دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
المطبعة: دار النهضة العربية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٠

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

والصلاة والسلام على محمد المبعوث رحمة للعالمين

تقديم

لا ريب في أن القرآن الكريم كمصدر تاريخي ، إنما هو أصدق المصادر وأصحها على الإطلاق ، فهو موثوق السند ، ثم هو قبل ذلك وبعده ، كتاب الله الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (١).

ومن ثم فلا سبيل إلى الشك في صحة نصه بحال من الأحوال ، لأنه ذو وثاقة تاريخية لا تقبل الجدل ، ذلك لأن القرآن الكريم إنما دون في البداية بإملاء الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وتلي فيما بعد وحمل تصديقه النهائي قبل أن ينتقل ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ إلى الرفيق الأعلى (٢) ، ولأن القصص القرآني إنما هو أنباء وأحداث تاريخية لم تلتبس بشيء من الخيال ، ولم يدخل عليها شيء غير الواقع (٣).

ثم إن الله سبحانه وتعالى قد تعهد بحفظه دون تحريف أو تبديل ، يقول عزّ من قال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٤) ، ويقول (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (٥) ، ومن ثم فلم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السند ، حيث لم يتكفل الله بحفظها ، بل وكلها إلى حفظ الناس ، فقال

__________________

(١) سورة فصلت : آية ٤٢

(٢) محمد عبد الله دراز : مدخل إلى القرآن الكريم ص ٤٩

(٣) عبد الكريم الخطيب : القصص القرآني ص ٥٢

(٤) سورة الحجر : آية ٩

(٥) سورة القيامة : آية ١٧ ـ ١٩

٥

تعالى : (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) (١) ، أي بما طلب إليهم حفظه.

والسر في هذه التفرقة أن سائر الكتب السماوية جيء بها على التوقيت لا التأييد ، وأن هذا القرآن جيء به مصدقا لما بين يديه من الكتب ، ومهيمنا عليها ، وصدق الله العظيم حيث يقول (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) (٢).

ومن هنا كان القرآن الكريم جامعا لما في هذه الكتب من الحقائق الثابتة ، زائدا عليها بما شاء الله زيادته ، وكان سادا مسدها ، ولم يكن شيء منها يسد مسده ، فقضى الله أن يبقى حجة إلى قيام الساعة ، وإذا قضى الله أمرا يسر له أسبابه ، وهو الحكيم العليم (٣).

ومع ذلك كله ـ ويا للعجب ـ فإن ميدان الدراسة في التاريخ القديم ، قد حرم من هذا المنهل الغزير ، ربما لأن هذا الميدان إنما قد ظلّ إلى عهد قريب يكاد يكون مقصورا على المستشرقين ، وتلاميذهم من العرب غير المسلمين ، وإن هؤلاء وأولئك لم يتطرقوا في دراساتهم إلى الأحداث التاريخية التي جاء ذكرها في القرآن الكريم ، ربما لأن هذه الدراسة بعيدة عن أغراضهم ، أو لأن مجال البحث فيها قد لا يستهويهم لسبب أو لآخر ، أو لأن العرب منهم إنما كانوا يحسون بحرج إن تناولوا أحداث القرآن التاريخية بالبحث والدراسة.

وأيا ما كان السبب ، فإن ميدان البحث في التاريخ القديم ، إنما قد

__________________

(١) سورة المائدة : آية ٤٤

(٢) سورة المائدة : آية ٤٨

(٣) محمد عبد الله دراز : النبأ العظيم ص ١٣ ـ ١٤

٦

خسر بذلك أصح مصادره وأصدقها على وجه الإطلاق ، هذا فضلا عن أن الموقف إنما بقي كما هو ، حتى بعد أن دخل نفر من المسلمين ميدان التخصص في التاريخ القديم ، وحتى بعد أن حاولت قلة نادرة منهم ـ ربما لا يتجاوز عددها الواحد أو الاثنين ـ أن تعتمد في كتاباتها على ما جاء من محكم التنزيل ، فقد ظل المتخصصون في تاريخ الشرق الأدنى القديم ، يعتمدون على المصادر التقليدية لدراسة هذا الفرع من فروع الدراسات التاريخية ، ولم يكن القرآن الكريم منها ، على أي حال.

