دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٢

أيام ير بعام الأول (٩٢٢ ـ ٩٠١ ق. م) وبعد موت نبيّهم سليمان عليه‌السلام مباشرة عام ٩٢٢ ق. م (١).

ومنها (ثامنا) أن المفسرين والمؤرخين المسلمين يذكرون أسبابا للاضطهاد ، ليس من بينها أبدا عقيدة بني إسرائيل التوحيدية ، وإنما هي أسباب تتصل بنبوءات خشى فرعون منها على ملكه (٢) ، وسوف نناقشها بالتفصيل في مكانها من الفصل التالي ، ومنها (تاسعا) أن حال بني إسرائيل في مصر لم يكن شرا كله ، ولا نكرا كله ، إذ أبدوا استعدادا للعيش مع المجتمع والتعاون بين بنيه ، بل إن التوراة لتذكر صراحة أن الفرعون إنما كان ينظر إليهم ، حتى في أوقات الشغب ، وكأنهم من الشعب ، وليسوا مجموعة من العبيد أو حتى المستعبدين «فقال لهما ملك مصر : لما ذا يا موسى وهارون تبطلان الشعب عن أعماله (٣)» ، بل إن القرآن الكريم إنما يقدمهم على أنهم قد أصبحوا جزءا من رعية فرعون أو طائفة منهم ، قال تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) (٤) ، وهكذا كان ينو إسرائيل «طائفة منهم» أي من الشعب المصري ، ولم يكونوا بالطائفة المنبوذة التي لا يتعامل معها الناس ، أو ينفر منها الملوك ، بل لقد كان ساقي مرنبتاح رجلا يحمل اسما لا شك في صيغته العبرية هو «بن عزين» ، وقد روت التوراة من أمر موسى والتقاطه ما يدل على مكانة بني إسرائيل عامة من المصريين وتسامح المصريين معهم (٥).

__________________

(١) ملوك أول ١٢ / ٢٥ ـ ٣٣ ، هوشع ٨ / ٥ ـ ٦.

(٢) أنظر : ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ٢٣١ ـ ٢٣٨ ، قصص الأنبياء ٣ / ٤ ـ ٥ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٨٦ ـ ٣٨٨ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٣٣ ، المسعودي مروج الذهب ١ / ٦١.

(٣) خروج ٥ / ٤.

(٤) سورة القصص : آية ٤.

(٥) أنظر : خروج ٢ / ٥ ـ ١٠ ، أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ٩١ ـ ٩٢.

١٦١
١٦٢

الفصل الثّاني

موسى من المولد إلى المبعث

(١) موسى في قصر فرعون :

في فترة الاضطرابات العصيبة التي سلط الله فيها فرعون على بني إسرائيل ، يقتل أبناءهم ويستحي نساءهم (١) ، في هذه الظروف القاسية ، ولد موسى عليه‌السلام (٢) ، وكان أصغر أولاد أبيه ، وثالث ثلاثة ، مريم البكر ، وهارون الثاني ، وهو «موسى بن عمران بن قاهت بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، عليهم‌السلام» ، وأما أمه فهي يوكابد بنت لاوى ، وهي عمة زوجها عمران ، فيما تروي التوراة (٣) ، وهكذا ، ونظرا للظروف المحيطة

__________________

(١) أنظر عن الروايات التي دارت حول ذبح فرعون لأبناء بني إسرائيل (تفسير الطبري ١ / ٢٦٩ ـ ٣٢٨ ط ١٩٥٤ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٨٥ ـ ٣٨٨ ، تفسير الدر المنثور ٥ / ١١٩ ـ ١٢٠ ، مختصر تفسير ابن كثير ١ / ٦٣ ـ ٦٤ ، البداية والنهاية ١ / ١٣٧ ـ ٢٣٨. تفسير الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢٥ ، تفسير الخازن ١ / ٥٨ ـ ٥٩ ، تفسير النسفي ٣ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦ ، الكامل لابن الأثير ١ / ٩٥ ـ ٩٦).

(٢) أنظر عن قصة موسى في القرآن الكريم : سورة البقرة (٤٧ ـ ٩٨) المائدة (٢٠ ـ ٢٦) الأعراف (١٠٣ ـ ١٧١) يونس (٧٥ ـ ٩٤) هود (٩٦ ـ ٩٩) إبراهيم (٥ ـ ٨) الإسراء (٢) الكهف (٦٠ ـ ٨٢) مريم (٥١ ـ ٥٣) طه (٩ ـ ٩٨) الأنبياء (٤٨ ـ ٤٩) المؤمنون (٤٥ ـ ٤٩) الفرقان (٣٥ ـ ٣٦) الشعراء (١٠ ـ ٦٨) النمل (٧ ـ ١٤) القصص (٣ ـ ٤٧) العنكبوت (٣٩) الأحزاب (٦٩) الصافات (١١٤ ـ ١٢٢) غافر (٢٣ ـ ٥٤) الزخرف (٤٦ ـ ٥٦) الدخان (١٧ ـ ٣٣) الذاريات (٣٨ ـ ٤٠) وغيرها.

(٣) خروج ٦ / ٢٠ ، عدد ٢٦ / ٥٨ ـ ٥٩.

١٦٣

ببني إسرائيل ، فما أن ولد موسى عليه‌السلام حتى أخفته أمه عن العيون حينا من الدهر ، قدرته التوراة وبعض المفسرين بثلاثة أشهر (١) ، ولكنها سرعان ما خشيت أن يفتضح أمرها ، بل وكادت تبدي به لو لا أن ربط الله على قلبها ، ففزعت إلى الله مما تخشى على وليدها من بطش فرعون ، فأوحى الله إليها (٢) (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ، وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٣).

