دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

والصّلاة والسّلام على المبعوث رحمه للعالمين

سيّدنا محمّد وآله

تقديم

تحدثنا في الجزء الأول من هذه الدراسات عن النبوات في بلاد العرب ، ومن ثم فقد قدمنا دراسة تاريخية عن أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وكذا عن هود وصالح وشعيب عليهم‌السلام ، هذا إلى جانب دراسة أحداث تاريخية جاء ذكرها في القرآن الكريم ، كقصة سيل العرم وأصحاب الأخدود وأصحاب الفيل.

ثم خصصنا الجزء الثاني من هذه السلسلة «دراسات تاريخية من القرآن الكريم» لدراسة تاريخ النبوات في أرض الكنانة ، ومن ثم فقد قدمنا دراسة عامة عن النبوة والنبوات ، ثم دراسة مفصلة عن تاريخ النبيّين الكريمين يوسف وموسى عليهما‌السلام ، فضلا عن تاريخ بني إسرائيل في مصر.

وفي هذا الجزء الثالث من هذه السلسلة نتحدث عن تاريخ النبوات في

٥

بلاد الشام ، ومن ثم فإن حديثنا في هذا الجزء إنما سيكون عن الأنبياء الكرام : داود وسليمان ، ثم أيوب وإلياس واليسع وزكريا ويحيى ، ثم ختمنا هذا الجزء الثالث بسيرة المسيح عيسى بن مريم رسول الله ، صلوات الله عليهم أجمعين.

وإني لكبير الأمل في الله تعالى أن يكون في هذه الدراسة بأجزائها الثلاثة بعض النفع ، والله من وراء القصد ، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

«وما توفيقي إلّا بالله عليه توكلت وإليه أنيب».

الإسكندرية في

١٢ ربيع الأول عام ١٤٠٨ ه‍.

٤ نوفمبر عام ١٩٨٧ م.

٦

الكتاب الرابع

داود وسليمان عليهما‌السلام

٧
٨

الباب الأول

سيرة داود عليه‌السلام

٩
١٠

الفصل الأول

بنو إسرائيل فيما بين عهدي وداود عليهما‌السلام

(١) دخول بني إسرائيل كنعان :

آل أمر بني إسرائيل بعد موت موسى عليه‌السلام إلى يوشع بن نون خادم موسى وفتاه (١) ، ومنذ تلك اللحظة بدأ كتبة التوراة يضعوه في مكانة لا تقل عن مكانة موسى نفسه (٢) ، فكما كلم الزب موسى من قبل ، كلم يوشع من بعد (٣) ؛ وكما آثر موسى بمعجزة انفلاق البحر في مصر ، فقد آثر يوشع بمعجزة شق الأردن في كنعان ، هذا فضلا عن معجزة أخرى يتعطل فيها مسير الأفلاك بإشارة من يوشع ، فإذا الشمس تتوقف عن مغيبها عند «جبعون» ، وإذا القمر لا يبزغ في حينه على وادي أيلون (٤).

__________________

(١) خروج : ٢٤ / ١٣ ، عدد : ٢٧ / ١٢ ـ ٢٣ ، تثنية : ١ / ٢٨.

(٢) يذهب بعض المفسرين إلى أن يوشع قد بعث بعد موسى نبيا (انظر تفسير الطبري : ١٠ / ١٩٢ ، تفسير الطبري : ٦ / ٧٠ ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٧٤ ، تفسير الكشاف : ١ / ٦٢٢) وبديهي أن هذا من اجتهادات المفسرين ، ولكن الذي يلزمنا هنا هو كلام الله عزوجل ، وليس ما درج المفسرون أن يقدموا فإنما هو اجتهاد ، وفوق كل ذي علم عليم ، وليس في كتاب الله نص صريح على نبوة يوشع أو يشوع هذا.

(٣) يشوع : ١ / ١ ـ ٢.

(٤) خروج : ١٤ / ٢١ ، يشوع : ٣ / ١٤ ـ ١٧ ، ١٠ / ١٢ ـ ١٤ ، مختصر تفسير ابن كثير : ١ / ٥٠٤ ، محمد بيومي مهران : إسرائيل : ٢ / ٦٠١ ، ٦١٠ ، وكذا.