ومن عجب ، فإن المؤرخين المحدثين ـ الاوربيين منهم والشرقيين ، المسلمين وغير المسلمين ـ إنما ينظرون إلى التوراة ، وكأنها المصدر الأساسي لدراسة فترات معينة من تاريخ الشرق الأدنى القديم ، رغم أنهم يجمعون ـ او يكادون ـ على أنها غير موثوقة السند ، ورغم ان هناك مئات من الأبحاث التي كتبها المؤمنون بالتوراة ـ فضلا عن غير المؤمنين بها ـ وهي جميعا إنما تثير جدلا طويلا حول وثاقة نصها ، بل حول نسبة هذا النص لهذا الشخص أو ذاك (١).

ورغم ذلك كله ، لم يفكر واحد من هؤلاء المؤرخين في أن يرجع إلى القرآن الكريم ، ذلك الكتاب السماوي العظيم ، الذي تجمع آراء العلماء في العالم كله على وثاقة نصه ، أو كما يقول «سير وليم موير» ـ وهو من أشد المتعصبين ضد الإسلام ـ «إن العالم كله ليس فيه كتاب غير القرآن الكريم ظل أربعة عشر قرنا كاملا بنص هذا مبلغ صفائه ودقته» (٢)

__________________

(١) أنظر عن التوراة كتابنا «إسرائيل» ص ١٩ ـ ١٥٩ (القاهرة ١٩٧٣)

(٢) محمد حسين هيكل : الصديق ابو بكر ، القاهرة ١٩٦٤ ص ٣٢٣ وكذا

Sir William Muir, The Life of Mohammad and History of Islam, Edinburgh, ٣٢٩١

٧

ويعود العالم الإنكليزي مرة أخرى ليؤكد أن المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا بدون أي تحريف ، وأنه قد حفظ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة ، فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية في كل العصور وكل الأزمان (١) ، وهذا الاستعمال الإجماعي لنفس النص المقبول من الجميع يعدّ أكبر حجة ودليل على صحة النص المنزل الموجود معنا (٢).

ويؤكد «لوبلوا» أن القرآن الكريم هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير (٣) ، كما يقرر «نولدكه» أن النص القرآني (١) قارن ذلك بما هو معترف به عن التوراة من جميع المؤمنين بها ، حيث ترى أن هناك نسختين للتوراة عند اليهود ، الواحدة لليهود والعبرانيين ، والأخرى لليهود السامريين ، وكل منهما تختلف عن الأخرى في عدد أسفارها وفي كثير من نصوصها ، ولم يكن الأمر عند المسيحيين ـ وهم من المؤمنين بها إيمانهم بأناجيلهم المختلفة ـ بأفضل منه عند اليهود ، ذلك لأن هناك على الأقل طبعتين للتوراة (العهد القديم) ، الواحدة تستعملها الكنائس البروتستانتية ، والأخرى تستعملها الكنائس الكاثوليكية والارثوذكسية الشرقية ، والتي تزيد عن الأولى بأسفار عدة ، اعتبرها البروتستانت أسفارا زائفة (أبو كريفا) ، هذا فضلا عن الاختلاف في عدد إصحاحات أسفار توراة البروتستانت عنها في توراة الكاثوليك ، بل إن أسماء الأسفار نفسها كانت ـ ولا تزال ـ موضع خلاف بينهما ، واخيرا فهناك الاختلاف في ترتيب الأسفار عند اليهود عنها عند المسيحيين (انظر : كتابنا «إسرائيل» ص ٢٠ ـ ٢١ ، قاموس الكتاب المقدس ١ (بيروت ١٩٦٤) حسن ظاظا : الفكر الديني الإسرائيلي ، القاهرة ١٩٧١ ، ص ٢٤٨ ـ ٢٤٩ ، حبيب سعيد : المدخل الى الكتاب المقدس ، القاهرة ص ٦٧ ـ ٦٨ ، فؤاد حسنين : التوراة الهيروغليفية ، القاهرة ١٩٦٨ ص ١٤ ـ ١٥ ، وكذا ـ

__________________

(١) M. F. Unger, Unger\'s Bible Dictionary, Chicago, ٠٧٩١, P. ٤٤١

(٢) محمد عبد الله دراز : مدخل الى القرآن الكريم ص ٤٠ ، وكذاW. Muir, The Life of Mohammad. B. St. Hilaire, Mahomat et Le Koran, P. ٣٣

(٣) محمد عبد الله دراز : المرجع السابق ص ٤٠ وكذا.Lebbois, le Koran et la Bible Hebraique, Paris, ٧٨٨١, P. ٧٤

٨

إنما بقي على أحسن صورة من الكمال والمطابقة (١).