وشاءت إرادة الله ، ولا راد لمشيئته ، أن تقول لهذا الملك الجبار المغرور بكثرة جنوده وسلطة بأسه واتساع ملكه ، قد حكم العظيم الذي لا يغلب ولا يمانع ولا يخالف أقداره ، أن هذا المولود الذي تحترز منه ، وقد قتلت بسببه من النفوس ما لا يعد ولا يحصى ، لا يكون مرباه إلا في دارك وعلى فراشك ، ولا يتغذى إلا بطعامك وشرابك في منزلك ، وأنت الذي تتبناه وتربيه ، ثم يكون هلاكك في دنياك وأخراك على يديه ، لتكذيبك ما جاء به من الحق المبين ، حتى تعلم أنت وسائر الخلق أن الله هو الفعال لما يريد (٤) ، ومن ثم فإن إرادة الله إنما تلقى بالتابوت ومن فيه إلى جوار قصر

__________________

(١) خروج ٢ / ٢ ، تفسير النسفي ٣ / ٢٢٧.

(٢) يقول ابن كثير : ليس هذا بوحي نبوة ، كما زعمه ابن حزم وغير واحد من المتكلمين ، بل الصحيح أنه وحي إلهام وإرشاد ، كما حكاه أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة والجماعة ، هذا وقد ورد عن ابن عباس : أنه وحي إلهام ، وقال مقاتل : أخبرها جبريل بذلك ، قال القرطبي : فعلى قول مقاتل هو وحي إعلام ، لا إلهام ، وأجمع الكل على أنها لم تكن بنية وإنما إرسال الملك إليها على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى ، كما في الحديث المشهور ، وكذلك تكليم الملائكة للناس من غير نبوة ، وقد سلمت على «عمران بن حصين» ولم يكن نبيا (تفسير البيضاوي ٢ / ٨٨ ، تفسير القرطبي ١٣ / ٢٤٩ ـ ٢٥٠ ، صفوة التفاسير ٢ / ٤٢٥ ، البداية والنهاية ١ / ٢٣٩.

(٣) سورة القصص : آية ٧ ، وأنظر : مختصر تفسير ابن كثير ٣ / ٦.

(٤) ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ٢٣٨.

١٦٤

فرعون ، فيقع موسى من قلب امرأة فرعون (١) ، موقع الحب والحدب والإشفاق بل إنها لتقول لفرعون (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ، لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) (٢) ، فقد كان موسى عليه‌السلام ، لا يراه أحد إلا أحبه ، قال تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٣) ، لكن الشقي فرعون يقول لامرأته ، فيما يروي الطبري ، «يكون لك ، فأما أنا فلا حاجة لي فيه ، ولذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون له قرة عين ، كما أقرت به ، لهداه الله به ، كما هدى به امرأته ، ولكن الله حرمه ذلك» ، ومع ذلك فقد قبل رجاء زوجته ، فلا يقتل الطفل النبي لحكمة أرادها الله ، (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (٤).

وهنا ظنت أم موسى أنها أوقعت وليدها بنفسها في عرين الأسد ، حيث وقع موسى بين عدوه وعدوها ، الذي حرصت على أن تباعد بينه وبين ابنها ، ورضيت في سبيل استنقاذه منه أن يبتعد عنها إلى حين (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٥) ، ولكن لله حكمة هو مبديها ، وأمر هو بالغه ، فيحميه ويضمن له الحياة ، ويكفل له التربية الكريمة الناعمة ، والتعليم الناضج الذي يؤهله لقيادة شعب تعوذه القيادة ، ولتعليم

__________________

(١) ذهب بعض الباحثين إلى أن امرأة فرعون كانت من بني إسرائيل من سبط موسى ، بل إن البعض ذهب إلى أنها عمته ، (البداية والنهاية ١ / ٢٣٩ ، الكامل لابن الأثير ١ / ٩٥) وبدهي أن هذا ليس صحيحا ، فامرأة فرعون مصرية ، لا شك في ذلك ، كما ترى جمهرة المفسرين ، ثم إن فرعون ما كان يتزوج من بني إسرائيل ، وهو يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم ، كما أن قوانين وراثة العرش في مصر لا تسمح بذلك.

(٢) سورة القصص : آية ٩.

(٣) سورة طه : آية ٣٩.

(٤) سورة القصص : آية ٨ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٩٣.

(٥) سورة القصص : آية ١٠ ـ ١١.

١٦٥

أمة أعماها الجهل ، لحمل رسالة التوحيد ، ويحميه بالحب الذي يطغى على كوا من الشر وغوائل الأحقاد (١).

ويأتي آل فرعون لموسى بالمراضع فيعافهن جميعا ، وهنا تتقدم أخته فتعرض على آل فرعون أن تدعو لهم امرأة عبرانية ترضعه وتكفله ، وأن تكون له ناصحة مشفقة ، ويقبل آل فرعون عرضها ، ويبعثوا في طلب الظئر ، وسرعان ما تجيء بأمه ، دون أن تشعرهم بأن أمها أمه ، وهو أخوها ، ويقبل موسى على ثدي أمه ، وهنا تذهب المراجع الإسلامية إلى أن فرعون عند ما رأى ذلك ، سألها : من أنت منه؟ فقد أبى كل ثدي إلا ثديك ، فقالت : إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن ، لا أوتي بصبي إلا قبلني ، فدفعه إليها وأجرى عليها ، وذهبت به إلى بيتها ، وأنجز الله وعده في الرد ، فعندها ثبت واستقر في علمها أنه سيكون نبيا ، وهكذا عاد موسى إلى أمه ليعيش معها فترة حضانته (٢) ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ ، فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٣).

