دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٢

جعلت أدس في فيه الطين حين قال ما قال» (١).

على أن الإمام فخر الدين الرازي اعترض في تفسيره على ذلك ، فقال : هل يصح أن جبريل أخذ يملأ فمه بالطين ، لئلا يتوب غضبا عليه ، والجواب الأقرب أنه لا يصح ، لأنه في تلك الحال إما أن التكليف كان ثابتا أم لا ، فإن كان ثابتا لا يجوز لجبريل أن يمنعه من التوبة ، بل يجب عليه أن يعينه على التوبة وعلى كل طاعة ، وأما إن كان التكليف زائلا عن فرعون في ذلك الوقت ، فحينئذ لا يبقى لهذا الذي نسب إلى جبريل فائدة ، وأيضا لو منعه من التوبة لكان قد رضى ببقائه على الكفر ، والرضا بالكفر كفر ، وأيضا كيف يليق بجلال الله بأن يمنعه من الإيمان ، وإذا قيل إن جبريل فعل ذلك من عند نفسه لا بأمر الله ، فهذا يبطله قول جبريل : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ).

وعلى أي حال ، فإن موسى عليه‌السلام حين أخبر بني إسرائيل بغرق فرعون وقومه ، قالوا : ما مات وذلك لعظمته عندهم ، وما حصل في قلوبهم من الرعب لأجله ، فأمر الله البحر فألقى فرعون على الساحل أحمر قصيرا ، كأنه ثور ، فرآه بنو إسرائيل ، فمن ذلك الوقت لا يقبل البحر ميتا أبدا ، وروى عن ابن عباس : أن الله أنجى فرعون لبني إسرائيل من البحر ، فنظروا إليه بعد ما غرق ، وأما معنى قوله تعالى : (بِبَدَنِكَ) ، يعني نلقيك جسدا بلا روح فيه ، وقيل هذا الخطاب ، على سبيل التهكم والاستهزاء ، كأنه قيل له ننجيك ، ولكن النجاة لبدنك ، لا لروحك ، وقيل أراد بالبدن الدروع ، وكان ، لفرعون دروع من ذهب مرصع بالجواهر يعرف في درعه عرفوه ، وقيل ننجيك ببدنك ، أي نجعلك على نجوة من الأرض كي ينظروا فيعرفوا أنك مت ، وأخرج ابن الأبياري عن ابن سعود أنه قرأ «فاليوم ننجيك بندائك» (٢).

__________________

(١) ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ٢٧٣.

(٢) تفسير الخازن ٣ / ٢٠٧ ـ ٢٠٩ ، الدر المنثور ٣ / ٣١٥ ـ ٣١٦.

٢٦١

وأما قوله تعالى : (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) ، أي عظة وعبرة ، وذلك أن بني إسرائيل ادعوا أن قتل فرعون لا يموت أبدا ، فأظهره الله حتى يشاهدوه وهو ميت لتزول الشبهة من قلوبهم ، ويعتبروا به لأنه كان في غاية العظمة فصار إلى نهاية الخسة والذلة ، ملقى على الأرض لا يهابه أحد ، أو لتكون أية لمن يأتي بعدك من القرون ، إذا سمعوا مآل أمرك ممن شاهدك عبرة ونكالا عن الطغيان ، أو حجة تدل على أن الإنسان على ما كان عليه من عظم الشأن وكبرياء الملك ، إنما هو مملوك مقهور بعيد عن مظان الربوبية ، وقرئ «لمن خلقك» أي لخالقك آية كسائر الآيات ، فإن إفراده إياك بالإلقاء إلى الساحل ، دليل على أنه نعمد منه لكشف تزويرك وإماطة الشبهة في أمرك ، ودليل على كمال قدرته وعلمه وإرادته ، وأيا كان المعنى ، فإنه لم يكن آية لمن خلفه لمدة جيل أو جيلين ، وإنما بقي آية للعشرات الكثيرة من الأجيال ، والمئات الكثيرة من السنين ، وذلك بما كان رب العرش لأهل مصر من سلطان العلم وأسرار التحنيط (١).

بقيت الإشارة إلى أن موت فرعون غرقا ، ناسب هلاك بني إسرائيل على يديه بالذبح فيه تعجيل الموت بأنهار الدم ، والغرق فيه إبطاء الموت ولا دم خارج ، ولما كان الغرق من أعسر الموتات ، وأعظمها شدة ، فكان لمن ادعى الربوبية وقال : «أنا ربكم الأعلى» ، وعلى قدر الذنب يكون العقاب ، ولك أن تقول : لما افتخر فرعون بالماء ، وقال : «أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي» ، جعل الله موته بالماء ، بما افتخر به (٢).

__________________

(١) تفسير البيضاوي ٣ / ١٠٠ ، الدر المنثور ٣ / ٣١٦ ، تفسير الخازن ٣ / ٢٠٩ ، أحمد عبد الحميد : المرجع السابق ص ١٢٣ ، تفسير النسفي ٢ / ١٧٥.

(٢) تفسير روح المعاني ١ / ٢٥٥ ـ ٢٥٧.

٢٦٢

الفصل الثّالث

فرعون موسى

اختلفت الآراء ، كما أشرنا من قبل ، في هذا الفرعون الذي كان يعذب بني إسرائيل ، فيذبح أبناءهم ويستحي نساءهم ، ثم يرفض بعد ذلك دعوة موسى عليه‌السلام ، وكان الفرعون الذي أغرقه الله في البحر ، انتقاما منه لتجبره وكفره ، وما آل إليه أمره من الطغيان والكفر ، وادعاء الألوهية ، فقال : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) (١) ، وقوله لموسى : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) (٢) ، وقوله : «أنا ربكم الأعلى» ، ومن ثم فقد جاء بعد هذه الآية (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٣) ، هذا فضلا عن تجاوزه لحدوده البشرية ، واندفاعه في التعذيب ، وإسرافه في القتل للمذنب وغير المذنب على سواء.

وسنحاول هنا ، قدر الطاقة ، مناقشة الآراء المختلفة التي دارت حول تحديد اسم هذا الفرعون ، لعلنا نستطيع ، بمشيئة الله ، أن نصل إلى رأي قريب من الصواب ، أو لا يبعد عن الصواب كثيرا ، مؤمنين تمام الإيمان ، أن اليقين ما زال ، وسيظل أبد الدهر ، عند صاحب اليقين ، وما زال ، وسيظل ، العلم عند رب العلم ، يؤتيه من عباده من يشاء ، وهو علام الغيوب ، وما نقوم

__________________

(١) سورة القصص : آية ٣٨.

(٢) سورة الشعراء : آية ٢٩.

