دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٢

ومنها (ثامنا) وجود إناء مكسور عليه كتابة مصرية لأحد جباة الضرائب في «لخيش» وقد سجل فيها تسلمه لشحنة من القمح ، في السنة الرابعة من عهد فرعون معين ، تشير الدلائل جميعها على أنه «مرنبتاح» ، ومن ثم فالسنة الرابعة هنا إنما تعني عام ١٢٢٠ قبل الميلاد (١) ، مما يؤكد أن السيادة المصرية على فلسطين ظلت قائمة حتى السنة الرابعة من عهد مرنبتاح ، وأن الإسرائيليين لم يكونوا قد استولوا على المدينة حتى هذا الوقت أي عام ١٢٢٠ ق. م.

ومنها (تاسعا) أن سلسلة الأنساب الكهنوتية ، وكذا تقارير التوراة في سفر القضاة إنما تتفق مع هذا التاريخ المتأخر (٢) (أي الخروج في عهد مرنبتاح) ، ومنها (عاشرا) أن إسرائيل لم تظهر في حملات رعمسيس الثالث (١١٨٢ ـ ١١٥١ ق. م) ثاني ملوك الأسرة العشرين ، سواء قبل هزيمته لشعوب البحر في عام حكمه الثامن (٣) (١١٧٤ ق. م) أو بعده ، وإنما ظل الفرعون محتفظا بإمبراطوريته الواسعة في فلسطين وجنوب سورية ، وقد عثر له على تمثال في بيسان ، وآخر في مجدو ، فضلا عن بنائه معبدا لآمون في فلسطين وكان خط الحدود المصرية عند «زاهي» في مكان ما عند الشاطئ في فينيقيا الجنوبية ، ومن هنا فإن حملة الفرعون الثانية على آمور ، إنما كان الهدف منها هو الحفاظ على أملاك مصر في فلسطين بصفة خاصة ، وفي سورية بصفة عامة ، وبدهي أن هذا كله إنما يدل على عدم وجود إسرائيل ، ككيان مستقر في فلسطين حتى أيام رعمسيس الثالث (١١٨٢ ـ ١١٥١ ق. م).

__________________

(١) جون الدر : المرجع السابق ص ٧٠ وكذا ٧٤١٩٣٩ ، F ٢٣.p ، ١٩٣٧ ، ٦٨W.F.Albright ,BASO ,

.. ٤٦. P ، ١٩٥٣ ، ١٣٢ ، ٢٢ ـ ٢٠ p وكذاJ.Finegan ,op ـ cit ,P.

(٢) W.M.F.Petrie ,Egypt) ٣ (d Israel , ٣٨.p ، ١٩٢٥.

(٣) ٥٥ ـ ٤٠.p ، ١٩٤٣ ، ٤. H. Nelson, The Noval Battle Pictures at Medinet Habu, JNES,

٣٢١

ومنها (حادي عشر) أن حالة الاضطرابات التي كتب على الكنانة أن تعيشها في الفترة فيما بين وفاة مرنبتاح عام ١٢١٤ ق. م ، وبداية عهد رعمسيس الثالث في عام ١١٨٢ ق. م ، كانت أكثر الفترات ملاءمة لأن يعيش بنو إسرائيل في التيه ، وهم في مأمن من أن تهاجمهم القوات المصرية فتقضي عليهم أو تعيدهم إلى مصر ثانية ، ذلك أعقب موت مرنبتاح فترة من الاضطرابات حدثت فيها مؤامرات شتى حول العرش المصري ، فتعاقب عليه عدد من الملوك لم يحكموا سوى فترات قصيرة ، كما كانوا ملوكا ضعافا ، مما أدى في نهاية الأمر إلى اضطراب الأمور وتعقيدها ، وزادت الحال سوءا بالتدريج ، حتى آلت آخر الأمر إلى فوضى شاملة ، وصفتها «بردية هاريس» بأن أرض مصر قد اضطربت ، وأصبح كل رجل يضع شريعته الخاصة ، ولم يكن هناك قائد مدى بضع سنين سابقة ، حتى كانت مصر في أوقات أخرى تضم أمراء وحكام قرى ، ثم جاء وقت بعد سنين فارغة ... وسوري معهم أصبح أميرا ، وجعل البلاد كلها تدفع الضرائب» (١) ، ومن هذا النص استنتج المؤرخون أن «إرسو» السوري حكم البلاد في نهاية الأسرة التاسعة عشرة وربما كان «إرسو» هذا ، هو «باي» رئيس الديوان الذي أرغم الملكة «تاأوسرت» على أن تجلس «سبتاح» على العرش تحت وصايتها ، وإن انفردت بالعرش بعد وفاته ، ثم بقي الحال هكذا حتى نجح «ست نخت» في أن ينقذ البلاد من وهدتها ، وأن يجلس على العرش المصري قرابة عامين (١١٨٤ ـ ١١٨٢ ق. م) ليخلفه ولده رعمسيس الثالث (٢).

ومنها (ثاني عشر) أن اضطراب الأمور في سورية وفلسطين بسبب

__________________

(١) J.Wilson ,ANET , ١٦٠.p ، ١٩٦٦.

(٢) محمد بيومي مهران : مصر ٢ / ١٤١ ـ ١٤٣ ، ألكسندر شارف : تاريخ مصر ص ١٥٩ وكذا.V J.Cerny , وكذاA.Gardiner ,op ـ cit ,P. ٢٨١ ـ ٢٧٩. وكذاBeckerath ,JEA , ٧٤ ـ ٧١.p ، ١٩٦٣ ، ٤٩.

JEA, ٢٥٨ ـ ٢٤٣.p ، ٢٩.