ولعل في هذا ما يشير إلى أن حال بني إسرائيل في مصر لم يكن شرا كله ، ولا نكرا ، إن أبدوا استعدادا للعيش في المجتمع والتعاون بين بنيه ، وقد كانوا ، كما قال سبحانه وتعالى : (طائِفَةٌ مِنْهُمْ) ، ولم يكونوا بالطائفة المنبوذة التي لا يتعامل معها الناس ، أو ينفر منها الملوك ، بل لقد كان ساقي «مرنبتاح» فرعون موسى ، فيما نرجح ، رجلا يحمل اسما لا شك في صيغته

__________________

(١) أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ٨٩.

(٢) تفسير النسفي ٣ / ٢٢٨ ـ ٢٢٩ ، خروج ٢ / ٧ ـ ١٠.

(٣) سورة القصص : آية ١٢ ـ ١٣.

١٦٦

العبرية هو «بن عزين» ، وقد روت التوراة من أمر موسى والتقاطه ما يدل على مكانة بني إسرائيل عامة من المصريين ، وتسامحهم معهم (١) ، هذا فضلا عما جاء في القرآن الكريم بشأن قارون ، قال تعالى : (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (٢) ، وهناك روايات تذهب إلى أنه كان من عشيرة موسى عليه‌السلام عمه أو ابن عمه ، على خلاف في الرأي ، وأن فرعون قد ولاه على بني إسرائيل ، وأنه قد نافس موسى على رئاسة بني إسرائيل (٣).

__________________

(١) سورة القصص : آية ٤ ، خروج ٢ / ٥ ـ ١٠ ، أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ٩١ ـ ٩٢.

(٢) سورة القصص : آية ٧٦.

(٣) تشير بعض آي الذكر الحكيم إلى أن قارون كان من قوم موسى ، وأن موسى أرسل إليه ، وإلى فرعون وهامان (القصص : آية ٧٦ ، العنكبوت : آية ٣٩ ، غافر : آية ٢٣ ـ ٢٤) ، وتذهب الروايات إلى أنه كان عظيم المال ، كثير الكنوز ، حتى أن مفاتيح خزائنه كانت تحمل على أربعين بغلا ، فبغى على قومه بكثرة ماله ، وأنه قال لموسى : لك الرسالة ، ولهارون الحبورة ، وأنا في غير شيء ، إلى متى أصبر ، فقال موسى : هذا صنع الله ، وفي رواية أنه قال لموسى : أما لئن كنت فضلت على بالنبوة ، فلقد فضلت عليك بالدنيا ، هذا وتذهب بعض الروايات إلى أن قارون قد دبر لموسى مكيدة ليلصق به تهمة الفاحشة مع بغي في مقابل رشوة من المال ، قيل إنها ألف دينار أو طست من ذهب ، فلما كان يوم عيد وخطب موسى فقال : إن من سرق قطعنا يده ومن افترى جلدناه ، ومن زنى وهو محصن جلدناه ، وإن أحصن رجمناه ، فقال له قارون : إن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانه ، فأحضرها وناشدها بالذي فلق البحر. وأنزل التوراة أن تصدق ، فقالت : جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي ، فخر موسى ساجدا ، وهكذا برأ الله موسى ، وأذن له في قارون ، فقال موسى : يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون ، كما بعثني إلى فرعون ، ثم دعا عليه ، فخسف الله به وبمن اتبعه الأرض ، هذا وقد لقب بعض الباحثين المحدثين أن قارون هذا ، هو «قورح» الذي جاءت قصته في التوراة (عدد ١٦ / ١ ـ ٥٠) ورغم وجه بعض شبه بين القصتين ، فإنني أتردد في قبول هذا الرأي لوجود اختلافات كثيرة بينهما ، إلا أن تكون من تحريفات التوراة (تفسير النسفي ٣ / ٢٤٤ ـ ٢٤٨ ، في ظلال القرآن ٥ / ٢٧١٠ ـ ٢٧١٤ ، تفسير البيضاوي ٤ / ١٢٨ ـ ١٢٩ ، تفسير ـ

١٦٧

وأيا ما كان الأمر ، فإن موسى عليه‌السلام ، إنما ينشأ في قصر فرعون ، أعظم ملوك الأرض في عصره ، كما ينشأ الأمراء ، وما أن يشب عن الطوق ، حتى تظهر بوادر ذكائه وقوة شخصيته ، فيتعلم ، فيما يرى بعض المؤرخين ، القراءة والكتابة والحساب ، ونسخ الصحائف على البردى ، ويتعلم شيئا من الفلك والجغرافية ، وأطرافا من التاريخ ، ويقرأ من قصص المصريين وآدابهم وحكمهم شيئا كثيرا ، وكما جاء في الإنجيل فقد «تهذب بكل حكمة المصريين» ، وعلى أية حال ، فلسنا نعرف من حياة موسى عليه‌السلام ، منذ مولده وحتى صدر شبابه شيئا على وجه اليقين ، وأكبر الظن أنه تولى منصبا ، وتبوأ مكانة في دولة فرعون ، حيث بدأ أترابه ، كاتبا ، وغير بعيد أن يكون قد التحق بالجيش مع من التحق من أمراء البيت المالك (١).