(٣) سورة النازعات : آية ٢٢ ـ ٢٦.

٢٦٣

به ، أو يقوم به غيرنا ، لا يعدو محاولات قد تخطئ وتصيب ، بل قد تخطئ كثيرا وتصيب قليلا.

(١) الرأي الأول : فرعون موسى هو أحمس الأول : ـ

يزعم اليهودي «يوسف بن متى» (٣٧ ـ ٩٨ أو ١٠٠ م) أن «مانيتو» المؤرخ المصري ، الذي كتب تاريخه حوالي عام ٢٨٠ قبل الميلاد ، إنما يرجع بالهكسوس (١) إلى أصول يهودية (٢) ، ومن ثم فالخروج ، في نظر المؤرخ اليهودي ، إنما هو طرد الهكسوس من مصر حوالي عام ١٥٧٥ ق. م ، بقيادة أحمس الأول (١٥٧٥ ـ ١٥٥٠ ق. م) ، وبالتالي فإن أحمس الأول هو فرعون موسى ، هذا وقد تابع يوسف اليهودي بعض المؤرخين ، ومنهم الدكتور هول والدكتور باهور لبيب.

ويذهب «هول» إلى توحيد «الخابير و» بالعابير و (العبرانيين) ، وأن الخابير وهم قبائل بدوية قدمت إلى الجنوب الشرقي لفلسطين ، فاكتسحت كنعان في الفترة ما بين عامي ١٣٩٠ ، ١٣٦٠ قبل الميلاد ، وأن رسائل العمارنة تظهر لنا كيف أشاعت هذه القبائل الذعر بين الكنعانيين ، ثم سيطرت على فلسطين بعد انسحاب السلطة المصرية منها على أيام «إخناتون» (١٣٦٧ ـ ١٣٥٠ ق. م) ، ومن ثم يجب أن يكون الخروج قبل أيام «أمنحتب الثالث» (١٤٠٥ ـ ١٣٦٧ ق. م) ، ثم يقترح أن تكون لحظة خروج بني إسرائيل من مصر ، هي لحظة قيام الأسرة الثامنة عشرة ، وأن مؤسس هذه الأسرة الملك «أحمس الأول» هو فرعون موسى الذي روت التوراة أنه «لم يكن يعرف يوسف» ، وبالتالي فإن التقرير التوراتي عن

__________________

(١) قدم المؤلف دراسة مفصلة عن عصر الهكسوس وطردهم من مصر (محمد بيومي مهران : حركات التحرير في مصر القديمة ـ دار المعارف ـ القاهرة ١٩٧٦ ص ١٠١ ـ ٢٢٣).

(٢)W. G. Weddel, Manetho, (The Loeb Classical Library) Cambridge, F

٧٧.p ، ١٩٤٠.

٢٦٤

الخروج إنما هو ترجمة عبرية لطرد الهكسوس من مصر (١).

ولعل مما يعضد نظرية «هول» ما يؤكده «إرنست سيللين» ، طبقا لبقايا فخارية عثر عليها في موقع أريحا ، من أن المدينة قد دمرت حوالي عام ١٥٠٠ ق. م ، أو حتى بعد فترة وجيزة من عام ١٦٠٠ ق. م ، فيما يرى «كارل فتزينجر» ، وهو مكتشف آخر موقع أريحا ، ولكن «سيللين» يرفض أن يكون الإسرائيليون هم الذين دمروا أريحا (٢) ، كما أن «روبنسون» يرى أنه ليس من الميسور أن نضع رواية التوراة في هذا الإطار (٣).

وأما الدكتور «باهور لبيب» فيذهب إلى أن الأبحاث الحديثة قد أسفرت عن أن الهكسوس من أصل سامي وموطنهم فلسطين ، وأنهم من طائفة اليهود الذين جاء ذكرهم في التوراة والقرآن الكريم (٤) ، اعتمادا على أن «مانيتو» رأى أنهم قوم شرقيون أتوا إلى مصر من الشرق ، وأنهم من بني إسرائيل ، وأن أسماءهم من أصل سامي ، وأن لهم علاقة بفلسطين ، حيث يقطن اليهود ، وأن أغلب أسمائهم التي عثر عليها بمصر من أصل سامي كنعاني ، مما يدل على أنهم كانوا من أصل يمت بصلة كبيرة إلى العبرانيين ، وأن هناك آلهة سامية كانت تعبد أصلا في فلسطين ، وقد ظهرت في مصر على أثر غزو الهكسوس لها ، فلو لم يكن الهكسوس ساميين لما نقلوا معهم آلهتهم السامية إلى مصر ، كما أن استخدام الجواد والعربة في مصر إنما يرجع إلى عهد الهكسوس ، هذا وقد أظهرت الحفريات في فلسطين عدة مقابر ترجع إلى أيام الهكسوس ومؤرخة بأسماء ملوكهم ، وهذا دليل مادي على وجود صلة

__________________

(١). H. R. Hall, The Ancient History of The Near East, London,

٤٠٩ ـ ٤٠٦. ، ١٩٦٣.

(٢) أنظر : ١٩١٣ Ernst Sellin and Carl Watzinger, Jericho, London, وكذا

١٨٢.A.Lods ,op ـ cit ,P.

(٣) ٢٩.H.W.Robinson ,The History of Israel ,P ..

(٤) F ٨.p ، ١٩٣٤ .. Pahour Labib, Die Herschaft der Hyksos in Aegypten,

٢٦٥

بين الهكسوس واليهود في فلسطين ، كما أن العبرانيين كانوا يعبدون الحمار ، فإذا أمكن هذه هي كل حجج الباحثين الذين رأوا في اليهود دليلا على أنهم من أصل سامي (١).

هذه هي كل حجج الباحثين الذين رأوا في اليهود هكسوسا ، أو في الهكسوس يهودا ، ولعل من الأفضل قبل مناقشتنا لهذا الإتجاه ، الإشارة إلى أننا لا نطمئن تماما إلى رواية المؤرخ اليهودي «يوسف بن متى» ومن دعوا بدعوته ، من أنهم ينقلون عن «مانيتو» ، ما دمنا لا نملك النص الكامل لكتاب «مانيتو» ، والذي فقد في حريق الإسكندرية عام ٤٨ ق. م ، وقد وصلت إلينا منه مقتطفات مختصرة أحيانا ، ومبتورة أحيانا أخرى ، وما دمنا ، في نفس الوقت ، لا نملك من الأدلة التاريخية ما يقوم دليلا على صحة ما نقله «يوسف اليهودي» وغيره ، عن «مانيتو» ، بل إن رواية يوسف اليهودي نفسه ، والتي يزعم أنه نقلها عن مانيتو ، من أن اليهود هم الهكسوس ، تناقضها روايته التي أشرنا إليها من قبل ، من أن سبب خروج بني إسرائيل من مصر ، إنما كان رغبة المصريين في اتقاء وباء تفشى بين اليهود.