J. Gray, Israel, In Near Eastern Mythology, N. Y, ١١١.p ، ١٩٦٩

١١

وقد بدأ يشوع بخطط لغز وكنعان ، وبدأ بمدينة أريحا ، ومن ثم فقد عبر بنو إسرائيل الأردن في «مقابل أريحا» (١) ، وهي المخاضة المعروفة بالمغطس أو الحجلة ، على مبعدة ميلين جنوبي كوبري النبي ، ويبدو أن العبور كان في الربيع عند ما كان النهر ضحلا كما يفهم من بعض نصوص التوراة ، وإن ذهب نص آخر إلى أن «المياه المنحدرة من فوق وقفت ، وقامت ندا واحدا ، بعيدا جدا عن أدام المدينة» (٢) ، فسار القوم في الأرض الجافة ، وأما مدينة «أدام» هذه فيمكن أن توجد «بتل الدامية» ، على مبعدة ميل واحد جنوبي اتصال يبوق بالأردن ، وهناك يوجد جرف من الحجر الجيري يكوّن عند الزلزال شقا في النهر يسدّه تماما لفترة ما ويمنع تدفق مياه الأردن لمدة تزيد عن عشرين ساعة ، الأمر الذي حدث مثيل له في عام ١٩٣٧ م (٣).

وأيا ما كان الأمر ، فلقد عبر بنو إسرائيل الأردن ، وعسكروا في «الجلجال» عند تخم أريحا الشرقي (٤) ، ثم سرعان ما تقدموا نحو المدينة الحصينة ، ذات الأسوار العالية ، وطبقا لرواية التوراة ، فلقد دار القوم حول أريحا مرة كل يوم ، على مدى سبعة أيام ، وفي اليوم السابع يدور القوم دورتهم السابعة ، ويضرب الكهنة بالأبواق ، وتسقط أسوار أريحا ، وتحرق المدينة وكل من فيها وما فيها «من رجل وامرأة وطفل وشيخ ، حتى البقر والغنم والحمير» ، ما عدا «الذهب والفضة وآنية النحاس فقد جعلوها في خزانة بيت الرب» ، وأما «رحاب» الزانية التي خانت قومها ووطنها ، وأخفت

__________________

(١) يشوع : ٣ / ١٦.

(٢) يشوع : ٣ / ١٥ ـ ١٦.

(٣) J. Garstang, Jashua, Judges, The Faundations of Bible. J. Finegan, P. cit, p. ١٥٥ وكذاHistory ,London ,F ١٣٦.p ، ١٩٣١

(٤) يشوع : ٤ / ١٩ ، ٢٤.

١٢

جواسيس يشوع في بيتها وسهلت مهمتهم ، فقد كافأها بنو إسرائيل بأن أبقوا عليها ، هي وبيت أبيها ، كما أسكنوها في وسط إسرائيل ، ولم يكتف يشوع بكل ما فعله بأريحا ، وإنما هو يصب اللعنات على من يعيد بناء المدينة ، وإلّا «فببكره يؤسسها ، وبصغيره ينصب أبوابها» (١) ، هذا ويذهب الكثير من العلماء إلى أن سقوط أريحا لم يكن بسبب ضرب كهنة يهود بأبواقهم ، ثم الدوران حول المدينة طيلة أيام سبعة ، وإنما بسبب زلازل وقعت في المدينة (٢).

وكانت الضربة التالية من نصيب «عاي» التي سقطت عن طريق خدعة يهودية ، ثم «ضربوهم حتى لم يبق منهم شارد ولا منقلب» (٣) وإن كان البعض يعتبر ذلك مجرد خيال يهودي لأنه لم تكن هناك مدينة وقت ذاك باسم «عاي» ، وأن حضائر «مدام جوديت ماركيت كروز» في موقع عاي ، وهي التل الحالية على مبعدة ١٣ ميلا شمال غرب أريحا ، تشير إلى بقايا مدينة من عصر البرونز المبكر قد دمرت تماما حوالى عام ٢٢٠٠ قبل الميلاد ، كما أن اسم «عاي» يعني الخراب ، ومن هنا يرى العلماء أن التفسير المحتمل لرواية التوراة هو الخلط بين عاي وبيت إيل (بيتين) على مبعدة ميل من عاي (٤) ، وعلى أية حال ، وطبقا لرواية التوراة ، فلقد امتد هذا المد الإسرائيلي سعيرا ، فأحرق بالنار المدن الكنعانية ، وقتل أهلها برمتهم ، من رجال ونساء وأطفال ، بل وفي حمى لا واعية ، انطلق هذا المد مجنونا ، فلم يسلم من يده

__________________

(١) يشوع : ٦ / ١ ـ ٢٧.