وأما سياق قصة موسى في القرآن الكريم ، كما يقول الأستاذ سيد قطب ، طيب الله ثراه ، إنما يسكت عن السنوات الطوال ما بين مولد موسى عليه‌السلام ، والحلقة التالية التي تمثل شبابه واكتماله ، فلا نعلم ما ذا كان بعد رده إلى أمه لترضعه ، ولا كيف تربى في قصر فرعون ، ولا كيف كانت صلته بأمه بعد فترة الرضاعة ، ولا كيف كان مكانه في القصر أو خارجه ، بعد أن شب وكبر ، ولا كيف كانت عقيدته ، وهو الذي يصنع على عين الله ، ويعد في وسط عباد فرعون وكهانته ، يسكت القرآن عن كل هذا ، ويبدأ الحلقة التالية مباشرة حين بلغ أشده واستوى فقد آتاه الله الحكمة والعلم وجزاه

__________________

ـ الكشاف ٣ / ٣٤٠ ـ ٣٤٢ ، ابن كثير : مختصر التفسير ٣ / ٢٣ ـ ٢٦ ، البداية والنهاية ١ / ٣٠٩ ـ ٣١٢ ، تاريخ الطبري ١ / ٤٤٣ ـ ٤٥٢ ، ابن الأثير ١ / ١١٥ ـ ١١٦ ، سفر التثنية ٢٢ / ٢٢ ـ ٢٩ ، ثم أنظر حكم الزنا في التوراة : محمد بيومي مهران : إسرائيل ٣ / ١٩٤ ـ ١٩٥).

(١) أعمال الرسل ٧ / ٢٢ ، أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ٩٢ ـ ٩٣ ،

وكذا ١٩٥٧Whiston, the Life and Works of Flavius Josephus, وكذاW.

F٧٧

.p ، Josephus ,Book ,II ,Chapter ,XI.

١٦٨

جزاء المحسنين ، قال تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ، وبلوغ الأشد اكتمال القوة الجسمية ، والاستواء اكتمال النضج العقلي والعفوي ، وهو يكون عادة في سن الثلاثين ، فهل ظل موسى في قصر فرعون ربيبا ومتبنا لفرعون وزوجته حتى بلغ هذه السن ، أم أنه افترق عنهما واعتزل القصر ، ولم تسترح نفسه في ظل الأوضاع الآسنة التي لا تستريح لها نفس مصفاة مجتباة ، كنفس موسى عليه‌السلام ، وبخاصة وأن أمه لا بد أن تكون قد عرفته من هو ومن قومه وما دينه ، وهو يرى كيف يسأم قومه الخسف البشع والظلم الشنيع ، والبغي اللئيم (١).

في الواقع ليس لدينا من دليل على شيء من ذلك ، وإن كان سياق الحوادث بعد هذا يلهم شيئا من هذا ، فلقد كان موسى ، فيما يبدو ، لا ينسى أنه من بني إسرائيل ، أولئك الذين فرض عليهم فرعون العذاب المهين ، وربما كان النبي الكريم يدرك أن الله إنما آتاه العلم والحكمة ليدرك قومه ، وينقذهم من ظلم فرعون وجبروته ، فكان كثير الحدب عليهم والشفقة بهم ، ومن ثم فقد تعرض بسببهم لمحنة قاسية ، انتهت به إلى الخروج من مصر ، والبقاء في مدين سنين عددا ، ذلك أنه ربما كان خارجا في أحد الأيام من قصر فرعون «ودخل المدينة على حين غفلة (٢) من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان ، هذا من شيعته (٣) وهذا من عدوه ، فاستغاثه الذي من شيعته على

__________________

(١) في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٨١.

(٢) الغفلة : روى عن ابن عباس : أنها بين العشاءين ، وروى عنه أيضا ، وعن سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والسدى : أنها وقت القائلة يعني انتصاف النهار (أنظر : تفسير القرطبي ص ٤٩٧٦ تفسير النسفي ٣ / ٢٢٩ ، تفسير الفخر الرازي ٤ / ٢٣٣ ، صفوة التفاسير ٢ / ٤٢٧ ، البداية والنهاية ١ / ٢٤١ ، ابن الأثير ١ / ٩٨ ، تفسير البيضاوي ٤ / ١٢٥) وقيل الغفلة عن ذكر موسى ونسيان أمره (تفسير الفخر الرازي ٢٤ / ٢٣٣).

(٣) يقول الفخر الرازي في تفسيره (٢٤ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤) قيل الرجلان كانا كافرين ، إلا أن أحدهما ـ

١٦٩

الذي من عدوه فوكزه (١) موسى فقضى عليه ، قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ، قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ، قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين (٢)».

ولم يكن المجرمون الذين عزم موسى عليه‌السلام على ألا يظاهرهم ويناصرهم ، إلا هؤلاء من بني إسرائيل ، وهكذا ندم موسى على أن ظاهر الإسرائيلي ضد المصري ، فكان من نتيجة ذلك أن قتل نفسا حرم الله قتلها ، ومن ثم فقد عزم ، بعد أن تاب وأناب ، ألا يكون ظهيرا للمجرمين ، وهذه العبارة قد يستشف منها أن الكليم عليه‌السلام إنما كان يستخدم نفوذه في مناصرة بني إسرائيل ، وكف أيدي المصريين عنهم ، ويبدو أن شبح القتيل إنما كان يلوح أمام عينه ، ويعترض طريقه أينما ذهب ، وأن خوف الثأر أو القصاص إنما كان يملأ حياته قلقا وأرقا (٣) ، ومهما يكن من أمر ، فسرعان ما يعثر القوم على جثة القتيل ، فيطلب أهله من فرعون أن يأخذ لهم القصاص من قاتله ، غير أن الفرعون إنما يمهل القوم إلى حين ، حتى تكشف الشرطة عن الجاني ، وتأتي بمن يشهد على أنه القاتل ، أو أن ذلك المصري عند ما سمع الإسرائيلي في اليوم التالي يقول لموسى : «أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس» ، فلقفها من فمه ثم ذهب بها إلى باب فرعون وألقاها عنده ،

__________________

ـ إسرائيلي ، والآخر مصري ، واحتج على أنه موسى قال له : «إنك لغوي مبين» ، والمشهور الذي كان من شيعته مسلما لأنه لا يقال لمن يخالف الرجل في دينه وطريقه إنه من شيعته ، وقيل إن المصري كان طباخ فرعون وقد سخر الإسرائيلي لحمل الحطب إلى مطبخه ، وقيل الرجلان المقتتلان أحدهما السامري ، وهو الذي من شيعته ، والآخر طباخ فرعون.