هذا ويؤكد العلماء في كل أنحاء الدنيا أن المصحف الذي كتب على أيام أبي بكر الصديق ، هو نفس المصحف الذي كتب على أيام الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وهو نفس المصحف الذي كتب على أيام عثمان ، وبالتالي فإن كل قراءة قرآنية يجب أن تكون متفقة مع نصه ، وأن الشك فيه كفر ، وأن الزيادة عليه لا تجوز ، وأنه القرآن المتواتر الخالد إلى يوم القيامة (٢).

وليس من شك في أن القرآن الكريم ، أنما يقدم لنا ـ عن طريق القصص القرآني ـ معلومات هامة وصحيحة تماما عن عصور ما قبل الإسلام ، وأخبار دولها ، أيدتها الكشوف الحديثة كل التأييد ، وعلى سبيل المثال ، فإنه يقدم لنا ـ عن طريق قصة الكليم عليه‌السلام ـ كثيرا من المعلومات الملكية الإلهية في مصر الفرعونية ، وعن الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيها (٣) ، والأمر كذلك بالنسبة إلى قصة الخليل ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ حيث يقدم لنا الكثير من المعلومات عن العراق القديم (٤).

__________________

(١) أنظر : T.Noeldeke ,Geschichie des Quarans ,١٦٩١ ,P.٦١

(٢) محمد أبو زهرة : القرآن ص ٤٣ ، تفسير القرطبي ١ / ٨٠ ـ ٨٦ ، فتاوى ابن تيمية ١٣ / ٤٢٠ ـ ٤٢١ ، محمد حسين هيكل : حياة محمد ص ٥١ ـ ٥٥ ، وانظر كذلك : W.Muir op - cit ,P.P.XIV - XIXX

(٣) انظر عن قصة موسى (البقرة : آية ٤٧ ـ ٧٤ ، الأعراف : آية ١٠٣ ـ ١٥٥ ، يونس : آية ٧٥ ـ ٩٣ ، طه : آية ٩ ـ ٩٩ ، الشعراء : آية ١٠ ـ ٦٨ ، القصص : آية ٣ ـ ٤٤ ، غافر : آية ٢٣ ـ ٥٤)

(٤) انظر عن قصة إبراهيم (البقرة : آية ٢٥٨ ، الأنعام : آية ٧٤ ـ ٨٣ ، إبراهيم : آية ٣٥ ـ ٤١ ، مريم : آية ٤١ ـ ٥٠ ، الأنبياء : آية ٥١ ـ ٧٣ ، الشعراء : آية ٦٩ ـ ٨٩ ، الصافات : آية ٨٣ ـ ١١٣.

٩

وأما عن بني إسرائيل ، فليس هناك من شك في أنه ليس هناك كتاب سماوي ـ حتى التوراة نفسها ـ قد فصل الحديث عن بني إسرائيل ، وأفاض في وصف يهود وأحوالهم وأخلاقهم ، وأبان مواقفهم من الأنبياء ، كما فعل القرآن الكريم ، وصدق الله العظيم حيث يقول (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١).

وأما عن بلاد العرب ، فإنك تجد في كتاب الله الكريم تعالى جملة من الآيات الكريمة ، تتحدث عن مملكة سبأ ـ في جنوب شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام ـ هذا إلى أن القرآن الكريم قد انفرد ـ دون غيره من الكتب المقدسة المتداولة اليوم ـ بذكر أقوام عربية بادت ـ كقوم عاد (٢) وثمود (٣) ـ فضلا عن قصة أصحاب الكهف (٤) ، وسيل العرم (٥) ، وقصة أصحاب الأخدود (٦) ، إلى جانب قصة أصحاب الفيل (٧) ، وهجرة الخليل وولده إسماعيل عليهما‌السلام ، إلى الأرض الطاهرة في الحجاز ، ثم إقامة إسماعيل هناك (٨)

وصدق الله العظيم حيث يقول (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا ، فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (٩) ، وحيث يقول «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ

