دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٢

المصريين ، ونظر إسرائيل المصريين أمواتا على شاطئ البحر ، ورأى إسرائيل الفعل العظيم الذي صنعه الرب بالمصريين ، فخاف الشعب الرب وآمنوا بالرب وبعبده موسى» (١).

هذا فضلا عن أن ذلك يتعارض مع قول الله تعالى ، على لسان موسى : (قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً) ، وما ورد في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد وابن أبي حاتم وابن جرير عن أبي واقد الليثي قال : «خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت يا نبي الله : اجعل لنا هذه ذات أنواط ، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الله أكبر هذه كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، إنكم تركبون سنن من قبلكم» ، وما رواه الإمام النسفي في تفسيره من أن يهوديا قال للإمام على بن أبي طالب ، كرم الله وجهه في الجنة : اختلفتم بعد نبيّكم قبل أن تجف دماؤه ، فقال الإمام : قلتم اجعل لنا إلها ولم تجف أقدامكم» ، وعلى أي حال ، فإن موسى عليه‌السلام وصف قومه في قول الله تعالى : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) ، أي إنكم قوم تجهلون عظمة الله تعالى ، وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والنظير ، قال الإمام الزمخشري : تعجب من قولهم ، على إثر ما رأوا من الآية العظمى والمعجزة الكبرى (انغلاق البحر) فوصفهم بالجهل المطلق وأكده ، لأنه لا جهل أعظم مما رأى منهم ولا أشنع ، وكما يقول أبو حيان : أتى بلفظ «تجهلون» ولم يقل «جهلتم» إشعارا بأن ذلك منهم كالطبع والغريزة ، لا ينفصلون عنه في ماض ولا مستقبل (٢).

وهكذا لم يطل العهد ببني إسرائيل ، كما يقول صاحب الظلال ، منذ

__________________

(١) خروج ١٤ / ٣٠ ـ ٣١.

(٢) تفسير الكشاف ٢ / ١٥٠ ، تفسير البحر المحيط ٤ / ٣٧٨ ، تفسير النسفي ٢ / ٧٤ ، مختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٤٧.

٣٤١

أن كانوا يسامون الخسف في ظل الوثنية الفرعونية عند فرعون وملئه ، ومنذ أن أنقذهم نبيّهم وزعيمهم موسى عليه‌السلام باسم الله الواحد رب العالمين الذي أهلك عدوهم ، وشق لهم البحر ، وأنجاهم من العذاب الوحشي الذي كانوا يسامون ، إنهم خارجون للتو واللحظة من مصر ووثنيتها ، ولكن ها هم أولاء ما أن يجاوزوا البحر حتى تقع أبصارهم على قوم وثنيين عاكفين على أصنام لهم (للمعبودة حاتور في هيئة بقرة أو غيرها من الأشكال) مستغرقين في طقوسهم الوثنية ، وإذا هم يطلبون إلى موسى ، النبي الرسول ، الذي أخرجهم من مصر باسم الإسلام والتوحيد ، أن يتخذ لهم وثنا يعبدونه من جديد ، ومن ثم فإن موسى يغضب لربه أن يشرك به قومه (قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) ، ثم ترتفع نغمة الغيرة في كلمات موسى على ربه والغضب له ، والتعجب لنسيان قومه لنعمة الله تعالى عليهم ، وهي حاضرة ظاهرة ، (قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ).

والتفضيل على العالمين يجب أن يكون واضحا أنه كان في زمانهم فحسب ، كما يجمع المفسرون ، ذلك لأن لكل زمان عالما ، ويجب الحمل على ذلك ، لأن أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل منهم لقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ، وقول سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله» (رواه أصحاب السنن) ، وعلى أي حال ، فإن تفضيل بني إسرائيل في زمانهم إنما تتجلى في اختيارهم لرسالة التوحيد من بين المشركين ، وليس وراء ذلك فضل ولا منة ، فهذا ما لا يعدله فضل ولا منة ، فكيف بعد هذا يطلبون إلى نبيّهم أن يطلب لهم إلها غير الله ، وهم في نعمته وفضله يتقلبون (١).

__________________

(١) في ظلال القرآن ٣ / ١٣٦٥ ـ ١٣٦٧ ، مختصر تفسير ابن كثير ١ / ٦٢ ، تفسير النسفي ٢ / ٧٤.

٣٤٢

(٢) التمرد الإسرائيلي بسبب الماء والطعام : ـ

ما أن تمضي أيام ثلاثة على انغلاق البحر آية الله الكبرى لموسى وقومه عند «يم سوف» حتى تذمر ببنو إسرائيل لأنهم «لم يقدروا أن يشربوا ماء من مارة لأنه مر ، لذلك دعي اسمها مارة ، فتذمر الشعب على موسى قائلين ما ذا نشرب ، فصرخ إلى الرب فأراه الرب شجرة فطرحها في الماء فصار الماء عذبا» (١) ، وما أن يمضي شهر ونصف الشهر حتى يعود بنو إسرائيل إلى التذمر مرة أخرى ، ومن الغريب أن مصدر التذمر الآن ، كما كان في المرة الأولى ، شهوة رخيصة ، وسعي وراء لذة دنيوية ، فإذا كانت الأولى بسبب الماء العذب ، فقد كانت الثانية بسبب حرمانهم من طعام كانوا يحصلون عليه من فتات الموائد وفضلات المصريين ، كانوا يجدون في سيناء «المن» أو العسل البري يشتارونه في غير مشقة ولا جهد ، وكانوا يجدون «السلوى» (٢) ، ولعله

__________________

(١) خروج ١٥ / ٢٣ ـ ٢٥.