(١) الوكز : الضرب بجمع اليد ، وقال قتادة بعصا كانت معه ، والمفهوم من التعبير أنها وكزة واحدة كان فيها حتف المصري ، مما يشي بقوة موسى وفتوته ، ويصور كذلك انفعاله وغضبه ، ويعبر عما كان يخالجه من الضيق بفرعون ومن يتصل به (في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٨٢).

(٢) سورة القصص : آية ١٥ ـ ١٧.

(٣) عبد الرحيم فودة : المرجع السابق ص ١٦٠.

١٧٠

فعلم فرعون بذلك ، فاشتد حنقه وعزم على قتل موسى ، فطلبوه (١).

ويصبح موسى في المدينة خائفا ويترقب ، ويذهب الأستاذ سيد قطب إلى أن لفظ «يترقب» يصور هيئة القلق الذي يتلفت ويتوجس ، ويتوقع الشر في كل لحظة ، وهي سمة الشخصية الانفعالية تبدوا كذلك في هذا الموقف ، والتعبير يجسم هيئة القلق والخوف بهذا اللفظ ، كما أنه يضخمها بكلمتي «في المدينة» ، فالمدينة عادة موطن الأمن والطمأنينة فإذا كان خائفا يترقب في المدينة ، فأعظم الخوف ما كان في مأمن ومستقر ، وحالة موسى هذه تلهم أنه لم يكن من رجال القصر ، وإلا فما أرخص أن يزهق أحد رجال القصر نفسا في عهود الظلم والطغيان ، وما كان ليخشى شيئا ، فضلا عن أن يصبح خائفا يترقب ، لو أنه كان ما يزال في مكانه من قلب فرعون وقصره (٢) ، غير أن ابن كثير يذهب إلى أن الله تعالى يخبرنا أن موسى أصبح بمدينة مصر خائفا ، أي من فرعون وملئه أن يعلموا أن هذا القتيل الذي رفع إليه أمره إنما قتله موسى في نصرة رجل من بني إسرائيل ، فتقوى ظنونهم أن موسى منهم ، ويترتب على ذلك أمر عظيم فصار يسير في المدينة في صبيحة هذا اليوم خائفا يترقب (٣) ، وهذا ما نميل إليه ونرجحه.

وعلى أي حال ، فإن موسى عليه‌السلام يمر بمن استصرخه بالأمس ، فإذا به يستصرخه ، مرة أخرى ، ضد آخر ، فيؤنبه موسى على مشاكسته وميله إلى الخصام ، ومع ذلك فما أن همّ موسى بنصرته حتى قال : (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ ، إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (٤).

__________________

(١) مختصر ابن كثير ٣ / ٩ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٩١.

(٢) في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٨٢ ـ ٢٦٨٣.

(٣) ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ٢٤٢.

(٤) سورة القصص : آية ١٩.

١٧١

وهكذا تورط موسى في قتل مصري ، عن غير عمد ، روى الإمام النسفى أن اسمه «فاتون» ، ولا أدري كيف استقام لمفسري الإسلام هذا الإسم الذي تدل صيغته المصرية على أن سند الرواية والتواتر موصول ، ذلك أنه اسم مصري خالص مؤلف من اسم الشمس «آتون» مع فاء التعريف (١) ، وعلى أي حال ، فإن موسى إنما يوشك الآن أن يتورط في محنة جديدة بسبب ذلك الإسرائيلي الذي استصرخه بالأمس ، ويستصرخه اليوم ، ومن ثم فقد وصفه الكليم بأنه «غوي مبين».

ويذهب الأستاذ سيد قطب إلى أن العبرة التي تستشف من طريقة التعبير القرآنية عن الحادثتين وما تلاهما أنه لا يبرر الفعلة ، ولكنه كذلك لا يضخمها ، ولعل وصفها بأنها ظلم للنفس إنما نشأ من اندفاع موسى بدافع العصبية القومية ، وهو المختار ليكون رسول الله ، المصنوع على عين الله ، أو لعله كان لأنه استعجل الاشتباك بصنائع الطغيان ، والله يريد أن يكون الخلاص الشامل بالطريقة التي قضاها ، حيث لا تجدي تلك الاشتباكات الفردية الجانبية في تغيير الأوضاع ، كما كف الله المسلمين في مكة المكرمة عن الاشتباك حتى جاء الأوان (٢).

وعلى أي حال ، فقد كان تصرف الإسرائيلي الأحمق أو هذا الغوي المبين ، كما وصفه موسى ، أن شاع الخبر ، وأنبئت السلطات التي ارتاعت ، كما ارتاع الناس ، لما ارتكب موسى من قتل رجل ، والشروع في قتل آخر ، فكان أن استقر الرأي على محاكمته بما ارتكب ، والقصاص منه بما جنت يداه ، وإن كان موسى قد رأى في ذلك ظلما صارخا ، وإفتئاتا عنيفا ، أن يطلب بقتل خطأ لم يتعمده ولم يرغب فيه ، ولكن الذي لا شك فيه أنه قتل ،

__________________

(١) تفسير النسفي ٣ / ٢٢٩ ، أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ٩٦.

(٢) في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٨٤.