٣٢٢

شعوب البحر ، التي أدت إلى القضاء على الدولة الحيثية (١) ، وبالتالي هروب الحيثيين ، مع شعوب أخرى ، إلى سورية وفلسطين ، الأمر الذي يبدو واضحا في التقاليد اليهودية التي تحدثنا عن تجمعات حيثية كبيرة استقرت في أرض كنعان ، واحتلت الإقليم الجبلي ، وقد وجدها رسل موسى عليه‌السلام ، الذين ذهبوا يستطلعون الأرض الموعودة التي تفيض لبنا وعسلا ، وتخوفوا منهم قائلين «لا نقدر أن نصعد إلى الشعب لأنهم أشد منا» (٢) ، ومنها (ثالث عشر) أن فترة دخول بني إسرائيل كنعان ، طبقا لهذه النظرية ، تتفق وغزوات شعوب البحر على سورية ، واشتباك رعمسيس الثالث معهم في حرب ضروس ، دارت رحاها على الأرض الأسيوية مرة ، وعلى الأرض الأفريقية مرتين ، بل إن انتهاء فترة التيه ، وبداية دخول بني إسرائيل أرض كنعان ، إنما تتفق وحملة رعمسيس الثالث على سورية في عام حكمه الثامن (حوالي عام ١١٧٤ ق. م) ، للاشتباك مع شعوب البحر عند «زاهي» ثم انشغاله بعد ذلك في حروبه ضد شعوب البحر على حدوده الغربية (٣) ، فإذا كان ذلك كذلك ، فقد مكنت هذه الظروف بني إسرائيل من دخول كنعان وأعطتهم الفرصة ليعبثوا في الأرض فسادا.

ومنها (رابع عشر) أن خلفاء رعمسيس الثالث ما كانوا بقادرين على الحفاظ على الإمبراطورية المصرية في آسيا ، ربما لأنهم كانوا أضعف من ذلك ، وربما لأن الظروف الداخلية والخارجية لم تساعدهم على ذلك ،

__________________

(١) O.R.Gurney ,The Hittites , ٣٩ ـ ٣٨.p ، ١٩٦٩.

(٢) عدد ١٣ / ١ ـ ٣٣.

(٣) محمد بيومي مهران : مصر والعالم الخارجي في عصر رعمسيس الثالث ص ٢٠٠ ـ ٢٤١ ، حركات التحرير في مصر القديمة ص ٢٥١ ـ ٢٦٨ ، مصر ٢ / ١٨٥ ـ ١٩٧ ، وكذا

W. Holscher, W. Edgerton and J. Wilson, Historical Records

وكذاLilyan and Aegypten ,Hamburg , ١٩٣٧of Ramsses ,III ,Chicago , ١٩٣٦.

٣٢٣

وربما لتغير ميزان الاقتصاد العالمي ، بظهور معدن الحديد ، قد اضطر مصر إلى التخلي عن سلطانها في آسيا الغربية ، وربما كانت هذه الأسباب مجتمعة هي السبب ، وأيا ما كان الأمر ، فليس هناك من دليل واضح على أن مصر ، بعد وفاة رعمسيس الثالث ، قد احتفظت بإمبراطوريتها في فلسطين وسورية ، وإن ظل لها نفوذ في كثير من المناطق ، بدليل العثور على جعارين لرعمسيس الرابع في تل الصافي وتل زكريا وتل جازر ، ولرعمسيس السادس في تل أسانة في سورية ، وتمثال من البرونز لنفس الفرعون في مجدو ، على أن مثل هذه الأشياء الصغيرة لا تدل على معان قوية لها من القيمة ما لها من ناحية سلطان مصر في غربي آسيا ، ومن هنا كانت فرصة بني إسرائيل في الاستيلاء على جزء من فلسطين ، كما تمكن البلست (الفلسطينيين) من احتلال بعض مدن كنعان الساحلية ، وكذا الكثير الذين احتلوا مدينة «دور» جنوبي الكرمل (١).

ومنها (خامس عشر) ما جاء في القرآن الكريم من أن فرعون قد طلب من هامان أن يوقد له على الطين فيبني له صرحا ، قال تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٢) ، وقد ناقشنا من قبل قصة الآجر المحروق ، وكيف أن المفسرين ، ومنهم الإمام الطبري والقرطبي والنسفي والبيضاوي والسيوطي وغيرهم ، رووا عن علماء السلف ، كابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير وابن جريح وعبد بن حميد وغيرهم ، أنهم قالوا : إن فرعون موسى كان أول من اتخذ الآجر ليبني به

__________________

(١) J. Cerney, Egypt of the Death of Ramsses, III, to The End of The Twenty ـ First Dynasty, ١٣ ـ ١١.p ، ١٩٦٥.

(٢) سورة القصص : آية ٣٨ ، وانظر : غافر : آية ٣٦.

٣٢٤

الصرح (١) ، مما يشير إلى أنهم كانوا يستندون إلى طائفة من الخبر الصحيح ، هذا وقد أعثرتنا حفائر «بتري» في «نبيشة» و «دفنة» غير بعيد من مدينة «بي رعمسيس» عاصمة ملوك الأسرة التاسعة عشرة ، على غير مألوف الفراعين بالبناء بالآجر المحروق ، حيث بنيت به قبور ، وأقيمت به بعض من أسس المنشآت التي ترجع إلى عصر الفراعين : رعمسيس الثاني ومرنبتاح وسيتي الثاني ، وقد قال «بتري» إن حرق اللبن ظل نادرا في مصر إلى عصر الرومان ، وهو قول لا يكاد يخالف المفسرين من بدء اتخاذ الآجر المحروق على عهد فرعون موسى ، وهو كذلك من قرائن القرآن الكريم التي نتخذها مطمئنين في تحديد عصر خروج بني إسرائيل من مصر على أيام الأسرة التاسعة عشرة التي بدأت ، كما ألمح القرآن الكريم وأثبتت الحفائر ، تصطنع في بنائها الآجر المحروق (٢) ، والذي نرجح من جانبنا أنه عصر مرنبتاح.

