دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٢

ماء بئر ، لا نميل يمينا ولا يسارا ، حتى نتجاوز تخومك» ، ولكن الملك الآدومي لا يجيب سؤلهم ، ومن ثم يجد الإسرائيليون أنه لا مناص من الذهاب إلى جبل هور ، حيث يموت هارون هناك (١) ، وهذا يدل على أنه كانت هناك مملكة قوية في أدوم في ذلك الوقت ، وأن الأرض إنما كانت تعبر من «طريق الملك العمومي» ، كما يدل على أن هناك حضارة مزدهرة كانت في أدوم في تلك الفترة (٢).

وعلى أية حال ، فإن ملك «عراد» (٣) الكنعاني عند ما يسمع بقدوم الإسرائيليين ، سرعان ما يشن عليهم حربا ، ويسبي الكثير منهم ، ومن ثم «فقد نذر إسرائيل نذرا للرب وقال إن دفعت هؤلاء القوم إلى يدي أحرم مدنهم ، فسمع الرب لقول إسرائيل ودفع الكنعانيين فحرموهم ، ومدنهم ، فدعي اسم المكان حرمة» (٤) ، وفي الواقع أننا لم نسمع من قبل أن ينذر الناس لربهم إحراق أعدائهم ، فضلا عن مدنهم ، إن كتب الله لهم عليهم نصرا ، ولكن ما حيلتنا وتوراة اليهود لا تصور رب اليهود هذا ، إلا قاسيا مدمرا ، متعطشا للدماء ، متعصبا لشعبه ، لأنه إله اليهود فحسب ، وليس إله العالمين ، ومن ثم فقد دعوا «الله» رب الجنود ، معتقدين بأن هذا معناه رب جنود إسرائيل ، مما جعلهم يعتقدون كذلك بأن الله ملزم بأن يحامي عنهم ،

__________________

ـ الإسرائيلية واستيلاء داود على مملكة أدوم ، وقد انتهت حياة الآدوميين ككيان سياسي مستقل حين استولى يوحنا المكابي على مدنهم ثم أجبرهم على الختان واعتناق اليهودية في القرن الثاني قبل الميلاد ، رغبة منه في إزالة الفوارق الدينية بينهم وبين اليهود (أنظر التفصيلات والمراجع : محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ٥٤٧ ـ ٥٥٢).

(١) عدد ٢٠ / ٢٢ ـ ٢٩.

(٢) ١٥٢.p ، ١٩٦٩. J. Finegan, Light from the Ancient Past ..., Prinection,

(٣) عراد : اسم عبري بمعنى «حمار الوحش» وهي هنا بلد يقع على مبعدة ١٧ ميلا من حبرون (الخليل).

(٤) عدد ٢١ / ١ ـ ٣.

٣٨١

لأن كرامة الله مرتبطة بكرامة الأمة ، ومن ثم فإن حمايتهم إنما هي حماية لكرامته ، وإذا حدث أن سقطت الأمة ، فمعنى هذا في نظرهم أن الله نفسه قد سقط (١) ، والعياذ بالله ، ومن هنا كان عليه أن يكرس كل قوته وسلطانه من جل شعبه إسرائيل ، وهو لذلك يحارب إلى جانبهم أو يحارب بدلا عنهم أو يطرد من أمامهم أعداءهم ، وييسر لهم قتلهم ، ويحل لهم نهبهم (٢).

وأيا ما كان الأمر ، فإن الملك الآدومي عند ما رفض أن يسمح للإسرائيليين بأن يمروا في مملكته ، فإنهم اضطروا إلى أن يسلكوا طريقا شاقا في البرية ، ونقرأ في التوراة أنهم قد ارتحلوا «من جبل هور في طريق بحر سوف (٣) ، ليدوروا بأرض أدوم (٤)» ، وهنا يضطر بنو إسرائيل إلى أن يتجولوا هنا وهناك من شرق الأردن ، دون أن يستطيعوا العبور إلى غرب هذا الأردن ، محتكين بكل القبائل الساكنة هناك ، والرافضة أبدا استقبال أي واحد من بني إسرائيل ، وأخيرا وصل الإسرائيليون إلى «مؤاب» شمال أدوم ، وذلك حين «نزلوا في عين عباريم (٥) في البرية التي قبالة مؤاب إلى شروق

__________________

(١) القس عاموس عبد المسيح : دراسة في عاموس ـ ترجمة حارث قريصة ـ القاهرة ١٩٦٦ ص ١٨.

(٢) عبده الراجحي : المرجع السابق ص ٤٧ ، تثنية ٩ / ٣.

(٣) بحر سوف : لعل هذا النص (عدد ٢١ / ٤) إنما يعني خليج العقبة ، وليس البحر الذي انفلق لموسى في مصر ، والذي ذكر على أنه يم سوف أو بحر سوف (خروج ١٣ / ١٧ ـ ١٨) خاصة وإن نص الملوك الأول (٩ / ٢٦) يقول : «وعمل الملك سليمان سفنا من عصيون جابر التي بجانب إيلة على شاطئ بحر سوف في أرض أدوم» ، مما يؤكد أن بحر سوف في نصي (عدد ٢١ / ٤ ، ملوك أول ٩ / ٢٦) هو خليج العقبة.

(٤) عدد ٢١ / ٤.