١٧٢

وأن الظواهر وما وقع منه في اليوم التالي لا تقف إلى جانبه ، ومن ثم فقد تحقق موسى عليه‌السلام أنه مطلوب بدم القتيل ، وأدرك ألا مظنة من القصاص ، فلقد عرف الملأ من قوم فرعون أنها فعلة موسى ، وما من شك أنهم أحسوا فيها بسبح الخطر ، فهي فعلة طابعها التمرد والثورة ، والانتصار لبني إسرائيل ، ومن ثم فهي ظاهرة خطيرة تستحق التأمل ، ولو كانت جريمة قتل عادية ما استحقت أن يشتغل بها فرعون والملأ والكبراء ، فانتدبت يد القدر واحدا من الملأ ، الأرجح أنه الرجل المؤمن من آل فرعون الذي يكتم إيمانه ، والذي جاء ذكره في سورة غافر ، انتدبته ليسعى إلى موسى من أقصى المدينة ليبلغه بتآمر القوم ضده قبل أن يبلغوه ، قال تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى ، قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) ، وقد سمى الله هنا التشاور ائتمارا ، لأن كلا من المتشاورين يأمر ويأتمر (١) ، وقد جاءت القصة كاملة في «حديث الفتون» الذي يروي قصة موسى عليه‌السلام ، وقد رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس (٢).

وهكذا لم يكد موسى يسمع أن الملأ يأتمرون به ليقتلوه حتى عزم على التعجيل بالرحيل ، ولم يجد مع الخوف فرصة يتزود فيها لهذه الرحلة التي لم يكن يعرف مداها ولا منتهاها ، فلقد أوشك القوم أن يحدقوا به ، وأن يطبقوا عليه ، وأن يفتكوا به ، فلا مجال للتفكير فيما وراء ذلك من تعب يضنيه ،

__________________

(١) سورة القصص : آية ٢٠ ، تفسير البيضاوي ٤ / ١٢٥ ، أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ٩٧ ـ ٩٩ ، في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٨٥.

(٢) أنظر عن حديث الفتون المشهور (ابن كثير : مختصر التفسير ٢ / ٤٥٧ ـ ٤٨١ ، البداية والنهاية ١ / ٣٠٠ ـ ٣٠٧ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٩٢ ـ ٢٩٦ ، وأخرجه النسائي في سننه ، وابن جرير وابن حاتم في تفسيرهما ، وهو موقوف من كلام ابن عباس ، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه ، كما يقول ابن كثير).

١٧٣

وجوع يذوبه ، ومسالك يقطعها ، ومهالك يرجو النجاة منها ، كان كل همه أن يفلت بعنقه من هؤلاء الذين يأتمرون به ليقتلوه ، فإن أعوزه الدليل بين متاهات السهول والتلال والجبال ، فلن يعوزه أن يلتمس في رحمة الله دليله وسبيله ، وإن كمن له الخطر في كل مكمن ومسكن ، فعساه يجد في رعاية الله ملاذه ومعاذه (١) ، وهكذا يخرج موسى من مصر هائما على وجهه في صحراوات سيناء المقفرة ، فارا مستوحشا ، خائفا من أن تناله هروات الشرطة من رجال «المجاي» الأشداء ، أو تصل إليه أيدي السلطات ، وكان في مصر شرطة منظمة يجند رجالها من قبائل «مدجا» على مقربة من الجندل الثاني (٢).

(٢) موسى في مدين : ـ

ويكتب الله للنبي الكريم سيدنا موسى عليه‌السلام نجحا بعيد المدى في اجتياز القفار ، ملتمسا الأمن والسكينة والهدى ، حتى يصل إلى مدين ، عند خليج العقبة (٣) ، حيث يجد هناك المأوى والأمان ، وهنا تبدأ حلقة جديدة من حياة موسى عليه‌السلام ، بدأت عند ما ورد ماء مدين ، ورأى مشهدا لا تستريح إليه النفس ذات المروءة ، كنفس موسى ، رأى الرعاة الرجال يوردون أنعامهم لتشرب من الماء ، بينما هناك امرأتان تمنعان غنمهما عن ذلك ، مع أن الأولى أن تسقي المرأتان وتصدرا بأغنامهما أولا ، وأن يفسح

__________________

(١) عبد الرحيم فودة : المرجع السابق ص ١٦١.

(٢) أنظر : ١٠١.p ، ١٩٦١. A.Gardiner ,Egypt of the Pharoohs ،

(٣) عن : مدين القبيلة والموقع (أنظر : محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ٥٥٨ ـ ٥٦١ ، دراسات تاريخية من القرآن ١ / ٢٩٧ ـ ٣٠٧) ، هذا وقد اختلف المفسرون في «اسم مدين» فذهب فريق إلى أنه اسم رجل في الأصل ، ثم كانت له ذرية ، فاشتهر في القبيلة كتميم وقيس وغيرهما ، وذهب آخرون إلى أنه اسم ماء نسب القوم إليه ، والأول أصح ، لأن الله تعالى أضاف الماء إلى مدين في قوله تعالى : «ولما ورد ماء مدين» ، ولو كان اسما للماء لكانت الإضافة غير صحيحة أو غير حقيقية ، والأصل في الإضافة التغاير حقيقة ، (تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٦٤ ، ياقوت الحموي ٥ / ٧٧ ـ ٧٨).

١٧٤

لهما الرجال ويعينوهما ، ولم يقعد موسى ، وهو الهارب المطارد ، والمسافر المكدود ، ليستريح ، وهو يشهد هذا المنظر المنكر المخالف للمعروف ، بل تقدم للمرأتين يسألهما عن أمرهما الغريب ، وعند ما عرف قصتهما تقدم فسقى لهما ، ثم تولى إلى الظل ، وإلى هذا يشير القرآن في قوله تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ، وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما ، قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ ، فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ، فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا ، فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (١).