ومنها (سادس عشر) ذلك الحديث النبوي الشريف (٣) ، حيث يروي أنس بن مالك عن سيدنا ومولانا وجدنا محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «خير نساء العالمين أربع ، مريم ابنة عمران ، وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد رسول الله» ، وإذا تذكرنا أن «است نفرت»

__________________

(١) تفسير النسفي ٣ / ٢٣٧ ، تفسير القرطبي ص ٥٠٠٤ تفسير البيضاوي ٤ / ١٢٨ ، تفسير الدر المنثور للسيوطي ٥ / ١٢٩ ، تاريخ الطبري ١ / ٤٠٥.

(٢) أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ١٣٨ ، وكذاW.M.F.Petrie ,Nebesheh and Defenneh ,P. ٤٧ ، ١٩ ـ ١٨.

(٣) أنظر عن الحديث الشريف ورواياته المختلفة : تفسير ابن كثير ٢ / ٣٢ ـ ٣٤ ، البداية والنهاية ١ / ٥٩ ـ ٦٢ ، تفسير الطبري ٦ / ٣٩٣ ـ ٣٩٨ ، صحيح البخاري ٤ / ١٩٣ ، ٣٣٩ ، صحيح مسلم ٢ / ٢٤٣ ، سنن الترمذي ٤ / ٣٦٥ ـ ٣٣٦ ، مسند الإمام أحمد ٣ / ١٣٦ ، تحفة الأحوذي ١٠ / ٣٨٩ ، المستدرك الحاكم ٣ / ١٨٤.

٣٢٥

(أيسة نفرة) كانت الزوجة الثانية لرعمسيس الثاني بعد «نفر تاري» ، بل إن الأثرية «مس مري» (١) إنما ترى أنها الزوجة الرئيسية ، كما أن بعض الباحثين إنما يعتبرها «أم الأمراء» الذين لهم حق وراثة العرش (٢) ، وهناك في متحف بروكسل جزء من تمثال صغيرة لهذه الملكة ، ما زالت عليه بعض نعوت لها تكاد تكون فريدة في بابها ، فعلى الجهة اليمنى نقرأ «وعند ما تدخل في المقر المزدوج ، فإن قاعة الاستقبال في القصر تضوع بشذي عبيرها ، وإنها لحلوة الرائحة ، بجانب والدها الذي يبتهج لرؤيتها ، الزوجة الملكية ...» ، وعلى الجهة اليسرى نقرأ «التي تملأ قاعة الجلسة بعبيرها ، وهي المنقطعة النظير بعطورها ، إذ تعادل بلاد بونت (٣) (حيث كان القوم يحصلون على أخشاب البخور والمر وغيرها من الأشجار ذات الرائحة الزكية) بشذي أعضائها ، الزوجة الملكية» ، وفي الواقع أن هذه النعوت النسوية الدالة على طيب العبير ، وما يضوع منها من شذي العطور ، لم توصف بها ملكة من قبل (٤).

ولعل هذا إنما يدل على شدة حب الفرعون لها ، ودالتها عليه ، وإذا ما وضعنا هذا في اعتبارنا ، وتذكرنا قصة موسى عليه‌السلام ، كما جاءت في التوراة والقرآن العظيم ، وكيف ألقته أمه في اليم فالتقطه آل فرعون لينشأ في قصر فرعون نفسه ، وذلك عند ما (قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) (٥) ، إذا تذكرنا ذلك كله ، وقارنا بين اسم امرأة فرعون ، كما ورد في الحديث النبوي الشريف ، وفي الآثار

__________________

(١) ١٩٢٥. Miss Murry ,Ancient Egypt , ١٠٤ ـ ١٠٠.p ،

(٢) أنظر : محمد بيومي مهران : مصر ٢ / ١٣٩ ـ ١٤٠.

(٣) أنظر عن : بلاد بونت والآراء التي دارت حولها (محمد بيومي مهران : العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة ـ الرياض ١٩٧٦ ـ ص ٣٠٧ ـ ٣١٠).

(٤) سليم حسن : مصر القديمة ٦ / ٦٣٤ ـ ٦٣٧ ، وكذاChronique d\'Egypt , ٧٩ ـ ٧٤.p ، ١٩٣٤ ، ٣٣.

(٥) سورة القصص : آية ٩.

٣٢٦

المصرية ، لما وجدنا صعوبة كبيرة في تقريب «إيسة» (أو إيسي أو حتى است) إلى آسية (أو آسيا) ، مع مراعاة اختلاف قراءة أسماء الأعلام في اللغتين العربية والمصرية القديمة ، وهكذا نستطيع القول إن الفرعون الذي التقطت امرأته موسى عليه‌السلام ، هو رعمسيس الثاني ، وهو فرعون التسخير ، وأن الفرعون الذي جابهه موسى هو «مرنبتاح» ، ولعل مرنبتاح نفسه هو الذي ذكر موسى بتربيتهم له ، وتنشئتهم إياه على فراشهم ، ثم قتله واحدا من رعاياهم وهروبه إلى مدين ، ثم إذا به يعود آخر الأمر فيدعوهم إلى إطلاق سراح بني إسرائيل ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم ، في قوله تعالى : (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً ، وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ، وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ ، قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ، فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ، وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (١).