(٥) عباريم : سلسلة جبال في شرق الأردن سميت عباريم لأنها في عبر النهر ، وتمتد من وادي قفرين في الشمال إلى وادي الزرقاء ووادي الحسا في الجنوب ، ولها عدة قمم منها «نبو» (حيث دفن موسى عليه‌السلام) وهوشع وعجلون.

٣٨٢

الشمس ، ومن هناك ارتحلوا ونزلوا في وادي «زارد (١)» ، ومن هناك ارتحلوا ونزلوا في عبر «أرنون (٢)» الذي في البرية خارجا عن تخم الآموريين (٣) ، لأن أرنون هم تخم مؤاب بين مؤاب والآموريين» (٤).

هذا ويتجه بنو إسرائيل بعد ذلك إلى أرض جلعاد ـ منطقة الآموريين ـ وكان «سيحون» ملك الآموريين قد أخذ أرضا من مؤاب ، واتخذ من حشبون (٥)» عاصمة له ، ثم امتدت أملاكه من نهر أرنون إلى نهر يبوق (٦) ، والتي هي الآن وادي الزرقاء ، وبينما كان الإسرائيليون مضطرين إلى الدوران حول أدوم ومؤاب (٧) ، فقد نجحوا في تحدي سيحون في

__________________

(١) زارد : اسم عبري معناه «ازدهار» وهو جدول ماء يخرج من جبل عباريم ويصب في البحر الميت (بحر لوط) في الجزء الجنوبي الشرقي منه ، وكان يمثل الحد الطبيعي بين أدوم ومؤاب ، ويعرف الآن بوادي الحصى (قاموسى الكتاب المقدس (١ / ٤٢١ ـ ٤٢٢).

(٢) أرنون : وهو نهر يدعى الآن وادي الموجب في المملكة الأردنية الهاشمية ويتكون من وادي «وله» الذي يأتي من الشمال الشرقي ، ووادي «عنقيلة» الآتي من الشرق ، و «سيل الصعدة» الآتي من الجنوب ، ويجري نهر أرنون في غور عميق حتى يصل إلى البحر الميت في نقطة نقع إلى مسافة قصيرة من منتصف الشاطئ الشرقي (قاموس الكتاب المقدس ١ / ٥٧).

(٣) أنظر عن الآموريين : محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ٥١٠ ـ ٥١٤.

(٤) عدد ٢١ / ١١ ـ ١٣.

(٥) حشبون : وتعرف الآن باسم «حسبان» وهي مدينة خربة قائمة على تل منعزل بين أرنون ويبوق ، وتقع على مبعدة سبة أميال ونصف شمال «مادبا».

(٦) يبوق : هو نهر الزرقاء الذي ينبع إلى الغرب من عمان ، ثم يسير شرقا ثم شمالا ، مارا بمدينة الزرقاء التي حملت اسمه ، ثم يصب في نهر الأردن على مبعدة ٤٣ ميلا إلى الشمال من البحر الميت ، وهناك في مخاضة في هذا النهر حدثت قصة المصارعة المشهورة مع يعقوب (تكوين ٣٢ / ٢٢ ـ ٣٢ ، قاموس الكتاب المقدس ٢ / ١٠٥١).

(٧) مؤاب : تنسب مؤاب إلى مؤاب بن لوط عليه‌السلام ، ومن ثم على صلة قرابة بالعرب والإسرائيليين عن طريق لوط ابن أخي إبراهيم ، عليهما‌السلام ، هذا وقد امتدت مملكة مؤاب من ناحية الشرق ، من البحر الميت حتى الصحراء ، واتسعت شمالا حتى وادي الموجب (نهر أرنون) ، وكانت مؤاب ، مثل أدوم ، حصينة قوية ذات مواقع استراتيجية على الحدود وفي ـ

٣٨٣

«ياهص» (١) ، كما نجحوا في تحدي عوج ملك باشان في «أذرعي» (٢) وبذلك تمكنوا من الوصول إلى الأردن في مقابل «أريحا» (٣).

وهناك من يميل إلى تأريخ هذه الأحداث بنهاية عصر البرونز الأخير ، وقرب بداية عصر الحديد ، ذلك لأن التوراة إنما تحدثنا عن أن عوج ملك باشان كان له سرير من حديد (٤) ، وإن كان هناك من يذهب إلى أن هذه العبارة إنما تشير إلى «ناءوس» من البازلت الأسود ، كان به ٢٠ خ من الحديد (٥).

وأيا ما كان الأمر ، فمن رأس الفسجة ، التي يفترض أنها جزء من جبل

__________________

ـ الداخل ، ومن ثم فقد منعت بني إسرائيل من السير في البرية التي تقع قبالتها ، وأما عاصمة مؤاب فهي «ديبون» (ذبيان الحالية على مبعدة ثلاثة أميال شمال وادي الموجب) ، هذا وقد كشفت آثار كثيرة في مؤاب ، وخاصة في ربة مؤاب وكرك وماديا ومعين وأم رصاص ، وفي عام ١٩٥٠ / ١٩٥١ كشفت بعثة أمريكية في ديبون عن عدد من المباني والفخار الذي يرجع إلى عصر البرونز المبكر ، وحتى العصر العربي المبكر ، وإن لم تكشف شيئا عن عصر البرونز المتأخر ، وأما لغة مؤاب فهي من اللهجات التي كتبت بها التوراة ، والمعروف عادة بالعبرانية ، والقرابة بين اللغة المؤابية والعبرية مؤكدة ، والمؤابية على أية حال ، لغة سامية قريبة من العبرية كذلك ، كما يبدو واضحا من نقش «الحجر المؤابي» والذي يرجع إلى منتصف القرن التاسع قبل الميلاد ، ويقدم لنا أقدم نقش مكتوب على النمط السامي الشمالي القديم ، وقد كشف عنه عام ١٨٦٨ م في ديبون العاصمة ، ونقل إلى متحف اللوفر بباريس (أنظر عن التفصيلات والمراجع : محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ٥٥٢ ـ ٥٥٦).

