطم من نصب وأصنام (١).

هذا إلى أن التوراة جد حريصة على اثبات أنساب عديدة من شخصيات ، ولكنها تمر على موسى مر الكرام ، فتقول في سفر الخروج : إن أباه وأمه من بيت لاوى (٢) ولا تزيد ، لا تسميهما حتى ، وإن كانت النسخ العربية للتوراة (٣) تقرر : أن أمه هي بنت لاوى ، ولكن دقة الترجمة تقتضيها أن تقول «من بيت لاوى» ، أما ذلك النص الآخر (٤) تقع عليه ضمن أنساب مفصلة لكافة بني إسرائيل ، فإنما هو مدسوس على الأصل القديم ، نقل نقلا عما أثبته الأحبار في سفر العدد (٥) ، بعد أن كان النص الأول قد سجل بأحقاب (٦).

ولعل هذا كله هو الذي دفع المؤرخ اليهودي «سيسل روث» إلى القول : بأن موسى ينتمي إلى قبيلة أفرايم ـ مع نوع من الانتساب المصري ـ أكثر من انتمائه إلى قبيلة لاوى ، التي انتسب إليها عن طريق التقاليد (٧) ـ كما أشرنا من قبل ـ فإذا أضفنا إلى ذلك كله ، انعدام أية وثيقة تاريخية معاصرة تحدثنا عن الكليم ، عليه‌السلام ، وعن وقائعه في مصر ـ غير ما ورد في الكتب

__________________

(١) حسين ذو الفقار : المرجع السابق ص ٦ ، عدد ٢١ : ٩ ، ملوك ثان ١٨ : ٤.

(٢) خروج ٢ : ١ ـ ٢.

(٣) خروج ٢ / ١ جاء بحية «وذهب رجل من بيت لاوى ، وأخذ بنت لاوى» ، تعني أن عمرام تزوج عمته يوكابد بنت لاوى التي ولدت للاوى في مصر (خروج ٦ / ٢٠ ، عدد ٢٦ / ٥٩).

(٤) خروج ٦ : ٢٠.

(٥) عدد ٢٦ : ٥٩.

(٦) حسين ذي الفقار : توراة اليهود ، المجلة يناير ١٩٧٠ ، ص ١٢ وكذاA.L.Sachar ,A History of The Jews ,N ,Y , ١٩٥٤

(٧) ٨ ـ ٦. C ,Roth ,op.cit ,P.

٤١٠

المقدسة ، ونزلت اليهود ـ فضلا عن أن اليهود أصبحوا لا يعرفون ، حتى أين دفن الكليم (١)؟ لتبين لنا كيف أضاع اليهود الرجل العظيم وجحدوا مكانته ، مما أدى في نهاية الأمر ، إلى أن يبدي بعض علماء التاريخ والآثار المصرية والدراسات اليهودية ، شكوكهم حول تاريخية الرجل العظيم ، بل إن «جوستاف لوبون» ليقول بصراحة : إن موسى شخص أسطوري ، أكثر من كونه شخصا تاريخيا ، أي أن ذاتيته رتبت ، كما رتبت ذاتية «بوذا» بعد حين (٢).

ومن هنا ، فإن جمرة مفكري اليهود العلمانيين في العصر الحديث ، تذهلهم تلك الشخصية ، كما تتراءى عملاقة جبارة ، بينما يؤرقهم في الوقت نفسه افتقارهم إلى الدليل المادي ، مهما كان ضئيلا تافها ، الذي يقنعهم بأنه كان له وجود ، فيقولون بسفسطة رأى بأن : موسى كان ، رغم أنه ما كان ، أعظم شخصية في تاريخ اليهود ، فلا معدي عن ابتداعها بخيال ، فيصبح التاريخ اليهودي مغزى وقصدا (٣).

ومع ذلك ، ورغم كل ما أشرنا إليه آنفا ، فإني لأومن ـ الإيمان كل الإيمان ـ بالوجود التاريخي لنبي الله الكريم ، سيدنا موسى عليه‌السلام ، لأسباب كثيرة. منها (أولا) أن الكتب السماوية الثلاثة ـ التوراة والإنجيل والقرآن العظيم ـ تجمع على ذلك ، وليس من العلم ، فضلا عن الإيمان بما جاء في كتب السماء ، أن نشك في أمر أجمعت عليه.