وهكذا يبدو لي ، بعد كل الحجج التي قدمناها ، أن الرأي الذي يجعل خروج بني إسرائيل في عهد مرنبتاح ، وبالتالي فهو فرعون موسى ، إنما هو أقرب الآراء إلى الصواب ، وهو الرأي الذي نميل إليه ونرجحه ، على أن يكون الخروج في العام الأخير من حكم مرنبتاح ، وليس في العام الخامس كما هو المفترض ، سواء أكان هذا العام الأخير ، هو العام العاشر (عام ١٢١٤ ق. م) كما ترى جمهرة المؤرخين ، أم كان ذلك العام هو العام الثامن (عام ١٢١٦ ق. م) فيما يرى البعض ، وأما سبب تحديدنا للعام الأخير من حكم مرنبتاح للخروج ، فهو أن التوراة (٢) والقرآن العظيم (٣) يرويان أن الفرعون

__________________

(١) سورة الشعراء : آية ١٨ ـ ٢٢.

(٢) خروج ١٤ / ٢٦ ـ ٣١ ، ١٥ / ١ ـ ٥ ، الرسالة إلى العبرانيين ٥ / ٢٩.

(٣) أنظر : سورة البقرة : آية ٥٠ ، الأعراف : آية ١٣٦ ، يونس : آية ٩٠ ـ ٩٢ ، طه : آية ٧٨ ، الشعراء : آية ٦٣ ـ ٦٦ وغيرها.

٣٢٧

قد غرق في البحر عند محاولته اللحاق بموسى وبني إسرائيل ، وإن أضاف القرآن الكريم أن جثة الفرعون قد انتشلت لتكون آية لمن خلفه ، قال تعالى : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) (١) ، ولم تكن الآية لمن خلفه جيلا أو جيلين ، بل بقيت آية للعشرات الكثيرة من الأجيال ، والمئات الكثيرة من السنين ، وهي إنما صارت كذلك بما مكّن رب العرش لأهل هذا المصر من سلطان العلم وأسرار التحنيط (٢).

وهكذا نستطيع ، عن طريق تحديدنا للخروج بالعام الأخير من حكم مرنبتاح ، أن نوفق إلى حد كبير ، بين أحداث التاريخ القديم ، وبين ما جاء عن هذه الأحداث في التوراة والقرآن العظيم ، فضلا عن إيجاد تفسير مقبول لتسجيل انتصار مرنبتاح على لوحة ليست له ، وإنما لسلفه البعيد «أمنحتب الثالث» ، وذلك بسبب موته المفاجئ ، وأما أن اللوحة قد حددت حادث الخروج بالعام الخامس من حكم مرنبتاح ، فذلك يتناقض تماما مع ما جاء في التوراة والقرآن العظيم عنه ، إذ أن ذلك يعني أن الفرعون قد بقي على قيد الحياة بعد خروج بني إسرائيل من مصر (٣) ، هذا فضلا عن أن حملته على سورية ، والتي ذكرت في اللوح ، إنما كانت في العام الثالث ، وأما تحديد العام الخامس بالذات تاريخا للنص ، فربما كان يهدف من كتبه (بعد غرق الفرعون) تخليد ذكرى انتصاره على الليبيين وحلفائهم من القهق

__________________

(١) سورة يونس : آية ٩٢.

(٢) أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ١٢٣.

(٣) ذهب الدكتور سليم حسن إلى أن الفرعون لم يمت ، إذ أنه لا يتصور أن يغرق وعربته ومن معه في ضحضاح لا يزيد عمقه عن قدمين أو ثلاث ، ويرى أن خيل الفرعون وعرباته قد ساخت في الأوحال فسقط مغشيا عليه ، وأن ما جاء في القرآن عن الحادث لا يشعر بأن الفرعون قد غرق ومات (مصر القديمة ٧ / ١٣٥) ، وهذا الإتجاه ، فوق مخالفته لكل آراء المفسرين ، فهو تعسف في تفسير النصوص المقدسة ، وخطأ في الاستنتاج.

٣٢٨

والمشوش ، إلى جانب خمسة من شعوب البحر ، وإنقاذ أرض الكنانة من أن تقع في أيديهم.

(٦) آراء أخرى : ـ

لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الآراء الخمسة ، الآنفة الذكر ، ليست هي كل ما ذهبت إليه أفكار الباحثين بالنسبة إلى تاريخ خروج بني إسرائيل من مصر ، وبالتالي فرعون موسى ، وإنما هناك آراء أخرى لعل أهمها ثلاثة :

أولهما : ما ذهب إليه الزميل الدكتور أحمد عبد الحميد يوسف من أن فرعون الخروج إنما هو «سيتي الثاني» (سيتي مرنبتاح) ، وليس مرنبتاح نفسه ، اعتمادا على تقرير موظف الحدود ، الآنف الذكر ، والذي رأى فيه دليلا على سواد الهدوء والنظام على التخوم الشرقية ، وعلى ما كان لسلطات الأمن في عهد مرنبتاح من سيطرة على حركات الناس والبدو في تلك البقاع ، وعلى أن مومياء مرنبتاح تدل على أنه كان قد طعن في السن وتقدمت به الأيام ، مما يقعد به عن الخروج في حملات الحرب والقتال ، ومن ثم فإن فرعون الخروج ، على ما يرجح ، إنما كان شابا أو رجلا مكتمل الصحة موفور النشاط ، وهو ما يتبين من جثة سيتي الثاني بمتحف القاهرة ، حيث الموت المفاجئ بغرق أدنى إلى العقل والاقتناع (١).