__________________

(١) سورة النمل : آية ٧٦

(٢) انظر : الأعراف : آية ٦٥ ، هود : آية ٥٠ ـ ٦٠ ، الشعراء : آية ١٢٣ ـ ١٤٠

(٣) انظر : الأعراف : آية ٧٣ ـ ٧٩ ، هود : آية ٦١ ـ ٦٨ ، الشعراء : آية ١٤١ ـ ١٥٩

(٤) سورة الكهف : آية ٩ ـ ٢٦

(٥) سورة سبأ : آية ١٥ ـ ١٩

(٦) سورة البروج : آية ٤ ـ ١٠

(٧) سورة الفيل

(٨) انظر : سورة البقرة : آية ١٢٤ ـ ١٣١ ، سورة إبراهيم : آية ٣٥ ـ ٤١

(٩) سورة هود : آية ٤٩

١٠

لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ» (١).

غير أن ذلك كله لا يعني بحال من الأحوال ، أن القرآن الكريم كتاب تاريخ ، يتحدث عن أخبار الأمم ، كما يتحدث عنها المؤرخون ، وإنما هو كتاب هداية وارشاد للتي هي أقوم (٢) ، أنزله الله سبحانه وتعالى ليكون دستورا للمسلمين ، ومنها جا يسيرون عليه في حياتهم ، ويدعوهم إلى التوحيد (٣) ، وإلى تهذيب النفوس ، وإلى وضع مبادئ للأخلاق (٤) ، وميزان للعدالة (٥) ، واستنباط لبعض الأحكام (٦) ، فإذا ما عرض لحادثة تاريخية ، فانما للعبرة والعظة (٧).

ومع ذلك فيجب ألا يغيب عن بالنا ـ دائما وأبدا ـ أن القصص القرآني إن هو الا الحق الصراح ، وصدق الله العظيم حيث يقول (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) (٨) ويقول (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) (٩) ويقول (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) (١٠) ويقول (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ

__________________

(١) سورة آل عمران : آية ٤٤

(٢) سورة الإسراء : آية ٩

(٣) انظر مثلا : في قصة نوح (سورة نوح : آية ٢ ـ ٢٠) وفي قصة يوسف (سورة يوسف آية ٣٧ ـ ٤٠) وفي قصة عيسى (النساء : آية ١٧١ ـ ١٧٢ ، آل عمران : آية ٥٩ ، المائدة : آية ٧١ ، ٧٦)

(٤) انظر مثلا : سورة البقرة : آية ٤٤ ، الأعراف : آية ٨٥ ـ ٨٧ ، هود : آية ٨٤ ـ ٨٨

(٥) انظر مثلا في قصة داود (سورة ص : آية ٢١ ـ ٢٦)

(٦) انظر مثلا في قصة هابيل وقابيل : سورة المائدة : آية ٢٧ ـ ٣٢ ، ٤٢ ـ ٥٠ ، البقرة : آية ١٧٨ ـ ١٧٩

(٧) انظر : عن أهداف القرآن ومقاصده : تفسير المنار ١ / ٢٠٦ ـ ٢٩٣

(٨) سورة النساء : آية ٨٧

(٩) سورة آل عمران : آية ٦٢

(١٠) سورة الكهف : آية ١٣

١١

الكتاب هو الحق) (١) ويقول (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) (٢) ويقول (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) (٣) ويقول (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) (٤) ويقول (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٥) ويقول (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) (٦).

ويعلم الله ، أنني منذ التحقت بقسم التاريخ في جامعة الاسكندرية ، في الخمسينات من هذا القرن العشرين ، كنت أسائل نفسي ـ عند ما أدرس أحداثا تاريخية تعرض لها القرآن الكريم بالإيجاز أو التفصيل ـ لم لم يرجع المؤرخون المسلمون ـ وفيهم الكثيرون ممن حفظوا كثيرا أو قليلا من القرآن الكريم بحكم نشأتهم الدينية ، وعرفوا الكثير مما جاء من محكم التنزيل بحكم دراساتهم العلمية ـ أقول لم لم يرجعوا إلى ما جاء في القرآن الكريم عن هذه الأحداث؟ على الأقل ليتثبتوا من صحتها او عدم صحتها ، طبقا لما جاء عنها في كتاب الله الكريم ، ولكني لم أكن أهتدي إلى نوع من الإجابة يرضيني ، أو على الأقل ينير أمامي الطريق ، أزاء موقفهم هذا.