ومنها (ثانيا) أن الشك الذي يحوم حول موسى عليه‌السلام ، إنما له مثيل بالنسبة إلى أبي الأنبياء ، إبراهيم الخليل ، عليه‌السلام (٤) ، وفي كلا

__________________

(١) تثنية ٣٤ : ١ ـ ٦.

(٢) جوستاف لوبون : المرجع السابق ص ٧٥.

(٣) حسين ذو الفقار : المرجع السابق ص ١٢ ، وكذا ١٨ ـ ١٦.A.L.Sachar ,op ـ cit ,P.

(٤) ٥١٤. L.Woolley ,op ـ cit ,P.

٤١١

الحالين فإن الذين يشكون ـ في الكليم والخليل ـ إنما يعتمدون في شكهم هذا ، على كثرة الأعاجيب والخوارق في السيرتين الطاهرتين ، كما رواها الأقدمون ، ولست أعتقد ـ بحال من الأحوال ـ أن هذا سببا مقنعا ، فنحن الدارسين للتاريخ المصري القديم ـ على سبيل المثال ـ نسمع عن الكثير من الأسرار التي حيكت حول «الهرم الأكبر» ، مما لا يعتمد على سند ، أو دليل تاريخي ، ومع ذلك فالهرم الأكبر موجود. ولا يستطيع أحد أن يمتري في وجوده.

ومنها (ثالثا) أن ما يراه بعض النقاد من عدم وجود أي أثر يشير إلى تاريخية موسى ، عليه‌السلام ، فإذا كان الأمر كذلك ، وإذا كانت تلك «الشقف» أكثر أهمية ، بل وربما يعتمد عليها أكثر من ذاكرة الناس ، أو السجلات المكتوبة ، فإن الأثر الذي تركه المشرع العظيم على العقل الإسرائيلي ، والذي يمكن تتبعه منذ عصر قديم جدا ، عميق لدرجة لا يمكن أن تفشل في حالة الاعتماد عليها ، لتحقيق شخصية تركت أثرا لا يمحي على المعاصرين (١).

ومنها (رابعا) أن احتمال العثور على أسماء الأنبياء والرسل في النصوص الإنسانية ضعيف نسبيا ، لأن حقيقة الصراع بين القيم السماوية والإنسانية ، ربما يكون قد دفع تلك المجتمعات الإنسانية إلى إغفال ذكرها. وهذه ظاهرة يلمسها المؤرخ في تاريخ وحضارة الشرق الأدنى القديم بوجه عام ، بالنسبة إلى تعمد عدم التعريف بالمعارضين (٢).

ومنها (خامسا) أن المصادر المصرية القديمة ـ والتي تمتاز عن غيرها

__________________

(١) ٦.p ، ١٩٦٩. C. Roth, Ashort History of the Jewish People, London,

(٢) رشيد الناضوري : جنوب غربي آسيا وشمال إفريقيا ـ الكتاب الثالث ـ المدخل في التطور التاريخي للفكر الديني ـ بيروت ١٩٦٩ ص ١٧٤.

٤١٢

من مصادر الشرق الأدنى القديم بوضوحها وكثرة آثارها ـ كان من المنتظر أن تمدنا هذه المصادر بمعلومات عن «موسى» ، هذه المصادر ـ في غالبيتها ـ إنما كتبت بأمر من الملوك ، أو بوحي منهم ، فإذا ما تذكرنا أن الملك كان في العقيدة المصرية القديمة إلها ، أكثر منه بشرا ، كان من الطبيعي ألا يستسيغ المصريون أن يهزم الملك في حرب خاض غمارها ، ولهذا فالنصر كاد أن يكون حليفه فيها ، وقد تكون الحقيقة غير ذلك (١).