هذا فضلا عن أن يوسف اليهودي لم يقبل تفسير مانيتو لكلمة الهكسوس من أنها تعني «الملوك الرعاة» على أساس أن «هك» تعني في اللغة المقدسة «ملك» ، وأن «سوس» تعني في اللغة الدارجة «راعي» ، فيتابع هذا الاشتقاق باشتقاق آخر لاسم الهكسوس من مصدر آخر ، بمعنى «الأسرى الرعاة» لأن كلمة «هك» تعني «أسير» ، وهو يفضل هذا الاشتقاق ، لأنه يعتقد أن قصة التوراة عن دخول الإسرائيليين مصر ، ثم الخروج بعد ذلك ، لهما أصول في احتلال الهكسوس ثم طردهما فيما بعد ، والواقع ،

__________________

(١) باهور لبيب : لمحات من الدراسات المصرية القديمة ـ القاهرة ١٩٤٧ ص ٤١ ـ ٤٥ ، وكذاP.Labib

٢٥ ,op ـ cit ,P ..

٢٦٦

فيما يرى «سير ألن جاردنر» ، العالم الحجة في اللغة المصرية القديمة ، أنه على الرغم من وجود أسس لغوية للاشتقاق ، فإنه قد جانبه الصواب ، وأن كلمة «هكسوس» مشتقة من غير شك من اصطلاح «حقاخست» ، أي «رئيس البلد الأجنبية الجبلية» التي كانت تعني منذ عهد الدولة الوسطى «مشايخ البدو» (١).

وأما أن قصة دخول بني إسرائيل مصر ، ثم الخروج منها ، لها صلة بدخول الهكسوس مصر ، ثم الخروج منها ، كما روج ذلك يوسف اليهودي ، فقد كان يوسف هذا يهدف منها إلى رفع شأن قومه اليهود ، الذين كان يحتقرهم الإغريق ويحطون من قدرهم ، وليبرهن للملإ أن اليهود والهكسوس من عنصر واحد ، وأنهم قد خرجوا من مصر حوالي ألف عام قبل حرب طروادة ، التي يراها الإغريق تاريخا سحيقا من القدم ، غير أن كثيرا من المؤرخين ينكرون الصلة بين اليهود والهكسوس ، فيذهب «جاردنر» إلى أنه ليست هناك صلة بين الاثنين ، بدليل أن الهكسوس لم يتركوا أي أثر في قصص العبرانيين ، كما روتها التوراة ، كما أن مجيء يوسف عليه‌السلام إلى مصر ، إنما قد حدث ، كما أثبتنا من قبل ، على أيام حكم الهكسوس لمصر ، هذا فضلا عن أن أحداث الملوك الرعاة (الهكسوس) لم تصور أبدا في قصة خروج بني إسرائيل من مصر ، بل إن مدينة «بي رعمسيس» التي أنشأها رعمسيس الثاني (١٢٩٠ ـ ١٢٢٤ ق. م) ، بعد طرد الهكسوس ، بحوالي ثلاثة قرون ، إنما تدخل في قصة بني إسرائيل في مصر وخروجهم منها ، فهي المدينة التي سخر بنو إسرائيل في بنائها ، كما أنها كانت بداية مسيرة الخروج من مصر (٢) ، ومن ثم فليس من المستحيل أن تكون اقتباسات يوسف اليهودي

__________________

(١) ١٥٤.p ، ١٩٦٤.A.H.Gardiner ,Egypt of the Pharaohs ,Oxford ,

(٢) خروج ١ / ١١ ، ١٢ / ٣٧.

٢٦٧

من مانيتو ، إنما توحي بأحداث وقعت فيما بعد ، في أوائل عهد الأسرة التاسعة عشرة ، وأنها قد اختلطت بذكر حوادث الهكسوس ، وهناك ما يشير إلى مثل هذه العلاقات الموجودة في أغلب الأحيان بين مصر وأولئك البدو الذين يعيشون على تخومها ، جاء ذكرها في «بردية أنسطاسى ، السادسة» ، ولكن ليس هناك ما يشير إلى حدوث مأساة كالتي مثلت في التوراة ، كما جاءت في سفر الخروج (١).

وأما ما ذهب إليه «هول» فيناقضه أنه يتعارض تماما مع ما جاء في التوراة والقرآن العظيم بشأن دخول وخروج بني إسرائيل من مصر (٢) ، كما أن حملات تحوتمس الثالث (١٤٩٠ ـ ١٤٣٦ ق. م) المظفرة ، تكون طبقا لهذا ، قد حدثت بعد استقرار بني إسرائيل نهائيا في فلسطين ، وهنا فمن الصعب أن نجد تفسيرا لصمت التقاليد الإسرائيلية فيما يختص بالنزاع الذي لا يمكن تجنبه مع الفاتحين المصريين ، وخاصة فيما يتعلق بإدارة البلاد بموظفين مصريين ، فضلا عن وجود الحاميات المصرية في فلسطين ، تلك الحقيقة التاريخية التي كانت أهميتها تظهر أكثر فأكثر (٣) ، هذا فضلا عن أن التوراة تجعل إقامة بني إسرائيل في مصر ٤٣٠ سنة (٤) ، بينما يتفق العلماء الآن على أن مدة حكم الهكسوس في مصر لا تتجاوز القرن ونصف القرن (١٧٢٥ ـ ١٥٧٥ ق. م) (٥) ، أضف إلى ذلك أن التوراة والإنجيل والقرآن

__________________

(١) A. H. Gardiner, The Geography of The Exoudus, in JEA,

٨٨ ـ ٨٧ ، ١٩٢٤ ، ١٠.

(٢) أنظر : سورة يوسف : آية ٨ ـ ٢٢ ، ٥٧ ـ ١٠٠ ، سفر التكوين : الاصحاحات ٣٧ ـ ٤٧ ، خروج : اصحاحات ١٢ ـ ١٤.

(٣) ١٨٣ ـ ١٨٢.A.Lods ,op ـ cit ,P.

(٤) خروج ١٢ / ٤٠ ـ ٤١.

(٥) انظر : عن عصر الهكسوس في مصر (محمد بيومي مهران : حركات التحرير في مصر القديمة ص ١٣٧ ـ ١٣٨ ، ٢١١).

