دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٢

ووثقت بمخلوق ، قال يا رب كلمة زلت مني ، أسألك يا إله إبراهيم وإله الشيخ يعقوب عليهم‌السلام : أن ترحمني ، قال جبريل : فإن عقوبتك أن تلبث في السجن بضع سنين (١).

وجاءت ساعة الذكرى عند ما رأى الملك حلما غريبا لا يقدر تفسيره أحد ، فتذكر السجين السالف براعة يوسف ، ويشير به ، ثم ينهض إلى استفتائه فينطوي بالتأويل الصريح (٢) ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى : (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ ، وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ ، يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ ، قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ ، وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ، يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ، قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) (٣) ، قال الإمام الزمخشري : تأول عليه‌السلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب ، والعجاف اليابسات بسنين مجدية ، ثم بشرهم بأن العام الثامن يجيء مباركا خصيبا ، كثير الخير ، غزير النعم ، وذلك من جهة الوحي (٤) ، لأن هذا العام الرخاء لا يقابله رمز في رؤيا الملك ، فهو إذن من العلم اللدني الذي علمه الله يوسف ، فبشر به الساقي ليبشر به الملك والناس بالخلاص من الجدب والجوع بعام رخي رغيد.

__________________

(١) تفسير القرطبي ٩ / ١٩٦.

(٢) محمد رجب البيومي : المرجع السابق ص ٢٢٥.

(٣) سورة يوسف : آية ٤٣ ـ ٤٩.

(٤) تفسير الكشاف ٢ / ٤٧٧.

٦١

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أنه قد مرت بنا رؤى ثلاث ، رؤيا يوسف ، ورؤيا صاحب السجن ، ورؤيا الملك ، وطلب تأويلها في كل مرة ، والاهتمام بها يعطينا صورة من جو العصر كله في مصر وفي خارج مصر ، وأن الهبة التي وهبها يوسف كانت من روح العصر وجوه ، على ما نعهد في معجزات الأنبياء ، فهل كانت هذه هي معجزة يوسف عليه‌السلام (١)؟ ربما كان الأمر كذلك.

وعلى أي حال ، فلقد طلب الملك أن يأتوا بيوسف من السجن ، غير أن الصديق إنما يرفض أن يغادر سجنه حتى تظهر براءته للناس جميعا ، مما ألصق به من تهمة هو منها براء ، قال السدي ، قال ابن عباس : لو خرج يوسف يومئذ قبل أن يعلم الملك بشأنه ما زالت في نفس العزيز منه حاجة يقول : هذا الذي راود امرأتي ، فلما رجع الرسول إلى الملك من عند يوسف جمع الملك أولئك النسوة (٢) فقال لهن : (ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ، قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ، ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ، وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣).

وهكذا تثبت الأحداث السابقة جميعا عصمة النّبي الكريم سيدنا يوسف عليه‌السلام وبراءته من تلك التهمة التي نسبها إليه من لا يعرف قدر النبوة ولا عظمة الرسالة ولا صفات الأنبياء الكرام البررة ، فضلا عن أن يوسف نبيّ وجد أبيه نبيّ ، فهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام ، هذا وقد قدم لنا الأستاذ الصابوني وجوها عشرة على عصمة يوسف وبراءته ،

__________________

(١) في ظلال القرآن ٤ / ١٩٩٣ ـ ١٩٩٤.

(٢) تاريخ الطبري ١ / ٣٤٦.

(٣) سورة يوسف : آية ٥١ ـ ٥٣.