ومن المعروف أن قصة موسى في مصر ـ كما جاءت في الكتب المقدسة ـ إنما انتهت بغرق الفرعون وجنوده في البحر ، ونجاة موسى ومن آمن معه بالواحد القهار ، وليس من المقبول ـ طبقا للعقيدة الملكية الإلهية المصرية القديمة ـ أن تسجل النصوص المصرية غرق الإله الفرعون ، ونجاة عبيده العبرانيين ، ومن هنا كان من الصعب العثور على اسم موسى في النصوص المصرية القديمة حتى الآن ، رغم ضخامة التركة الأثرية التي خلفتها لنا مصر الفرعونية.

وانطلاقا من هذا كله ، ورغم أن الوجود التاريخي لموسى ، عليه‌السلام ، إنما يفتقر إلى الدليل المادي التاريخي ، خارج الكتب المقدسة ، وتراث اليهود ، فإن الغالبية العظمى من المؤرخين يعتقدون أن موسى عليه‌السلام له وجود تاريخي ، وأنه عاش في مصر حينا من الدهر ، وأن خروج الإسرائيليين من أرض الكنانة تم تحت قيادته ، وأن ذلك كله ـ فيما أرى ـ ، إنما هو من حقائق التاريخ التي لا يرقى إليها الشك ـ بحال من الأحوال ـ إيمانا منا بما جاء في الكتب السماوية ، من ناحية ، ولأن تاريخ إسرائيل الفعلي ـ والذي يبدأ حقيقة بحادث الخروج من مصر ـ لا يمكن أن يفهم إلا إذا اعترفنا بوجود كليم الله ، موسى عليه‌السلام.

__________________

(١) محمد بيومي مهران : الثورة الاجتماعية الأولى في مصر الفراعنة ، الإسكندرية ١٩٦٦ ص ٣ (رسالة ماجستير).

٤١٣
٤١٤

الفصل الثّالث

موت موسى عليه‌السلام

نجح موسى عليه‌السلام ، كما رأينا من قبل ، في الخروج ببني إسرائيل من مصر ، وهناك في صحراوات سيناء المقفرة لقي النبي الكريم من قومه الأمرّين ، وينتهي الأمر بأن يكتب على الخارجين من مصر أن يتيهوا في الأرض أربعين سنة ينجح بنو إسرائيل في أخرياتها في الوصول إلى تخوم كنعان ، وإن لم يكتب لهؤلاء أن يدخلوا الأرض المقدسة أبدا.

هذا وقد اختلفت المصادر الإسلامية في دخول موسى عليه‌السلام أرض كنعان ، فذهب فريق من علماء السلف على رأسهم ابن إسحاق ، إلى أن موسى قد عاش حتى خرج من التيه ، وشهد دخول قومه أرض فلسطين ، وأنه كان معهم يوم فتح مدينة الجبارين (أريحا أو بيت المقدس) ، وكان على مقدمته يوشع بن نون ، كما كان معه كالب بن يفنة ، صهره على أخته مريم بنت عمران ، ويذهب ابن كثير إلى أن هذا خلاف ما عليه أهل الكتاب وجمهور المسلمين ، ومما يدل على ذلك قول موسى عليه‌السلام ، لما اختار الموت ، كما سيأتي ، «رب أدنني إلى الأرض المقدسة رمية حجر» ، ولو كان قد دخلها لم يسأل ذلك ، ولكن لما كان مع قومه في التيه وحانت وفاته عليه‌السلام أحب أن يتقرب إلى الأرض التي هاجر إليها وحث قومه عليها ، ولكن حال بينهم وبينها القدر رمية حجر ، ولهذا قال سيد البشر ، ورسول

٤١٥

الله! أهل الوبر والمدر سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فلو كنت ثم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر».

على أن هناك فريقا آخر ، على رأسهم ابن عباس ، وكذا قتادة والسدى وعكرمة ، إنما يذهب إلى أن موسى وهارون ، عليهما‌السلام ، توفيا في التيه ، وكذا توفي كل من أبي المسير إلى كنعان مع موسى ، حين أمرهم الله تعالى بقتال من فيها من الجبارين ، وهكذا تذهب المصادر الإسلامية ، وكذا التوراة (١) ، إلى أن جميع بني إسرائيل الذين خرجوا من مصر قد ماتوا في البرية ، ولم يروا أرض الميعاد ، ما عدا يوشع بن نون وكالب بن يفنه ، ومن لم يتجاوز العشرين من أعمارهم ، وأن موسى عليه‌السلام قد عهد إلى يوشع بن نون بأن يدخل ببني إسرائيل الأرض المقدسة من بعده ، أو أن يوشع قد بعث نبيا من بعد موسى ، وأنه هزم الجبارين ودخل مدينتهم (٢).