(١) ياهص : ويقع على مبعدة ميل جنوب زرقاء معين ، ١٢ ميلا شرقي البحر الميت ، وهي إما قرية أم المواليد أو خربة إسكندر (قاموس الكتاب المقدس ٢ / ١٠٤٩).

(٢) أذرعي : وتسمى الآن «درعة» وتقع في وادي زبدة ، على مبعدة ٢٩ ميلا شرقي الطرف الجنوبي لبحيرة طبرية ، وعلى الحدود بين الأردن وسورية (قاموس الكتاب المقدس ١ / ٤٢).

(٣) عدد ٢١ / ٢١ ـ ٣٥ ، ١٢ / ١ ، تثنية ٢ / ٢٦ ـ ٣ / ١١.

(٤) تثنية ٣ / ١١.

(٥) ١٥٤. J.Finegan ,op ـ cit ,P.

٣٨٤

«نبو» على مبعدة ثمانية أميال إلى الشرق من نهر الأردن ، نظر موسى عليه‌السلام إلى أرض الميعاد ، ومات ودفن في أرض مؤاب (١) ، كما سنفصل ذلك في الفصل الثالث من الباب الرابع.

__________________

(١) تثنية ٣ / ٢٧ ، ٣٤ / ١ ـ ٨ ، وأنظر : Sylvester, J. Saller, The Mimorial of Moses on Mount Neblo, ٢ Vols,١٩٤١.

٣٨٥
٣٨٦

الباب الرّابع

قضايا من سيرة موسى عليه‌السلام

٣٨٧
٣٨٨

الفصل الأول

موسى بين الأصل الإسرائيلي والمصري

لا ريب في أن شراح التوراة ومفسري القرآن الكريم إنما يجمعون ، أو يكادون ، على أن كليم الله موسى عليه‌السلام من بني إسرائيل ، وأنه «موسى بن عمران بن قاهت بن لاوى بن يعقوب ، وهو إسرائيل عليه‌السلام ، وإن أضافت المصادر الإسلامية اسم «يصهر» بين عمران وقاهت ، وهو في التوراة «موسى بن عمر أم بن قهات بن لاوى» ، وأما أمه فهي «يوكابد بنت لاوى ، التي ولدت للاوى في مصر ، وهي عمة زوجها عمرام ، الذي ولدت له ولديه هارون وموسى وأختهما مريم (١).

ولعل من الجدير بالإشارة إلى أن الإمام الطبري ، وكذا ابن الأثير من بعده ، إنما يذهبان إلى أن اسم موسى ، إنما هو اسم مصري ، ويتكون في اللغة المصرية القديمة من كلمتين «ماء وشجر» لأنه التقط من بين الماء والشجر ، والماء في المصرية (القبطية كما يسمونها خطأ) «مو» ، والشجر «شا» أو «سا» ، هذا ويذهب الألوسي إلى أن اسم موسى اسم أعجمي لا ينصرف للعلمية والعجمة ، ويقال إنه مركب من «مو» وهو الماء ، و «شى»

__________________

(١) تاريخ ابن خلدون ٢ / ٩٢ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٣٣ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٨٥ ، تفسير الطبري ١ / ٢٧٩ ، الكامل لابن الأثير ١ / ٩٥ ، مروج الذهب للمسعودي ١ / ٦١ ، التوراة : سفر الخروج ٦ / ٢٠ ، عدد ٢٦ / ٥٨ ـ ٥٩.

٣٨٩

وهو الشجر ، وغيّر إلى «سى» كأن من سماه أراد ماء البحر والتابوت الذي قذف فيه ، على أن الخازن إنما يراه اسما عبريا عرب ، وهو بالعبرانية الماء والشجر ، سمي به لأنه أخذ من بين الماء والشجر ثم قلبت الشين المعجمة سيناء في العربية ، هذا وقد نقل السيوطي عن السدى أنه سمي موسى لأنهم وجدوه بين ماء وشجر ، والماء بالنبطية «مو» ، والشجر «سى» (١) ، وبدهي أن اسم موسى اسم مصري على وجه اليقين ، كما سنرى.

وفي عام ١٩٣٨ م أصدر العالم النفساني اليهودي «سيجموند فرويد» كتابه موسى والتوحيد (٢)» ، فأراد أن يثير شبهة حول أصل موسى ، الذي رآه «مصريا» ، وليس إسرائيليا ، معتمدا في ذلك على أن اسم موسى ، والذي ينطق بالعبرية «موشيه» طبقا لرواية التوراة في سفر الخروج (٢) ، ذلك أن الأميرة المصرية ، وهي نفس الوقت ابنة فرعون ، قد انتشلته من النيل ، وسمته إثر ذلك «موسى» معللة لهذه التسمية بعلة لغوية اشتقاقية ، حيث رد كاتب التوراة اللفظ إلى اسم المفعول من الفعل العبري «مشه» بمعنى المنتشل أو المستنقذ.