وأما الرأي الثاني ، فيذهب أصحابه إلى أن الخروج تم بعد نهاية الأسرة التاسعة عشرة (٢) ، وأما ثالث الآراء ، فيذهب إلى أن الخروج إنما كان بعد عهد رعمسيس الثالث (٣) ، بل إن صاحب هذا يرى أن هناك

__________________

(١) أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ١٣٩ ـ ١٤٧ ، وكذاElliot Smith ,Royal Mummies ,Cairo , ٦٩.p ، ١٩١٢.

(٢)W. O. E. Oesterley, Egypt and Israel, in the Legacy of Egypt, Oxford,

٢٢٣.p ، ١٩٤٧.

(٣) ٤٠٨.p ، ١٩٦٣ H. R. Hall, The Ancient History of the Near East, London,

٣٢٩

خروجين ، الواحد : عند نهاية حكم تحوتمس الثالث ، والآخر بعد أيام رعمسيس الثالث ، وإن كان من البدهي أن ذلك أمرا غير مقبول ، على أننا في نفس الوقت ، لا نستطيع القول أن هناك ما يمنع طوائف من بني إسرائيل من الخروج من مصر عن طريق الهجرة أو التسلل في أوقات الضعف والاضطرابات التي رأت مصر بعضا منها في تلك القرون الأربعة التي عاشها بنو إسرائيل في مصر ، فيما بين عهدي يوسف وموسى عليهما‌السلام ، خاصة وأن بني إسرائيل إنما كانوا يكوّنون في مصر مجموعة من الرحل يقومون برعي أغنامهم في وادي طميلات بشرق الدلتا أو يستقرون على أطراف الإقليم الزراعي هناك في أغلب الأحايين.

(٧) صمت الآثار المصرية عن قصة بني إسرائيل : ـ

من الغريب أن الآثار المصرية تصمت تماما عن موضوع بني إسرائيل في مصر ، اللهم إلا تلك الجملة القصيرة التي جاءت في لوح إسرائيل من عهد مرنبتاح «وخربت إسرائيل وزالت بذرتها» ، ومن ثم فقد نظر بعض العلماء إلى القصة كلها بعين الحذر ، ويذهب «جاردنر» إلى أن قصة خروج بني إسرائيل من مصر يجب أن تبقى تفاصيلها ـ حتى تظهر في الأفق براهين جديدة تختلف في شكلها عن التي في متناول أيدينا الآن ـ وكأنها أسطورة ، مثلها في ذلك مثل قصة الخلق المذكورة في سفر التكوين من التوراة (١) ، وعلينا أن نسعى في تفسير هذه القصص على فرض أنها أساطير ، وإن رأى بعد ذلك أنه بعيد عن القول أن كل قصة الخروج خرافية ، إذا أنها تعكس في مجموعها حادثة تاريخية معينة هي طرد الهكسوس من مصر (٢).

__________________

(١) أنظر : تكوين ١ / ١ ـ ٣١ ، ٢ / ١ ـ ٢٥ ، محمد بيومي مهران : إسرائيل ـ الجزء الثالث ـ الإسكندرية ١٩٧٩ ص ٣٣٦ ـ ٣٤٠.

(٢) ٨٨.p ، ١٩٢٤ ، ١٠. A.H.Gardiner ,The Geography of Exodus ,in JEA ,

٣٣٠

ويعلل «سمث» سكوت المصادر المصرية عن قصة الخروج بأن ذلك لا يدعو إلى الدهشة ، لأن الآثار الفرعونية لم تحفل بحادث خروج بني إسرائيل ولم تسجل خطواته ، ذلك لأن فرار مجموعة من العبيد من سادتهم لا يمثل حدثا يثير الاهتمام الفكري لدى المصريين ، خاصة وأن بني إسرائيل قد عاصروا بمصر عهودا حافلة بجلائل الأعمال استنفذت ، فيما يبدو ، نشاط المثالين ومدوني التاريخ (١).

والرأي عندي أن العلامة «جاردنر» قد أخطأ كثيرا في تصوره عن قصة خروج بني إسرائيل من مصر ، ذلك ، لأن القصة وإن لم تذكر في المصادر المصرية القديمة لأسباب سنذكرها حالا ، فقد ذكرت بالتفصيل في التوراة والإنجيل والقرآن العظيم ، كما رأينا من قبل ، وبدهي أنه ليس من العلم ، فضلا عن الإيمان بكتب السماء ، وأن نشك في أمر أجمعت عليه هذه الكتب ، كما أنه ليس ببعيد أن تكشف أعمال التنقيب ، فيما تكشف ، عن بعض الآثار التي تروي هذه القصة أو حتى تعين على مزيد من الإيضاح.

وأما تعليل «سمث» للحدث الخطير فبعيد عن الصواب كذلك ، لأن الآثار الفرعونية لم تحفل بحادث خروج بني إسرائيل ، من مصر لأسباب أخرى ، غير ما ذكر «سمث» ، منها (أولا) أن احتمال العثور على أسماء الأنبياء والرسل في النصوص الإنسانية ضعيف ، ذلك لأن حقيقة الصراع بين دعوات الأنبياء ، وسلطات الملوك المؤلهين أو شبه المؤلهين يدعو إلى عدم سماح الملوك بتسجيل مبادئ هذه الدعوات والصراع بينها وبينهم ، وتلك ظاهرة يلمسها المؤرخ بوضوح في تاريخ الشرق الأدنى القديم ، كما في قصة إبراهيم عليه‌السلام مع ملك العراق ، وقصة موسى عليه‌السلام مع فرعون مصر ، على سبيل المثال ، ومنها (ثانيا) أن المصادر المصرية

__________________

(١) ٣٨ J.W.D.Smith ,God and Man in Early Israel ,P ..