(٢) المن والسلوى : أما المن فقد اختلف المفسرون فيه ، قال ابن عباس : كان المن ينزل عليهم على اشجار فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا ، وقال السدى كان يسقط على شجرة الزنجبيل ، وقال قتادة كان ينزل عليهم في محلتهم سقوط الثلج أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس يأخذ الرجل منه ما يكفيه يومه ، ولا يدخر إلا يوم الجمعة فادخاره مباح ليوم السبت ، وقال عبد الرحمن بن أسلم : إنه العسل ، وقال الربيع بن أنس كان المن ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه ، وقيل هو الترنجبين أو ما يسقط على شجرة الترنجبين أو الزنجبيل ، وهو يشبه الصمغ حلو مع شيء من الحموضة ، وقيل المن خبز الرقاق ، وقيل كان شرابا حلوا يطبخونه فيشربونه ، وقيل هو جميع ما منّ الله به عليهم في التيه جاءهم عفوا بلا تعب ، وأما السلوى : فهو طائر السماني أو طائر يشبه السماني ، وكانت تأتيهم من السماء بكرة وعشيا أو متى أحبوا ، أو أن ريح الجنوب كانت تسوقها إليهم فيذبح الرجل منها ما يكفيه ، وقيل كانت تنزل عليهم مطبوخة أو مشوية ، وكان ينزل عليهم ، كالمن ، من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، ما عدا يوم السبت ، فكان الواحد منهم يأخذ حاجته ليومه ، ما عدا يوم الجمعة فيأخذ ليومين ، فخالفوا وادخروا ، فدوّد وفسد ، فقطع الله عنهم ذلك ، ويروي عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو لا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز ـ

٣٤٣

السماني ، وفيرا يسيرا صيده ، وكانت سيناء ، وما زالت ، قبلة للأفواج الكثيرة من طيور الهجرة تقبل في الخريف متعبة مرهقة بعد عبور البحر ، فما أن تجد الأرض حتى تحط ، فإذا لاحت تباشير الربيع عادت إلى اجتياز سيناء في طريقها إلى البحر تعبره إلى حيث تقيم ، ومع ذلك فلم يرضى اليهود بما أنزل عليهم من رزق الله (١).

وليس هناك من ريب في أن ذلك إن دل على شيء ، فإنما يدل على أن اليهود إنما كانوا يفضلون الحياة الذليلة تحت سياط الرق والاستعباد ، بجوار قدور اللحم ، على حياة الحرية والكرامة ، تقول التوراة «فتذمر كل جماعة بني إسرائيل على موسى وهارون في البرية وقال لهما بنو إسرائيل «ليتنا متنا بيد الرب في أرض مصر ، إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزا للشبع ، فإنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر ، لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع» (٢) ، ثم طفقوا يعدّدون ما كانوا يجدون في مصر من الخير وألوان الطعام ، تقول التوراة «فعاد بنو إسرائيل أيضا وبكوا وقالوا : من يطعمنا لحما ، قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجانا ، والقثاء والبطيخ والكرات والبصل والثوم ، والآن قد يبست أنفسنا ليس شيء غير أن أعيننا إلى هذا المن» (٣) ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها

__________________

ـ اللحم» ، وروى السدى أن السلوى هو العسل بلغة كنعان. (تفسير الطبري ١ / ٢٩٣ ـ ٢٩٨ ، تفسير النسفي ١ / ٤٩ ، تفسير الخازن ٣ / ٦٣ ، تفسير روح المعاني ١ / ٢٦٣ ـ ٢٦٤ ، الدر المنثور ١ / ٧٠ ـ ٧١ ، ابن الأثير ١ / ١١٠ ـ ١١١ ، صفوة التفاسير ١ / ٦٠ ، مختصر تفسير ابن كثير ١ / ٦٦ ـ ٦٧).

(١) أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ١٢٨ ـ ١٢٩ وكذاMeinertziragen ,Nicoll\'s Birds Egypt ,P. ٤٦٩ ـ ٤٦٨ ، ٤١.

(٢) خروج ١٦ / ٢ ـ ٣.

(٣) عدد ١١ / ٤ ـ ٦.

٣٤٤

وَفُومِها) (١) (وَعَدَسِها وَبَصَلِها ، قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (٢).

ثم ما يمضي حين حتى تقوم ثورة أخرى ، فهناك في «رفيديم» «خاصم الشعب موسى وقالوا أعطونا ماء لنشرب ، وتذمر الشعب على موسى وقالوا : لما ذا أصعدتنا من مصر لتميتنا وأولادنا ومواشينا بالعطش» ، ويأمر الرب نبيّه «أن اضرب الصخرة فيخرج منها ماء ليشرب الشعب ، ففعل موسى هكذا أمام عيون شيوخ إسرائيل ، ودعا اسم الموضع مسه ومريبه ، من أجل مخاصمة بني إسرائيل ومن أجل تجربتهم للرب قائلين : أفي وسطنا الرب أم لا» (٣) ، ويفسر «يوسف اليهودي» ذلك بأنهم وصلوا إلى رفيديم في حالة يرثى لها بسبب العطش ، ولا شك في أن الصخرة في «حوريب» حيث يوجد ماء مغطى ، ويرى رواد الصحراء الذين درسوا تربتها وجاسوا خلالها ، أمثال «جارفس» و «وولي» أنه يمكن الحصول أحيانا على الماء في هذه النواحي تحت طبقة رقيقة من الحجر الجيري على عمق قدمين ويظل مخزونا طوال العام (٤).

__________________

(١) الفوم : قيل الثوم وقيل الحنطة ، وهو البر الذي يصنع من الخبز ، وقال الفخر الرازي : الثوم أوفق للعدس والبصل من الحنطة ، ولقراءة ابن مسعود «وثومها» ، وأما القثاء فهو الخيار (تفسير النسفي ١ / ٥١ ، تفسير القرطبي ١ / ٤٢٥ ، صفوة التفاسير ١ / ٦٤).