ومع ذلك ، فإن هذا التعليل ينطوي على خطأ واضح ، إذ جاء في «المعجم اليهودي» أن تفسير التوراة لاسم موسى بأنه «المنتشل من الماء» ، تفسير اشتقاقي شعبي ، وهو لا يستقيم مع الصيغة والوزن لكلمة «موشيه» ، التي هي في العبرية اسم فاعل ، لا اسم مفعول ، ودلالتها الصحيحة «المنتشل» ـ بكسر الشين ـ لا «المنتشل» بفتحها ، ومن ثم فهو اسم فاعل ،

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٢٧٩ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٩٠ ، ابن الأثير ١ / ٩٧ ، تفسير روح المعاني ١ / ٢٥٨ ، تفسير الخازن ١ / ٥٩ ، الدر المنثور ٥ / ١٢٠ ، تفسير البغوي ١ / ٥٨ ـ ٥٩.

(٢)Sigmund Freud, Moses and Monotheism, Translated from the German by ١٩٣٩ K. Jones, N. Y,.

٣٩٠

بمعنى «المنقذ أو المحرر» ، كأن الذين أسموه كانوا يعلمون ما سوف يصير إليه ذلك الطفل اللقيط (١).

هذا وهناك نقطتان أخريان تؤكدان عدم اشتقاق هذه التسمية ، أولهما : أنه من غير المؤكد كون الأميرة المصرية على علم بالاشتقاق في اللغة العبرية ـ هذا إذا كانت هناك لغة عبرية قد ظهرت في هذا الوقت المبكر ، على الأقل من القرن الثالث عشر قبل الميلاد (٢)؟ ـ هذا فضلا عن أن ابنة فرعون ، إنما هي أميرة مصرية ، تتكلم المصرية وتفكر بها ، وما كان لها أن تتحدث العبرية في حياتها وبين مواطنيها ، حتى تتخذ للطفل ـ مع كراهية شائعة للعبريين يومئذ ـ اسما عبريا (٣).

ومن ثم فقد رأى مؤرخ اليهود «يوسف بن متى» أن يرد اللفظ إلى أصل مصري واشتقاق مصري ، مع تقيّده بما ورد في التوراة ، من حيث ارتباط الاسم بما كان من التقاط من الماء ، فقال : إن المصريين يسمون الماء «مو» ويقولون للذي يستنقذ من الماء «أوسيس» ، غير أن حرص يوسف اليهودي على تفسير يكون مصدقا لما جاء في التوراة قد حمله ـ متعمدا ـ على إغفال معنى لفظ أوسيس ، المصحوف عن لفظ «حسى» المصري ، وهو أصلا ـ حتى زمان موسى في الأسرة التاسعة عشرة (١٣٠٨ ـ ١١٨٤ ق. م) ـ بمعنى

__________________

(١) ٤ Tbid ,op ـ cit ,P ..

(٢) كان أسلاف العبرانيين يتكلمون الآرامية قبل أن يستقروا في فلسطين ، ثم بدءوا يتكلمون لغة الشعوب المضيفة لهم ، ففي مصر كانوا يتكلمون المصرية ، وفي كنعان كانوا يتكلمون الكنعانية ، وأما اللغة العبرية ـ والتي كانت خليطا من الآرامية والكنعانية وكثير من اللغات السامية وغير السامية ـ فيرجع تاريخ ظهورها إلى ما قبيل عام ١١٠٠ ق. م (أنظر محمد عبد القادر : الساميون في العصور القديمة ـ القاهرة ١٩٦٨ ـ ص ٢٠٨ ، نجيب ميخائيل : المرجع السابق ٣ / ٣٢ ، فؤاد حسنين : التوراة الهيروغليفية ص ٤).

(٣) أحمد عبد الحميد : المرجع السابق ـ القاهرة ١٩٦٨ ـ ص ٩٠. وكذاS.Freud ,op ـ cit ,P ..

٣٩١

«الحميد» ، ثم أصبح يطلق منذ الأسرة الثلاثين (٣٨٠ ـ ٣٤٣ ق. م) على الموتى من الغرقى المنتشلين من النيل للدفن ، وإلى ذلك أشار «كليمنت الإسكندري» (١٥٠ ـ ٢١٢ م) من بعده (أي من بعد يوسف اليهودي) ، فكأنه بذلك قد اتخذ لفظا بمعنى متأخر عن عصر موسى وطبقه تطبيقا غير دقيق ولا سليم (١).

وأما النقطة الثانية التي تؤكد عدم اشتقاق هذه التسمية ، فإنه يكاد يكون من المؤكد الآن أن الطفل موسى لم ينتشل من ماء النيل (٢) وربما كان فرويد يعني أحد فروع النيل في الدلتا الشرقية ، حيث يوجد قصر الفرعون وقت ذاك.

وعلى أي حال ، فإن كثيرا من الباحثين قد ربطوا منذ سنين طويلة اسم موسى ـ وهو لفظ مشتق من مصدر الولادة بمعنى الولد أو الوليد ـ بأصول في اللغة المصرية القديمة ، ومن هؤلاء المؤرخ الأمريكي الكبير «جيمس هنري برستد» الذي يقول : إنه يجب أن نلاحظ أن اسم موسى كان اسما مصريا ، بل هو نفس الكلمة المصرية «مس» (Mose) ومعناه «طفل» ، وهي مختصرة من اسم مركب كامل ، كالأسماء «آمون مس» ، ومعناها : آمون الطفل ، أو «بتاح مس» ومعناها : بتاح الطفل ، وهذه الأسماء المركبة نفسها ، هي الأخرى مختصرات للتركيب الكامل «آمون أعطى طفلا» ، أو «بتاح أعطى طفلا» ، وقد لقي اختصار الإسم إلى كلمة «طفل» قبولا منذ زمن مبكر ، إذ كان سريع التداول والتناول بدلا من الإسم الكامل الثقيل (٣).