٣٣١

القديمة ، والتي تمتاز عن غيرها من مصادر الشرق الأدنى القديم ، بوضوحها وكثرة آثارها ، كان من المنتظر أن تمدنا هذه المصادر بمعلومات عن قصة بني إسرائيل في مصر ، منذ عهد يوسف وحتى عهد موسى ، عليهما‌السلام ، غير أن هذه المصادر ، كما هو معروف ، إنما كتبت بأمر من الملوك ، أو بوحي منهم ، أو على الأقل برضى منهم ، فإذا ما تذكرنا أن الملك كان في العقيدة المصرية القديمة ، كما أثبتت النصوص وألمع القرآن الكريم (١) ، يزعم أنه إله أكثر منه بشرا ، ومن ثم فقد كان من الطبيعي ألا يستسيغ المصريون أن يهزم الملك في حرب خاض غمارها ، ولهذا فإن النصر كان أن يكون حليفه ، وقد تكون الحقيقة غير ذلك (٢).

ومن المعروف أن قصة خروج بني إسرائيل من مصر ، بقيادة موسى عليه‌السلام ، كما جاءت في التوراة والإنجيل والقرآن العظيم ، إنما انتهت بغرق الفرعون وجنوده في البحر ، ونجاة موسى ومن آمن معه بالله الواحد القهار ، ومن ثم فليس من المقبول ، طبقا للعقيدة المصرية القديمة ، أن تسجل نصوص الفراعين ، غرق الإله الفرعون ، ونجاة عبيده العبرانيين ، ومن هنا كان من الصعب العثور على آثار تتحدث عن موسى وقومه ، رغم ضخامة التركة الأثرية التي خلفتها لنا مصر الفرعونية ، وإن كان هذا لا يقطع الأمل في العثور على تلك الآثار ، التي ربما سجلت بطريقة أو بأخرى عن طريق المعارضين لفرعون ، المؤمنين برب موسى وهارون ، والله وحده يعلم الغيب من الأمر.

__________________

(١) أنظر : سورة الشعراء : آية ٢٩ ، سورة القصص : آية ٣٨ ، سورة النازعات : آية ٢٢ ـ ٢٤.

(٢) محمد بيومي مهران : الثورة الاجتماعية الأولى في مصر الفرعونية ص ٣.

٣٣٢

الباب الثالث

موسى وبني إسرائيل

منذ انفلاق البحر وحتى موت موسى عليه‌السلام

٣٣٣
٣٣٤

الفصل الأول

بنو إسرائيل في سيناء

(١) محاولة الردة الأولى وعبادة الأصنام : ـ

انتهت قصة بني إسرائيل مع مصر ، وفرعون مصر ، بعد انغلاق البحر وغرق فرعون وجنده ، ونجاة موسى وقومه ، فضلا عن الذين آمنوا معه من غيرهم ، بالله الواحد القهار ، وهنا تبدأ حلقة جديدة من حياة موسى مع بني إسرائيل ، بما فيها من كفر وغدر ، ولو كان موسى مجرد زعيم مخلص عرض حياته للخطر أكثر من مرة لإنقاذهم ، لكان له عليهم حق السمع والطاعة والإخلاص ، وإن كان موسى مجرد زعيم مخلص عرض حياته للخطر أكثر من مرة لإنقاذهم ، لكان له عليهم حق السمع والطاعة والإخلاص ، وامتثال أمره ، واتباع هداه ، ولكنه فوق ذلك رسول ونبي من الله تعالى ، مؤيد بالمعجزات الباهرة ، ومع ذلك فإن كليم الله عليه‌السلام لم يجد منهم إلا العناء والتمرد ، فضلا عن الكفر والفسوق والعصيان.

وفي الواقع ، فإن التراث الديني اليهودي ليزخر بأدلة لا تقبل الشك على أن اليهود الذين رافقوا موسى عليه‌السلام ، إلى سيناء لم يكونوا أكفاء لحمل عبء التوحيد وفلسفته التجريدية الروحية الرفيعة ، ولم يجدوا فيما تقدمه الديانة الجديدة ما يشبع حاجتهم إلى الاعتبارات المادية ، بل إنه لا يفهم من حادث واحد من حوادث الرحلة أن القوم كانوا يؤثرون الفرار حرصا

٣٣٥

على عقيدة دينية ، فإنهم أسفوا على ما تعودوه من المراسيم الدينية في مصر ، وودوا لو أنهم يعودون إليها ويعيدونها منسوخة ممسوخة في الصحراوات (١).

كانت سيناء منذ أقدم العصور من أوفر مصادر مصر بالفيروز والنحاس ، كانت مستودعا غنيا بالنحاس ومن كريم الحجر وبالفيروزج بنوع خاص ، ومن ثم فقد كانت ميدانا لنشاط اقتصادي خصيب ، حرص ملوك مصر منذ طلائع الأسرة الأولى على رعايته وحمايته ، وهكذا كان من الواجبات الملقاة على عاتق الملوك منذ قيام الملكية المصرية ، حوالي عام ٣٢٠٠ قبل الميلاد ، أن يكفلوا حماية القوافل وبعثات المناجم والمحاجر التي تجوس خلال الصحراوات في سيناء ، كما تشير إلى ذلك الأدلة التاريخية من عهد الملك «جر» و «دن» (وديمو) من الأسرة الأولى (٢) ، مما يدل على أن مصر إنما كانت جد حريصة على حماية سيناء منذ عصورها المبكرة ، الأمر لم تتخل عنه مصر أبدا.