وبقيت كذلك في حيرة من أمري ، حتى أكملت دراساتي العليا ، وعينت مدرسا للتاريخ القديم بجامعة الإسكندرية في أخريات الستينات من هذا القرن العشرين ، وبدأت اتجه نحو القرآن العظيم ، نحو المصدر

__________________

(١) سورة فاطر : آية ٣١

(٢) سورة الزمر : آية ٢ ، وانظر الآية ٤١

(٣) سورة الجاثية : آية ٦

(٤) سورة محمد : آية ٢

(٥) سورة البقرة : آية ٢٥٢

(٦) سورة آل عمران : آية ٣

١٢

الذي يعلو فوق كل المصادر ، ويبدو أنه مما يسر لي ذلك أن تخصصي إنما كان في تاريخ مصر والشرق الأدنى القديم ، فضلا عن نشأتي في بيئة إسلامية محافظة ، في الصعيد الاقصى من أرض الكنانة ، هيأت لي المناخ المناسب لحفظ القرآن الكريم ، ولم أكن قد تجاوزت العاشرة من عمري بكثير ، هذا إلى جانب دراسات إسلامية ، قضيت فيها الشطر المبكر من حياتي العلمية في معاهد المعلمين ، وأخيرا فلقد كان وجودي بين اعضاء هيئة التدريس في قسم التاريخ ، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، فرصة طيبة ، وحاسمة ، للاتجاه إلى دراسة الأحداث التاريخية ، التي جاءت في القرآن الكريم.

وهكذا عقدت العزم ـ بعد أن استخرت الله سبحانه وتعالى ـ على أن أكتب في الأحداث التاريخية التي تعرض لها القرآن الكريم ـ دون غيرها ـ سلسلة من الأبحاث تحت عنوان «دراسات تاريخية من القرآن الكريم (١)» في خمسة أجزاء ، والتي أرجو أن يوفقني الله إلى اخراجها في صورة طيبة ، وعلى النحو التالي : ـ

١ ـ دراسات تاريخية من القرآن الكريم ـ الجزء الأول ـ في بلاد العرب

٢ ـ دراسات تاريخية من القرآن الكريم ـ الجزء الثاني ـ في العراق

__________________

(١) يعني هذا العنوان أن هذه الدراسة في أجزائها الخمسة ، لن تتعرض للأحداث التاريخية التي جاءت في غير القرآن الكريم ، وإنما سوف تكون مقصورة ـ إن شاء الله ـ على ما جاء من محكم التنزيل من أحداث دينية وسياسية ، واقتصادية واجتماعية ... الخ ، في بلاد العرب وفي العراق وفي مصر وفي سورية ، ثم يكون ختام المسك من هذه السلسلة ، سيرة أشرف الأولين والآخرين ، نبي الرحمة ورسول السلام ، رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما جاءت في القرآن الكريم : ولعل هذه الإشارة الموجزة إنما توضح عنوان هذه السلسلة (دراسات تاريخية من القرآن الكريم) ، أي التاريخ الذي جاء في القرآن الكريم فحسب ، دون التعرض فيها لما جاء في المصادر التاريخية التقليدية ، ولم يرد له ذكر في القرآن العظيم.

١٣

٣ ـ دراسات تاريخية من القرآن الكريم ـ الجزء الثالث ـ في مصر

٤ ـ دراسات تاريخية من القرآن الكريم ـ الجزء الرابع ـ في سورية (فلسطين).

٥ ـ دراسات تاريخية من القرآن الكريم ـ الجزء الخامس ـ في السيرة النبوية الشريفة.

وأما هذا الجزء الأول من هذه السلسلة ، فإنما يتعرض للأحداث التي أشار إليها القرآن ، والتي كانت أرض العروبة ، وموطنها الأول ، مسرحا لها ، ومن ثم فإننا نراه يتحدث عن إبراهيم الخليل ، وعن الكعبة المشرفة ، ثم عن العاديين قوم هود ، والثموديين قوم صالح ، والمديانيين قوم شعيب ، فضلا عن أحداث أخرى كان لها دوي كبير في تاريخ العرب قبل الإسلام ، كسيل العرم ، وقصة أصحاب الأخدود ، وأخيرا غزوة الفيل ، والتي كانت واحدة من إرهاصات كثيرة ، سبقت مطلع النور من مكة المكرمة ، حيث ولد خاتم النبيين ، وسيد المرسلين ، ورسول رب العالمين ، محمد رسول الله ، (صلى‌الله‌عليه‌وسلم)

وأما الفصول الثلاثة الأولى ، فكانت دراسة في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ، واخيرا علم التفسير ، حيث اعتمدت هذه الدراسة على القرآن الكريم ، بصفته مصدرها الأول والأساسي ، ثم على حديث رسول (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، وتفسير القرآن الكريم ، بصفتهما المفسرين الأساسيّين لكتاب الله الكريم ، ومن هنا كان لزاما علينا أن نقدم للقارئ صورة موجزة عن مصادرنا الأساسية لهذه الدراسة.