__________________

(١) أحمد عبد الحميد : المرجع السابق ص ٩٠ ، وكذا

J. Cerny, Greek Etymology of the Name ot mosis, ASAE, XLI, F

٣٤٩.p ، ١٩٤٢.

(٢) S.Freud ,op ـ cit ,P

(٣) J.H.Breasted ,The Dawn of Conscience ,P. ١٩٣٩ ، Y.N ٣٥٠.

٣٩٢

على أن الإسم «مس» (طفل) نجده كثير الانتشار على الآثار المصرية القديمة ، ولا شك في أن والد موسى كان قد وضع قبل اسم ابنه اسم إله مصري قديم ، مثل آمون وبتاح ، ثم زال ذلك الاسم الإلهي تدريجيا بكثرة التداول ، حتى صار الولد يسمى «موسى» (١).

ويعلق «فرويد» على قول «برستد» هذا ، بالدهشة لتجاهل برستد بعضا من الأسماء المركبة من موسى أو «مس» مع أسماء الآلهة ، ومنها أسماء «أحمس» (إيعح مس) و «تحوتمس» (تحوت مس) و «رعمسيس» (رع مس سو) ، ثم يعرب عن دهشته كذلك من أن واحدا من العلماء الكثيري العدد ، الذين أقروا مصرية اسم موسى أصلا واشتقاقا ، لم يفكر في أن يكون موسى نفسه ـ الشخص لا الإسم ـ مصريا أيضا (٢) ، حتى أولئك الذين يقررون مثل «برستد» أن موسى قد «تهذب بكل حكمة المصريين» (٣).

ويرى «فرويد» أن ذلك ، ربما كان مرجع ذلك إلى تقديس لمرويات التوراة التي لا يمكن التغلب عليها ، وربما بدا لهم أن القول بأن موسى مصري غير عبري ادعاء عريض لا يمكن تصوره ، على أي حال ، فإن الواقع هو أنه مع ترحيبهم عموما لمصرية اسم موسى ، فإنهم لم يستخلصوا من ذلك شيئا ماسا بأصله هو نفسه (٤).

وهنا يتساءل «فرويد» بأننا لو سلمنا بأن موسى كان مصريا ـ ولم يكن إسرائيليا ـ لوجدنا أنفسنا في الحالين مطالبين بحل لغز جديد وصعب؟ فمن المفروض أن نتوقع شخصا ما يتولى رئاسة الحركة أو ينتخبه إخوانه لهذه

__________________

(١) ٣٥٠ J.H.Breasted ,op ـ cit ,P ..

(٢) ٥ S.Freud ,op ـ cit ,P ..

(٣) أعمال الرسل ٧ : ٢٢.

(٤) ٦ ـ ٥. S.Freud ,op ـ cit ,P.

٣٩٣

المهمة ، وعلى ذلك لا يمكننا أن نتصور أن مصريا من الأرستقراطيين ـ ربما كان أميرا أو كاهنا أو موظفا كبيرا ـ قد ساغ له أن يضع نفسه على رأس جمع من الأجانب الطارئين على البلاد ، المتخلفين حضاريا ، وكيف نفسر أنه غادر البلاد معهم؟ إننا نعرف احتقار المصريين للأمم الأخرى ، الأمر الذي يجعل هذه الظاهرة من موسى غير معقولة ، وهذا ـ فيما يرى فرويد ـ هو الذي منع المؤرخين الذين ردّوا اسم موسى إلى أصل مصري ، ونسبوا إلى موسى «كل حكمة المصريين» من القول بإمكان أن يكون موسى نفسه مصريا ، هذه هي الصعوبة الأولى.

وأما الثانية ، فيجب علينا ألا ننسى أن موسى لم يكن زعيما سياسيا لليهود المستقرين في مصر فحسب ، ولكنه كان كذلك المشرع والمعلم ، والرجل الذي اضطرهم إلى اعتناق ديانة جديدة ، ما زالت تعرف حتى اليوم «بالموسوية» نسبة إليه.

وهنا يتساءل «فرويد» : هل في استطاعة شخص واحد إيجاد ديانة جديدة بمثل هذه السهولة؟ ثم أليس من الطبيعي عند ما يرغب شخص ما في أن يؤثر في ديانة الآخرين أن يحاول تحويلهم إلى ديانته هو؟.

إن اليهود في مصر لم يكونوا بالتأكيد مجردين من نوع ما من الديانة ، وإذا كان موسى هو الذي أعطاهم ديانة جديدة. وكان هو نفسه مصريا ، فليس من الممكن إذن أن نرفض الظن بأن هذه الديانة الجديدة هي الديانة المصرية (١).

وهنا يعقد «فرويد» مقارنة بين الآتونية واليهودية ، وبين سنة الختان عند المصريين وعند اليهود ، الأمر الذي سوف نناقشه فيما بعد ، ويرجع

__________________

(١) ١٨ ـ ١٧ ..S.Freud ,op ـ cit ,P.