هذا وقد روى الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة قال : أرسل ملك الموت إلى موسى عليه‌السلام فلما جاءه صكه ، فرجع إلى ربه عزوجل فقال : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ، قال : ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعره سنة ، قال : أي رب ثم ما ذا ، قال ثم الموت ، قال فالآن قال : فسأل الله عزوجل أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية حجر ، قال أبو هريرة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر» ، وفي رواية في

__________________

(١) عدد ١٤ / ٢٢ ـ ٣٨ ، ٣٣ / ٣٨ ـ ٣٩.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ١٩٠ ـ ٢٠٠ ، تاريخ الطبري ١ / ٤٣٥ ـ ٤٤٢ ، تفسير روح المعاني ٦ / ١٠٩ ، تفسير الطبرسي ٦ / ٧٠ ـ ٧١ ، تفسير الكشاف ١ / ٦٢٢ ـ ٦٢٣ ، تفسير النسفي ١ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠ ، تفسير الخازن ٢ / ٣٤ ـ ٣٦ ، ابن كثير : التفسير ٢ / ٧٤ ـ ٧٥ ، البداية والنهاية ١ / ٣١٦ ـ ٣٢٥ ، تفسير البغوي ٢ / ٣٦ ـ ٧ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٩٨ ـ ٩٩ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٤٥ ـ ٤٦ ، مروج الذهب للمسعودي ١ / ٦٢ ـ ٦٣ ، الكامل لابن الأثير ١ / ١١١ ـ ١١٥.

٤١٦

تفسير البغوي : «والله لو كنت عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر» ، وروى الإمام أحمد بسنده عن أنس بن مالك : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لما أسرى به ، مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر» ، وفي رواية قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مررت على موسى ليلة أسرى بي عن الكثيب الأحمر ، وهو قائم يصلي في قبره» (رواه مسلم والنسائي وأحمد).

وروى الإمام أحمد وابن جرير بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن ملك الموت كان يأتي الناس عيانا حتى أتى موسى فلطمه ففقأ عينه ، قال فرجع فقال : يا رب إن عبدك موسى فقأ عيني ، ولو لا كرامته عليك لشققت عليه ، فقال : ائت عبدي موسى فقل له : فليضع يده على متن ثور ، فله بكل شعرة وارت يده سنة ، وخيّره بين ذلك وبين أن يموت الآن ، قال فأتاه فخيّره ، فقال له موسى : فما بعد ذلك؟ قال الموت ، قال : فالآن إذا ، قال : فشمه شمه قبض روحه ، قال : فجاء بعد ذلك إلى الناس خفية» (١).

هذا وتقول التوراة في التثنية (٣ ـ ٢٩) وقال الرب لموسى : «اصعد إلى رأس الفسجة وارفع عينيك إلى الغرب والشمال والجنوب والشرق وانظر بعينيك لكي لا تعبر هذا الأردن ، وأما يشوع فأوصه وشدّده وشجعه لأنه هو يعبر أمام هذا الشعب وهو يقسم لهم الأرض التي تراها ، فمكثنا في الجواء مقابل بيت فغور» ، ثم تقول في أخر سفر التثنية نفسه (٣٤ ـ ٨) «وصعد موسى من عربات مؤاب إلى جبل نبو إلى رأس الفسجة الذي في قبالة أريحا ، فأراه الله الأرض من جلعاد إلى دان ، وجميع نفتالي وأرض أفرايم ومنسي وجميع أرض يهوذا إلى البحر الغربي والجنوب والدائرة بقعة أريحا أرض النخل إلى صوغر ، وقال له الرب : هذه هي الأرض التي

__________________

(١) تاريخ الطبري ١ / ٤٣٤ ، ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ٣١٩.