(٢) سورة البقرة : آية ٦١ ، وانظر تفسير الطبري ٢ / ١٣٠ ـ ١٤٢ ، تفسير الطبرسي ١ / ٢٦٩ ـ ٢٧٨ ، تفسير النسفي ١ / ٥٥ ـ ٥٦ ، تفسير روح المعاني ١ / ٢٧٣ ـ ٢٧٨ ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي ١ / ٧٣ ـ ٧٤ ، تفسير أبي السعود ١ / ١٨٢ ـ ١٨٣ ، في ظلال القرآن ١ / ٧٥ ، تفسير ابن كثير ١ / ١٤٥ ـ ١٠٢ ، تفسير القرطبي ص ٣٥٩ ـ ٣٧٠ ، تفسير المنار ١ / ٢٧٣ ـ ٢٧٦ ، تفسير القاسمي ٢ / ١٣٧ ـ ١٤٠ ، تفسير الفخر الرازي ٣ / ٩٨ ـ ١٠٢ ، التفسير الكاشف ١ / ١١٤ ـ ١١٦ ، الجواهر في تفسير القرآن الكريم ١ / ٧٤ ـ ٧٧.

(٣) خروج ١٧ / ١ ـ ٧.

(٤) نجيب ميخائيل : المرجع السابق ص ٣٠٤.

٣٤٥

والرأي عندي أن الأمر ليس كما فسره هؤلاء الباحثون ، وإنما هو ، فيما أو من به واعتقده ، معجزة من معجزات موسى عليه‌السلام ، إذ أمره الله تعالى بأن يضرب الحجر بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، بقدر عدد أسباط إسرائيل ، لكل سبط عين قد عرفوها ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ ، كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (١) ، وقال ابن عباس : وجعل بين ظهرانيهم حجر مربع ، وأمر موسى عليه‌السلام فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا في كل ناحية منه ثلاث عيون ، وأعلم كل سبط عينهم يشربون منها ، وقال قتادة : كان حجرا طوريا ، أي من الطور ، يحملونه معهم إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه ، وقال النسفي : اللام للعهد ، والإشارة إلى حجر معلوم ، فقد روى أنه حجر طوري حمله معه ، وكان مربعا له أربعة أوجه ، كانت تنبع من كل وجهه ثلاث أعين ، لكل سبط عين ، وقيل هو الحجر الذي وضع موسى عليه ثوبه حين اغتسل (٢) ، فقال له جبريل : ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة ، ولك فيه معجزة ، فحمله في مخلاته ، قال الزمخشري : ويحتمل أن تكون اللام

__________________

(١) سورة البقرة : آية ٦٠ ، وانظر : تفسير النسفي ١ / ٥٠ ـ ٥١ ، مختصر تفسير ابن كثير ١ / ٦٨ ـ ٦٩.

(٢) أخرج البخاري عند تفسير آية الأحزاب (٦٩) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن موسى كان رجلا حييّا ستيّرا ، لا يرى من جلده شيء استحياء منه ، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا : ما يتستر هذا التستر إلا من عيب بجلده ، إما برص ، وإما أدرة (انتفاخ الخصية) وإما آفة ، وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى ، فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل ، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها ، وإن الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر ، حتى مرّ على ملأ من بني إسرائيل فرأوه أحسن ما خلق الله عريانا ، وأبرأه مما يقولون ... قال : ، فذلك قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) (صحيح البخاري ٦ / ٣١٢).

٣٤٦

للجنس ، لا للعهد ، أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر ، وعن الحسن البصري : لم يأمره أن يضرب حجرا بعينه ، وهذا أظهر في المعجزة وأبين في القدرة ، فكان يضرب الحجر بعصاه فينفجر ، ثم يضربه فييبس ، وعلى أي حال ، فإن انفجار الماء ، إنما كان على وجه المعجزة ، وأن الحجر الذي ضربه موسى كان من الصخر الأصم الذي ليس من شأنه الانفجار بالماء ، وهنا تكون المعجزة أوضح ، والبرهان أسطع (١).

(٣) بنو إسرائيل والعماليق : ـ

تشير التوراة إلى أن بني إسرائيل قد التقوا بالعماليق في «رفيديم» حيث جرت بينهم المعركة الرئيسية على امتلاك الشريط الخصيب الوحيد في شبه جزيرة سيناء ، وهو «وادي فيران» الحالي (٢) ، وطبقا لرواية التوراة فلقد «أتى عماليق وحارب إسرائيل في رفيديم فقال موسى ليشوع : انتخب لنا رجلا وأخرج حارب عماليق ، وغدا أقف أنا على رأس التلة وعصا الله في يدي ، ففعل يشوع كما قال له موسى ليحارب عماليق ، وأما موسى وهارون وحور فصعدوا على رأس التلة ، وكان إذا رفع موسى يده أن إسرائيل يغلب ، وإذا أخفض يده أن عماليق يغلب ، فلما صارت يدا موسى ثقيلتين أخذا حجرا ، ووضعاه تحته فجلس عليه ، ودعم هارون وحور يديه ، الواحد من هنا والآخر من هناك ، فكانت يداه ثابتتين إلى غروب الشمس ، فهزم يشوع عماليق وقومه بحد السيف» (٣).

وعلى أي حال ، فما تنتهي المعركة ، حتى يلتقي موسى عليه‌السلام

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٣٠٦ ـ ٣٠٩ ، تفسير الكشاف ١ / ١٠٧ ، تفسير النسفي ١ / ٥٠ ، تفسير أبي السعد السعود ١ / ١٨٠ ، مختصر تفسير ابن كثير ١ / ٦٩ ، صفوة التفاسير ١ / ٦٢ ـ ٦٤.

(٢) W.F.Petrie ,Egyptand Israel , ٤.p ، ١٩٢٥.

(٣) خروج ١٧ / ٨ ـ ١٣.

٣٤٧

بحميه يثرون ، الذي جاء ومعه صفورة ، امرأة موسى وولداه جرشوم وإليعازر (١) ، هذا مع أن التوراة قد ذكرت من قبل ، وفي نفس سفر الخروج أن موسى قد هبط مصر ومعه زوجته وولداه (٢) ، ولكن هذا لا يزعجنا كثيرا ، فهو نوع من تناقض نصوص التوراة ، ونظائره كثيرة ، وعلى أي حال ، فإن التوراة (٣) تحدثنا أن يثرون ، وهو شعيب بني مدين العربي فيما يرجع الكثيرون ، كما أشرنا من قبل ، كان يقدم القرابين إلى الله ، ويتبعه موسى وهارون وشيوخ بني إسرائيل ، وأنه قد أسدى إلى موسى النصح باختيار رؤساء للشعب لينظروا في القضايا الثانوية ، ويبقى هو المرجع الأعلى ، فاتبع نصيحة شعيب ، ومعنى هذا أن شعيبا ، كما يقول الأستاذ العقاد ، تقدم موسى في عقيدته الإلهية ، وعلمه تبليغ الشريعة ، وتنظيم القضاء في قومه ، وأن العبريين كانوا متعلمين من النبي العربي ، ولم يكونوا معلمين (٤).