٣٩٤

«فرويد» ذلك كله إلى مصرية موسى ، ثم يشير إلى أن المؤرخ اليهودي المشهور «يوسف بن متى» ، قد ذكر في كتابه «تاريخ اليهود القديم» ، أن موسى كان قائدا للجيش المصري ، وأنه كان قد تولى قيادة حملة مظفرة على الحبشة (١) ، ويرى «فرويد» أن يوسف اليهودي ، ربما كانت بين يديه نصوصا أخرى ، غير تلك التي في التوراة ، يؤيد بها وجهة نظره هذه (٢).

وهناك سمة أخرى تعزى إلى موسى تستحق منا اهتماما خاصا ، إذ قيل أنه كان عيّيا لا يكاد يبين حين يتكلم ، أو أنه كان «بطيئا في الكلام» ، تقول التوراة ـ على لسان موسى مخاطبا ربه ـ : «استمع أيها السيد ، لست أنا صاحب كلام منذ أمس ، ولا أول أمس ، ولا من حين كلمت عبدك ، بل أنا ثقيل الفم واللسان ، فقال له الرب : من صنع للإنسان فما ، أو من يصنع أخرس أو أصم أو بصيرا أو أعمى ، أما هو أنا الرب ، فالآن أذهب وأنا أكون

__________________

(١) يروي المؤرخ يوسف اليهودي عن هذه الحملة ـ دونما سند من التاريخ أو تأييد من التوراة ـ أن موسى ، عليه‌السلام ، تولى قيادة الجيش ، ولكنه زاد ـ في قصة لا يخفي زيفها ـ أنه إنما تولى القيادة ، بعد رجاء من الملك والأميرة التي تبنته ، وأن ذلك إنما وقع في أعقاب غارة شهنا أهل النوبة العليا على مصر ، فأنزلوا بالمصريين هزيمة نكراء فولوا منهم الأدبار ، حيث تعقبهم النوبيون إلى منف فساحل البحر ، وهناك استلهم المصريون الوحي فأوحى باستخدام موسى الذي قبل القيادة سعيدا منشرحا ، فأما كهان مصر والإسرائيليين فقد سعدوا كذلك ، سعد الكهنة لأنهم ظنوا أنهم بذلك إنما يتخلصون من موسى ومن المهاجمين في وقت واحد ، وأما الإسرائيليون فسعدوا لأنهم ظنوا أنهم يهربون من المصريين بقيادته ، ومضى يوسف يروي أن موسى تمكن من صد العدو بشجاعته وحسن تدبيره ، إذ تجنب النيل وصار إليهم برا عبر أرض غاصة بالثعابين الطيارة ، فعبرها بفضل ما حمل معه من أعداد من طائر الإبيس وهو أعدى أعداء الثعابين ، وعند ما وصل هاجم النوبيين ، حيث رأته بنت الملك النوبي فأحبته وعرضت عليه تسليم المدينة بشرط أن يتزوجها ، ففعلت وفعل موسى ، (أنظر : أحمد عبد الحميد : المرجع السابق ص ٩٣ ـ ٩٤ ، وكذا.

Josephus, Book. II, Chagpter. XIW. Whiston, op ـ cit, P. F ٧٧.

(٢).S.Freud ,op ـ cit ,P. ٣٢.

٣٩٥

مع فمك وأعلمك ما تتكلم به ، فقال (أي موسى) : استمع أيها السيد ، أرسل بيد من ترسل ، فحمى غضب الرب على موسى ، وقال : أليس هارون اللاوي أخاك ، أنا أعلم أنه هو يتكلم ، وأيضا هو خارج لاستقبالك ، فتكلمه وتضع الكلمات في فمه ، وأنا أكون مع فمك ومع فمه ، وأعلمكما ما ذا تصنعان ، وهو يكلم الشعب عنك ، وهو يكون لك فما» (١).

وهذا يعني أن الكليم ، عليه‌السلام ـ فيما تروي التوراة ـ أنه كان يعاني من التلعثم ، أو العجز عن النطق ، ولذلك كان عليه أن يلتمس مساعدة هارون أخيه في مناقشته المفترضة مع فرعون ، وربما مع بني إسرائيل الذين أشار إليهم النص باسم «الشعب».

وربما إلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ، قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي ، يَفْقَهُوا قَوْلِي ، وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً ، وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً ، إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً ، قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) (٢).

فإذا كان ذلك كذلك ، فربما أمكن القول أن هذه حقيقة تاريخية ، تخدمنا كإضافة مفيدة في توضيح صورة هذا الرجل العظيم ـ سيدنا موسى عليه‌السلام ـ ويمكن أن تكون لها دلالة أخرى أكثر أهمية ، فإن القصة قد تدل ـ إذا أخذنا في اعتبارنا عامل التشويه والتحوير ـ على حقيقة أن موسى كان يتكلم لغة أخرى ، ولم يكن قادرا على التفاهم مع شعبه الجديد من الساميين بدون مساعدة مترجم على الأقل في بداية عهده بهم ، وفي هذا دليل على صحة نظرية أن موسى كان مصريا ، أو لغته على الأقل.

__________________

(١) خروج ٤ : ١٠ ـ ١٥.

(٢) سورة طه : آية ٢٤ ـ ٣٦ ، وأنظر : تفسير القرطبي ص ٣٢٣١ ـ ٤٢٣٤.