٤١٧

أقسمت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب قائلا لنسلك أعطيها ، قد أريتك إياها بعينيك ولكنك إلى هناك لا تعبر ، فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مؤاب حسب قول الرب ، ودفنه في الجواء في أرض مؤاب مقابل بيت فغور ، ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم (١) ، وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات ، ولم تكل عينه ولا ذهبت نضارته ، فبكى بنو إسرائيل موسى في عربات مؤاب ثلاثين يوما ، فكملت أيام بكاء مناحة موسى».

وهكذا يذهب المؤرخون المحدثون إلى أنه من هناك من رأس الفسجة ، التي يفترض أنها جزء من جبل «نبو» (٢) ، وطبقا لرواية التوراة ، ينظر موسى إلى أرض الميعاد ، ثم يموت ويدفن في أرض «مؤاب» ، ومن المحتمل أن جبل «نبو» إنما هو جبل «نبا» الحالي ، على مبعدة ثمانية أميال إلى الشرق من نهر الأردن ، وأما «الفسجة» فربما كانت القمة الغربية والسفلى لنفس الجبل ، ويقودنا الطريق المنحدر من الجبل إلى «عيون موسى» ، التي تشرف على خرائب قلعة «خربة عين موسى» (٣) ، وهناك كذلك خرائب بعيدة عنها ، وتعرف بـ «خربة المخيط» ، التي يمكن أن توجد بمدينة «نبو» ، على مبعدة خمسة أميال إلى الجنوب الشرقي من «حسبان» ، بينما على الجبل نفسه بقايا كنيسة بيزنطية (٤).

ومن الغريب المؤلم ، أننا نقرأ في التوراة (٥) ، أن موت موسى وهارون إنما كان بسبب خيانتهما للرب «عند ماء مريبة قادش في برية صين» إذا لم

__________________

(١) روى أن الإمام مالك قال : إنه لا يعرف قبر نبي اليوم على وجه الأرض ، غير قبر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن كان قبر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عندهم ، فينبغي أن يعرف فضلهم على غيرهم».

(٢) ١٩٤١ S. J. Saller, The Memorial of Moses on Mount Nebo, ٢ Vois, London,

(٣)١٤٣.p ، ١٩٤٥. N, Glueck, The other Side of the Jordan, New Haven ,

(٤) قاموس الكتاب المقدس ٢ / ٩٥٣ ـ ٢٩٥٤ ، وكذا ،١٥٥ J ,Finegan ,op ـ cit.P ..

(٥) تثنية ٣٢ : ٤٨ ـ ٥٠.

٤١٨

يقدسانه في وسط بني إسرائيل ، ومن هنا فقد حرم الله الأرض المقدسة على موسى أبدا.

ويعلم الله ـ وتشهد ملائكته ـ أن موسى وهارون لم يكونا كما صورتهما يهود في التوراة ، وإنما كانا رسولين كريمين ، بذلا الجهد ـ كل الجهد ـ في تبليغ دعوة ربهما ، وأفنيا عمرهما من أجلها ، حتى لقيا الله مطمئنين إلى رضاه ، وهكذا نرى القرآن الكريم يكرمهما أمجد تكريم ، حيث يقول سبحانه وتعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً ، وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا ، وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا ، وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) (١) ، ويقول : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ ، وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ ، وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ ، سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (٢) ، ويقول عن موسى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٣) ، ويقول : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (٤) ، ويقول : (يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي ، فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (٥).

__________________

(١) سورة مريم : آية ٥١ ـ ٥٣ وانظر : تفسير البيضاوي ٢ / ٣٦ ، تفسير الألوسي ١٦ / ١٩٣ ـ ١٩٤ ، تفسير الفخر الرازي ٢١ / ٢٢١ ، تفسير الطبري ١٦ / ٩٤ ـ ، تفسير الطبرسي ١٦ / ٤٤ ـ ٤٦ تفسير القاسمي ١١ / ٤١٤٩ ، تفسير القرطبي ص ٤١٥٢ ـ ٤١٥٣.