(٢) J.Finegan ,Op.Cit ,P. ١٥٨. وكذاT.R.Glover ,Ancient World ١٣٤.p ، ١٩٦٨

(٣) يشوع : ٧ / ٣ ، ٨ / ١٣ ـ ٢٩.

(٤) W.F.Albright ,A J A , ١٥٨.p ، ٤٠and B A S O R , ٣١.p ، ١١٨ وكذا Judith Marquet ـ Krause, Les Voulles de Ay (et ـ tell) , ١٩٤٩vols ٢ ، ١٩٣٥ ـ ١٩٤٤ وكذاJ.Finegan ,Op ـ Cit ,P. ١٦٠ ـ ١٥٩

١٣

شيء ، حتى السائمة لم يستبق يشوع من البهائم واحدة ، البقر والغنم والحمير أحرقها يشوع أباد يشوع كل شيء باستثناء المعادن وسبائك الفضة والذهب.

وتقدم يشوع فاستولى على جبعون (الجيب الحالية ، ٨ أميال شمال غرب القدس) ولبنه (تل بورناط شمالي غرب بيت جيرين أو تل الصافية) ولخيش (تل الدوير) وجازر (تل الجزر ، ١٧ ميلا جنوب شرق حيفا) وعجلون (خربة عجلا قرب أربد) وحبرون (مدينة الخليل ، ١٩ ميلا جنوب غرب القدس) ودبير (تل بيت مرسيم ، ١٢ ميلا جنوب غرب الخليل) وحاصور (تل القدح ، ٩ أميال شمال بحر الجليل) ، ثم تزعم التوراة بعد ذلك أن يشوع استولى على أملاك ٣١ ملكا في كنعان ، وأنه أخذ كل الأرض حسب ما كلم الرب موسى وأعطاها ملكا لبني إسرائيل (١) ، على أن الباحثين إنما يكادون يجمعون الآن على أن غزو كنعان إنما كان بعيدا عن التمام على أيام يشوع ، ذلك لأن هناك كثيرا من المدن الحصينة في طول البلاد وعرضها ولم تخضع لبني إسرائيل ، فضلا عن مجموعات من القبائل ، بل إن احتلال كنعان حين تم ، إنما تم عن طريق جهود كل سبط في الدفاع عن منطقته ، وأن ذلك استغرق فترة تزيد عن القرن من الزمان ، ومن هنا فليس صحيحا ما روته توراة يهود من أن الغزو قد تم في جيل واحد أو في خمسة أو سبعة أعوام ، وإنما استمر طوال عهد القضاة ، وحتى بداية عصر الملوك الأول ، حيث تم الاستيلاء على أورشليم ومجدو وتعناك وبيت شان ومنطقة دور وجارز ، بل إن أورشليم لم يتم الاستيلاء عليها إلا على أيام داود ، وجازر على أيام سليمان وبقوات مصرية (٢).

__________________

(١) يشوع : ٩ / ٣ ـ ٧ ، ١٠ / ١ ـ ١١ ، ١١ / ٢٣ ، ١٢ / ١ ـ ٢٤ ، محمد بيومي مهران ، إسرائيل : ٢ / ٦١٢ ـ ٦٢٢ ، وكذاA.Lods ,P ـ cit ,P. ٣٣٢ وكذاJ.Finegan ,Op.Cit ,P. ١٦٤ ـ ١٦٠ وكذا ، J.B.Pritchard ,BA , ٧٥ ـ ٦٥.p ، ١٩٥٦ ، ١٩and UMB , ٢٤ ، ١٢.p ، ١٩٥٨ ، ٢٦ ـ ٣.p ، ١٩٥٧ ، ٢١

(٢) يشوع : ١٤ / ١٠ ـ ١١ ، صموئيل ثان : ٥ / ٦ ـ ٩ ، ملوك أول : ٩ / ١٦ ، وكذاOp.Cit ,P. ٢٤٢.I.EPdtein ,Op.Cit ,P.٣٣ وكذاO Roux ,