(٤) الردة وعبادة العجل في سيناء : ـ

تتحدث التوراة في الإصحاحات من التاسع عشر إلى الحادي والثلاثين من سفر الخروج عن الشريعة الموسوية ، وفي الإصحاح الثاني والثلاثين من نفس السفر تتحدث عن ردة بني إسرائيل عن التوحيد ، وحبر وصايا الرب لم يجف كما يقولون ، ذلك أن موسى عليه‌السلام ، فيما يروي المفسرون ، قد وعد بني إسرائيل وهو بمصر ، إن أهلك الله عدوهم ، أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون ويذرون ، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب ، فأمره بصوم ثلاثين يوما ، وهو شهر ذي القعدة ، فلما أتم الثلاثين أنكر خلوق فمه (تغيّر رائحة فمه) فتسوّك ، فقالت الملائكة : كنا نشم

__________________

(١) خروج ١٨ / ١ ـ ٧.

(٢) خروج ٤ / ٢٠.

(٣) خروج ١٨ / ١٢ ـ ٢٧.

(٤) عباس العقاد : الثقافة العربية أسبق من ثقافة اليونان والعبريين القاهرة ١٩٦٠ ص ٨٠.

٣٤٨

من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك ، أو أن الله أوحي إليه : أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك ، فأمره أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة ، روي عن ابن عباس وغيره : فعلى هذا يكون قد كمل الميقات يوم النحر ، وحصل فيه التكلم لموسى عليه‌السلام ، وفيه أكمل الله الدين لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما قال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) ، وكان موسى لما أتم الصيام ثلاثين يوما وعزم على الذهاب إلى الطور ، استخلف على بني إسرائيل أخاه هارون ووصاه بالإصلاح وعدم الإفساد ، وهذا تنبيه وتذكير ، وإلا فهارون عليه‌السلام نبي شريف كريم على الله ، وله وجاهة وجلالة صلوات الله عليه وعلى سائر الأنبياء ، وهناك كما أشرنا ، أنكر ريح فمه فاستاك بعود خرنوب أو بلحاء شجرة ، فأمره الله أن يصوم عشرة أيام أخرى ، وفي تلك الليالي العشر ، افتتن بنو إسرائيل ، لأن الثلاثين انقضت ولم يرجع إليهم موسى (١) ، وإلى هنا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (٢) ، وقال تعالى : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) (٣).

وهكذا لم يمضي وقت طويل على انغلاق البحر لموسى وقومه ، حتى كانت الردة وعبادة العجل ، كما جاء في التوراة والقرآن العظيم ،

__________________

(١) تفسير الكشاف ٢ / ١٥١ ، تفسير النسفي ١ / ٤٨ ، ٢ / ٧٤ ، تفسير أبي السعود ١ / ١٧٤ ، الدر المنثور ٣ / ١١٥ ، تفسير روح المعاني ١ / ٢٥٧ ـ ٢٥٨ ، تفسير البحر المحيط ٤ / ٣٧٩ ، مختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٤٨ ، تاريخ الطبري ١ / ٤٢١ ـ ٤٢٢ ، ابن الأثير ١ / ١٠٧.

(٢) سورة الأعراف : آية ١٤٢.

(٣) سورة البقرة : آية ٥١ ، ٥٤ ، ٩٢ ـ ٩٣ سورة طه : آية ٨٣ ـ ٩٨.

٣٤٩

ويقول تعالى : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ ، أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ، اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ ، وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ، وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) (١).

وهكذا بقيت الوثنية راسخة في قلوب بني إسرائيل ، حتى بعد انغلاق البحر لهم ، وحتى بعد أن جاوزوه على يبس ، وحتى بعد أن منّ الله عليهم بالمن والسلوى ، وحتى بعد أن استسقوا موسى فضرب الحجر بعصاه فأنجبت منه اثنتا عشرة عينا ، لكل سبط من الأسباط الاثني عشر مشربهم ، وحتى بعد أن نزلت عليهم شريعة تحذرهم من اتخاذ آلهة أخرى غير الله ، حتى بعد هذا كله ، فإنهم سرعان ما زاغوا عن الطريق المستقيم ، وكفروا بالله الواحد الأحد ، «وصنعوا لهم عجلا مسبوكا وسجدوا له وذبحوا وقالوا : هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر» (٢) ، وهو نفس ما سيفعلونه في دويلة

__________________

(١) سورة الأعراف : آية ١٤٨ ـ ١٥٢ ، وانظر : تفسير الطبري ١٣ / ١١٧ ـ ١٣٦ ، تفسير الطبرسي ٩ / ٢٦ ـ ٣٢ ، تفسير القاسمي ٧ / ٢٨٥٩ ، تفسير روح المعاني ٩ / ٦٧ ـ ٧٠ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٤٧٣ ـ ٤٧٥ ، تفسير المنار ٩ / ١٧٢ ـ ١٨٣ ، تفسير القرطبي ص ٢٧٢٠ ـ ٢٧٢٨ ، تفسير الفخر الرازي ١٥ / ١٠٨ ـ ١١١ ، تفسير الكشاف ٢ / ١١٨ ـ ١٢٠ ، تفسير أبي السعود ٢ / ٤٠٦ ـ ٤٠٩ ، الجواهر في تفسير القرآن الكريم ٤ / ٢١٩ ـ ٢٢١ ، تفسير الجلالين ص ١٥٥ ، تفسير وجدي ص ٢١٤ ـ ٢١٥.

(٢) خروج ٣٢ / ٧ ـ ٨.

