دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٢

ابنته دينة التي ولدتها ليئة ، وهكذا «كان بنو يعقوب اثنى عشر ، بنو ليئة راؤبين بكر يعقوب وشمعون ولاوى ويهودا ويساكر وزبولوث ، وأبناء راحيل يوسف وبنيامين ، وأبناء بلهة جارية راحيل ، دان ونفتالى ، وأبناء زلفة جارية ليئة ، جاد وأشير ، هؤلاء بنو يعقوب الذين ولدوا في فدان أرام (١)» ، ثم هاجر يعقوب ببنيه وزوجاته إلى كنعان (فلسطين) حيث عاشوا في «حبرون» (وتقع على مبعدة ١٩ ميلا جنوب غرب القدس ، وهي مدينة الخليل الحالية ، وفيها قبر إبراهيم وسارة وإسحاق ويعقوب ، حيث يقوم اليوم مسجد كبير هو الحرم الإبراهيمي) وظلوا هناك في أرض كنعان حتى هاجروا إلى مصر بدعوة من الصديق عليه‌السلام.

وهكذا عاش الصديق مع أبيه وإخوته حينا من الدهر في كنعان ، كان الصديق فيها أحب الأخوة إلى أبيه يعقوب النبي عليه‌السلام ، لأنه كان ، فيما تقول توراة اليهود ، «يأتي بنميمتهم الرديئة إلى أبيهم» ، ولأنه «ابن شيخوخته» ولأنه صنع له من دونهم قميصا ملونا ، ولأنه رأى حلمين فسرهما إخوته على أنه سيكون سيدا عليهم ، أما أولهما : ««فها نحن حازمون حزما في الحقل ، وإذا حزمتن قامت وانتصبت فاحتاطت حزمكم وسجدت لحزمتي» ، وأما الثاني فقد رأى فيه «وإذا الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا ساجدة لي ، وقصه على أبيه وعلى إخوته ، فانتهره أبوه ، وقال له ما هذا الحلم الذي حلمت ، هل نأتي أنا وأمك وإخوتك لنسجد لك إلى الأرض ، فحسده إخوته ، وأما أبوه فحفظ الأمر (٢)» ، ولم يشر القرآن الكريم إلا إلى الرؤيا الأخيرة ، وأن أباه أمره أن يكتم رؤياه عن إخوته ، يقول تعالى (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي

__________________

(١) تكوين ٣٥ / ٢٢ ـ ٢٦.

(٢) تكوين ٣٧ / ١ ـ ١١.

٤١

ساجِدِينَ ، قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (١).

وهكذا عرف يعقوب ، كما جاء في تفسير أبي السعود (٤) ، من رؤيا يوسف أن الله تعالى سيبلغه مبلغا جليلا من الحكمة ، ويصطفيه للنبوة ، وينعم عليه بشرف الدارين ، فخاف عليه حسد الأخوة ، ونصحه بأن لا يقص رؤياه عليهم فيكيدوا له ، مع أن يعقوب كان يعلم أنهم ليسوا بقادرين على تحويل ما دلت الرؤيا عليه ، وقد جاء في الأثر «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان ، فإن كل ذي نعمة محسود».

هكذا بدأ إخوة يوسف يضمرون له الشر ، لأنه أحب إلى أبيهم منهم «قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة ، إن أبانا لفي ضلال مبين» ، والآية الكريمة تشير إلى إيثار يعقوب ليوسف وأخيه عليهم ، وهم عصبة (والعصبة والعصابة : العشرة من الرجال فصاعدا سموا بذلك لأن الأمور تعصب بهم) ويقول الشيخ الشعراوي في الفتاوى : إن إيثار فرد بالحب عن الآخرين ينشئ في نفس الآخرين عقدة النقص التي تؤدي إلى أن يكون السلوك غير منطقي على المبدأ الخلقي ، ولذلك حين أحس إخوة يوسف بأن يوسف وأخاه أحب إلى أبيهم منهم ، فكروا في أن يزيحوا ذلك الحب من طريقهم وقالوا : نحن عصبة ، ولو أنهم فهموا بعض الفهم لعرفوا أنهم جاءوا بحيثية امتاز ذلك الصغير بالحب ، لأنهم عصبة ولأنهم أشداء ، وهو صغير يعطف عليه ، فلا يقيسوا العطف والحب هنا على العطف والحب عليهم ، لأنهم اجتازوا مرحلة العطف والحب ، فالإنسان منا يحب صغيره لأنه يعتقد أن هذا الصغير بالنسبة لأخوته هو أقصرهم عمرا معه

__________________

(١) سورة يوسف آية ٤ ـ ٥ ، ٥٥٤ ـ ٥٥٩ ، تفسير المنار ١١ / ٢٩٠ ـ ٢٩٩ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٢٩٧ ـ ٢٩٩ ، تفسير الخازن ٣ / ٢٦١ ـ ٢٦٣.

٤٢

وأنه في حاجة مع العجز إلى شيء كثير من الحب ، فلو أن الكبار فهموا تلك العلاقة لما جعلوها عيبا في الأب (١).

وعلى أية حال ، فالآية ، كما في ظلال القرآن (٢) ، لا تشير إلى علمهم برؤياه ، ولو كانوا قد علموا برؤياه لجاء ذكرها على ألسنتهم (٣) ، ولكانت أدعى إلى أن تلهج ألسنتهم بالحقد عليه ، فما خافه يعقوب على يوسف لو قص رؤياه على إخوته قد تم عن طريق آخر ، وهو حقدهم عليه لإيثار أبيهم له ، ولم يكن بد أن يتم لأنه حلقة في سلسلة الرواية الكبرى المرسومة لتصل بيوسف إلى النهاية المرسومة ، والتي تمهد لها ظروف حياته وواقع أسرته ، ومجيئه لأبيه على كبره ، وأصغر الأبناء هم أحب الأبناء ، وبخاصة حين يكون الوالد في سن الكبر ، كما كان الحال مع يوسف وأخيه ، وإخوته من أمهات ، وهكذا بدأ الحقد يغلي في نفوس إخوة يوسف ، ويدخل الشيطان بينهم ، فيختل تقديرهم للواقع ، وتتضخم في حسهم أشياء صغيرة ، وتهون أحداث ضخام ، تهون الفعلة الشفعاء المتمثلة في إزهاق روح غلام برىء لا يملك دفعا عن نفسه ، وهو أخ لهم ، وهم أبناء نبيّ ، وإن لم يكونوا هم أنبياء ، يهون هذا ، وتتضخم في أعينهم حكاية إيثار أبيهم له بالحب ، حتى توازى القتل ، أكبر جرائم الأرض قاطبة ، بعد الشرك بالله ، وهكذا دبروا له مكيدة ، كي يخلو لهم وجه أبيهم ، وأنجزوا خطتهم للتخلص منه ، بأن (اقْتُلُوا يُوسُفَ

__________________

(١) محمد متولي الشعراوي : الفتاوى ١٠ / ٧١ ـ ٧٤ (بيروت ١٩٨٢).