٣٩٦

غير أن هناك من يرى أن موسى عيّ لا يكاد يبين حين يتكلم ، فقد أصيب بحبسة في لسانه ، نتيجة لتأخر إرضاعه (١) ، هذا فضلا عن أن أحبار اليهود ـ إلى جانب المتأثرين بالإسرائيليات ـ إنما يرون في هذا المجال أسطورة مبناها أن فرعون إنما كان يداعب موسى ـ وهو ما يزال بعد في الثالثة ـ فحمله بين ذراعيه ، ورفعه مدللا إلى أعلى ، فاختطف موسى التاج من على رأس فرعون ووضعه فوق رأسه ، فانزعج فرعون بهذا الفأل ، واهتم باستشارة حكمائه ، إذ أحس أن الطفل إنما سوف يكون له شأن في تقويض عرشه ، فأراد اختباره فأمر بإعداد طبقين ، ووضع بأحدهما تمر أحمر ، وبالآخر جمر ، فأوحى الله ـ كما يدعون ـ إلى موسى أن يتناول الجمر ، إبعادا لشبهة الإدراك الناضج عن الطفل ، ووضع الجمر على لسانه ، فأصبح عييا لهذا السبب (٢).

وإذا ما أردنا مناقشة آراء العالم اليهودي «فرويد» ، فيما يختص بمصرية اسم موسى أصلا واشتقاقا ، لرأينا أنها أمر قبول تماما ، ذلك لأن فكرة الأصل المصري لاسم موسى ، منذ أن نادى به «جيمس هنري برستد» ، و «أدولف إرمان» و «سيجموند فرويد» ، أصبحت الآن من الحقائق التي يكاد يتفق عليها العلماء ـ ومنهم أدولف لودز (٣) ، وجريفث (٤) ، وجاك فنجان (٥) ، وسيسل روث (٦) ، ووليم أولبرايت (٧) ، وستانلي كوك (٨) ، وغيرهم.

__________________

(١) عبد الرحيم فودة : في معاني القرآن ص ١٦٧.

(٢) فؤاد محمد شبل : إخناتون : رائد الثورة الثقافية ، القاهرة ١٩٧٤ ص ٨٧ ، تفسير أبي السعود ٦ / ١٢ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٩٠ ، ابن الأثير ١ / ٩٨.

(٣) ١٦٩ A.Lods ,op ـ cit ,P ..

(٤) ١٩٥٣ ، ١٢. J.G.Griffiths ,in JNES , ٢٣١.p ،

(٥) ١٣٤ J.Finogan ,op ـ cit ,P ..

(٦) ٨ ـ ٧. C.Roth ,op ـ cit ,P.

(٧) ١٤ W.F.Albright ,op ـ cit ,P ..

(٨) ٣٥٥ S.A.Cook ,op ـ cit ,P ..

٣٩٧

ويضيف أستاذنا الدكتور حسن ظاظا ـ إلى حجج «فرويد» ـ أنه لم يرد في أسماء الساميين جميعا ـ سواء أكانوا من العبريين أم من غيرهم كالآراميين والكنعانيين والأكاديين ـ اسم نطقه كاسم «موسى» ، فهذا النبي هو أول شخص يحمل هذا الإسم (١) ، ويقرر «الزوهار» مصرية موسى ـ وإن لم يستبعد يهوديته في نفس الوقت ـ اعتمادا على نص التوراة ـ على لسان بنات رعوئيل ـ بأنه رجل مصري (٢).

وأما المصادر الإسلامية ، فتكاد تجمع على أن موسى الكليم ـ عليه‌السلام ـ قد ولد لامرأة من بني إسرائيل ، وأن هارون أخوه ، فهما إذن من ذرية إبراهيم الخليل ، شأنهما في ذلك ، شأن إسحاق ويعقوب ، عليهم‌السلام ، إلا أن هناك في الكتاب الحكيم آيتين تقصان علينا ما وقع ، إذ غضب موسى على أخيه هارون ، ظنا منه أن قصر ، حين انساق القوم إلى عبادة العجل ، يقول سبحانه وتعالى في الآية الأولى : (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ، قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٣) ، ويقول في الآية الثانية : (قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (٤).

__________________

(١) حسن ظاظا : الفكر الديني الإسرائيلي ، القاهرة ١٩٧١ ص ١٧.

(٢) خروج ٢ : ١٩.

(٣) سورة الأعراف : آية ١٥٠ ، وأنظر : تفسير الطبري ١٣ / ١٢٠ ـ ١٣٣ ، تفسير الطبرسي ٩ / ٢٧ ـ ٢١ ، الجواهر في تفسير القرآن الكريم ٤ / ٢٢٠ ، تفسير أبي السعود ٢ / ٤٠٧ ـ ٤٠٨ ، تفسير روح المعاني ٩ / ٦٨ ـ ٦٩ ، تفسير الكشاف ٢ / ١١٩ ، تفسير الفخر الرازي ١٥ / ٩ ـ ١٠ تفسير القاسمي ٧ / ٢٨٦٠ ـ ٢٨٦٢ ، تفسير المنار ٩ / ١٧٧ ـ ١٨١ ، تفسير تفسير القرطبي ص ٢٦٥١ ـ ٢٦٥٢ ، تفسير وجدي ص ١١٦ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٤٧٤.