٦٢

منها (أولا) امتناعه عن مطاوعة امرأة العزيز ووقوفه في وجهها بكل صلابة وعزم «قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون» ومنها (ثانيا) فراره من امرأة العزيز بعد أن حاصرته وضيقت عليه الخناق وأرادته على نفسها بالغصب والإكراه ، ولو كان يوسف قد همّ بالفاحشة لما فر منها ، لأن الذي يريد ذلك يقدم ولا يفر «واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر» الآية ، ومنها (ثالثا) شهادة بعض أقرباء المرأة ببراءة يوسف حيث أشار بفحص ثوبه فإن كان طالبا وهي الممتنعة فإن ثوبه سيشق من أمام ، وإن كانت هي الطالبة له وهو الممتنع فإن ثوبه سيشق من خلف ، وهذا ما ثبت (الآيات ٢٦ ـ ٢٩) ، ومنها (رابعا) تفضيله السجن على عمل الفاحشة (آية ٣٣) وهذا من أعظم البراهين على براءته ، ذلك لأنه لو طاوعها لما لبث في السجن بضع سنين بسبب تلك التهمة الظالمة ، ومنها (خامسا) ثناء الله تعالى عليه في مواطن عديدة من السورة ، كما في الآيات (٢١ ، ٢٢ ، ٢٤) فلقد أخبر الله تعالى أنه من المحسنين وأنه من عباده المخلصين ، ولن يكون ثناء الله تعالى إلا على من صفت نفسه ، وطهرت سيرته من كل نية سوء ، وكل عمل قبيح ، فكان من الأطهار المقربين ، كما أثنى عليه سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم ، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وكفى بذلك شرفا وفضلا.

ومنها (سادسا) اعتراف امرأة العزيز نفسها بعصمته وعفته أمام جمع من نسوة المدينة ، كما في الآيات (٣١ ـ ٣٢) ومنها (سابعا) ظهور أمارات براءة يوسف بكل الأدلة ، كقد القميص وقطع النسوة أيديهن وشهادة الصبي ، ومع ذلك فقد أقدم العزيز على سجنه إيهاما للناس ، وسترا على زوجته (الآية ٣٥) ، ومنها (ثامنا) استجابة الله تعالى لدعوة يوسف بأن يصرف عنه كيدهن ، ولو كان راغبا في مطاوعة امرأة العزيز ، لما طلب من الله أن يصرف عنه كيدهن (الآية ٣٤) ، ومنها (تاسعا) عدم قبول يوسف الخروج من السجن

٦٣

حتى تظهر براءته أمام الناس جميعا ، (الآية ٥٠) ومنها (عاشرا) الاعتراف الواضح من النسوة ومن امرأة العزيز ببراءة يوسف وعفته (الآيات ٥١ ـ ٥٣) (١).

__________________

(١) محمد علي الصابوني : النبوة والأنبياء ص ٧٤ ـ ٧٨ ، صفوة التفاسير ٢ / ٥٣ ـ ٥٤ ، تفسير النسفي ٢ / ٢٢١

٦٤

الفصل الثّاني

يوسف عزيز مصر

(١) يوسف العزيز :

ظهرت براءة يوسف عليه‌السلام ، كما رأينا ، في الفصل السابق ، ومن ثم فقد خرج من السجن ، ولقي الملك وتحدث إليه ، فرأى فيه مخايل الأمانة ، وحكمة التصرف وعزة النفس ، وأمارات السيادة فقربه إليه ، ورفع منزلته لديه ، وهكذا تشاء إرادة الله أن يصبح الصديق على خزائن الأرض أمينا ، بعد أن كان في زوايا الأرض سجينا ، إذ ينال الحظوة عند ملك مصر من الهكسوس بعد أن قام بتفسير رؤياه تفسيرا يتفق ومقام النبوة ، ويتنزه عن تفسيرات رجال البلاط وحكمائه من سدنة وكهان ، فضلا عن براءته مما نسب إليه بشأن امرأة العزيز ، ومن ثم فقد قلده الملك ما يشبه وزارة التموين في عصرنا الحاضر (١) ، وإن كانت التوراة تجعله أشبه برئيس الوزراء (٢) ، وهكذا قدّر للصديق عليه‌السلام أن يرتفع من رق العبودية إلى كرسي الوزارة (٣) ، وأن يتزوج ، فيما تروي التوراة ، من سيدة مصرية هي «أسنات

__________________

(١) انظر : سورة يوسف : آية ٥٤ ـ ٥٦ ، تكوين ٤١ / ١ ـ ٤٤.