(٢) في ظلال القرآن ٤ / ١٩٧٣ (بيروت ١٩٨٢).

(٣) جاء في تاريخ ابن الأثير : أن امرأة يعقوب سمعت ما قال يوسف لأبيه ، فقال لها يعقوب : اكتمي ما قال يوسف ولا تخبري أولادك ، قالت نعم ، فلما أقبل أولاد يعقوب من الرعي أخبرتهم بالرؤيا ، فازدادوا حسدا وكراهة له وقالوا : ما عنى بالشمس غير أبينا ولا بالقمر غيرك ولا بالكواكب غيرنا ، إن ابن راحيل يريد أن يمتلك علينا ويقول : أنا سيدكم. (الكامل ١ / ٧٨ ـ ٧٩).

٤٣

أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) (١).

وفي الواقع ، فإن قصة الصديق ، كما جاءت في التوراة والقرآن العظيم ، إنما تشير بوضوح إلى أن إخوته إنما ظلوا ردحا من الزمن ضحايا الكبت الذي عانوه ، كي يخفوا رغبتهم في التخلص من يوسف رغبة في أن يخلوا لهم حب أبيهم ، ولكنهم كانوا يفشلون في إخفائها وكبتها ، بل كثيرا ما كانت تبدو فيما يصدر عنهم من مواقف أو كلمات ضد يوسف ، مما جعل أباهم يعقوب يشك في حسن نواياهم ، عند ما دعوا يوسف ليلعب معهم (٢) ، فقال لهم (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) (٣) ، وهو في الواقع إنما كان يتخوف عليه من عدوانهم أكثر مما يتخوف عليه عدوان الذئب ، ولكنه أراد أن يصرفهم عنه بتلك الفعلة ، ولكن إخوة يوسف كانوا بارعين في الدهاء ، فقالوا لأبيهم (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) (٤).

وهكذا كان من نتيجة الكبت الذي عانوه أن انحرفوا بتفكيرهم ، فكل ما كان يهمهم تحقيقه هو أن يحولوا بين يوسف وأبيه فاتفقوا على قتله ، وتلطيخ قميصه بالدم ، وادعاء أن الذئب أكله ، لما ذهبوا يتسابقون وتركوه عند متاعهم ، غير أن التلفيق كان واضحا ، أو كان ساذجا ، لأن القميص لم يكن ممزقا بآثار أسنان الذئب ، أو كما قال يعقوب ، في رواية السدى ، إن كان هذا الذئب لرحيما ، كيف أكل لحمه ولم يخرق قميصه (٥) ، وهكذا ألهاهم

__________________

(١) سورة يوسف : آية ٩.

(٢) التهامى نقرة : سيكولوجية القصة في القرآن ـ تونس ١٩٧٤ ص ١٥٦ (رسالة دكتوراه).

(٣) سورة يوسف آية ١٣.

(٤) سورة يوسف : آية ١٤.

(٥) جاء في تفسير الطبري عن ابن عباس أنه قال : ذبحوا شاة ولطخوا بدمها القميص ، فلما جاءوا يعقوب قال : كذبتم لو أكله الذئب لمزق قميصه ، وفي رواية أخرى ، كما في تفسير النسفى

٤٤

الحقد الفائر عن سبك الكذبة ، فلو كانوا أهدأ أعصابا ما فعلوها منذ المرة الأولى التي يأذن لهم فيها يعقوب باصطحاب يوسف معهم ، ولكنهم كانوا معجلين لا يصبرون ، يخشون أن لا تؤاتيهم الفرصة مرة أخرى ، كذلك كان التقاطهم لحكاية الذئب المكشوفة دليلا على التسرع ، وقد كان أبوهم يحذرهم فيها أمس وهم ينفونها ، ويكادون يتهكمون بها ، فلم يكن من المستساغ أن يذهبوا في الصباح ليتركوا يوسف للذئب الذي حذرهم منه أبوهم أمس ، وبمثل هذا التسرع جاءوا على قميصه بدم كذب لطخوه في غير إتقان ، فكان ظاهر الكذب حتى ليوصف بأنه كذب (١) ، الأمر الذي جعل يعقوب لا يصدقهم ، ولهذا كان يدعوهم دائما إلى أن يتقصوا آثار أخيهم ، وقد وقعوا في حالة «التبرير» ، كما يفعل المذنب ، إذ يعمد إلى تفسير سلوكه ليبيّن لنفسه وللناس أن لسلوكه هذا أسبابا معقولة (٢) ، فهم يقولون (يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا ، فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) (٣).

وعلى أية حال ، فلقد كان أخوة يوسف قد أجمعوا أمرهم على أن

__________________

ـ وأبي السعود والخازن ، نهم ذبحوا سخلة ولطخوا القميص بدمها ، وزل عنهم أن يمزقوا القميص ، فلما سمع يعقوب بخبر يوسف صاح بأعلى صوته ، وقال : أين القميص وأخذوه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال : تالله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا ، أكله ولم يمزق عليه قميصه ، وفي رواية ثالثة في تفسير الخازن أنهم أتوا بذئب وقالوا ليعقوب : هذا أكل ابنك ، فقال الذئب حين سأله ، وقد أنطقه الله ، والله ما أكلت وما رأيت ولدك قط ، ولا يحل لنا أن نأكل لحوم الأنبياء ، فقال يعقوب كيف وقعت في أرض كنعان ، قال : أتيت لصلة الرحم فأخذوني وأتوا بي إليك فأطلقه يعقوب (انظر : تفسير الطبري ١٢ / ١٦٤ ، تفسير أبي السعود ٤ / ٢٦٠ ، تفسير الخازن ٣ / ٢٦٩ ، تفسير النسفى ٢ / ٢١٤ ـ ٢١٥ ، صفوة التفاسير ٢ / ٤٤).