٢٦٨

العظيم ، إنما تجعل فترة التيه أربعين سنة (١) ، بينما فترة التيه هنا تتجاوز القرنين من الزمان ، وهي فترة أطول بكثير مما يجب ، ومما افترضته التقاليد العبرانية ، كما يرى «هول» نفسه (٢).

وأما أدلة «باهور لبيب» ، غير اعتماده على رواية مانيتو ، كما نقلها يوسف اليهودي ، فإنها تقوم أساسا على ما ذهب إليه من أن الهكسوس ساميون ، ومن فلسطين ، وبالتالي فهم يهود ، والواقع أن رأيه هذا يحمل كثيرا من وجوه الخطأ ، منها (أولا) أن وجود أسماء كنعانية بين الهكسوس ، لا يعني أن اليهود كنعانيون ، وإن كان كل منهما ينتمي إلى نفس المجموعة البشرية السامية وإن كانت التوراة ترفض ، لأسباب سياسية ودينية ، أن يكون الكنعانيون ساميين (٣) ، مع أنهم كانوا يعلمون ما بينهم وبين الكنعانيين من صلات لغوية وبشرية (٤) ، ومنها (ثانيا) أن العبرانيين لم تكن لهم لغة خاصة بهم قبل عام ١٠٠٠ ق. م ، إذ كانوا يتكلمون الآرامية قبل دخولهم فلسطين ، والكنعانية بعد ذلك ، كما أن اللغة العبرية نفسها ، ليست إلا خليطا من الآرامية والكنعانية وكثير من اللغات السامية وغير السامية (٥) ، ومن ثم فإن الاعتماد على اللغة كأساس للعلاقة بين اليهود والهكسوس ، اعتماد مضلل لا يثبت تلك العلاقة ، ومنها (ثالثا) أن القول بأن اليهود كانوا يعبدون الحمار ، قول غير صحيح ، على وجه اليقين ، بل إنه من المؤكد أن بني إسرائيل كانوا

__________________

(١) أنظر : سورة المائدة : آية ٢٦ ، حيث يقول تعالى : (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ، فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) ، وانظر : سفر العدد ١٤ / ٣٣ ، أعمال الرسل ٧ / ٣٦ ، ٤٠.

(٢) ٤٠٨.H.R.Hall ,op ـ cit ,P ..

(٣) تكوين ١٠ / ٦.

(٤) أنظر : محمد بيومي مهران : الساميون والآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي ـ الرياض ١٩٧٤ ص ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

(٥) فؤاد حسنين : التوراة الهيروغليفية ص ٤ ، نجيب ميخائيل : المرجع السابق ص ٣٢.

٢٦٩

قبل دخولهم مصر موحدين ، على ملة إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، قال تعالى على لسان يوسف : (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (١) ، ومن ثم فعبادة الهكسوس للحمار أو عدم عبادتهم لا تفيدنا في معرفة العلاقة بين اليهود والهكسوس كما أنه ليس هناك من دليل على أن اليهود عبدوا الحمار في مصر.

ومنها (رابعا) أن استخدام العربة والحصان في عصر الهكسوس لا يدل أبدا على أن اليهود هم الهكسوس ، وإن كانت الأسماء كنعانية وليس الكنعانيون هم اليهود على أية حال ، ومع ذلك فهناك من يرى أن الحصان ، وربما العربة التي تجرها الخيل ، قد عرفا في وادي النيل ، وفي ميز وبوتاميا ، قبل عصر الهكسوس (٢) ، بل ويذهب أمري» أن ذلك كان منذ أيام الدولة الوسطى ، فقد عثر في حفرياته في منطقة بوهن (وادي حلفا) في عام ١٩٦٢ م على هياكل دفنت في مستويات قديمة من أحد الحصون المصرية حددها بعصر الدولة الوسطى ، وإن لم يعرفوا العربة ، وإن كان أستاذنا المرحوم عبد المنعم أبو بكر (١٩٠٧ ـ ١٩٧٦) طيب الله ثراه ، يرد هذا المستوى إلى عهد الدولة الحديثة (٣) ، هذا فضلا عن أن هناك من يرى أن الهكسوس لم يستخدموا الحصان حتى فترة متأخرة جدا من حكمهم ، وأن أقدم نص يشير إلى ذلك إنما يتحدث عن طرد الهكسوس ، وأما المقابر التي وجدها «بتري» في تل العجول بجنوب فلسطين ، وقد دفنت فيها الحمير مع الخيول ، مع الموتى من الآدميين ، وأنها تدل على استخدام الهكسوس للحصان ، فهي

__________________

(١) سورة يوسف : آية ٣٨.

(٢) W. Hayes, Egypt from the Death of Ammenemes II, to Sequenenre, II

p ١٨. ،. ١٩٦٥ Cambridge,

(٣) عبد العزيز صالح : مصر والعراق ص ١٩٠ ، نجيب ميخائيل : المرجع السابق ١ / ٤٠٧.

٢٧٠

ترجع إلى فترة متأخرة من عهد الهكسوس ، وربما ترجع إلى بداية الدولة الحديثة ، أما في مصر ، فليست هناك أية دفنة لحصان واحد ، أو حتى عظام حصان ، في المقابر العديدة التي ترجع إلى عهد الهكسوس ، كما أنه لا يوجد نقش واحد لحصان ما (١).

ومنها (خامسا) أن توحيد كلمة «خابيرو» بكلمة «عابيرو» ، وأنها هي نفس الكلمة الحالية «عبري» ، فقد اتفقت جمهرة من العلماء على أن هؤلاء العابيرو ، لم يكونوا أبدا من بني إسرائيل ، والأرجح أن الكلمة سامية لقبائل بدوية كانت تعيش في شرق الأردن ، بل حتى الذين ينادون بتوحيد كلمة خابيرو بعابيرو ، يرون أن الأمر غير مؤكد ، ولا يمكن أن نتخذه أساسا لأية نتيجة تاريخية (٢) ، ومنها (سادسا) أن اليهود ساميون ، بينما الأمر جد مختلف بالنسبة للهكسوس فمن يؤكد أنهم سلالة آرية كان موطنها في آسيا الصغرى (٣) ، ومن يرى أنهم من أعراب شبه الجزيرة العربية (٤) ، بل ويذهب المؤرخون المسلمون إلى أنهم العمالقة أو من العرب البائدة (٥) ، ويذهب «جاردنر» إلى أن اصطلاح «حقاخست» (حيق خاس) أي رئيس البلدية الجبلية الأجنبية يشير إلى الحكام ، وليس ، كما يظن يوسف اليهودي ، إلى