١٤

وهكذا يمكننا القول إن ما تمتلئ به صفحات سفر يشوع من غزوات لا تعد وما اعتاده الرحل أن يمارسوه من غارات قبلية على السكان المستقرين الآمنين في كنعان ، والذين كانوا يعيشون في تلك الفترة شيعا وأحزابا ، لا تربطهم رابطة ولا يجمعهم حلف واحد ، فإذا أضفنا إلى ذلك حروب رعمسيس الثالث ضد شعوب البحر ، وانشغال مصر بتلك الحروب ، فضلا عن ضياع دولة الحيثيين على أيدي شعوب البحر ، هذا إلى جانب ما كان يمر به العراق القديم من فترة ضعف تشبه تلك التي كانت تمر بها مصر في أخريات أيام الأسرة العشرين ، وهكذا كانت الظروف التي كانت تمر بها دول الشرق الأدنى القديم وشعوبه ، والتخلخل الموجود في سورية وفلسطين في أعقاب غزوات شعوب البحر ، الأمر الذي أعطى بنو إسرائيل فرصة شن بعض الغارات البربرية الناجحة في بعض مدن شرق فلسطين بدرجة تكفي لأن يبدأ يشوع من تنظيم حياة قومه السياسية والدينية ، وأن يقسم الأرض المحتلة بين الأسباط طبقا لعدد كل سبط ، وأن يشيد في شيلوه (سيلون الحالية ، ١٧ ميلا شمال القدس) محرابا مركزيا يتخذه مركزا للتابوت الذي كان يستخدم كرمز لوحدة القوم السياسية والدينية (١).

(٢) عصر القضاة :

يبدأ عصر القضاة بموت يشوع بن نون وينتهي بقيام الملكية على يد طالوت (شاؤل في التوراة) وتستغرق هذه المرحلة من تاريخ بني إسرائيل ما بين أربعة قرون وقرن واحد من الزمان ، على اختلاف في الرأي (٢) ، والرأي

__________________

(١) I.Epstein ,Op ـ Cit ,P.٣٣.

(٢) أعمال الرسل : ١٣ / ٢٠ ، شاهين مكاريوس : المرجع السابق ص : ٨ ، فيليب حتى : المرجع السابق ص : ١٩٥ ، باروخ سبينوزا : المرجع السابق ص : ٢٩ ـ ٢٩٤ ، وكذا O. Eissfeldt, The PeriodF The Judges. In CAH, II, Part, ٥٥٣.p ، ١٩٧٥ ، ٢ وكذاGroy ,Op.cit ,P. ١١٢. M. B. Bowton. The Early period of The Judges in Israel, Cambridge. ١٩٦٥ وكذا.

١٥

عندي أنها لا تعدو القرن ونصف القرن ، إذا اعتمدنا على الرأي الذي يرجح الخروج على أيام مرنبتاح حوالي عام ١٢١٤ ق. م ، وقيام ملكية طالوت حوالي عام ١٠٢٠ ق. م ، آخذين في الاعتبار فترة التيه وعهد يشوع بن نون.

وأيا ما كان الأمر ، فلقد كانت القبيلة أو السبط هي أساس النظام الاجتماعي عند بني إسرائيل ، وطبقا لرواية التوراة فقد كانت الأرض المفتوحة تقسم على إحدى عشرة قبيلة ، بينما وزعت القبيلة الاثني عشر ، وهي قبيلة لاوي رهط موسى ، على القبائل الأخرى للخدمة الدينية ، وهذه القبائل كانت بدورها تقسم إلى عشائر ، ولكنها تتجمع حول هيكل مركزي في «شيلوه» الأمر الذي دفع بعض العلماء إلى أن يقارن هذا النظام القبلي العبراني بمجلس «الأمفكتيون» اليوناني (Amphictyony) والذي يقوم على مبدأ مماثل من المركزية الدينية ، وكانت سلطة الكاهن الأكبر عظيمة ، ولكن من المبالغة أن نزعم وجود حكومة «ثيوقراطية» فإن سلطته لم تكن سياسية ، وإنما كان يتصدر القوم أثناء الأزمات الأزمات زعماء محليون هم «القضاة» الذين حكموا بني إسرائيل طوال القرن ونصف القرن التاليين لدخولهم فلسطين ، وكانت سلطة القضاة عارضة محدودة المدى والمدة ، وهي في هذا النظام تذكرنا بسلطة زعماء النظام البدوي الذي تتميز به الحياة السامية في مراحلها الأقدم عهدا (١).