وأما غير القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وعلم التفسير من مصادر ، لا شك أنها أفادتنا كثيرا في دراستنا هذه ، فلم تقدم عنها دراسة مستقلة لأنها مصادر مساعدة أو مصادر ثانوية ، لم يكن عمادنا عليها إلا في

١٤

تفسير بعض الأحداث ، أو تقديم وجهات نظر مختلفة ، قد نتفق معها أحيانا ، وقد نختلف معها أحيانا أخرى ، ولكنها في كل الأحوال مصادر إنسانية ـ وليست سماوية ـ ثم إنها ليست مصادر أصيلة في هذه الدراسة التي تبحث في «الدراسات التاريخية من القرآن الكريم».

وبعد : فلعل من حسن الطالع أن يسبغ الله فضله على صاحب هذه الدراسة ، وأن تشملها هي عناية الرحمن ، فتهيأ لها وسيلة النشر عن طريق جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لتخرجها إلى الناس في ثوب قشيب ، جزى الله القائمين بالأمر في هذه الجامعة الإسلامية عن صنيعهم الجميل هذا خير الجزاء.

وأخيرا ، فهذا نوع جديد من الدراسة التاريخية ، تهيبت كثيرا قبل أن أخوض في غمار بحره المتلاطم ، ولكني وجدت آخر الأمر أن التردد ليس في مصلحة البحث العلمي في كل الأحوال ، ثم إنني ما زدت عن كوني باحثا يستحث خطاه في أول الطريق ، ومن ثم فعليه أن يضع لبنة في بناء هذا الصرح الشامخ ، وعلى غيره من الباحثين أن يضعوا لبنات أكثر قوة ، وأشد رسوخا ، حتى تأتي أجيال أخرى فتقيم صرح الدراسات التاريخية القرآنية ، كما أقامت أجيال سبقت صرح الدراسات اللغوية والفقهية وغيرها من الدراسات التي اعتمدت على محكم التنزيل ، فالقرآن الكريم كان ـ وما يزال وسيظل أبد الدهر ـ «لا يشبع منه العلماء ، ولا يمله الاتقياء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه».

وأملي من الله كبير أن تنال هذه الدراسة بعض الرضا.

(وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).

محمد بيومي مهران

١٥
١٦

الفصل الأول

القرآن الكريم

١٧
١٨

(١) التدوين في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

القرآن الكريم كتاب الله الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (١) ، نزل على رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ منجما في ثلاث وعشرين سنة (٢) ، حسب الحوادث ومقتضى الحال (٣) ، وكانت الآيات والسور تدون ساعة نزولها ، إذ كان المصطفى (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) إذا ما انزلت عليه آية أو آيات ، قال : «ضعوها في مكان كذا ... من سورة كذا» ، فقد ورد أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ كان ينزل بالآية أو الآيات على النبي ، فيقول له ، يا محمد إن الله يأمرك أن تضعها على رأس كذا من سورة كذا» ، ولهذا اتفق العلماء على أن جمع القرآن «توقيفي» ، بمعنى أن ترتيبه بهذه الطريقة التي نراه عليها اليوم في المصاحف ، إنما هو بأمر ووحي من الله (٤)