__________________

(١) T. Save ـ Sodervergh, The Hyksos Rule in Egypt, JEA وكذا, E ,Otto ,

٦٠ ـ ٥٩.p ، ١٩٥١ ، ٣٧

, ٢٥٩.p ، ٦١ ZDPV وكذا ٦١ No ٣٣٣ F.W.Von Bissing ,AFOF ,II ,P

(٢) أنظر : محمد بيومي مهران : إسرائيل ١ / ٢٢ ـ ٢٨ ، الكسندر شارف : تاريخ مصر ص ١٤٤ ، تيودور روبنسون : إسرائيل في ضوء التاريخ ص ١٠٨ ، وكذاI ,Epstien ,Judaism , ١٩٧٠W.F. وكذاJ.Wilson ,op ـ cit ,P. ٢٠١ وكذاJ.Finegan ,op ـ cit ,P. ١١٨. وكذاP. ١٤ ـ ١٣E.Dharme ,La Religion des Hebreux Nomades , وكذاAlbright ,ANET , ١٣.no , ٤٨٦.p ، ١٩٦٦N.S.E ,Bruxelles , ٨٥ ـ ٧٥ ، ١٩٣٧.

(٣) H.Junker ,Geschichte der Aegypter , ١٠٥.p ، ١٩٣٣.

(٤) ١٣٤.p ، ١٩٠٧.L. W. King, Studies in Eastern History, Egypt and Western Asia ..., London, F

(٥) تفسير القرطبي ص ٤٢٧ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٣٥ ـ ٣٣٦ ، تاريخ ابن الأثير ١ / ١٠ ، ١٠٤ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٢٧.

٢٧١

الجنس كله ، وطالما أخطأ الباحثون في هذا الأمر ، بل إن البعض منهم ، كما رأينا ، يرى أن الهكسوس جنس معين من الغزاة شقوا طريقهم إلى مصر ، بعد أن تم لهم غزو سورية وفلسطين ، وليس هناك ما يؤكد وجهة النظر هذه ، وإن بدا أن كلمات مانيتو قد تشير إلى ذلك (١) ، ومن هنا فإن العلماء يكادون يجمعون على أن الهكسوس ليسوا شعبا معينا ، وإنما خليط من شعوب متعددة ، اختلطت بعضها بالبعض الآخر وهي في طريقها إلى مصر ، وهذا يبدو واضحا في أسمائهم التي تنبئ عن خليط من أجناس مختلفة ، حتى وإن غلبت فيها الأسماء السامية ، ففيها كذلك عناصر غير سامية ، لا شك أن بعضها «كاسي» ، والآخر «حوري» ، وكلا الجنسين من أصل «هندو ـ أوربي» نزل من أواسط آسيا ، وعلى أية حال ، فإن الساميين لا يكاد يتألف منهم العامل الرئيسي المسئول عن الزحف الجديد ، وقد تغري غلبة الأسماء السامية المعروفة لنا الآن بتفوق الساميين في العدد ، ولكن يمكن أن يرجع سببها لعدم كفاية الأدلة التي في متناولنا ، أو لأن العناصر غير السامية قد هضمت بسرعة (٢).

ومنها (سابعا) أن هذا الرأي الذي يرى في طرد الهكسوس قصة خروج بني إسرائيل من مصر ، إنما يتعارض تماما عما جاء في التوراة والقرآن الكريم (٣) ، اللذين لم يتحدثا أبدا عن دخول بني إسرائيل أرض الكنانة غزاة فاتحين ، أو أن ملوك مصر كانوا يوما ما ينتمون إلى أرومة سرائيلية ، وإن

__________________

(١) ١٥٦ A.Gardiner ,op ـ cit ,P ..

(٢) أحمد فخري : مصر الفرعونية ص ١٨٧ ، سليم حسن : مصر القديمة ٤ / ١٨٧ ، نجيب ميخائيل : المرجع السابق ص ٤٠٢ وكذا ،١٥٧ A.Gardiner ,op ـ cit ,P وكذاJ.Wilson ,op ـ cit ,P.

(٣) أنظر : سورة يوسف : آية ٤١ ـ ١٠٠ ، تكوين : إصحاحات ٣٧ ـ ٤٧ ، وأنظر : قصة يوسف في هذه الدراسة.

٢٧٢

تحدثنا عن وصول يوسف الصديق إلى منصب كبير في الحكومة المصرية على أيام الهكسوس كما أشرنا إلى ذلك من قبل ، كما تحدثنا عن دخول بني إسرائيل مصر ، وقد عضهم الجوع في أرض كنعان ، فأتوا إلى أرض النيل يلتمسون المأوى والشبع ، وقد حققت لهم مصر ما يريدون ، وتلك عادتها طوال عصور التاريخ ، ومنها (ثامنا) أن التوراة تتحدث في سفر التكوين أن الرب أخبر خليله إبراهيم بأن بني إسرائيل سوف تكتب عليهم الذلة والمسكنة في مصر فترة قوامها قرونا أربعة ، زادها سفر الخروج ثلاثين عاما ، كما تحدثت عن خروج القوم من مصر ، وقد كانوا في عجلة من أمرهم ، حتى أنهم ما كانوا قادرين على أن ينتظروا حتى يختمر عجينهم ، ومن ثم فقد خرجوا دون أن يصنعوا لأنفسهم زادا (١) ، وقد أشار القرآن الكريم إلى أن الإسرائيليين قد خرجوا من مصر بأمر الله ليلا قال تعالى في سورة الدخان : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) ، وقال تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) (٢).

ومنها (تاسعا) أن التوراة تجعل من مدينة «بي رعمسيس» نقطة التجمع التي بدا منها بنو إسرائيل الخروج من مصر (٣) ، وهذه لم تنشأ ، كما أشرنا من قبل ، إلا على أيام «رعمسيس الثاني» (١٢٩٠ ـ ١٢٢٤ ق. م) ، ومنها (عاشرا) أن التوراة والقرآن العظيم يصفان حياة بني إسرائيل في مصر ، بكل الذل والهوان ، تقول التوراة «فاستعبد المصريون بني إسرائيل بعنف ، ومرروا حياتهم بعبودية قاسية في الطين واللبن وكل عمل في الحقل ، كل عملهم الذي عملوه بواسطتهم عنفا» (٤) ، وكان الهدف ، فيما يرى جيمس

__________________

(١) تكوين ١٥ / ١٣ ، خروج ١٢ / ٣١ ـ ٤٠.

(٢) سورة الشعراء : آية ٥٢ ، وأنظر سورة طه : آية ٧٧.

(٣) خروج ١٢ / ٣٧.

(٤) خروج ١ / ١٣ ـ ١٤ ، ٢٣ ـ ٢٤.