ولم يكن القضاة قضاة بالمعنى المفهوم ، ولم يكونوا مشرعين بالمعنى القديم ، وإنما كانوا طبقة من الأبطال المحاربين والمنقذين أقامهم الرب «ليخلصوهم من يد ناهبيهم» ، ولم يكونوا خلفاء لبعضهم البعض ، بل إننا

__________________

(١) يشوع : ٨ / ١ ، ٨ ، ١٠ ، موسكاتي : الحضارات السامية القديمة ص : ١٤ ـ ١٤١ ، وكذاM.F.Unger وكذاM.Noth ,Das System der Zwolf Staemme Israels , ٦٠ ـ ٣٩.p ، ١٩٣٠.Op ـ Cit ,P. ١٠١٥.

١٦

لنشهد أكثر من واحد في وقت واحد ، ولم يكن في إسرائيل ملوك في تلك الأيام ، حتى إذا كانوا من الكهنة ، وكان الواحد من هؤلاء القضاة يطلق عليه أحيانا لقب ملك أو قاض (١) ، والحق أنك لا تجد واحدا من القضاة استطاع أن يبسط سلطانه على جميع بني إسرائيل ، فكل واحد من هؤلاء الحكام والشيوخ كان يتسلم قيادة زمرة واحدة ، عند ما تهدد هذه الزمرة تهديدا مباشرا ، وهو إذا ما كتب له النصر ، لم يحتفظ حتى بقيادة تلك الزمرة (٢) ، هذا وتفيد روايات التوراة عنهم أنها تختلف بينها بدرجة كبيرة ، فبينما يبدوا بعضها ذو أهمية تاريخية مثل شعر انتصار «دبورة» أو قصة «أبيمالك» ، يبدو بعضها الآخر ذو صفة أسطورية لا أقل ولا أكثر ، وأما أبطال هذه القصص فلا يظهرون أبدا كمصلحين دينيين ، بل إن «شمعون» لم يكن حتى زعيما ، كما أن هذه الروايات مستقلة تماما إحداها عن الأخرى ، ولم يعد ممكنا أن نقول بالتأكيد ما هو الترتيب التاريخي للأحداث المسجلة (٣) من عصر القضاة ، والذين بلغ عددهم خمسة عشر قاضيا ، أولهم «عثنيئيل» وآخرهم صموئيل النبي (٤).

ومن حوالي منتصف القرن الحادي عشر قبل الميلاد ، أصبح «عالي» الكاهن قاضيا لإسرائيل في «شيلوه» ولمدة ٤٠ سنة ، لم يستطع فيها بنو إسرائيل أن يوقفوا قوة الفلسطينيين (٥) ، وكان أولى المعارك بينهما في أفيق

__________________

(١) نجيب ميخائيل : المرجع السابق ص : ٣٢٥.

(٢) جوستاف لوبون : المرجع السابق ص : ٣٥.

(٣) A.Lods ,P ـ Cit ,P. ٣٣٥.

(٤) انظر : محمد بيومي مهران إسرائيل : ٢ / ٦٣٠ ـ ٦٥٧.

(٥) الفلسطينيون هم : «برست» (بلستي) أحد شعوب البحر ، وقد اختلف العلماء في مواطنهم الأصلي ، فمن قائل أنهم شعب هندي أو ربي أتى من كريت ، ولكنه لم ينشأ بها أصلا ، ومن قائل إن موطنهم الأصلي كريت ، ومن قائل إنهم ساميون ، ولكن الإسرائيليون يشيرون إلى

١٧

(تل المخمر ، أكيلا شرقي حيفا) فلقد تجمع الإسرائيليون في «أبنزير» على حافة الجبال في مواجهة أفيق ، وأحضروا معهم التابوت المقدس من شيلوه ليضمنوا وجود ربهم بينهم ، ولكن المعركة انتهت بهزيمتهم ، وسقط من بني إسرائيل ثلاثون ألف رجل ، وأخذ التابوت ، ومات ابنا عالي الكاهن ، مما أثار في نفوس بني إسرائيل التشاؤم والذعر ، ولما وصل الخبر إلى عالي سقط عن الكرسي فانكسرت رقبته ومات (١).