وعلى أي حال ، فلقد كانت مناجم الفيروزج تكثر في وادي مغارة وسرابة الخادم ، حيث أقيم معبد للإلهة «حاتحور» ربه الفيروزج منذ أيام الدولة الوسطى التي عملت على استغلال تلك المنطقة باهتمام كبير ، وما زالت تلك البقاع من سيناء تحفظ على صخورها آلافا من نقوش المصريين ، ممن كانوا في تلك البقاع عاملين ، وفي الوقت نفسه للإلهة «حاتور» متعبدين (٣) ، وقد حدث في سيناء منذ أقدم العصور التاريخ الفرعوني اتصال بين الإلهة المصرية «حاتور» (والتي كانت الصفة القمرية من بين صفاتها العديدة في مصر) وبين الإلهة السامية القمرية التي كانت تعبد في الكهف

__________________

(١) عباس العقاد : مطلع النور ـ أو طوالع البعثة المحمدية ـ القاهرة ١٩٦٨ ص ١٠٧.

(٢) ZAS ,XXXV ,P.F ٧. وكذاA.H.Gardiner ,Egypt of the Pharaohs ,Oxford , ٤١٥ ـ ٤١٤.p ، ١٩٦٤

(٣) أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ١٢٥ ، ١٧٥.

٣٣٦

المقدس في معبد سرابيط الخادم في سيناء قبل مجيء المصريين ، والتي حلت حلت «خاتور» المصرية محلها (١).

هذا وقد عبد المصريون الإلهة «حاتور» (حوت حور ـ مكان أو بيت حور) ، وقد حازت شهرة واسعة منذ عصور ما قبل الأسرات وفي عصر الأسرتين الأولى والثانية ، كإلهة للسماء ، كما كانت وقت ذاك تمثل الصورة النسائية لـ «حور» وقد صورت في الفن الديني المصري بأشكال تكاد لا تحصر ، ولكنها غالبا كانت تصور كبقرة ، أو بشكل امرأة يزين رأسها قرص الشمس بين قرني البقرة ، وفي كثير من الأحيان كانت تمثل كامرأة لها رأس بقرة تحمل قرص الشمس والقرنين ، وقد اختلطت الفكرتان الخاصتان برأس المرأة ورأس البقرة تدريجيا ، حتى انتهى الأمر إلى أن تمثل برأس امرأة وأذني بقرة ، وهو مظهر كانت تصور به حاتور باستمرار ، فنراه مثلا كحلية ليد المرأة البدوية أو كعنصر معماري لتاج عمود ، وبهذا الشكل الأخير نرى الإلهة ممثلة في صالة معبد دندرة (٥ كيلا شمالي قناعير عبر النهر) ، كما كانت حاتور في عقيدة القوم مرضعة «حور بن إيزة» ثم ربه الحب والحنان والموسيقى ، ثم صارت ربه للجبانة ترعى الموت وتر أمهم ، وكانت صاحبة ألقاب ونعوت كثيرة ، منها «الذهبية» و «ربة الذهب» و «صاحبة القلادة البراقة كالسماء بنجومها» ، كما كانت لها تماثيل مموهة بالذهب حفظت بمتحف القاهرة (٢).

هذا وقد انفرد القرآن الكريم ، من دون التوراة ، بأن بني إسرائيل لم

__________________

(١) ٤١.p ، ١٩٥٥. A. Gardiner, A. T. Peet and J. Cerny, The Inscriptions of Sina, II, London,

(٢) محمد بيومي مهران ـ الحضارة المصرية ص ٣٣٧ ـ ٣٤١ ، جيمس بيكي : الآثار المصرية في وادي النيل ٢ / ١٩٠ ، أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ١٣٧ ، وكذاH.Frankfort ,Kingship and the Gods ,P. ١٢ ـ ١٠.

٣٣٧

يكادوا يمضون مع موسى عليه‌السلام ، بعد خروجهم من البحر ، ونجاتهم من آل فرعون ، حتى رأوا قوما يعبدون أصناما لهم ، فنسوا كل ما كانوا يذكرونه من آيات الله لموسى ونجاتهم معه وقالوا ما حكاه القرآن في قوله تعالى : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ، إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١) ، و «الفاء» في قوله تعالى : (فَأَتَوْا) تفيد ، كما هو معروف ، الترتيب والتعقيب ، ومعنى ذلك أنه لم يمضي وقت بعد خروجهم من البحر ونجاتهم من الهلاك ، حتى عادوا إلى الوثنية التي ألفوها ، وألفوا الذل معها ، وهذا يدل على أن الإيمان لم يخالط بشاشة قلوبهم ، ولم يتمكن من ضمائرهم ومشاعرهم ، ولم يثمر فيهم الثمرة الطيبة لكل شجرة طيبة ، وإنما كان إيمانهم بموسى إيمانا بإمامته وزعامته ، لا إيمانا بالله الذي خلقه وسواه (٢).