هذا ويقدم لنا المفسرون عدة روايات عن الحادث ، فقد جاء في تفسير ابن كثير (٢) : روى عمرو بن ميمون الأودي عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أن موسى عليه‌السلام ، لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ، قال : فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ، ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال ، فإذا هو بامرأتين تذودان ، قال ما خطبكما ، فحدثتاه فأتى الحجر فرفعه ، لم يسق إلا ذنوبا واحدا حتى رويت الغنم (أخرجه ابن أبي شيبة وإسناده صحيح) ، غير أن صاحب الظلال إنما يذهب إلى أنه لا حاجة لكل ما رواه المفسرون من دلائل قوة موسى ، كرفع الحجر الذي يغطي البئر ، وكان لا يرفعه ، فيما قالوا ، إلا عشرون أو أربعون أو أكثر أو أقل ، فالبئر لم يكن مغطى ، إنما كان الرعاة يسقون فنحاهم وسقي للمرأتين أو سقي لهما مع الرعاة ، ولا حاجة كذلك لما رووه عن دلائل أمانته من قوله للفتاة :

__________________

(١) سورة القصص : آية ٢٣ ـ ٢٦.

(٢) مختصر تفسير ابن كثير ٣ / ٩ ـ ١٠.

١٧٥

امشي خلفي ودليني على الطريق خوف أن يراها ، أو أنه قال لها هذا بعد أن مشى خلفها فرفع الهواء ثيابها عن كعبها (١) ، فهذا كله تكلف لا داعي له ، ودفع لريبة لا وجود لها ، وموسى عليه‌السلام عفيف النظر ، نظيف الحس ، وهي كذلك ، والعفة والأمانة لا تحتاجان لكل هذا التكلف عند لقاء رجل وامرأة ، فالعفة تنضح في التصرف العادي البسيط بلا تكلف ولا اصطناع.

وعلى أي حال ، فلقد استجاب الشيخ لاقتراح ابنته ، ولعله أحسن من نفس الفتاة ، ونفس موسى ، ثقة متبادلة ، وميلا فطريا سليما صالحا لبناء أسرة ، والقوة والأمانة حين تجتمعان في رجل ، لا شك تهفو إليه طبيعة الفتاة السليمة التي لم تفسد ولم تلوث ولم تنحرف عن فطرة الله ، فجمع الرجل بين الغايتين ، وهو يعرض على موسى أن يزوجه إحدى ابنتيه في مقابل أن يخدمه ويرعى ماشيته ثماني سنين ، فإن زادها إلى عشر ، فهو تفضل منه لا يلزم به ، (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٢) ، قال الإمام القرطبي : في الآية عرض الولي ابنته على الرجل ، وهذه سنة قائمة ، عرض شعيب ابنته على موسى ، وعرض عمر ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان ، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن الحسن عرض الرجل وليته على الرجل الصالح ، اقتداء بالسلف الصالح (٣).

ولعل سائلا يتساءل : من هو شيخ مدين هذا الذي صاهر موسى عليه‌السلام؟

__________________

(١) تفسير النسفي ٣ / ٢٣١ ، تفسير البيضاوي ٤ / ١٢٦ ، الدر المنثور ٥ / ١٢٦ ـ ١٢٧ ، تفسير الفخر الرازي ٤ / ٢٣٩ ـ ٢٤٤ ، مختصر تفسير ابن كثير ٣ / ١١ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٩٨ ، ابن الأثير ١ / ٩٩.

(٢) سورة القصص : آية ٢٧ ، في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٨٧ ـ ٢٦٨٨.

(٣) تفسير القرطبي ١٣ / ٢٧١.

١٧٦

إن سياق القصة في القرآن الكريم لم يتعرض لاسم هذا الشيخ ، ذلك لأن التحديد التاريخي ليس هدفا من أهداف القصة في القرآن الكريم ، ولا يزيد في دلالتها شيئا ، وأما التوراة فجد مضطربة في اسم هذا الشيخ ، وكذا قبيلته ، فمرة هو يثرون كاهن عديان ، ومرة هو حوباب بن رعوئيل ، ومرة ثالثة هو رعوئيل نفسه ، وقبيلته مرة هي قبيلة مديانية ومرة أخرى هي قينية ، ومرة ثالثة تأكيد على أنها قينية ، حتى زعم البعض أن بني القيني ربما كانوا مديانيين (١).

هذا وقد اختلف علماء المسلمين في صهر موسى عليه‌السلام ، فذهب فريق إلى أنه شعيب عليه‌السلام ، نبي مدين ، قال بذلك الأئمة الحسن البصري ومالك بن أنس والنسفي وابن الأثير (٢) ، وقال ابن كثير (٣) : جاء ذلك مصرحا به في حديث في إسناده نظر ، وصرح طائفة بأن شعيبا عليه‌السلام عاش عمرا طويلا ، بعد هلاك قومه حتى أدركه موسى عليه‌السلام وتزوج ابنته ، وروى ابن أبي حاتم وغيره عن الحسن البصري أن صاحب موسى عليه‌السلام هذا ، اسمه شعيب ، وكان سيد الماء ، ولكن ليس بالنبي صاحب مدين ، وقيل إنه ابن أخي شعيب ، وقيل ابن عمه ، وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب ، وقال آخرون كان شعيب قبل زمان موسى بمدة طويلة لأنه قال لقومه «وما قوم لوط منكم ببعيد ، وقال ابن عباس وأبوه عبيدة بن عبد الله اسمه «يثرون» ، زاد أبو عبيدة : وهو ابن أخي شعيب ، وروى ابن جرير عن ابن

__________________

(١) خروج ٢ / ١٦ ـ ١٨ ، ٣ / ١ ، عدد ١٠ / ٢٩ ، قضاة ١ / ١٦ ، ٤ / ١١ ، وكذا

٦١٦.p ، ١٩٠٨EAE ,I ، وكذاJ.Hastings,Encyclopaedi Biblica ,p.