(٢) تكوين ٤١ / ٤٠ ـ ٤٤.

(٣) ربما كان الصديق ، حدسا عن غير يقين ، يشرف على ما كان يسمى في مصر القديمة ، مصلحة الحقول والخزانة ، فأما مصلحة الحقول : فكان يتبعها الأراضي الزراعية على ضفاف النيل ، فضلا عن تلك التي تقع على حافة الصحراء والمحيطة بالمقابر والأهرامات الملكية ، وأما ـ

٦٥

بنت فوطي فارع» كاهن أون (عين شمس) ، ومنها أنجب ولديه منسي وأفرايم (١) ، وإن زوّجته المصادر العربية من امرأة العزيز التي راودته عن نفسه من قبل ، وقد أسموها راعيل أو زليخا ، بعد أن شغل منصب زوجها كذلك بسبب موته أو إعفائه من منصبه (٢).

ولعل سائلا يتساءل : أليس في قول يوسف عليه‌السلام «اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم» أمران محظوران في الإسلام ، أولهما : طلب التولية وهو محظور بقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله أو حرص عليه» (متفق عليه) ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة : يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها» ، وثانيهما : تزكية النفس ، وهي محظورة بقوله تعالى : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) (٣).

وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن يوسف إنما طلب الولاية رغبة في العدل ، وإقامة الحق والإحسان ، وليس هو من باب التزكية للنفس ، وإنما هو للإشعار بحنكته ودرايته لاستلام وزارة المالية (٤) ، وذهب أبو السعود

__________________

ـ مصلحة الخزانة ، وكانت تسمى بيت المال الأبيض (برجج) ويتولى إدارتها ، تحت إشراف الوزير ، مدير البيت الأبيض المزدوج ، ولها فروع من الأقاليم ، كما كانت تنقسم إلى قسمين : بيت الذهب وبيت الشونة (أنظر : محمد بيومي مهران : الحضارة المصرية ـ الإسكندرية ١٩٨٤ ص ١٢٩) ، غير أن المؤكد أن يوسف كان يشغل منصب العزيز ، كما وصف في القرآن (سورة يوسف : آية ٧٨).

(١) تكوين ٤١ / ٤٥ ، ٥٠ ـ ٥٢.

(٢) تفسير أبي السعود ٤ / ٢٨٦ ، تفسير النسفي ٢ / ٢٢٨ ، تفسير الخازن ٣ / ٢٩٣ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٤٧ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٤٥ ، الكامل في التاريخ لابن الأثير ١ / ٨٣ ، البداية والنهاية لابن كثير ١ / ٢١٠.

(٣) في ظلال القرآن ٤ / ٢٠٠٦ ، تفسير الخازن ٣ / ٢٩٢.

(٤) صفوة التفاسير ٢ / ٥٧.

٦٦

في تفسيره (١) إلى أنه قال «اجعلني على خزائن الأرض» أي أرض مصر (٢) وولني أمرها من الإيراد والصرف ، إني حفيظ لهما ممن لا يستحقهما ، عليم بوجود التصرف فيهما ، وفيه دليل على جواز طلب الولاية ، إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل وإجراء أحكام الشريعة ، وإن كان من يد الجائر أو الكافر ، وقيل إن الملك أسلم ، وقال الخازن في تفسيره : يكره طلب الإمارة إذا لم يتعين عليه طلبها ، فإذا تعيّن وجب عليه ولا كراهية عليه ، وأما يوسف فكان عليه طلب الإمارة لأنه مرسل من الله تعالى ، والرسول أعلم بمصالح الأمة من غيره ، وإذا كان مكلفا برعاية المصالح ولا يمكنه ذلك إلا بطلب الإمارة وجب عليه طلبها ، وهنا في طلب الإمارة ، بسبب ما سيحدث من قحط ، إيصال الخير للمستحقين ، فيجب طلبها (٣).