٢٧٣

فريرز ، أن المصريين أرادوا أن يحولوا دون تكاثرهم عن طريق تشغيلهم في الأعمال الشاقة التي ربما قضت عليهم ، ولما فشلت هذه المعاملة في تحقيق النتيجة المرغوبة ، أمر الملك بقتل الذكور من أطفالهم إثر ولادتهم ، غير أن القابلات اللاتي كلفن بذلك كن يتهربن في تنفيذه (١) ، ومن ثم فقد أمر فرعون شعبه جميعا بأن «كل ابن يولد تطرحونه في النهر ، لكن البنت تستحيونها» (٢) ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى : (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ ، يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ، وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (٣) ، وكان من نتائج ذلك كله ، أن غدا العرف الشائع بين العبرانيين أنهم يتشاءمون تشاؤما تقليديا بالأيام التي قضوها بمصر ، ويحسبونها بلية البلايا ، ومحنة المحن في تاريخهم كله ، من عهد إبراهيم الخليل إلى عهد النازية الهتلرية ، أي طوال أربعين قرنا ، من القرن العشرين قبل الميلاد إلى القرن العشرين بعد الميلاد ، وقد مرت بهم محنة السبي إلى وادي النهرين ، ولكنهم لا يتشاءمون بها ، كما تشاءموا بالمقام في مصر ، ولا يجعلون الخروج من بابل (عام ٥٣٩ ق. م) عيدا باقيا متجددا ، كعيد الخروج من أرض وادي النيل في القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، وهكذا كان الخروج من مصر أكبر أعياد اليهود ، عيد الفصح ، في الرابع عشر من شهر نيسان (أبريل) بين العشاءين.

وهكذا نستطيع أن نقول ، دون أن يخالجنا ريب فيما نقول ، أن دعوى

__________________

(١) جيمس فريزر : الفلكور في العهد القديم ـ القاهرة ١٩٧٤ ص ٥ (مترجم) وانظر : خروج ١ / ١٥ ـ ٢١.

(٢) خروج ١ / ٢٢.

(٣) سورة البقرة : آية ٤٩ ، وانظر : سورة الأعراف : آية ١٤١ ، سورة القصص : آية ٤ عباس محمود العقاد : الثقافة العربية أسبق من ثقافة اليونان والعبريين ـ القاهرة ١٩٦٠ ص ٥٨ ، وانظر : عن هذا الرأي الأول (محمد بيومي مهران : إسرائيل ١ / ٣٦١ ـ ٣٧٦).

٢٧٤

يوسف اليهودي في الربط بين الهكسوس وأجداده العبرانيين لم تكن إلا من نوع تلك الدعاوي الكذوب التي لا يزال يحذقها أحفادهم الصهاينة المحدثون ، وأنه ليست هناك صلة بين الهكسوس واليهود ، وذلك لأن اليهود لم يكونوا وقت ذاك قد استوطنوا فلسطين كقوم لهم كيان يستطيعون أن يحتلوا دولة كبرى كمصر ، بل أكبر وأعظم دول الشرق الأدنى القديم قاطبة ، الأمر الذي لم يكتب لهم أبدا ، بل إنهم لم يكونوا حتى هذه المرحلة إلا مجموعة من الرحل الذين يستقرون على أطراف إقليم زراعي بموافقة أصحابه ، وهم في مركز الرعايا الخاضعين ، إن لم يكونوا العبيد المستذلين ، وما حدثنا التاريخ من قبل ومن بعد عن مستعمر يستذل في أرض يستعمرها ، ومن هنا فإننا نستبعد هذا الرأي تماما ، ولا نرى أن خروج بني إسرائيل من مصر ، بقيادة موسى عليه‌السلام ، وكاموزا وأحمس الأول ، وبالتالي فإن أحمس الأول ليس هو فرعون موسى.

(٢) الرأي الثاني : تحوتمس الثالث هو فرعون موسى : ـ

يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن فرعون موسى هو تحوتمس الثالث (١٤٩٠ ـ ١٤٣٦ ق. م) أو ابنه «أمنحتب الثاني» (١٤٣٦ ـ ١٤١٣ ق. م) (١) اعتمادا على نص التوراة «وكان في سنة الأربع مائة والثمانين لخروج بني إسرائيل من أرض مصر في السنة الرابعة لملك سليمان على بني إسرائيل ، في شهر زيو ، هو الشهر الثاني أنه بنى البيت للرب» (٢) ، ولما كان حكم سليمان يقع في الفترة (٩٧٢ ـ ٩٣٦ ق. م) (٣) ، فالعام الرابع إذن هو عام ٩٦٧ ق. م

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس ٢ / ٩٣٣.

(٢) ملوك أول ٦ / ١.

(٣) يختلف المؤرخون في فترة حكم سليمان ، فيرى فضلو حوراني أنها في الفترة (٩٧٤ ـ ٩٣٢ ق. م) ويرى حسن ظاظا أنها في الفترة (٩٧٣ ـ ٩٣٦ ق. م) ويرى شموكل أنها في الفترة ـ

٢٧٥

(أو عام ٩٦٧ ق. م) ، وبالتالي فالخروج في عام ١٤٤٦ أو ١٤٤٧ ق. م (١) ، إذا ما عدنا إلى الوراء ٤٨٠ عاما ، ومن ثم فالخروج تم في عهد تحوتمس الثالث (١٤٩٠ ـ ١٤٣٦ ق. م) أو بالأحرى في العقد الأخير من عهده.

ويرى أصحاب هذا الإتجاه أن الصورة التي تقدم لتحوتمس الثالث كفرعون لموسى مقبولة تماما ، لأنه كان بناء عظيما ، ولأنه استخدم الأسرى الأسيويين في مشروعاته البنائية ، ولأن مدة الأربعين سنة التي قدرت لفترة التيه (٢) ، تجعل الإسرائيليين يصلون إلى كنعان حوالي عام ١٤٠٠ ق. م ، ومن هنا يمكن توحيد العبرانيين (العابيرو) بالخابير والذين كانوا يضغطون على كنعان وقت ذاك (٣) ، هذا إلى جانب ما يقوله «جون جارستلنج» من أنه قد كشف في مقابر أريحا الملكية ما يشير إلى أن موسى قد انتشلته من الماء الأميرة المصرية «حتشبسوت» عام ١٥٢٧ قبل الميلاد ، على وجه التحقيق ، وأنه قد تربي في بلاطها بين حاشيتها ، ثم فر من مصر حين جلس على العرش المصري عدوها ، تحوتمس الثالث ، ويعتقد «جارستانج» كذلك أن المخلفات التي وجدت في قبور أريحا (جريكوJericho) تؤيد ما جاء في الإصحاح السادس عشر من سفر يشوع ، وأن هذه البقايا ترجع إلى حوالي عام ١٤٠٠ ق. م ، وأن الخروج تم عام ١٤٤٧ ق. م (٤).