(٢) سورة الصافات : آية ١١٤ ـ ١٢٢ ، وانظر : تفسير البيضاوي ٣ / ٢٩٨ ـ ٢٩٩ ، تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ١٥٩ ـ ١٦٠ ، تفسير الطبري ٢٣ / ٩٠ ـ ٩٢ تفسير روح المعاني ٢٣ / ١٣٨ ـ ١٣٩ ، تفسير ابن كثير ٧ / ٣١ ـ ٣٣ ، تفسير القرطمي ١٥ / ١١٤ ـ ١١٥.

(٣) سورة طه : آية ٣٩.

(٤) سورة طه : آية ٤١.

(٥) سورة الأعراف : آية ١٤٤ ، وانظر : الجواهر في تفسير القرآن الكريم ٤ / ٧ ـ ٢ ، تفسير الطبري ١٣ / ١٠٦ ـ ١٠٧ ، تفسير الطبرسي ١٩ / ١٨ ـ ٢٠ ، تفسير القاسمي ٧ / ٢٨٥٤ ، تفسير ـ

٤١٩

وهكذا يرفع القرآن الكريم هذين النبيين الكريمين إلى الدرجة التي يستحقانها ، ثم يطلب إلى المؤمنين به أن يرتفعوا إلى مستوى دينهم القويم ، فلا يتأثروا بما يعرفون عن بني إسرائيل في حكمهم على موسى عليه‌السلام (١) ، فيقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا ، وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) (٢).

انتقل موسى ، عليه‌السلام ، راضيا مرضيا عنه ، وقد أكمل الرسالة ، وبلغ الدعوة ، ونقرأ في التوراة (٣) : «وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات» (٤) ، وليست هناك أية دلائل في التوراة تشير إلى أن موسى لقي ميتة عنيفة ، غير طبيعية غير أننا نرى في عام ١٩٢٢ م «أرنست سيللين» يزعم أنه قد وجد في بعض فقرات من سفر «هوشع» (٥) بقايا تقاليد مختلفة ، ترى أن موسى قد مات شهيدا ، فقد ذبحه الكهنة الذين أطاحوا تماما بالدين الذي أسسه (٦).

وفي عام ١٩٣٨ م ، أصدر «سيجموند فرويد» كتابه الشهير «موسى والتوحيد» ، زعم فيه أن هذه التقاليد ـ الآنفة الذكر ، لم تكن مقصورة على

__________________

ـ المنار ٩ / ١٠٤ ـ ١١٢ ، تفسير القرطبي ص ٢٧١٦ ، تفسير وجدي ص ٢١٤ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٤٧١.

(١) عبد الرحيم فودة : المرجع السابق ص ٢١٤.

(٢) سورة الأحزاب : آية ٦٩ ، وانظر : تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٢٣٣ ، تفسير القرطبي ١٤ / ٢٥٠ ـ ٢٥٢ (القاهرة ١٩٦٧) ، تفسير وجدي ص ٥٦١ ، تفسير الطبري ٢٢ / ٥٠ ـ ٥٣.

(٣) تثنية ٣٤ : ٧.

(٤) ترى التقاليد اليهودية والنصرانية أن موسى أقام في مدين أربعين عاما ، وأنه حين خرج من مصر لاجئا إلى مدين كان في الأربعين من عمره ، ثم بعث نبيا وهو في الثمانين ، وأنه مات وهو ابن مائة وعشرون سنة (أعمال الرسل ٧ : ٧ ، ٢٣ ، ٣٠ ، قاموس الكتاب المقدس ٢ / ٩٣١ ، شاهين مكاريوس : المرجع السابق ص ٤٠ ، عدد ١٤ : ٣٣ ، تنبيه ٣٤ : ٧).

(٥) هوشع ٤ : ٤ ـ ٩ ، ٥ : ١ ـ ٤ ، ٨ : ٣ ـ ٧ ، ٩ : ٧ ـ ١١.

(٦) Ernst Sellin Mose und Seine Bedeutung fur die Israelitisch Judischo ١٩٢٢ Religionsgeschic hte. Leipzig,.

٤٢٠