(١) في ظلال القرآن ٤ / ١٩٧٥ ـ ١٩٧٦.

(٢) التهامي نقرة : المرجع السابق ص ٥١٦ ـ ٥١٧.

(٣) سورة يوسف : آية ١٧.

٤٥

يجعلوه في غيابت الجب (١) ، ولكنهم سرعان ما غيروا رأيهم حيث أشار يهوذا على أن يبيعوه للإسماعيليين ، ولكن الأمور لم تسر كما يرغبون ، وكما تقول التوراة «جاء رجال مديانيون تجار فسحبوا يوسف وأصعدوه من البئر ، وباعوا يوسف للإسماعيليين بعشرين من الفضة ، فأتوا بيوسف إلى مصر (٢)» ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ ، قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ ، وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ ، وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) (٣).

وهكذا هبط الصديق مصر ، كرقيق اشتراه رئيس الشرطة المصري بثمن بخس دراهم معدودة ، رأى بعض المفسرين أنها دون الأربعين ، على أساس أنها معدودة لا موزونة ، وإنما يعدّ القليل ، ويوزن الكثير ، وكانت العرب تزن ما بلغ الأوقية ، وهي أربعون درهما مما فوقها ، وتعدّ ما دونها ، ولهذا يعبرون عن القليلة بالمعدودة ، وذهب ابن عباس وابن مسعود وغيرهما إلى أنهم باعوه بعشرين درهما ، بينما ذهب فريق ثالث إلى أنهم باعوه بأربعين درهما (٤) ، وأيا ما كان الأمر ، فقد كانت هذه نهاية المحنة الأولى في حياة النبي الكريم.

__________________

(١) ذهب بعض المفسرين إلى أنها بئر بأرض الأردن أو هي بين مصر ومدين أو هي على مبعدة ثلاثة فراسخ من منازل يعقوب في كنعان ، وهو الأرجح ، أو هي بئر المقدس ، غير أن التقاط السيارة له ومجيئهم أباهم عشاء يبكون ذلك اليوم ، يضعف هذا الإتجاه (تفسير أبي السعود ٤ / ٢٥٨ ، تفسير النسف ٢ / ٢١٤).

(٢) تكوين ٣٧ / ١٨ ـ ٢٨.

(٣) سورة يوسف : آية ١٩ ـ ٢٠.

(٤) تفسير الطبري ١٦ / ١٣ ـ ١٦ ، تفسير القرطبي ٩ / ١٥٥ ـ ١٥٧ ، تفسير المنار ٢ / ٢٨١ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٣٠٥ ، تفسير روح المعاني ١٢ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥ ، تفسير أبي السعود ٤ / ٢٦١ ، تفسير الخازن ٣ / ٢٧١ ، تفسير النسفى ٢ / ٢١٥ ، مؤتمر تفسير سورة يوسف ١ / ٤٢١ ـ ٤٢٧ ، المقدسي : البدء والتأريخ ٣ / ٦٨.

٤٦

بقيت الإشارة إلى أن هناك فريقا من المفسرين ذهب إلى أن أخوة يوسف كانوا أنبياء ، واستدلوا على ذلك بأنهم الأسباط المذكورون في آية آل عمران (٨٤) (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) ، والصحيح أن الأسباط ليسوا أولاد يعقوب ، وإنما هم القبائل من ذرية يعقوب ، كما نبه عليه المحققون (١) ، هذا وقد جاء في المصباح المنير : السبط ولد الولد ، والجمع أسباط ، مثل حمل وأحمال ، والسبط : الفريق من اليهود ، يقال للعرب قبائل ، ولليهود أسباط ، ومن هنا ذهب المفسرون المسلمون إلى أن الأسباط هم بنو يعقوب ، كانوا اثنى عشر رجلا ، كل واحد منهم ولد سبطا ، أمة من الناس ، فسموا أسباطا ، هذا وقد بعث الله منهم عدة رسل ، غير أنه لم يصح أن أخوة يوسف بالذات كانوا أنبياء ، إذ لو كانوا كذلك لما أقدموا عليه من الأفعال الشنيعة ، فالحسد والسعي بالفساد ، والإقدام على القتل ، والكذب ، وإلقاء يوسف في الجب ، كل ذلك من الكبائر التي تتنافى في عصمة الأنبياء ، فالقول بأنهم أنبياء ، مع هذه الجرائم ، لا يقبله عقل حصيف (٢) ، ويقول ابن كثير : وظاهر ما ذكرنا من فعالهم ومقالهم في هذه القصة يدل على أنهم غير أنبياء ، ومن استدل بنبوتهم بآية آل عمران (٨٤) وزعم أن هؤلاء هم الأسباط فليس استدلال بقوى ، لأن المراد بالأسباط شعوب بني إسرائيل وما كان يوجد فيهم من الأنبياء ينزل عليهم الوحي من السماء ، ومما يؤيد أن يوسف عليه‌السلام هو المختص من

__________________

(١) يذهب البعض إلى أن الأسباط كانوا من بني إسماعيل الذين أرسل الله إليهم رسلا ، لم يذكروا أسماءهم ولا أممهم ، وبخاصة من بني قحطان ، كقوم تبع وأصحاب الرس وسبأ (انظر صابر طيحة : بنو إسرائيل في ميزان القرآن ـ بيروت ١٩٧٥ ص ١٨١ ـ ١٩٦).

(٢) محمد علي الصابوني : صفوة التفاسير ٢ / ٤٥ ـ ٤٦ (بيروت ١٩٨١) ، تفسير الطبري ٢ / ١٢١ ، ٣ / ١١١ ، ١١٣ ، ٦ / ٥٦٩ ، تفسير الكشاف ١ / ١٩٥ ، تفسير روح المعاني ١٦ / ٦ ، في ظلال القرآن ٤ / ١٩٧٣ ، محمد بيومي مهران : إسرائيل ١ / ١٥٠.