وقد كانت نتيجة الهزيمة مروعة ، فلقد دمر الفلسطينيون المعبد الرئيسي في شيلوه ، والذي كان يجمع القبائل الإسرائيلية جميعا ، فضلا عن إخضاع

__________________

ـ أنهم قوم لا يختنون ، وهذا ينأى بهم عن الساميين والمصريين ، ومن قائل إنهم ينتسبون إلى القومية الإليرية ، ومن قائل إنهم يتشابهون مع البلاسجيين وأن لغتهم لهجة لوية ، ومن قائل إنهم من آسيا الصغرى من منطقة سيليسيا الغربية ، والأكثر احتمالا ، المنطقة أعلى وأسفل نهر كاليكادنوس في الجزء الشرقي ، ومن قائل غير ذلك ، ويبدو لي أن الذين يرجعون بهم إلى آسيا الصغرى أقرب الآراء إلى الاحتمال ، لأن أغلب شعوب البحر من هذه المنطقة ، ولأن الأدلة العلمية في صالح هذا الرأي أكثر من غيره ، وقد اشترك الفلسطينيون مع غيرهم من شعوب البحر في غزو الامبراطورية المصرية ومصر نفسها على أيام رعمسيس الثالث ، وقد هزموا هزيمة منكرة في معركتين ، بحرية وبرية ، وقد صورت المناظر المصرية رؤساءهم ملتحين ، وجنودهم دون لحى ، وبأغطية رأس ذات ريش ، وسيوف طويلة عريضة وخناجر وحراب مثلثة وتروس مستديرة وحراب ، وقد سمح لهم الفرعون بعد هزيمتهم بالاستقرار في ساحل فلسطين فيما بين يافا وغزة ، وكانت أهم مدنهم غزوة وعسقلان وأشدود وعقرون وجت ، وقد نظمت بشكل ممالك أو دويلات مدن ، ولكنها كانت تشكل جميعا اتحاد تحت زعامة أشدود ، وقد احتفظ التاريخ باسمهم على فلسطين ، لا لأنهم أصبحوا غالبية السكان فيها ولأنهم بسطوا نفوذهم عليها جميعا ، ولكن ربما لأنهم آخر من نزلها ولكثرة ترديد التوراة لاسمهم بسبب تهديدهم ليهود وغلبتهم عليهم ، وقد بلغوا ذروة قوتهم عليهم جميعا ، ولكن ربما لأنهم آخر من نزلها ولكثرة ترديد التوراة لاسمهم بسبب تهديدهم لليهود وغلبتهم عليهم ، وقد بلغوا ذروة قوتهم في النصف الثاني من القرن الحادي عشر قبل الميلاد (انظر عن التفصيلات والمراجع : محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ٥٨٧ ـ ٥٩٦).

(١) صموئيل أول : ٤ / ٤ ـ ١ ، وكذاC.Roth ,OP.Cit.,P. ١٤ وكذاM.Noth ,Op.Cit.,P. ١٦٦ ـ ١٦٥ W. F. Albright, Archaeology and the religion of Israel, Baltimore, ١٨٨ ـ ١٠٤.p ، ١٩٥٣ وكذا

١٨

قبائل بني إسرائيل نفسها لسلطانهم ، وإقامة الثكنات العسكرية الفلسطينية في المناطق الإسرائيلية ، واحتلال الجبال الرئيسية في غرب الأردن ، وإقامة النصب التذكارية لنصرهم في «جبعة بنياوين» (تل الفول ، ٥ كيلا شمالي القدس) ، وأخيرا فلقد نزعوا سلاح إسرائيل حين منعوهم من صناعة أسلحة جديدة ، وهكذا قوى الفلسطينيون امتيازاتهم السياسية عن طريق تفوقهم في السلاح ، وضعف أعدائهم فيه ، بل منعه عنهم ، فضلا عن القضاة على فكرة الثورة بين بني إسرائيل ضدهم (١).