٣٥٠

إسرائيل على أيام «ير بعام الأول» (٩٢٢ ـ ٩٠١ ق. م) وبعد موت سليمان عليه‌السلام مباشرة ذلك أن يربعام ، خوفا من أن تعود قلوب القوم تتعلق بأور شليم ، قد هداه تفكيره المريض إلى أن يعيد المكانين المقدسين عند القوم ، وكان الواحد منهما في «بيت إيل» ، والآخر في «دان» ، وأن يزود كل منهما «بالعجل الذهبي» ، بل إن عاصمتهم السامرة فيما بعد ، قد زودت كذلك «بعجل ذهبي» (١).

وليس هناك من ريب في أن هذا ، إنما كان ، مرة أخرى ، من تأثير الوثنية المصرية على بني إسرائيل ، ذلك أن عبادة العجل في مصر جد عميقة الجذور ، إذ ترجع إلى ما قبل عصر موسى بكثير ، إلى أيام الأسرة الأولى حوالي عام ٣٢٠٠ ق. م ، ثم استمرت حتى ظهور المسيحية وغلبتها عليها ، ويذهب «والتر إمري» إلى أن العجل كان في نظر القوم ، رمزا للقوة في الحروب ، كما أنه رمز للإخصاب ، في نفس الوقت ، وأن عبادته بدأت منذ أيام الأسرة الأولى ، اعتمادا على تصوير ملوك هذه الأسرة على هيئة ثيران (٢) ، هذا وقد اشتهرت هذه العبادة باسم «مرور وعبي» (منفيس وأبيس في تصحيف اليونان) حيث عبد الأول في «أون» (عين شمس) رمزا لإله الشمس رع ، وعبد الثاني في منف مدينة بتاح ، رمزا للإله بتاح ، وقد احتفظ المصريون في معبد بتاح بالعجل المقدس «أبيس» ، دون أن تكون هناك علاقة ما بين الإلهين ، على الأقل في العصور القديمة (٣) ، كما أن «بتاح» لم يصور أبدا على هيئة ثور ، ولم يعتقد أحد أنه تجسد في ثور (٤) ، ولم يعتبر أبيس كروح للإله بتاح ، إلا على أيام الدولة الحديثة ، وإن كان هناك اعتقاد

__________________

(١) ٢٣٢. ملوك أول ١٢ / ٢٥ ـ ٣٢ ، هوشع ٨ / ٥ ـ ٦ وكذاM.Noth ,op ـ cit ,P.

(٢) ١٢٤.p ، ١٩٦٣. W.B.Emery ,Archaic Egypt ,

(٣) أدولف إرمان : ديانة مصر القديمة ـ القاهرة ١٩٥٢ ص ٣١ (مترجم).

(٤) ١٠.p ، ١٩٤٢ G.Frankfort ,Kingship and the Gods ,Chicago ,.

٣٥١

يجعل من «أبيس» ، وكذا «منقيس» عجل أون ، رسولين يقومان بتبليغ الرسائل إلى إلههما ، وهو اعتقاد يرجع كذلك إلى عهد الدولة الحديثة (١٥٧٥ ـ ١٠٨٧ ق. م) (١)

هذا وقد قام جدال طويل حول حقيقة «العجل» الذي عبده بنو إسرائيل أثناء غياب موسى عليه‌السلام ، فمن قائل أنه كان تمثالا أجوف من ذهب صاغه السامري من الحلي ، وصنع بحيث إذا استدبر الريح دخلت جوفه وخرجت من فمه بصوت جهير يشبه خوار البقر ، ومن قائل إن هذا الرجل المحتال خدع بني إسرائيل وأخذ منهم الحلي ، ثم رأى عجلا على هيئة العجول التي رآها تعبد في مصر ، فاشتراه وقدمه لهم ، على أنه إله ، فقال «هذا إلهكم وإله موسى» ، ومن قائل غير هذين الرأيين ، ولكن المتفق عليه من الكتب السماوية (التوراة والإنجيل والقرآن العظيم) أنهم عبدوا عجلا ، أيا كان هذا العجل (٢).

ويختلف المؤرخون المحدثون حول عبادة العجل الذي عبده بنو إسرائيل ، ففريق ينسبها إلى عبادة الإلهة «حاتحور» وفريق ينسبها إلى عبادة العجل «أبيس» ، ذلك أن «سير ليوناردو وولي» (٣) إنما يذهب إلى أن بني إسرائيل عند ما دخلوا منطقة جنوب سيناء ، حيث أقام المصريون المشتغلون بالتعدين معبدا لحاتور ، ارتدوا عن الوحدانية إلى العقائد التي اكتسبوها في

__________________

(١) أدولف إرمان : المرجع السابق ص ٣١.

(٢) عبد الرحيم فودة : من معاني القرآن ص ٢٠١ ، وانظر : تفسير الطبري ١ / ٢٧٩ ـ ٢٨٥ ، تفسير النسفي ١ / ٤٨ ، ٢ / ٧٧ ـ ٧٨ ، مختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٥١ ـ ٥٢ ، تفسير البيضاوي ٣ / ٢٧ ـ ٢٨ ، تفسير الخازن ١ / ٥٩ ـ ٦٢ ، تاريخ الطبري ١ / ٤٢٢ ـ ٤٢٥ ، ابن الأثير ١ / ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٣) ٥١٥ ـ ٥١٣.p ، ١٩٦٥. Sir Leonard Wolley, The Beginnings of Civilization, N. Y,

٣٥٢

مصر ، وصاغوا العجل الذهبي ، تمجيدا للإلهة البقرة ، والتي اصطلح على أنها كانت سيدة تلك البلاد.