__________________

(١) سورة فصلت : آية ٤٢

(٢) قارن صحيح البخارى ٦ / ٩٦

(٣) نزل القرآن منجما فيما بين عامي ١٣ ق. ه ، ١١ ه‍ (٦١٠ ـ ٦٣٢ م) لأسباب : منها تثبيت قلب النبي أمام أذى الكافرين ، ومنها التلطف بالنبي عند نزول الوحي ومنها التدرج في تشريع الأحكام السماوية ، ومنها تسهيل حفظ القرآن وفهمه على المسلمين ، ومنها مسايرة الحوادث والوقائع والتنبيه عليها في حينها ، ومنها الارشاد إلى مصدر القرآن وانه تنزيل الحكيم الحميد (محمد علي الصابوني : التبيان في علوم القرآن ص ٤٠ ـ ٤٩ ، محمد عبد الله دراز : مدخل إلى القرآن الكريم ص ٣٣ ، محمد سعيد رمضان : من روائع القرآن ص ٣٦ ـ ٤١) ومنها أن العرب كانوا أمة أمية ، والكتابة ليست فيهم رائجة ، بل يندر فيهم من يعرفها ، وأندر منه من يتقنها ، فما كان في استطاعتهم أن يكتبوا القرآن كله إذا نزل جملة واحدة ، إذ يكون بسوره وآياته عسيرا عليهم أن يكتبوه وإن كتبوه لا يعدموا الخطأ والتصحيف والتحريف (محمد أبو زهرة : القرآن ص ٢٣ ـ ٢٤)

(٤) نفس المرجع السابق ص ٢٧ ، ٤٧ ـ ٤٩ ، السيوطي : الاتقان في علوم القرآن ١ / ٤٨ ، ٦٣ ، الزركشي : البرهان في علوم القرآن ص ٢٣٤ ، ٢٣٧ ، ٢٤١ ، السجستاني : كتاب المصاحف ص ٣١ ، مقدمتان في علوم القرآن ص ٢٦ ـ ٣٢ ، ٤٠ ، ٤١ ، ٥٨ ، تفسير القرطبي ١ / ٦٠ ، محمد علي الصابوني : المرجع السابق ص ٥٩

١٩

وهكذا تمر الأيام بالرسول الكريم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وهو على هذا العهد ، يأتيه الوحي نجما بعد نجم ، وكتاب الوحي يسجلونه آية بعد آية (١) ، حتى إذا ما كمل التنزيل ، وانتقل الرسول الأعظم ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى الرفيق الأعلى كان القرآن كله مسجلا في صحف ـ وإن كانت مفرقة لم يكونوا قد جمعوها فيما بين الدفتين ، ولم يلزموا القراء توالي سورها (٢) ـ وفي صدور الحفاظ من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ هؤلاء الصفوة من أمة محمد النبي المختار ، الذين كانوا يتسابقون إلى تلاوة القرآن ومدارسته ، ويبذلون قصارى جهدهم لاستظهاره وحفظه ، ويعلمونه أولادهم وزوجاتهم في البيوت ، حتى كان الذي يمر ببيوت الأنصار في غسق الدجى ، لا يسمع فيها إلا صوت القرآن يتلى ، وحتى كان المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يمر على بعض دور الصحابة ، فيقف عند بعضها يستمع القرآن في ظلام الليل ، وحتى روي عنه (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أنه قال : «إني لأعرف أصوات رفقة الاشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل ، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالليل بالقرآن ، وإن كنت لم أر منازلهم بالنهار» [رواه الشيخان].

ومن هنا كان حفاظ القرآن الكريم في حياة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) لا يحصون ، وتلك ـ ويم الله ـ عناية من الرحمن خاصة بهذا القرآن

__________________

(١) لعل أشهر كتاب الوحي ـ والذين يقال أن عددهم بلغ تسعة وعشرين كاتبا ـ الخلفاء الاربعة وأبي بن كعب وزيد بن ثابت والمغيرة بن شعبة والزبير بن العوام وشرحبيل وعبد الله بن رواحه (أنظر فتح الباري ٩ / ١٨) وكانوا يضعون ما يكتبونه في بيت النبي عليه الصلاة والسلام ، ثم يكتبون لأنفسهم منه صورا أخرى يحفظونها لديهم (البرهان ١ / ٢٣٨ ، الاتقان ١ / ٥٨ ، محمد عبد الله دراز : المرجع السابق ص ٣٤ ـ ٣٥ ، من روائع القرآن ص ٤٩ ـ ٥١)

(٢) الاتقان في علوم القرآن ١ / ٥٩ ، البرهان في علوم القرآن ص ٢٣٥ ، مقدمتان في علوم القرآن ص ٣٢ ، مقدمة كتاب المصاحف لآرثر جفري ص ٥ ، محمد حسين هيكل : حياة محمد ص ٤٩ ـ ٥٠

٢٠