٤٧

بين إخوته بالرسالة والنبوة أنه لم ينص على واحد من إخوته سواه ، فدل على ما ذكرناه (١).

(٢) يوسف وامرأة العزيز :

اشترى عزيز مصر يوسف من تجار الرقيق ، ثم ذهب به إلى بيته وقال لامرأته «اكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا (٢)» ، ذلك لأن الرجل إنما توسم في الصديق خيرا ، والخير يتوسم في الوجوه الصباح ، وخاصة حين تصاحبها السجايا الملاح ، فإذا هو يوصي به امرأته خيرا ، وهكذا بدأ الصديق مرحلة جديدة في حياته في قصر عزيز مصر الذي اشتراه ، وهو طبقا للرواية العربية ، الوزير بمصر ، وكان اسمه ، فيما يروى عن ابن عباس ، «قطفير» وكان على خزائن مصر ، وكان الملك يومئذ «الريان بن الوليد» رجل من العماليق ، واسم امرأته راعيل أو زليخا (٣).

على أن العجيب من الأمر أن تصف التوراة عزيز مصر بأنه «خصى فرعون رئيس الشرطة» (٤) ، ولست أدري كيف دار في خلد كاتب نص التوراة هذا ، بأن رئيس الشرطة المصري كان خصيا ، ومن عجب أن هذه الأكاذيب قد انتقلت إلى بعض كتب التفسير ، وإن رفضتها جمهرة المفسرين (٥) ، وكأن

__________________

(١) ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٢) سورة يوسف : آية ٢١ : وروى ابن كثير في تفسيره عن عبد الله بن مسعود قال : أفرس الناس ثلاثة : عزيز مصر ، حين قال لامرأته «أكرمي مثواه» والمرأة التي قالت لأبيها عن موسى «يا أبت استأجره» ، وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنهما (مختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٢٤٥).

(٣) مختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٢٤٤.

(٤) تكوين ٢٩ / ١.

(٥) تفسير الطبري ١٦ / ١٩ ، تفسير القرطبي ص ٣٣٨٩ ، تفسير أبي السعود ٤ / ٢٨٦ ، تفسير الخازن ٣ / ٢٩٣ ، وانظر : تفسير البيضاوي ١ / ٤٩١ ، تفسير المنار ١٢ / ٢٧٢ ، تفسير روح المعاني ١٢ / ٢٠٧ ، مؤتمر تفسير سورة يوسف ١ / ٤٣٤ ، ٥٠٣ ـ ٥٠٤ ، ١ / ٥٢٥ ـ ٥٢٦.

٤٨

الرجل لم يكن شافعا له ، في نظر كتبة التوراة ومن لفّ لفّهم ، في دحض هذه الغيرة ، أنه كان زوج أجمل سيدة في مجتمع الهكسوس ، ولكن ما الحيلة وصاحب سفر التكوين من التوراة إنما يرى أن حاشية القصر كانت كلها من الخصيان ، حتى لنجده كذلك يصف رئيس سقاة الملك ورئيس خبازية بأنهما من الخصيان (١).

غير أن الصديق ، عليه‌السلام ، إنما تعرض في أخريات أيامه في قصر العزيز إلى امتحان رهيب ، بدأت به المحنة الثانية في حياته ، وهي أشد من المحنة الأولى ، تجيئه وقد أوتي صحة الحكم ، وأوتي العلم ، ليواجهها وينجو منها جزاء إحسانه الذي سجله الله تعالى في قرآنه ، وذلك حين راودته امرأة العزيز عن نفسه ، لأنها افتتنت بحسنه فأحبته ، وليس لها ما يردعها من خوف زوجها عن خيانته ، لأنها تملك قيادة كما يشاء هواها ، شأن ربات القصور المترفات اللائي أفسدت طباعهن الحرية والفراغ ، وكادت له لما رفض أن يستجيب ، لأن لها من نفاذ الكلمة ومن السلطان على زوجها ما مكنها من الانتقام ، رغم ما عرف زوجها من آيات صدقه (٢). وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ ، وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ ، قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها ، لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (٣) ، ويقول الأستاذ سيد قطب (٤) ، طيب الله ثراه ، إن هذه الدعوة السافرة الجاهرة من امرأة العزيز ، لا تكون

__________________

(١) تكوين ٤٠ / ٢.

(٢) التهامى نفرة : المرجع السابق ص ٥١٢.

(٣) سورة يوسف : آية ٢٣ ـ ٢٤ ، وانظر : تفسير الطبري ١٦ / ٢٤ ـ ٥٠ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٣٠٦ ـ ٣٠٩ ، تفسير المنار ١٢ / ٢٢٧ ـ ٢٣٥ ، تفسير القرطبي ص ٣٣٩١ ـ ٣٣٩٩.

(٤) في ظلال القرآن ٤ / ١٩٨٠ ـ ١٩٨١ (بيروت ١٩٨٢).

٤٩

أول دعوة من المرأة ، إنما تكون هي الدعوة الأخيرة ، وقد لا تكون أبدا ، إذا لم تضطر إليها المرأة اضطرارا ، والفتى يعيش معها وقوته وفتوته تتكامل ، وأنوثتها هي تكمل وتنضج ، فلا بد كانت هناك إغراءات شتى خفيفة لطيفة ، قبل هذه المفاجأة العنيفة الغليظة ، «قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي ، إنه لا يفلح الظالمون» ، والنص هنا صريح وقاطع في أن رد يوسف المباشر على المراودة السافرة كان هو التأبي ، المصحوب بتذكير نعمة الله عليه ، وتذكر حدوده وجزاء من يتجاوز هذه الحدود ، فلم تكن هناك استجابة في أول الموقف لما دعته إليه دعوة غليظة جاهرة بعد تغليق الأبواب ، وبعد الهتاف باللفظ الصريح الذي يتجمل القرآن في حكايته وروايته وقالت : هيت لك. هذا وقد حصر المفسرون القدامى منهم والمحدثون نظرهم في الواقعة الأخيرة «ولقد همّت به وهمّ بها لو لا أن رأى برهان ربه» ، فأما الذين ساروا وراء الإسرائليات فقد رووا أساطير كثيرة يصورون فيها يوسف هائج الغريزة ومندفعا شبقا ، والله يدافعه ببراهين كثيرة فلا يندفع ، صورت له هيئة أبيه يعقوب في سقف المخدع عاضا على إصبعه بفمه ، وصورت له لوحات كتبت عليها آيات من القرآن (نعم القرآن) تنهى عن مثل هذا المنكر ، وهو لا يرعوى ، حتى أرسل الله جبريل يقول له : أدرك عبدي ، فجاء فضربه على صدره ، إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي سار وراءها بعض الرواة ، وهي واضحة التلفيق والاختراع (١).