هذا ويفترض «أوسترلي» (١) ، طبقا لما جاء في التوراة (٢) ، أن هذا العجل الذهبي إنما كان معبودا مصريا ، وأنه هو الإلهة حاتور ، وأن هناك تمثالا في المتحف المصري بالقاهرة لهذه الإلهة البقرة يرجع إلى أيام أمنحتب الثاني (١٤٣٦ ـ ١٤١٣ ق. م) ، وقد غطى الرأس والعنق والقرنان في الأصل بالذهب ، ويشير إلى «العجل الذهبي» ، وقد وصف في مكان آخر ، وكأنه الإلهة ذات القلائد المضيئة «مثل السماء بنجومها» ، وهي تدعى «الواحدة الذهبية» أو «ذهب الآلهة» ، ولعل في هذا إشارة كذلك إلى السبب الذي من أجله سمي العجل بـ «الذهبي» ، وقد وجدت صور هذه الإلهة في بيت شان (بيسان) وجازر وأريحا ، وإن الإلهة «عشتار» كانت تمثل أحيانا بلباس الرأس الخاص بحاتور ، ولهذا كله ، فإننا نستطيع أن نوحّد العجل الذهبي بالإلهة المصرية «حاتور» ، هذا فضلا عن أن من صفات حاتور ، أنها كانت تدعى إلهة الحب ، والإلهة المرحلة الطروب ، ومن ثم فقد كانوا يسمونها «بالذهبية» ، وقد دعاها اليونان «أفروديت» ، ومن ثم فقد كانت النسوة يخدمنها ويحتفلن بها ، وذلك بإقامة حفلات الرقص والغناء واللعب على الصاجات والشخشخة بقلائدهن ، وبالعزف على الدفوف (٣).

ولعل من الجدير بالإشارة أن قارئ التوراة يجد في سفر الخروج صدى لهذه الاحتفالات النسوية بحاتور ، من إقامة حفلات الرقص والغناء

__________________

(١) ١٩٤٧ W. O. E. Oesterly, Egypt and Israel, in The Legacy of Egypt, Oxford,

(٢) خروج ٣٢ / ٢ ـ ٤ ، ملوك أول ١٢ / ٢٨.

(٣) أدولف إرمان : المرجع السابق ص ٣٦ ـ ٣٧ ، سليم حسن : المرجع السابق ١ / ٢٠٨ ، جيمس بيكي : المرجع السابق ٢ / ١٨٩.

٣٥٣

واللعب ، ذلك أن بني إسرائيل ، بعد أن صاغوا عجلهم الذهبي ، وقدموا له القرابين ، «جلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب» (١) ، وأن موسى عليه‌السلام عند ما اقترب من المحلة أبصر العجل والرقص (٢) ، وطبقا لترجمة اليسوعيين ، فلقد «رأى موسى الشعب أنهم عراة ، لأن هارون (٣) كان قد عراهم أمام أعدائهم ، لأجل ما هو عار نجاسة» (٤) ، وهكذا تصور لنا التوراة جماعة إسرائيل ، وهي ترقص عارية ، ويذهب بها المرح من حول «العجل الذهبي» كل مذهب ، مما يتفق ومظاهر الاحتفال بحاتور (٥).

على أن هناك فريقا آخر يعارض هذا الاتجاه ، ويرى أن بني إسرائيل عبدوا عجلا ، وليس بقرة ، فالأستاذ «دياكونوف» (I.M.Diakonoff) يرى أن العجل الذهبي إنما كان في صورة حيوان ذكر ، وليس أنثى ، ومن هنا فإنه يشك كثير في أن الإسرائيليين قد صاغوا هذا العجل الذهبي تمجيدا للإلهة «حاتور» (٦) ، ويذهب الدكتور ثروت الأسيوطي إلى أن بني إسرائيل قد قدسوا النجوم ، وتقربوا إلى القمر ربيب الرعاة في الليالي الرطبة ، بعد الشمس المحرقة ، ومن ثم فقد عبدوا العجل باعتباره رمزا للقمر (٧) ، بل إن جوستاف لوبون إنما يذهب إلى أن العجل من أصل كلداني ، وكان بنو

__________________

(١) خروج ٣٢ / ٢ ـ ٨.

(٢) خروج ٣٢ / ١٩.

(٣) لاحظ هنا أن التوراة تجعل هارون ، وحاشاه أن يفعل ذلك ، هو الذي صنع العجل وأغوى بني إسرائيل ، وليس السامري ، وهذا ما سنناقشه حالا.

(٤) نص ترجمة دار الكتاب المقدس بالقاهرة (ط ١٩٨٢) كالتالي : ولما رأى موسى الشعب أنه معري لأن هارون كان قد عراه للهزء بين مقاوميه (خروج ٣٢ / ١٩).

(٥) أنظر عن : الردة وعبادة العجل في سيناء (محمد بيومي مهران : إسرائيل ١ / ٤٦٢ ـ ٤٧٩ ـ الاسكندرية ١٩٧٨).

(٦) ٥١٤. L.Woolley ,op ـ cit ,P.

(٧) ثروت الأسيوطي : نظام الأسرة بين الاقتصاد والدين ، بنو إسرائيل ص ١٤٩.

٣٥٤

إسرائيل يعبدون العجول المعدنية بعد خروجهم من مصر بطويل زمن ، لارتوائهم من مبادئ بلاد ما بين النهرين الدينية ، وكان هذا هو الوجه المفضل الذي يرمزون به إلى ربهم «يهوه» (١).

وهناك ما يشير إلى أن إله العبريين «يهوه» إنما هو في الأصل إله قمري ، فقد كان يرسم في العصور القديمة في صورة «ثور» فضلا عن أننا نجد قرنين في مذبحه (٢) ، هذا إلى جانب ما يفهم من التوراة (العهد القديم) أن الديانة العبرية كانت توصف قبل السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد ، بأنها ديانة قمر وشمس وكواكب (٣) ، مما يدل بوضوح على أن بني إسرائيل ، على أيام الملكية ، قد تبنى ملوكهم ديانات الشرك ، بجانب ديانة يهوه ، وأقاموا عجولا من ذهب وضعوها في مبان كالمعابد ، كما فعل يربعام أول ملوك دويلة إسرائيل بعد الانقسام في أعقاب موت سليمان عليه‌السلام ، في مدينتي دان وبيت إيل (٤) ، كما أشرنا من قبل ، وكما فعل خليفته البعيد «أخاب» (٨٦٩ ـ ٨٥٠ ق. م) في عاصمته السامرة (٥).