__________________

ـ (٩٧٠ ـ ٩٣٢ ق. م) ويرى فيلب حتى أنها في الفترة (٩٦٣ ـ ٩٢٣ ق. م) ويرى هيتون أنها في الفترة (٩٦١ ـ ٩٢٢ ق. م) ويرى أولبرايت أنها في الفترة (٩٦٠ ـ ٩٢٢ ق. م) وهكذا.

(١) أنظر : ٢٢ ـ ١٦.p ، ١٩٤٥ W.F.\'Albright ,BASOR وكذا ١١٣.p ، ١٩٥٣ ، ٣ J.Liver ,IEJ

, ١٢٢ ـ. وكذا, ، ١٠٠. ١٨٤ ـ ١٤٧.p ، ١٩٤٤ ، ٣. E.R.Thiele ,JNES

(٢) خروج ١٦ / ٣٥ ، تثنية ٢ / ٧ ، يشوع ٥ / ٦.

(٣) ١١٨ ـ ١١٧. J.Finegan ,op ـ cit ,P وكذا ١٩٢٥J.W.Jack ,The Date of the Exodus ,Edinburgh

(٤) ول ديورانت : قصة الحضارة ـ الجزء الثاني ـ ترجمة محمد بدران ـ القاهرة ١٩٦١ ص ٣٢٦ ، وانظر : عن هذا الرأي الثاني (محمد بيومي مهران : إسرائيل ١ / ٣٧٧ ـ ٣٩٠).

٢٧٦

هذا ويؤيد «هومل» و «أور» هذا الرأي ، مع بعض الاختلافات ، فهما يذهبان إلى أن دخول بني إسرائيل مصر ، وغزو الهكسوس لها ، إنما كان في عام ١٨٧٧ ق. م ، وأن الخروج ، طبقا لرواية التوراة التي تجعل إقامة الإسرائيليين في مصر ٤٣٠ سنة ، إنما كان في عام ١٤٤٧ ق. م ، في عهد الملك أمنحتب الثاني ، وأن غزو فلسطين تم بعد ذلك بأربعين سنة وهذا بالضبط عصر رسائل العمارنة (١) ، ثم بدأ سليمان في بناء معبده بعد خروج أسلافه من مصر ب ٤٨٠ سنة ، أي في عام ٩٦٧ ق. م (٢).

ولعل قريبا من هذا ما يراه «أونجر» من أن موسى عليه‌السلام ولد في عام ١٥٢٠ قبل الميلاد ، على أيام الملك تحوتمس الأول (١٥٢٨ ـ ١٥١٠ ق. م) وأن ابنة فرعون التي أنجته هي حتشبسوت ، وأن اضطهاد بني إسرائيل قد بدأ بعد أن نشب النزاع بين حتشبسوت وتحوتمس الثالث ، ثم وصول الأخير إلى العرش المصري ، ومن ثم فإن «أونجر» يحدد تاريخ الخروج بعام ١٤٤١ ق. م ، على أيام أمنحتب الثاني الذي يراه قد حكم في الفترة (١٤٥٠ ـ ١٤٢٥ ق. م) ، وأن أباه تحوتمس الثالث قد حكم في الفترة (١٤٨٢ ـ ١٤٥٠ ق. م) (٣).

ورغم جاذبية هذه النظرية ، فيما يرى البعض ، إلا أننا نعتقد أن هناك عقبات كئود تقف في طريق قبولنا لها ، والتي منها (أولا) أن توحيد «عابيرو» رسائل العمارنة بعبراني التوراة أمر بعيد الاحتمال ، كما أشرنا آنفا ، ومنها (ثانيا) أن رسائل «عبد خيبا» أمير أورشليم من قبل الفرعون إنما تفيد أن

__________________

(١) أنظر : عن رسائل العمارنة وعصرها (محمد بيومي مهران : إخناتون ـ الإسكندرية ١٩٧٩ ص ٢٣٣ ـ ٢٤٥).

(٢) خروج ١٢ / ٤٠ ، ملوك أول ٦ / ١ ، وكذا Orr, the Problem of the old Testament, Geneva, ٤٢٤ ـ ٤٢٢.p ، ١٩٠٨ وكذا ١٨٢ A. Lods, op ـ cit, P.

(٣) ٣٣٣ ـ ٣٣٢.p ، ١٩٧٠. M.F.Unger ,Unger\'s Bible Dictionary ,

٢٧٧

مدينته كانت عرضة لهجوم كبير (١) ، هذا مع أن رواية التوراة يفهم منها أورشليم لم تكن هدفا رئيسيا بالنسبة إلى يشوع ، بل إن احتلالها ، طبقا لرواية التوراة لم يتم إلا على أيام داود عليه‌السلام (٢) ، ومنها (ثالثا) أن التفاصيل التي يقدمها سفر يشوع والقضاة عن الاستيطان الإسرائيلي النهائي في فلسطين ، لا يتفق بصفة عامة مع المادة التاريخية التي جاءت في رسائل العمارنة ، فمثلا أسماء الملوك الكنعانيين التي جاءت في سفري يشوع والقضاة ، إنما تختلف عن أسماء الأمراء الذين حكموا نفس المدن أثناء عهد أمنحتب الثالث وولده إخناتون ، فمثلا «عبدي خيبا» من رسائل العمارنة (٣) ، هو «أدوني صادق» من يشوع ، أو «أدوني بازاق» في القضاة (٤) ، وكذلك حاكم «جارز» هو «يباخي» أو «يباخو» في رسائل العمارنة (٥) ، وهو «هورام» في يشوع (٦) ، وحاكم صور هو «عيد تيرش» في رسائل العمارنة (٧) ، وهو «يابين» في سفري يشوع والقضاة (٨) ... وهكذا.

ومنها (رابعا) أن نص سفر الملوك الأول (٦) والذي يحدد الفترة من الخروج وحتى بناء المعبد في العام الرابع من حكم سليمان بمدة ٤٨٠

__________________

(١) محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ٨٢٦ ـ ٨٢٧ ، إخناتون ص ٢٣٣ ، وكذا W. F. Albright

ANET ,P وكذا , J. A. Kundtzon and o. Weber, Die El ـ Amarna Tafeln, Leipaig

وكذا ,. ٤٨٩ – ١٩١٥٧٢٧ ، ٧٢١.p ٤٨٧ Toronto S. A. B. Mercer, the Tell el ـ Amarna Tablets, II, Toronto , ، ١٩٣٤ ٨٧٧.p ،.