على أن جمهور المفسرين إنما ساروا على أنها همّت به همّ الفعل ، وهمّ بها همّ النفس ، ثم تجلى له برهان ربه فتركه ، وأنكر صاحب تفسير

__________________

(١) في ظلال القرآن ٤ / ١٩٨١ ثم انظر : تفسير النسفى ٢ / ٢١٧ ، تفسير الطبري ١٦ / ٣٣ ـ ٤٨ تفسير ابن كثير ٤ / ٣٠٨ ـ ٣٠٩ تفسير القرطبي ص ٣٣٩١ ـ ٣٣٩٨ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٣٧ ـ ٣٣٨ ، الكامل لابن الأثير ١ / ٨٠ ـ ٨١ ، ومن عجب أن التوراة لم تذكر شيئا مما ذكره المفسرون من هذه الروايات ، كما جاءت قصة المراودة في سفر التكوين ٣٩ / ٧ ـ ٢٠.

٥٠

المنار على الجمهور هذا الرأي ، ويقول الإمام الفخر الرازي : الهم خطور الشيء بالبال أو ميل الطبع ، كالصائم يرى في الصيف الماء البارد ، فتحمله نفسه على الميل إليه وطلب شربه ، ولكن يمنعه دينه عنه ، وقال أبو حيان في البحر : نسب بعضهم ليوسف ما لا يجوز نسبته لآحاد الفساق والذي اختاره أن يوسف عليه‌السلام لم يقع منه همّ البتة ، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان ، وقال أبو السعود : إن همّه إليها بمعنى ميله إليها بمقتضى الطبيعة البشرية ، ميلا جليا ، لأنه قصدها قصدا اختياريا ، الا يرى إلى ما سبق من استعصامه المنبئ عن كمال كراهيته له ونفرته منه ، وحكمه بعدم إفلاح الظالمين ، وهل هو إلا تسجيل باستحالة صدور الهمّ منه تسجيلا محكما ، وما قيل : إنه حلّ الهميان ، وجلس مجلس الختان ، فإنما هي خرافات وأباطيل تمجّها الأذان ، وتردها العقول والأذهان (١).

هذا وقد ذهب صاحب تفسير المنار (٢) إلى أنها همت بضربه نتيجة إبائه وإهانته لها ، وهي السيدة الآمرة ، وهمّ هو برد الاعتداء ، ولكنه آثر الهرب فلحقت به وقدت قميصه من دبر ، على أن تفسير الهمّ ، فيما يرى صاحب الظلال (٣) ، بأنه همّ الضرب ورد الضرب مسألة لا دليل عليها في العبارة ، فهم مجرد رأى لمحاولة البعد بيوسف عن همّ الفعل أو همّ الميل إليه في تلك الواقعة ، وفيه تكلف وإبعاد عن مدلول النص ، ثم يرى في قوله تعالى (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) نهاية موقف طويل من الإغراء ، بعد ما أبى يوسف في أول الأمر واستعصم ، وهو تصوير واقعي صادق لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف ، ثم الاعتصام بالله في النهاية

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ١٨ / ١١٩ ، تفسير البحر المحيط ٥ / ٢٩٥ ، تفسير أبي السعود ٢ / ٦٣ ، تفسير المنار ١٢ / ٢٣١ ـ ١٣٦.

(٢) تفسير المنار ١٢ / ٢٢٩ ـ ٢٣١.

(٣) في ظلال القرآن ٤ / ١٩٨١ ـ ١٩٨٢ (بيروت ١٩٨٢).

٥١

والنجاة ، ولكن السياق القرآني لم يفصل في تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة ، لأن المنهج القرآني لا يريد أن يجعل من تلك اللحظة معرضا يستغرق أكثر من مساحته المناسبة في محيط القصة ، وفي محيط الحياة البشرية الكاملة كذلك ، فذكر طرفي الموقف بين الاعتصام في أوله والاعتصام في نهايته ، مع الإلمام بلحظة الضعف بينهما ، ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعا ، ثم يرى صاحب الظلال بعد ذلك أن ذلك أقرب إلى الطبيعة البشرية وإلى العصمة النبوية ، وما كان يوسف سوى بشر ، نعم إنه بشر ممتاز ، ومن ثم لم يتجاوز همه الميل النفسي في لحظة من اللحظات ، فلما رأى برهان ربه الذي نبض في ضميره وقلبه ، بعد لحظة الضعف الطارئة عاد إلى الاعتصام والتأبي.

ولعل هذا قريبا مما ذهب إليه الزمخشري في الكشاف حيث يقول : فإن قلت : كيف جاز على نبي الله أن يكون منه همّ بالمعصية وقصد إليها ، قلت (أي الزمخشري) المراد أن نفسه مالت إلى المخالطة ، ونازعت إليها عن شهوة الشباب وقرمه ميلا يشبه الهمّ به والقصد إليه ، وكما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم ، وهو يسر ما به ويرده بالنظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم ، ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى همّا لشدته ، لما كان صاحبه ممدوحا عند الله بالامتناع ، لأن استعظام الصبر على الابتلاء على حسب عظيم الابتلاء وشدته.

وأيا ما كان الأمر ، فلقد آثر الصديق التخلص بعد أن استفاق ، وهي عدت خلفه لتمسك به ، وهي ما تزال في هياجها الحيواني (وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ ، قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها ، إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ ، وَإِنْ كانَ

٥٢

قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ، قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ، يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ، وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) (١).