(٢) تفسير النسفي ٣ / ٢٣٢ ، مختصر تفسير ابن كثير ٣ / ١٠ ، صفوة التفاسير ٢ / ٤٣١ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٩٣ ، الكامل لابن الأثير ١ / ٩٩ ، مروج الذهب للمسعودي ١ / ٦١ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٣٤.

(٣) ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ٢٤٤.

١٧٧

عباس أنه «يثري» صاحب مدين ، ثم قال : الصواب أن هذا لا يدرك إلا بخبر ، ولا خبر يجب به الحجة في ذلك (١).

ويميل صاحب الظلال (٥/ ٢٦٨٧) إلى ترجيح أن صهر موسى عليه‌السلام ليس شعيبا النبي ، وإنما هو شيخ آخر من مدين ، والذي يحمل على هذا الترجيح أن هذا الرجل شيخ كبير ، وشعيب شهد مهلك قومه المكذبين له ، ولم يبق معه إلا المؤمنون به ، فلو كان هو شعيب النبي بين بقية قومه المؤمنين ، ما سقوا قبل بنتيّ نبيّهم الشيخ الكبير ، فليس هذا سلوك قوم مؤمنين ، ولا معاملتهم لنبيّهم وبناته من أول جيل ، يضاف إلى هذا أن القرآن لم يذكر شيئا عن تعليمه لموسى صهره ، ولو كان شعيبا النبي لسمعنا صوت النبوة في شيء من هذا مع موسى ، وقد عاش معه عشر سنوات.

وأيا ما كان الأمر ، فلم يكن لموسى من بلد يعرفه ، ولا وطن يهفو إليه ويتطلع إلى رؤيته ، بعد ذلك المنفى الذي فرض عليه أو قدّر عليه ، سوى مسقط رأسه مصر ، وكأنى به يستعجل الأيام ليعود إلى ذلك البلد الذي ولد فيه ، ونشأ في ربوعه ، وتنسم هواءه وسعد به ، وهو لذلك لم يقطع على نفسه أطول الأجلين حين العهد مع حميه ، فأعطى الأمل ، وخص نفسه بالخيار (٢) ، غير أنه من المعروف أن موسى عليه‌السلام أتم المدة ، وهي عشر سنين ، وقد روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل أي الأجلين قضى موسى ، قال : أكملهما وأفضلهما ، وعن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال سألت جبريل : أي الأجلين قضى موسى ، قال : أتمهما وأكملهما ، وعن أبي ذر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل أي الأجلين قضى موسى ، قال : أوفاهما وأبرهما ، قال : وإن سئلت أي المرأتين تزوج فقل الصغرى منهما ، وأخرج ابن مردوية عن أبي

__________________

(١) مختصر ابن كثير ٣ / ١٠ ، تاريخ الطبري ١ / ٤٠٠ ، ابن الأثير ١ / ٩٩.

(٢) أحمد عبد الحميد : المرجع السابق ص ١٠١.

١٧٨

هريرة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لي جبريل : يا محمد ، إن سألك اليهود أي الأجلين قضى موسى ، فقل أوفاهما ، وإن سألوك أيهما تزوج فقل الصغرى ، وروى البخاري عن سعيد بن جبير قال : سألني يهودي من أهل الحيرة ، أي الأجلين قضى موسى فقلت : لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله ، فقدمت فسألت ابن عباس فقال : قضى أكثرهما وأطيبهما ، إن رسول الله إذا قال فعل (ورواه النسائي في حديث الفتون) ، وجاء في تاريخ الطبري عن سعيد بن جبير قال : سألني رجل من أهل النصرانية : أي الأجلين قضى موسى ، قلت لا أعلم ، وأنا يومئذ لا أعلم ، فلقيت ابن عباس ، فذكرت له الذي سألني عنه النصراني ، فقال : أما كنت تعلم أن ثمانيا واجبة عليه ، لم يكن نبي لينقض منها شيئا ، وتعلم أن الله كان قاضيا عن موسى عدته التي وعده ، فإنه قضى عشر سنين» (١).

وهكذا يمكث موسى في مدين عشر سنين (٢) ، يرزق فيها بولدين من زوجته صفورة (٣) ثم يعود إلى مصر ، بعد أن قضى أكمل وأتم الأجل الذي كان بينه وبين صهره ، وبعد أن علم ، طبقا لرواية التوراة ، أن ملك مصر الذي كان يطلبه قد مات (٤) ، فينبعث الأمل في نفس موسى عليه‌السلام في العودة إلى أرض الكنانة ، بل إنه يقرر العودة فعلا ، وقد «تنهد بنو إسرائيل من العبودية (٥)».

__________________

(١) تفسير النسفي ١ / ٢٣٤ ، الدر المنثور ٥ / ١٢٦ ـ ١٢٧ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٩٩ ، ابن كثير : مختصر التفسير ٣ / ١١ ، البداية والنهاية ١ / ٢٤٥.

(٢) تذهب التقاليد اليهودية والنصرانية إلى أن موسى قد أقام في مدين أربعين عاما (خروج ٧ / ٧ ، أعمال الرسل ٧ / ٣٠ ، قاموس الكتاب المقدس ٢ / ٩٣١).

(٣) خروج ٢ / ٢١ ـ ٢٢ ، ١٨ / ١ ـ ٦.

(٤) خروج ٢ / ٢٣ ، ٤ / ٢٩ ، وأنظر : في ظلال القرآن ٥ / ٣٠٧٧.

(٥) خروج ٢ / ٢٣ ـ ٢٥.

١٧٩
١٨٠