وانطلاقا من هذا كله ، فالرأي عندي ، أن عجل الذهب الذي عبده بنو إسرائيل في أوائل مرحلة الخروج من سيناء ، وموسى عليه‌السلام ما يزال بين ظهرانيهم يتلقى الوحي من ربه في طور سيناء ، إنما كان تقليد العبادة العجل المقدس في مصر ، وليس تقليدا لعبادة الإلهة البقرة حاتور ، وربما كان من أسباب ذلك (أولا) أن حاتور إنما كانت معبودة في مصر العليا (الصعيد) أكثر منها في مصر السفلى (الدلتا) حيث كان بنو إسرائيل يعيشون على أطراف

__________________

(١) جوستاف لوبون : اليهود في تاريخ الحضارات الأولى ص ٦١.

(٢) ملوك أول ١٢ / ٢٨ ، ملوك ثان ٢٣ / ١١ ، خروج ٣٢ / ٤ ، هوشع ٨ / ٥ ـ ٦.

(٣) ملوك ثان ١٧ / ١٦ ، ٢١ / ٣ ، ٥ ، ٢٣ / ٤ ـ ٥ ، إرميا ٨ / ٢.

(٤) ملوك أول ١٢ / ٢٦ ـ ٣٦.

(٥) ملوك أول ١٦ / ٣١ ـ ٣٣.

٣٥٥

الدلتا الشرقية ، ومن ثم فقد عبدت حاتور في مناطق كثيرة من الصعيد ، في كوم أمبو والجبلين والأقصر وهو بنجع حمادي والقوصية وأطفيح ومنف ، كما عبدت في بلاد النوبة وبونت وجبيل ، وإن كان أهم مراكز عبادتها في «دندرة» (٥ كيلا شمالي قنا عبر النهر) حيث معبدها الكبير ، والذي يضارع معبد أدفو في روعته واكتماله ، وقد بناه بطليموس الثاني (٢٨٤ ـ ٢٤٦ ق. م) على أنقاض معبد حاتور القديم ، وإن لم يتم البناء إلا حوالي منتصف القرن الأول قبل الميلاد ، وما يزال حتى الآن يعدّ من أحسن المعابد المصرية ، وأكثرها تأثيرا (١) ، وهذا يعني أن بني إسرائيل كانوا يعيشون في منطقة بعيدة عن نفوذ عبادة حاتور ، والعكس صحيح بالنسبة إلى عبادة العجول كمنفيس وأبيس.

ومنها (ثانيا) أن القرآن الكريم قد انفرد ، من دون التوراة ، بذكر نوعين من الردة ، الأولى محاولة عبادة حتحور ، بينما الثانية وقد ذكرتها التوراة كذلك ، عبادة العجل الذهبي ، ذلك أن آية الأعراف (١٣٩) إنما تتحدث عن تطلع بني إسرائيل ، بمجرد عبورهم البحر ، إلى عبادة إله آخر ، غير إله موسى ، يقول تعالى : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (٢) ، وقد أشرنا من قبل ، إلى أن مناجم الفيروزج تكثر في وادي مغارة وسرابة الخادم ، حيث أقيم معبد للإلهة حاتور ، ربة الفيروزج ، منذ أيام الدولة الوسطى ، التي عملت على استغلال تلك المنطقة باهتمام

__________________

(١) محمد بيومي مهران : الحضارة المصرية ـ الاسكندرية ١٩٨٤ ص ١٦٠ ، ٣٣٧ ـ ٣٤١ ، وكذا

١٠٥.p ,VI , ٥٦. H. Gauthier, Dictionnaire des Noms Geographiques, I, P.

A. وكذا

P. Lacau and H. Chevriar, Une chapell de Sesostris Ler a Karnk, Le cairo,

٢٢٤١٣٠ ـ ١٢٩ ، ٤٥ ..p ، ١٩٥٦H.Gardiner ,op ـ cit ,P.

(٢) سورة الأعراف : آية ١٣٩.

٣٥٦

كبير ، ومن ثم فإن بني إسرائيل عند ما دخلوا منطقة جنوب سيناء ، حيث أقام المصريون المشتغلون بالتعدين معبدا لحاتور ، ارتدوا عن الوحدانية إلى العقائد الوثنية التي اكتسبوها بمصر ، وطالبوا موسى عليه‌السلام بأن يجعل لهم إلها ، ربما على هيئة حاتور ، غير أن كليم الله عليه‌السلام ، استطاع بقوة إيمانه ، ورسوخ عقيدته ، وقوة شخصيته أن يمنع قطيعه من الردة الأولى هذه ، وبالتالي لم يتمكن القطيع من عبادة حاتور أو غيرها من الآلهة الوثنية ، لكنهم سرعان ما اهتبلوا فرصة ذهاب موسى لميقات ربه لمدة ثلاثين ليلة ، فلما أتمها له ربه أربعين ليلة ، كفر القطيع بموسى ، وإله موسى ، وعادوا إلى ما ألفوه من عبادة العجول في مصر ، وانطلاقا من كل هذا ، يمكننا القول أن الردة الأولى إنما كانت لعبادة حاتور ، الإلهة البقرة ، ولكن موسى عليه‌السلام نجح في وأد المحاولة في بدايتها ، وأما الردة الثانية فكانت لعبادة العجل الذهبي ، تقليدا لعبادة العجل منفيس أو أبيس ، لا ندري على وجه اليقين.

ومن ثم فإننا نوافق الرأي الذي ذهب إلى أن معبود إسرائيل الذهبي في سيناء إنما كان عجلا ، ولم يكن بقرة ، صحيح أن بعض العلماء نادى المعبود إنما كان بقرة ، ولكن الذي يلزمنا هنا هو كلام الله عزوجل ، كما جاء في الذكر الحكيم (١) ، فضلا عن التوراة (٢) ، وليس ما درج الباحثون أن يقدموا ، فإنما هو اجتهاد ، وفوق كل ذي علم عليم ، وصدق الله العظيم حيث يقول : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) (٣) ، ويقول : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً

__________________

(١) أنظر : سورة البقرة : آية ٥١ ـ ٥٤ ، ٩٢ ـ ٩٣ ، النساء : آية ١٥٣ ، الأعراف : آية ١٤٨ ـ ١٥٢ ، طه : آية ٨٣ ـ ٩٨.