وذهب الإمام النسفي في تفسيره إلى أن يوسف عليه‌السلام وصف نفسه في قوله «اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم» ، بالأمانة والكفاية وهما طلبة الملوك ممن يولونهم ، وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله وإقامة الحق وبسط العدل ، والتمكن مما لأجله بعث الأنبياء إلى العباد ، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك ، فطلبه ابتغاء وجه الله ، لا لحب الملك والدنيا ، وفي الحديث «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ، ولكنه أخر ذلك سنة» ، قالوا وفيه دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان حمالة من يد سلطان جائر ، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة الظلمة ، وإذا علم النبي أو الظالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم ، إلا بتمكين الملك الكافر أو

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٤ / ٢٨٦.

(٢) قال الإمام القرطبي في تفسيره لقوله تعالى : قال : اجعلني على خزائن الأرض. «قال سعيد بن منصور : سمعت مالك بن أنس يقول : مصر خزانة الأرض» أما سمعت قوله «اجعلني على خزائن الأرض» أي على حفظها (تفسير القرطبي ص ٣٤٤٢).

(٣) تفسير الخازن ٣ / ٢٩٢.

٦٧

الفاسق فله أن يستظهر به (١) ، وأما ابن كثير فيذهب إلى أنه يجوز للرجل أن يمدح نفسه ، إذا جهل أمره ، للحاجة ، ولهذا قال يوسف إنه حفيظ ، أي خازن أمين ، وعليم ، أي ذو علم وبصيرة بما يتولاه ، ومن ثم فقد طلب يوسف من الملك أن يوليه النظر فيما يتعلق بالأهراء ، لما يتوقع من حصول الخلل فيما بعد مضي سبع سنى الخصب لينظر فيها بما يرضي الله في خلقه من الاحتياط لهم والرفق بهم ، وأخبر الملك إنه حفيظ أي قوي على حفظ ما لديه ، أمين عليه ، عليم بضبط الأشياء ومصالح الأهراء ، وفي هذا دليل على جواز طلب الولاية لمن علم من نفسه الأمانة والكفاية (٢).

هذا ويتجه صاحب الظلال إلى أننا لا نريد أن نجيب بأن هذه القواعد (عدم طلب التولية وعدم تزكية النفس) إنما تقررت في النظام الإسلامي على عهد سيدنا محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنها لم تكن مقررة على أيام يوسف عليه‌السلام ، والمسائل التنظيمية في هذا الدين (الإسلام) ليست موحدة كأصول العقيدة الثابتة في كل رسالة وعلى كل رسول ، لا نريد أن نجيب بذلك ، وإن كان له وجه ، لأن الأمر يرتكن إلى اعتبارات أخرى لا بدّ من إدراكها ، لإدراك منهج الاستدلال من الأصول والنصوص ، وذلك لأن يوسف عليه‌السلام لم يكن يعيش في مجتمع مسلم تنطبق عليه قاعدة عدم تزكية النفس عند الناس ، وعدم طلب الإمارة ، كما أنه كان يرى أن الظروف تمكن له من أن يكون حاكما مطاعا ، لا خادما في وضع جاهلي ، وكان الأمر كما توقع فتمكن بسيطرته من الدعوة لدينه ونشره في مصر في أيام حكمه ، وقد توارى العزيز ، وتوارى الملك تماما (٣).

__________________

(١) تفسير النسفي ٢ / ٢٢٧.

(٢) تفسير ابن كثير ٢ / ٢٥٤ (المختصر) ، البداية والنهاية ١ / ٢١٠ ، وانظر تاريخ الطبري ١ / ٣٤٧.

(٣) في ظلال القرآن ٤ / ٢٠٠٦ ، ٢٠١٣.