وليس هناك من ريب في أن بني إسرائيل باتخاذهم العجل من بعد موسى ، كما سنرى ، وبمطالبتهم موسى أن يتخذ لهم إلها ، كما لهؤلاء القوم المتعبدين لحاتور آلهة ، إنما كانوا في الحالتين ، لما اعتادوا في مصر من الآلهة الوثنية مرتدين ، وأنهم ربما اتخذوا العجل من حليهم من الذهب فتنة بـ «حاتور الذهبية» ، وما كان لها من منزلة في النفوس وقت ذاك ، هذا فضلا تأثروا به من حب المصريين للذهب وصنع تماثيلهم الثمين منه ، وما ندري لعل لله تعالى حكمة فيما كان من أمره بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة ، وأنها «بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين» ، ولقد كان البقر في مصر من أنواع

__________________

(١) سورة الأعراف : آية ١٣٨ ـ ١٣٩ ، وانظر : تفسير الطبري ١٣ / ٨٠ ـ ٨٤ ، الجواهر في تفسير القرآن الكريم ٤ / ٢١٥ ـ ٢١٦ ، تفسير القرطبي ص ٢٧٠٩ ـ ٢٧١٠ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٤٦٤ ـ ٤٦٥ ، تفسير المنار ٩ / ٩١ ـ ٩٩ ، تفسير النسفي ٢ / ٧٣ ـ ٧٤.

(٢) عبد الرحيم فودة : من معاني القرآن ص ١٩٣ ـ ١٩٤.

٣٣٨

وألوان حيث كان فيه الأسود ، ونوع آخر لا نراه اليوم يجمع بين البياض والسواد ، ويشبه ما هو معروف في أوربا اليوم ، ولعل فيما أبدى بنو إسرائيل من تلكؤ ومراوغة في ذبح البقرة ، وما كان من تنطعهم في التساؤل عنها وعن لونها من أثر ما كان قد وقر في نفوسهم من تقديس «حاتور» (١) ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ، قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً ، قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ، قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ ، قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ، قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ ، قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) (٢).

وهكذا يبدو واضحا مدى تأثير الديانة المصرية القديمة في بني إسرائيل ، تلك الديانة التي تمكنت من نفوسهم إبان إقامتهم الطويلة في مصر ، والتي جاوزت قرونا أربعة ، لدرجة أنهم ما كانوا بمستطيعين الإيمان بدعوة موسى ، إما خوفا من فرعون ، وإما خوفا من شيوخ بني إسرائيل ، كما أشرنا من قبل ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) (٣) ،

__________________

(١) أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ١٢٧ ـ ١٢٨.

(٢) سورة البقرة : آية ٦٧ ـ ٧١ ، وانظر عن القصة : تفسير الطبري ٢ / ١٨٢ ـ ٢٢٢ ، تفسير المنار ١ / ٢٨٦ ـ ٢٩٠ ، تفسير ابن كثير ١ / ١٥٤ ـ ١٦٠ ، البداية والنهاية ١ / ٢٩٣ ـ ٢٩٥ ، تفسير النسفي ١ / ٥٣ ـ ٥٥ ، تفسير القرطبي ص ٣٧٨ ـ ٣٨٧.

(٣) سورة يونس : آية ٨٣ ، وانظر ، تفسير المنار ١١ / ٣٨٣ ـ ٣٨٤ ، معاني القرآن للفراء ١ / ٤٧٦ ـ ٤٧٧ ، تفسير الطبري ١٥ / ١٦٣ ـ ١٦٧ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٢٢٢ ـ ٢٢٣ ، تفسير القرطبي ص ٣٢٠٨ ـ ٣٢٠٩.

٣٣٩

باعتبار أن الضمير في «ملئهم» راجع إلى قوم موسى ، بل إن القوم برموا بموسى وضجروا به ، و (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) (١).

هذا ويذهب المفسرون والمؤرخون المسلمون إلى أن الأصنام التي وجدها بنو إسرائيل بعد انغلاق البحر ، إنما هي تماثيل بقر ، وذلك ، فيما يرى البيضاوي ، أول عبادة العجل ، ويقول الطبري في تفسيره أن القوم كانوا يعبدون أصناما على صور البقر ، فلما كان عجل السامري شبه إليهم أنه من تلك البقر ، ومن ثم فقد أثار ذلك شبهة لهم في عبادة العجل بعد ذلك ، وأما صاحب البحر المحيط ، فقد أورد روايتين ، الواحدة تذهب إلى أن البقر كان بقرا حقيقيا ، وتذهب الثانية إلى أنه كان تماثيل بقر من حجارة وعيدان ونحوه ، وكان ذلك أول فتنة العجل ، على أن الإمام السيوطي إنما يذهب إلى أنها تماثيل بقر من نحاس ، فلما كان عجل السامري شبه لهم أنه من تلك البقر ، فذلك أول شأن العجل لتكون لله عليهم حجة فينتقم منهم بعد ذلك ، ويقول ابن عطية : الظاهر أنهم استحسنوا ما رأوا ، فأرادوا أن يكون ذلك في شرع موسى ، وفي جملة ما يتقرب به إلى الله تعالى ، وإلا فبعيد أن يقولوا لموسى : «اجعل لنا إلها نفرده بالعبادة (٢) ، فإذا كان ذلك كذلك ، فإن القوم ما عرفوا بعد دعوة التوحيد التي جاء بها موسى عليه‌السلام ، ومن ثم فما آمنوا بعد برب موسى ، أو على الأقل أكثرهم ، حتى بعد انغلاق البحر ، وما سبقه من معجزات ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى : (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (٣) ، وتقول التوراة «فخلص الرب في ذلك اليوم إسرائيل من يد

__________________

(١) سورة الأعراف : آية ١٢٩.

(٢) تفسير البيضاوي ٣ / ٢٥ ، تفسير الطبري ٣ / ٨٠ ـ ٨٤ ، تفسير المحيط ٤ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨ ، تفسير الدر المنثور للسيوطي ٣ / ١١٤ ، مختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٤٧ ، صفوة التفاسير للصابوني ١ / ٤٦٨ ، تفسير النسفي ٢ / ٧٤.

(٣) سورة الشعراء : آية ٦٥ ـ ٦٧.

٣٤٠