هذا وقد اختلف المفسرون في هذا الشاهد ، قيل هو ابن عم امرأة العزيز ، وكان جالسا مع زوجها لدى الباب ، وقيل كان حكيما يرجع إليه الملك ويستشيره ، وربما كان بعض أهلها قد بصر بها من حيث لا تشعر فأغضبه الله تعالى لنبيه بالشهادة له والقيام بالحق ، وإنما ألقى الله الشهادة إلى من هو من أهلها ليكون أدل على نزاهته وأنفى للتهمة (٢) ، قال أبو حيان في البحر : وكونه من أهلها أوجب للحجة عليها ، وأوثق لبراءة يوسف ، وأنفى للتهمة (٣) ، وذهب جماعة من علماء السلف ، على رأسهم ابن عباس والحسن البصري وسعيد بن جبير والضحاك ، أنه كان صبيا في الدار ، واختاره ابن جرير ، وفيه حديث مرفوع رواه ابن جرير عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تكلم أربعة وهم صغار» فذكر فيهم شاهد يوسف ، ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : «تكلم أربعة وهم صغار ، ابن ماشطة بنت فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريح ، وعيسى بن مريم» ، ورواه الحاكم عن أبي هريرة (٤) ، وهكذا ظهرت براءة يوسف عليه‌السلام للعزيز ، فقال له «يوسف أعرض عن هذا» أي لا تذكره لأحد ، لأن كتمان مثل هذه الأمور ، كما يقول ابن كثير ، هو الأليق والأحسن ، وأمرها هي بالاستغفار لذنبها الذي صدر منها ، والتوبة إلى ربها ، فإن العبد إذا تاب إلى الله تاب

__________________

(١) سورة يوسف : آية ٢٥ ـ ٢٩.

(٢) تفسير أبي السعود ٤ / ٢٦٨.

(٣) تفسير البحر المحيط ٥ / ٢٩٧.

(٤) مختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٢٤٧ ، وانظر : تفسير الطبري ١٢ / ١٩٣ ، تفسير النسفي ٢ / ٢١٨ ، تفسير أبي السعود ٤ / ٢٦٨.

٥٣

الله عليه ، وأهل مصر ، وإن كانوا يعبدون الأصنام ، إلا أنهم يعلمون أن الذي يغفر الذنوب ويؤاخذ بها ، هو الله وحده لا شريك له في ذلك (١).

غير أن أنباء الفضيحة سرعان ما تترامى إلى الناس ، وطفق النساء خاصة يتحدثن بسقطة امرأة العزيز ، ويتناقلنها بينهن ، وأنها شغفت حبا بفتاها وخادمها ، وكيف خرجت على طبع أنوثتها في إدلالها وتمنعها ، ونزلت عن كبريائها وسلطانها (٢) ، (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣) ، وفي ذلك إشباع في اللوم ، فإن من لا زوج لها من النساء ، أو لها زوج دنيء ، قد تعذر في مراودة الأخدان ، لا سيما إذا كان فيهم علو الجانب ، وأما التي لها زوج ، وأي زوج ، إنه عزيز مصر ، فمراودتها لغيره ، لا سيما لعبدها الذي لا كفاءة بينها وبينه أصلا ، وتماديها في ذلك ، إنما هو غاية الغي ونهاية الضلال (٤) ، (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً ، وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً ، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (٥)

هذا وتشير الآية الكريمة إلى أن امرأة العزيز إنما أرادت أن ترد على النساء اللواتي أطلقن ألسنتهن فيها بمكر يوقعهن فيما وقعت فيه من طريق ثغرة الضعف الغريزي الشهوي الذي تعرفه فيهن من معرفتها لنفسها ، ومن ثم فقد أقامت لهن مأدبة في قصرها ، وبدهي أنهن كن من نساء الطبقة الراقية اللواتي يهمها أمرهن ، وهن اللواتي يدعين إلى الموائد في القصور ، ويؤخذ

__________________

(١) ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ٢٠٤.

(٢) التهامي نقرة : المرجع السابق ص ٥١٢.

(٣) سورة يوسف : آية ٣٠.

(٤) تفسير أبي السعود ٤ / ٢٧٠.

(٥) سورة يوسف : آية ٣١.

٥٤

بهذه الوسائل الناعمة المظهر ، وأنهن كن يأكلن وهن متكئات على الوسائد والحشايا ، فأعدت لهن هذا المتكأ ، وآتت كل واحدة منهن سكينا تستعملها في الطعام ، ويؤخذ من هذا أن الحضارة في مصر كانت قد بلغت شأوا بعيدا ، وأن الترف في القصور كان عظيما ، فإن استعمال السكاكين في الأكل قبل هذه الآلف من السنين له قيمة في تصوير الترف والحضارة المصرية بين حكام مصر من الهكسوس ، وهم خليط من شعوب شتى ، فما بالك بالمصريين أنفسهم ، وهم أرفع شأنا ، وأكثر تمدنا ، وأرقى حضارة من كل شعوب الشرق القديم ، وعلى أية حال ، فبينما النساء منشغلات بتقطيع اللحم أو تقشير الفاكهة ، فاجأتهن بيوسف ، فلما رأينه أكبرنه وجرحن أيديهن بالسكاكين للدهشة ، «وقلن حاشا لله ، ما هذا بشر إن هذا إلا ملك كريم» ، وهذه التعبيرات ، فيما يرى صاحب الظلال (١) ، دليل على تسرب شيء من ديانات التوحيد في ذلك الزمان ، وهنا أدركت امرأة العزيز أن هؤلاء النسوة يقفن معها على أرض واحدة ، حيث تبدو فيها الأنثى متجردة من كل تجمل المرأة وحيائها ، فإذا بها تقول قول المرأة المنتصرة ، والتي تفخر عليهن بأن هذا في متناول يدها ، وإن كان قد استعصى قياده مرة ، فهي تملك هذه القيادة مرة أخرى (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ، وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ، وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ ، قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ، وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ، فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٢).

وهكذا تحولت الأمور إلى صراع بين المرأة والفتى ، ودخلت كما يقال في دور من العناد والمفاعلة غريب ، هي بتهالكها الذي انكشف عن تحجج

__________________

(١) في ظلال القرآن ٤ / ١٩٥٣ ، ١٩٨٤ ـ ١٩٨٥.