٦٨

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هناك من يزعم أن يوسف عليه‌السلام ، قد استقل بملك مصر ، اعتمادا على قول يوسف في دعائه «رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث» ، ولا دليل لهم في ذلك ، فيما يرى ابن خلدون ، لأن كل من ملك شيئا ، ولو في خاصة نفسه ، فاستيلاؤه يسمى ملكا ، حتى البيت والفرس والخادم ، فكيف من ملك التصرف ، ولو كان من شعب واحد منها ، فهو ملك ، وقد كان العرب يسمون أهل القرى والمدائن ملوكا (١) ، فما ظنك بوزير مصر لذلك العهد ، وفي تلك الدولة ، وأما الذين يستدلون بقوله تعالي : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) فهو ليس بديل أيضا ، لأن التمكين يكون بغير الملك ، ونص القرآن إنما هو بولاية على أمور الزرع في جمعه وتفريقه ، كما قال تعالى : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ، ومساق القصة كلها أنه مرءوس في تلك الدولة بقرائن الحال كلها ، لا يتوهم من تلك اللفظة الواقعة في دعائه ، فلا نعدل عن النص المحفوف بالقرائن إلى هذا المتوهم الضعيف ، وأيضا فالقصة في التوراة (٢) قد وقعت صريحة في أنه لم يكن ملكا ولا صار إليه ملك ، وأيضا فالأمر الطبيعي من الشوكة والقطامة له يدفع أن يكون حصل له ملك ، لأنه إنما كان في تلك الدولة قبل أن يأتي إليه إخوته منفردا لا يملك إلا نفسه ، ولا يتأتى الملك في هذا الحال (٣) ، هذا فضلا عن

__________________

(١) تشير نصوص فرعون مصر تحوتمس الثالث (١٤٩٠ ـ ١٤٣٦ ق ، م) على أنه حارب في موقعه مجد وحوالي عام ١٤٦٨ ق ، م ، أعداءه من ملوك سورية بزعامة أمير قادش ، وعددهم ٣٣٠ ملكا وأميرا ، مع كل منهم جيشه الخاص ، وقد انتصر عليهم ، كما تشير نصوص شلمنصر الثالث الأشوري أنه حارب في موقعه قرقر عام ٨٥٣ ق ، م حلفا من الأمراء السوريين يضم اثنى عشر ملكا على رأسهم بنحدد ملك دمشق ، كما اعتاد العرب تسمية حكام القرى والمدائن ملوكا مثل هجر ومعان ودومة الجندل ، وكان ولاة الأطراف وعمالها في الخلافة العباسية يسمون ملوكا.

(٢) تكوين ٤١ / ٣٣ ـ ٥٧.

(٣) تاريخ ابن خلدون ٢ / ٤٧.

٦٩

أن جمهرة المؤرخين والمفسرين إنما تذهب إلى أنه كان أشبه بوزير التموين أو المالية أو ما يشبه ذلك ، مما يفهم منه أنه كان المسئول عن جمع الغلال وحفظها في الأهراء في سنوات الرخاء ، وحسن استخدامها في أعوام المجاعة (١).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن التاريخ المصري إنما يصدق الأحداث التي أتت بيوسف عليه‌السلام إلى هذا المنصب ذلك أن مصر إنما كانت عرضة للمجاعات ، وفترات من تدهور الإنتاج الزراعي والحيواني على مرّ العصور ، ولقد كان ذلك في أغلب الأحايين من آثار اضطراب النيل وامتناع فيضه ، وإخلاله بالوفاء ، كما تعوّد وتعوّد منه الناس كل عام ، فإذا تدهور وأقام على نقائصه لم تكد مياهه لتصل إلى الأرض التي تتحرق شوقا إليه ، وتنتظر العام كله ، أو جله ، للقائه ، فعندئذ فلا ريّ ولا استنبات ، ثم لا زرع ولا ضرع ، فتكون الكارثة التي تنزل بالبلاد والعباد (٢).