(٣) قيام ملكية طالوت :

يذهب الباحثون إلى أنه من أخريات القرن الحادي عشر قبل الميلاد ، وبعد هزيمة أفيق المروعة تجمعت كل العوامل الضرورية لإنهاء نظام حكم القضاة وقيام الحكم الملكي عند بني إسرائيل ، والتي كان منها (أولا) ضغط الفلسطينيين على الإسرائيليين ، والذي كان أقوى العوامل لتجميع قوى بني إسرائيل وإنشاء مملكة ، بل ربما كان الأصح أن تهديد الفلسطينيين للكيان الإسرائيلي من أساسه هو السبب في قيام الملكية الإسرائيلية ، ومنها (ثانيا) أن بني إسرائيل كانوا يعيشون بين أقوام يحكمون بملوك ، فالآدميون والعمونيون والمؤابيون كان لهم ملوك والفلسطينيون كان لهم أقطاب أشبه بالملوك ، كما كان للفينيقيين ممالك مدن ، مما دفع بني إسرائيل إلى المطالبة بملك يحارب حروبهم ، ويكون لهم قاضيا كذلك ، ومنها (ثالثا) أن الكهنوت الإسرائيلي كانت قد تسلمته أياد ضعيفة منذ أيام «فيخاض» ومما

__________________

(١) صموئيل أول : ١٠ / ٥ ، ١٣ / ٣ ـ ٢٢ ، O.Eissfeld Op.Cit ,p. ٥٧٢ ـ ٥٧١ وكذاM.Noth Op.Cit ,P. ١٦٧ ـ ١٦٦H.Kjaer ,The Exavation of Shilo وكذاW.F : Albright Op.Cit ,P.F ١٠٣ وكذاIn J Pos , ١٩٣٠ ، ١٠ ، G.E.Wright ,Biblical.

١٩

يؤيد هذا أن «عالي» الكاهن لم يكن من بيت «العازار» الابن الأكبر لسيدنا هارون عليه‌السلام ، والذي يجب أن تستمر الخلافة في نسله ، وإنما كان من بيت الابن الأصغر «إيثمار) ومنها (رابعا) أن ولدي عالي الكاهن (حفني وفيخاض) لم يكتفيا بطمعهما الجشع ، بل كانا يرتكبان أقذر أنواع العبادة الوثنية وسط كروم شيلوه ، حتى أنهما ، رغم أنهما متزوجين ، لم يترددا عن إفساد النسوة اللاتي كن يترددن على المعبد للقيام بالخدمات التي كانت تتطلب عملا لا يليق بالنساء (١).

ومنها (خامسا) أن هناك نصا في التوراة يجعل الحكم في إسرائيل ملكيا (٢) ، ومنها (سادسا) التهديد العموني لحدود إسرائيل الشرقية ، ولعل هذا السبب ، بجانب التهديد الفلسطيني وتدمير للكثير من مدن إسرائيل ، كان السبب المباشر لقيام الملكية الإسرائيلية (٣) ، وهكذا أدى التهديد الخارجي ، والاضطراب الداخلي إلى أن يضطر شيوخ إسرائيل إلى الاجتماع والمطالبة بتتويج ملك على شعب إسرائيل ، وهكذا اختار لهم «صموئيل النبي» ملكا على إسرائيل هو «شاؤل بن قيس» من سبط بنيامين ، ومع ذلك ، فإن رواية التوراة إنما تشير إلى أنه تردد كثيرا في إجابة شيوخ إسرائيل إلى ما يطلبون ، بل (٤) لقد ساء الأمر في عيني صموئيل» ، وحذر قومه من غضب الرب ، إن هو رضي فملك عليهم ملكا ، ولكن احتجاج صموئيل كان عديم الجدوى ، إذ أصرّ شيوخ إسرائيل على رأيهم ، ومع ذلك فما كان عند صموئيل النية في إقامة ملك مستقل حقيقة ، بل كان كل ما يرجوه أن يكون قائدا حربيا وزعيما

__________________

(١) صموئيل أول : ٢ / ٢٢ ـ ٢٥ ، ف. ب. ماير : حياة صموئيل النبي ـ القاهرة ١٩٦٧ ص ٣٥ ، ٦٥ (مترجم).

(٢) تثنية ١٧ / ١٤ ـ ١٥.

(٣) انظر : محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ٦٦١ ـ ٦٦٧.

(٤) تثنية ١٧ / ١٤ ـ ١٥.

٢٠