(٢) خروج ٣٢ / ٣ ـ ٦.

(٣) سورة البقرة : آية ٩٢ ، وانظر : تفسير الطبري ١ / ٣٥٤ ـ ٣٥٨ ، تفسير النسفي ١ / ٧١ ـ ٧٢ ، ـ

٣٥٧

لَهُ خُوارٌ ، أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ، اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) (١) ويقول : (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ ، فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) (٢).

ويحاول هارون عليه‌السلام أن يعيد القوم الضالين إلى عقيدة التوحيد ، (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) (٣) ، ولكنهم وقد أشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم أجابوه ، (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) (٤) ، وأخبر الله تعالى نبيّه موسى بردة قومه ، وإخلال السامري لهم ، فيعود موسى إلى قومه غضبان أسفا ، ويشتد في اللوم على هارون أخيه ، ظنا منه أن قصر ، حين انساق القوم إلى عبادة العجل ، يقول تعالى : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٥) ، ويقول : (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ، أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ، قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (٦).

وهنا تتجه التوراة إلى منزلق خطر ، حيث يذهب كتبتها في الضلال

__________________

ـ تفسير الطبرسي ١ / ٣٦٣ ـ ٣٦٧ ، تفسير الكشاف ١ / ١٦٥ ، تفسير روح المعاني ١ / ٣٢٥ ـ ٣٢٧ ، تفسير المنار ١ / ٣٠٨ ، تفسير ابن كثير ١ / ١٨٠ ـ ١٨١.

(١) سورة الأعراف : آية ١٤٨.

(٢) سورة طه : آية ٨٨.

(٣) سورة طه : آية ٩٠.

(٤) سورة طه : آية ٩١.

(٥) سورة الأعراف : آية ١٥٠.

(٦) سورة طه : آية ٩٢ ـ ٩٤.

٣٥٨

بعيدا ، فيرون في سفر الخروج أن الذي صنع العجل وأغوى بني إسرائيل ، إنما هارون ، وليس السامري ، حين اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار في غيبة موسى (١) ، ولست أدري كيف نسي كتبة التوراة أن هارون أخو موسى ، ونبي ورسول من الله مع موسى ، ونائب وخليفة لموسى في غيابه ، ولكنهم بنو إسرائيل دائما مع الفاسد المفسد ، ولو كان السامري ، قال تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا ، وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا ، وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) (٢) ، وقال تعالى : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ ، وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ ، وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ ، وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ ، سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (٣).

وعلى أية حال ، فإن موسى سرعان ما يقرر ، فيما تروي التوراة ، أن هذا الشر ، وأن هذه الردة ، ليس لها من توبة ، إلا شفار الأسنة يسلونها ليضرب بها اللاويون ، سبط موسى ، رقاب الآخرين ، وطبقا لرواية سفر الخروج فلقد «وقع من الشعب في ذلك اليوم نحو ثلاثة الأف رجل» (٤) ، هذا وقد اختلف المفسرون فيمن عبد العجل من بني إسرائيل ، فمن قائل عبده ثمانية آلاف ، ومن قائل عبده جميعهم ، إلا هارون ، فضلا عن اثنى عشر ألفا منهم ، ومن قائل عبده كل بني إسرائيل إلا هارون ، وقال عبد الرحمن بن زيد : كانوا سبعين رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه (٥) ، على

__________________

(١) خروج ٣٢ / ١ ـ ٢٤.

(٢) سورة مريم : آية ٥١ ـ ٥٣ ، وانظر : طه : آية ٢٩ ـ ٣٦ ، الشعراء : آية ١٢ ـ ١٧ ، القصص : آية ٣٤ ـ ٣٥.

(٣) سورة الصافات : آية ١١٤ ـ ١٢٢.

(٤) خروج ٣٢ / ٢٦ ـ ٢٩.

(٥) تفسير الخازن ١ / ٦٢ ، مختصر تفسير ابن كثير ١ / ٦٥.

٣٥٩

أن «سبينوزا» يذهب إلى أن الإسرائيليين جميعا ، قد عبدوا العجل ، باستثناء اللاويين (١) ، فإذا كان ذلك كذلك ، وإذا كان اللاويون ، كما يقول فرويد ، هم بطانة موسى من السحرة المصريين الذين وصفهم القرآن بأنهم (أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) ، ومن ثم فهم ، بجانب المؤمنين من بني إسرائيل ، هم وحدهم الذين لم يعبدوا العجل ، أو قل هم الذين عبدوا رب موسى وهارون عن عقيدة ، لم تضعف حتى أمام وعيد فرعون وتهديده ، ولعمري إن الذين هددهم فرعون ، كما يقول الذكر الحكيم : (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) (٣) ، فكان ردهم : (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ، وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (٤) ، وفي آية أخرى : (قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ ، إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) (٥) ، هم أنفسهم الذين بقوا على إيمانهم بالله الواحد القهار ، لأن الذين آمنوا من أبناء مصر إنما كان إيمانهم أرسخ من الهرم ، وكان استخفافهم بوعيد فرعون وتهديده بقطع أيديهم وأرجلهم وتصليبهم في جذوع النخل ، إن هؤلاء ليسوا هم الذين ينكثون عهدهم ، ويرتدون عن دينهم ، بمجرد أن يتخلف نبيّهم في ميقات ربه أياما عشرة ، فوق الثلاثين المحددة.

وأما عقاب جريمة كفر بني إسرائيل ، فقد كان أشد وبالا ونكالا من

__________________

(١) باروخ سبينوزا : المرجع السابق ص ٤١٥.

(٢) سورة الشعراء : آية ٥١.

(٣) سورة طه : آية ٧١.

(٤) سورة طه : آية ٧٢ ـ ٧٣.

(٥) سورة الشعراء : آية ٥٠ ـ ٥١.

٣٦٠