(٤) سورة طه : آية ٩٤ ، ويقول أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٣٩٦) ناداه يا ابن أم استضعافا وترفقا ، وكان شقيقه وهي عادة العرب تتحنن بذكر الأم ، وأيضا كانت أمهما مؤمنة وأيضا لما ـ

٣٩٨

وفي كلا الآيتين تركيز على كلمة «ابن أم» ، وفي ذلك يقول المفسرون إن هارون إنما نادى موسى بنسبته لأمه ، مع أنه كان شقيقه ، لأن ذكرها أدعى إلى العطف (١) ، ولكن الذي يلزمنا هنا هو كلام الله ـ عزوجل ـ وليس ما درج المفسرون أن يقدموا ، فإنما هو اجتهاد ، وفوق كل ذي علم عليم (٢) ، هذا فضلا عن أن «الزجاج» إنما يقول : قيل كان هارون أخا موسى لأمه ، لا لأبيه (٣) ، فإذا تذكرنا أن اليهود إنما يعتبرون أن من كانت أمه يهودية فهو منهم ، لا يعنيهم على أي دين كان أبوه ، هو يهودي صميم ، حتى وإن ظل أقلف غير مختّن (٤) ، لكان رأى الزجاج أو الياقوت إنما يستحق كثيرا من التأمل والتفكير.

وأما قصة التمر الأحمر أو الياقوت والجمر ، ودورها في هذا العيب الذي جعل موسى عييّا لا يكاد يبين حين يتكلم ، أو «بطيئا في الكلام» ، فيمكن الرد عليها في نقاط عدة ، منها (أولا) أنه يستحيل على طفل طبيعي أو غير طبيعي أن يلمس النار ، دون أن تحرق أصابعه فورا ، فما بالك وقد رفع موسى الجمر إلى فمه ، ثم أودعه إياه ، ولم يحس به إلا بعد أن لدع لسانه ، ثم ألا يكفي هذا الفعل لإقناع فرعون أن الطفل غير طبيعي ، ومنها (ثانيا) أن موسى لو كان حقا قد أمسك بالجمر وأمكنه احتمال قسوة النار ، ثم وضع الجمر على لسانه ، لفقد النطق كلية ، ومنها (ثالثا) هل عدم فرعون ـ وهو ملك أعظم وأرقى دولة متحضرة في تلك العصور ـ وسيلة يستكشف بها حقيقة

__________________

ـ كان حقها أعظم لمعاناتها الشديدة في حملن وتربيته والشفقة عليه فذكره بحقها.

(١) تفسير الطبري ٣ / ١٣١ ، معاني القرآن للفراء ١ / ٣٩٤ ، تفسير القرطبي ص ٢٧٢٦ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٤٧٤ ، تفسير المنار ٩ / ١٨٠ ، تفسير النسفي ٣ / ٦٣.

(٢) حسين ذو الفقار صبري : توراة اليهود ، المجلة ، العدد ١٥٧. يناير ١٩٧٠ ص ١٩ ـ ٢٠.

(٣) تفسير القرطبي ص ٢٧٢٦ (دار الشعب ـ القاهرة ١٩٧٠) ، تفسير البيضاوي ٤ / ٢٩.

(٤) ١٦٨.p ، ١٩٧٠ ..Rabbi Dr.I.Epstein ,Judaism (Penguin Books).

٣٩٩

الطفل ، غير تلك الحيلة البدائية (١)؟

وأيا ما كان الأمر ، فيبدو لي أن القول بأن سيدنا موسى عليه‌السلام ، كان مصريا ، ولم يكن إسرائيليا ، قول فيه من الخطورة ما فيه ، فإن احتمالات الخطأ فيه لجسيمة رهيبة خطيرة ، ومع ذلك ، فهو كافتراض ـ من حيث هو ظن ، نجد له صدى في اسمه المصري (أولا) ، وفي التوراة حيث وصف ، على لسان بنات رعوئيل صهره ، بأنه «رجل مصري» (ثانيا) وفي «الزوهار» حيث يقر مصريته (ثالثا) وفي الآيتين الكريمتين حيث التركيز فيهما على كلمة «ابن أم» (رابعا) وفي رواية «الزجاج» على أنه ليس بشقيق لهارون ، وكذا في رواية البيضاوي وأبي السعود بأنه كان أخا هارون من الأم ، وإن ذهب الجمهور إلى أنهما شقيقان (خامسا) ، وأخيرا (سادسا) في الأثر من أنه «كان بطيئا في الكلام» ، وفي قول التوراة : «أنه ثقيل الفم واللسان» ، وفي قول الله تعالى في القرآن الكريم في سورة طه حيث يدعو ربه (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي ، يَفْقَهُوا قَوْلِي) ، وفي الشعراء (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) ، وفي القصص : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) وفي الزخرف ، على لسان فرعون (وَلا يَكادُ يُبِينُ) ، وفي إجماع التوراة والقرآن العظيم على استعانة موسى بأخيه هارون في توصيل رسالته إلى بني إسرائيل ، وإلى فرعون وملئه (٢).

ومع ذلك ، فما زلت أشك كثيرا ، في أن موسى عليه‌السلام لم يكن

__________________

(١) محمد فؤاد شبل : المرجع السابق ص ٨٧ ثم انظر : تفسير القرطبي ص ٤٢٣٢ ، تفسير الدر المنثور ٥ / ١١٩ ـ ١٢٠.

(٢) سورة طه : آية ٢٧ ، الشعراء : آية ١٣ ، القصص : آية ٣٤ ، الزخرف : آية ٥٢ ، تفسير القرطبي ص ٢٧٢٦ ، تفسير البيضاوي ٤ / ٢٩ ، تفسير النسفي : آية ٣ / ٦٣ ، تفسير أبي السعود ٦ / ٣٨ ، سفر الخروج ٢ / ١٩ ، ٤ / ١٠.

٤٠٠