(٢) محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ٨٢٨ ـ ٨٣٩ ، وكذاR.A.S.Macalister ,in CAH ,III , ٣٤٦ ـ ٣٤٢.p ،وكذا ١٩٦٥ ١١٨J.Finegan ,op ـ cit ,P ..

(٣) ٤٨٩ ـ ٤٨٧.ANET ,P.

(٤) يشوع ١٠ / ١ ، قضاة ١ / ٥ ـ ٧.

(٥) ٤٩٠ ANET ,P ..

(٦) يشوع ١٠ / ٣٣.

(٧) ٧ ـ ٣٥٦. S.A.Cook ,op ـ cit ,P وكذا ١٨٤ ـ ١٨٢ Lods ,op ـ cit ,P A

(٨) يشوع ١١ / ١ ، قضاة ٤ / ٢.

٢٧٨

سنة ، يناقضه ، فيما يرى سبينوزا ، من يجعل هذه الفترة نفسها ٤٤٠ سنة ، كما أن هذه المادة ، طبقا لنصوص من التوراة تصل إلى ٥٨٠ سنة (١) ، ومن ثم فقد رأى البعض أن مدة أل ٤٨٠ سنة ، إنما هي عنصر متأخر في النص ، وأن الترجمة السبعينية للتوراة قد وضعته في مكان آخر ، ومن ثم فربما كان تخمينا لأحد المؤلفين المتأخرين نسبيا ، والذي ربما قد استخلصها من السجلات التوراتية ، ذلك لأن هناك فترة اثنى عشر جيلا تقع ما بين الحادثين (الخروج وبناء المعبد) ، وأنه قد أعطى لكل جيل كتقدير أعلى أربعين عاما ، فكانت النتيجة ٤٨٠ عاما (٤٠x ١٢ ـ ٤٨٠ عاما) ، ومن ثم فنفس الشيء يكون صحيحا في حالة التقويمات المتصلة في أسفار يشوع والقضاة وصموئيل ، والتي تقوم على نفس التقدير ، أي ٤٠ عاما لكل جيل (٢) ، وهناك افتراض آخر ، هو أن أل ٤٨٠ عاما ، ربما تشير إلى الوقت الذي دخلت فيه مجموعة مبكرة ، ربما يهودا أو قبائل أخرى ، إلى فلسطين من الجنوب ، وهذا يفصلها عن قبائل «بيت يوسف» التي خرجت من مصر تحت قيادة موسى ويسوع ، كما يجعلها سابقة لها ، ولو أن التقاليد التوراتية ، وكذا آي الذكر الحكيم ، تجعل الحادثتين مرتبطتين معا في النهاية (٣).

ومنها (خامسا) أن الخروج ، طبقا لهذه النظرية ، كان في عام ١٤٤٧ ق. م ، وإذا سمحنا بفترة ٤٣٠ سنة للإقامة في مصر ، طبقا لرواية التوراة (٤) ، فإننا سوف نصل إلى عام ١٨٧٧ ق. م ، كما رأى هومل وأور ، وهذا يصل بنا إلى قرابة قرن ونصف القرن قبل دخول الهكسوس مصر ، وإنه لأمر غير

__________________

(١) باروخ سبينوزا : رسالة في اللاهوت والسياسة ـ القاهرة ١٩٧١ ص ٢٩٠ ـ ٢٩٦ (مترجم).

(٢) H.H.Rowley ,J.Finegan ,op ـ cit ,P وكذا ١٩٥٠From Joseph to Joshua

١٢١ ـ ١٢٠,London ,

F ١٤٧ ، F ١٣٩.P.

(٣) J.Finegan ,op ـ cit ,P. ١١٨.

(٤) خروج ١٢ / ٤٠.

٢٧٩

مقبول أن يدخل بنو إسرائيل مصر قبل عصر الهكسوس ، لأسباب سبق لنا مناقشتها عند الحديث عن يوسف عليه‌السلام ، هذا فضلا عن أن دخول بني إسرائيل مصر عام ١٨٧٧ ق. م ، فإن ذلك يجعل دخولهم على أيام الأسرة الثانية عشرة ، وفي عصر «سنوسرت الثالث» (١٨٧٨ ـ ١٨٤٣ ق. م) على وجه التحديد ، إلا إذا اعتمدنا على النص السبتاجوني للتوراة الذي يختزل مدة الإقامة في مصر إلى النصف ، أو أخذنا بوجهة النظر التي إذا اعتمدنا على النص السبتاجوني للترابط بين مجموعة «أبشاي» الأسيوية ، وعددهم ٣٧ فردا ، والتي دخلت مصر على أيام سنوسرت الثاني (١٨٩٧ ـ ١٨٧٧ ق. م) وقد وجدت مناظرهم في مقبة «خنوم حتب» أمير بني حسن بمحافظة المنيا (١) ، وبين دخول سيدنا إبراهيم عليه‌السلام أرض الكنانة ، فضلا عن دخول بني إسرائيل ، بقيادة يعقوب عليه‌السلام إليها (٢) ، غير أنه من المعروف أن إبراهيم دخل مصر على أيام سنوسرت الثالث (١٨٧٨ ـ ١٨٤٣ ق. م) ، وأن يعقوب عليه‌السلام كان يعيش في الفترة (١٧٨٠ ـ ١٦٣٣ ق. م) وأنه دخل مصر ، هو وأسرته ، على أيام الهكسوس (١٧٢٥ ـ ١٥٧٥ ق. م) بدعوة من الصديق عليه‌السلام ، وكان عددهم ، طبقا لرواية التوراة ، ٧٠ نفسا ، وأقاموا في وادي جوشن على حدود الدلتا الشرقية (٣) ، كما أشرنا إلى ذلك بالتفصيل من قبل.

ومنها (سادسا) أن نص التوراة (ملوك أول ٦) الذي يعضد هذه النظرية ، يناقضه نص آخر من التوراة (خروج ١) يجعل رعمسيس الثاني فرعونا للتسخير ، لأن بني إسرائيل قد سخروا في بناء مدينتي «بي رعمسيس وفيثوم» ،

__________________

(١) محمد بيومي مهران : مصر ـ الجزء الأول ـ الإسكندرية ١٩٨٢ ص ٦٤٦ ـ ٦٤٨ ، وكذاP.E

٣١ ـ ٢٨.Pls ، ١٨٩٣ ..Newberry ,Beni ـ Hassan ,I ,London ,

(٢) ١٦.p ، ١٩٦٩.Vergote ,Joseph en Egypt ,paris ,

(٣) أنظر : محمد بيومي مهران : إسرائيل ١ / ٢١٣ ـ ٣٥٩.

٢٨٠