(٢) سورة يوسف : آية ٣٢ ـ ٣٤.

٥٥

سافر ، وكبر خائر ، وهو بإصراره الذي لا سبيل له إلا إلى المضي فيما بدا وأعلن للناس ، ولكنه مع ذلك لم ينج منهم ومن كيد نسائهم ، وتحالفت عليه قوى البغي ، فكان لهن من السلطان على أزواجهن ما حجب الحق الأبلج ، وأساء إلى الخلق المتين (١) ، (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (٢).

وليس هناك من سبيل إلى شك في أن هذه إنما تقدم لنا صورة لمجتمع فاسد آثم ، تصور ما كان عليه مجتمع الدخلاء من حكام الهكسوس المغتصبين في مصر من فساد وانحلال ، ولو لم يكن لدينا عن مصر في ذلك الزمان سوى تلك القصة ، لاتخذناها وحدها دليلا على مجتمع يسوده الأجانب والغرباء ، ولنفيناها عن المصريين ونسبناها إلى المجتمع الأجنبي مطمئنين ، لأنها إنما تخالف عن طبيعة الأشياء في مصر ، وتخرج عن سليقة المصري بما ركب فيه من الأنفة والحمية والكرامة والكبرياء ، ولو نظرنا إلى بعض قصص التوراة ، لوجدنا قصتنا هذه أشبه بقصص التوراة وأدنى إلى مجتمعها (٣) ، على حين تنبو عن مجتمع المصريين الأصيل ، وتخالف تقاليدهم وأذواقهم ، خلافا يفوق كل خلاف (٤).

(٣) يوسف في السجن : ـ

تمثل هذه الفترة في حياة الصديق المحنة الثالثة والأخيرة ، فكل ما بعدها رخاء ، وابتلاء لصبره على الرخاء ، بعد ابتلاء صبره على الشدة ، والمحنة في هذه الحلقة هي محنة السجن بعد ظهور البراءة ، والسجن للبريء المظلوم أقسى ، وإن كان في طمأنينة القلب بالبراءة تعزية

__________________

(١) أحمد عبد الحميد يوسف : مصر في القرآن والسنة ـ القاهرة ١٩٧٣ ص ٤٥.

(٢) سورة يوسف : آية ٣٥.

(٣) انظر عن مجتمع قصص التوراة (محمد بيومي مهران : إسرائيل ٣ / ١٦٢ ـ ٢١٨).

(٤) أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ٤٥ ـ ٤٦.

٥٦

وسلوى (١) ، ذلك أن القوم من الهكسوس سرعان ما قذفوا بالصديق إلى السجن ، رغم ما رأوا من آيات براءته ، كقد القميص وقطع الأيدي وشهادة الصبي وغير ذلك ، مدة لم يحددوا زمنها ، لأن الهدف من ذلك إنما كان أن ينسى الناس قصته مع امرأة العزيز ، هذه القصة التي لاكتها الألسن بين أوساط الناس.

ومع ذلك ، فإن الصديق عليه‌السلام ، إنما يتقبل السجن صابرا محتسبا ، ورغم أنه كان في سجنه غريبا وحيدا بيد أنه كان دائما يسبح لمن أحيا الفؤاد بنوره ، فإذا به يستشعر رحابة في وجدانه وسعت الكون كله ، وسمت روحه لتتصل بروح الوجود ، وإذا به يأنس بربه ، ويحس تعاطفا مع كل من حوله وما حوله ، وإذا بقلبه ينفتح للبشرية جمعاء ، حتى الذين ظلموه لم يحقد عليهم ، كانت إرادته أن يتقي الله حق تقاته ، ونيته أن يخلص لله ، وعزمه أن يصل حبله بحبل الله ، وقصده أن يهب نفسه لله ، وأن يسير في سبيل الله فجزاه الله الجزاء الأوفى ، فعلمه من علمه ، والله بكل شيء عليم (٢).

وكان ملك مصر من الهكسوس الغزاة قد أدخل معه صاحب طعامه وصاحب شرابه بعد أن اتهمهما بأنهما تآمرا عليه ودسا له السم في الطعام ، فراح الصديق يدعوهما إلى الله ويذهب عنهما حزنهما ، ويبذل لهما ما وسعه البذل لتطمئن نفوسهما ، ويرى السجناء في مسلكه الطاهر ما يجذبهم إليه ، فيطلبون إليه تفسير الرؤيا وتأويل الأحلام (٣) ، ويكاد القرآن الكريم والعهد

__________________

(١) في ظلال القرآن ٤ / ١٩٨٧.

(٢) عبد الحميد جودة السحار : بنو إسماعيل ـ القاهرة ١٩٦٦ ص ٥٦ ـ ٥٨.

(٣) هناك بحوث كثيرة لعلماء النفس في الأحلام ، فمن قائل إنها صورة من اللاشعور النهائي ، أو هي صورة من الرغبات المكبوتة تتنفس بها الأحلام في غياب الوعي ، ومن قائل إنها تعويضية ، ومن قائل إنها تقوم بوظيفة لإعداد الحياة ، إذ أن الأمر كله لا يعدو أن القوم يحلمون ، لأنهم يلتمسون في الحلم حلولا لا يسيرون عليها في نشاطهم المقبل (إسحاق ـ

٥٧

القديم يتشابهون في عرضهما للأمر ، وإن استغرقت التوراة كثيرا في رؤيا السجينين (١).

على أن القرآن الكريم إنما ينفرد وحده بذكر دعوة يوسف عليه‌السلام ، وهو في السجن ، إلى توحيد الله ، وبث العقيدة الصحيحة ، ويظهر جليا في هذه الدعوة لطف مدخله إلى النفوس ، وسيره خطوة خطوة في رفق وتؤده (٢) ، (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) (٣) ، وكأنه أراد إخبارهما بمعجزاته توطئه لدعائهما إلى الإيمان ، قال

__________________

ـ رمزي : علم النفس الفردي ـ القاهرة ١٩١٩ ص ١٣٢ ـ ١٣٤ ، التهامي نقرة : المرجع السابق ص ٥١٨ ، في ظلال القرآن ٤ / ١٩٧٢) ، ويذهب ابن خلدون في المقدمة (ص ١٨٠) أن النفس إذا خفت عنها شواغل الحس وموانعه بالنوم ، تتعرض إلى معرفة ما تتشوق إليه في عالم الحق ، فقدرك في بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظفر المطلوب ، ولذلك جعل الله الرؤيا من المبشرات.

وروى عن أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «لم يبق من النبوة إلا المبشرات ، قيل وما المبشرات يا رسول الله؟ قال : الرؤيا الصالحة» (صحيح البخاري ٩ / ٤٠ ـ القاهرة ١٣٧٨) وفي تفسير النسفي ٢ / ١٦٩ روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم) عن البشرى «هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له» ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ذهبت النبوة وبقيت المبشرات ، والرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» (تفسير النسفي ٢ / ١٦٩) ، ويرى الإمام الغزالي أن أدلة العقل وحدها لا تكفي لنبوة نبي ، ويقول : إنما نعرف النبي أو العارف الذي يتلقى علمه من الله بأمر آخر ، فإن الله أعطانا نموذجا من خصائص النبوة نشاهده في نفوسنا ، ويعني بذلك ما يراه النائم من أسرار الغيب (الغزالي : المنقذ من الضلال ـ القاهرة ١٣٠٨ ه‍ ص ٢٤ ـ ٢٦) ، ويذهب صاحب الظلال (٤ / ١٩٧٢) إلى أننا ملزمون بالاعتقاد بأن بعض الرؤى تحمل نبوءات عن المستقبل القريب أو البعيد ، ملزمون بهذا أولا من ناحية ما ورد في هذه السورة من وقوع مصداق رؤيا يوسف ، ورؤيا صاحبه في السجن ورؤيا ملك مصر ، وثانيا ما نراه في حياتنا من تحقيق رؤيا تنبئية في حالات متكررة بشكل يصعب نفي وجوده لأنه موجود بالفعل.

(١) سورة يوسف : آية ٣٦ ـ ٣٧ ـ ٤١ ، تكوين ٤٠ / ١ ـ ٢٢.

(٢) التهامي نقرة : المرجع السابق ص ٥٣٥.

(٣) سورة يوسف : آية ٣٧.

٥٨

الإمام البيضاوي : أراد أن يدعوهما إلى التوحيد ويرشدهما إلى الدين القويم قبل أن يسعفهما إلى ما سألاه عنه ، كما هي طريقة الأنبياء في الهداية والإرشاد ، فقدم ما يكون معجزة له من الأخبار بالغيب لدلهما على صدقه في الدعوة والتعبير (١).

ثم يتوغل في قلوبهما أكثر ، ويفصح عن دعوته ، ويكشف عن فساد اعتقادهما ، واعتقاد قومهما بعد ذلك التمهيد الطويل (٢) ، (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ، ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ، يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ، ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣) ، وهي صورة للإسلام واضحة كاملة دقيقة شاملة ، كما جاء بها رسل الله جميعا ، من ناحية أصول العقيدة تحتوي ، الإيمان بالله وبالآخرة ، وتوحيد الله وعدم الإشراك به أصلا ، ومعرفة الله تعالى بصفاته الواحد القهار ، والحكم بعدم وجود حقيقة ولا سلطان لغيره أصلا ، ومن ثم نفي الأرقاب التي تتحكم في رقاب العباد ، وإعلان السلطان والحكم لله وحده ، ما دام أن الله أمر ألا يعبد الناس غيره ، ومزاولة السلطان والحكم والربوبية هي تعبيد للناس مخالف للأمر بعبادة الله وحده ، وحديد معنى «العبادة» بأنها الخضوع للسلطان والحكم والإذعان للربوبية ، وتعريف الدين القيم بأنه إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة ، أي إفراده بالحكم ، فهما مترادفان أو متلازمان «إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا

__________________

(١) تفسير البيضاوي ٢ / ٢٦٤.

(٢) محمد رجب البيومي : البيان القرآني ـ القاهرة ١٩٧١ ص ٢٢٥.

(٣) سورة يوسف : آية ٣٧ ـ ٤٠.

٥٩

إلا إياه ذلك الدين القيم» ، وهذه هي أوضح صورة للإسلام وأكملها وأدقها وأشملها (١)

وهكذا يبلغ الصديق عليه‌السلام ، أقصى الغاية من الدرس الذي ألقاه ، مرتبطا في مطلعه بالأمر الذي يشغل بال صاحبيه في السجن ، ومن ثم فهو يؤول لهما الرؤيا في نهاية الدرس ، ليزيدهما ثقة في قوله كله وتعلقا به (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) (٢).

والصديق ، مع هذا كله ، بشر ، فيه ضعف البشر ، فهو يتطلب الخلاص من سجنه ، بمحاولة إيصال خبره إلى الملك ، لعله يكشف المؤامرة الظالمة التي جاءت به إلى السجن ، وإن كان الله تعالى شاء أن يعلمه أن يقطع الرجاء إلا منه وحده ، (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) (٣) ، والبضع ما بين الثلاث إلى التسع ، وفي الحديث «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل أذكرني عند ربك لما لبث في السجن سبعا» (٤) ، والاستعانة بالعباد ، وإن كانت مرخصة ، لكن اللائق بالأنبياء الأخذ بالعزائم (٥) ، وجاء في تفسير القرطبي أن جبريل جاء إلى يوسف وهو في السجن معاتبا فقال له : يا يوسف من خلصك من القتل من أيدي إخوتك ، قال الله تعالى ، قال فمن أخرجك من الجب ، قال الله تعالى ، قال فمن عصمك من الفاحشة ، قال الله تعالى ، قال فمن صرف عنك كيد النساء ، قال الله تعالى ، قال : فكيف تركت ربك فلم تسأله

__________________

(١) في ظلال القرآن ٤ / ١٩٦٠.

(٢) سورة يوسف : آية ٤١.

(٣) سورة يوسف : آية ٤٢.

(٤) تفسير النسفي ٢ / ٢٢٣.

(٥) تفسير أبي السعود ٤ / ٢٨٠ ، تفسير الخازن ٣ / ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

٦٠