والتاريخ يحدثنا أن الله تعالى ما جعل بلدا في العالم ، تتوقف حياته ووجوده ، مصيره ومستقبله ، في السلم أو في الحرب ، أو يرتبط سكانه وتاريخه بنهر ، مثلما تفعل مصر والنيل ، ومن ثم فإذا بالغ النيل في فيضه أحيانا ، فتعظم أمواهه وتضري أمواجه ، فإذا هو يندفع طوفانا عنيفا مدمرا مغرقا كل شيء ، ثم لا يكاد ينحسر عن الأرض إلا وقف انقضى من أوان البذر وقت قد يكون على الإنتاج أيام الحصاد سيّئ المسغبة ، وإن لم يبلغ

__________________

(١) أنظر : تاريخ الطبري ١ / ٣٤٧ ـ ٣٤٨ ، الكل لابن الأثير ١ / ٨٣ ـ ٨٨ ، ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ٢١٠ ، صفوة التفاسير ٢ / ٥٧ ، تفسير أبي السعود ٤ / ٢٨٦ ، تفسير الخازن ٣ / ٢٩٢.

(٢) انظر : تفسير ابن كثير ٤ / ٣٢١ ، تفسير القرطبي ص ٣٤٤٦ ـ ٣٤٤٧ ، تفسير الطبري ١٦ / ١٤٨ ـ ١٥٢ ، تفسير النسفي ٢ / ٢٢٨ ، أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ٥٥ ، تفسير الجلالين ص ٣١١ ـ ٣١٢ ، صفوة التفاسير ٢ / ٥٧.

٧٠

ذلك من سوئه مبلغ نقص الماء ، ذلك أن النهر إن هبط عن معدله الطبيعي ، فهي «الشدة» التي قد تصل إلى «المجاعة» ، وإذا كان الفيض المغرق يعني الطاعون ، فإن المجاعة كانت تعني «الموتان» الذي يصل إلى حد نشر معه الطاعون بدوره بعد ذلك حتى يتناقص السكان بدرجة مخيفة (١).

على أن إنحباس النيل ونضوب موارد الدولة ، إنما كان وثيق الصلة بما كان ينزل بها من الضعف السياسي ، وتحلل السلطة المركزية ، وتدهور الأمن واضطراب النظام ، فيكون شيوع الفساد وانتشار الجريمة مع القحط والجوع ، شرا مستطيرا ، وشقاء متصلا ، يحل بالناس فيترك في نفوسهم وعقولهم أثرا لا يمحي أو لا يكاد يمحي (٢). ويقدم لنا التاريخ أمثلة كثيرة لانخفاض النيل في مصر قبل وبعد عصر يوسف الصديق عليه‌السلام ، وما ينتج عن ذلك من كوارث اقتصادية ، ومن أشهر الأمثلة ما حدث على أيام الثورة الاجتماعية الأولى (الأسرات ٧ ـ ١٠) يقول «نفرتي» : لقد جف نيل مصر حتى ليخوضه الناس بالقدم ، وسوف يبحث الناس عن الماء لتجري عليه السفن فيجدوا أن الطريق قد صار شاطئا ، وأن الشاطئ قد صار ماء (٣)» ، ومن ثم فقد رأينا من نفس الفترة شريفا من الصعيد هو «عنخ تفي» حاكم «نخن» (البصيلية ـ مركز أدفو بمحافظة أسوان) يتحدث عن سني المجاعة فيقول إنه أمد خلالها مدنا أخرى ، إلى جانب مدينته ، بالهبات والقمح ، وقد امتدت دائرة نشاطه حتى دندرة ، في مقابل قنا عبر النهر ، وبذا أنقذ الصعيد الجنوبي الذي كاد يموت جوعا ، وكاد كل رجل فيه أن يغتال أطفاله (٤)».

على أن المصريين قد اكتسبوا من ذلك حكمة التجربة وحسن التدبير ،

__________________

(١) جمال حمدان : شخصية مصر ـ القاهرة ١٩٧٠ ص ٢٤١ ـ ٢٤٥.

(٢) أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ٥٦.

(٣) A.Erman ,LAE , ١١٣.p ، ١٩٢٧.

(٤) A.Gardiner ,Egypt of the Pharaohs , ١١١.p ، ١٩٦١.

٧١

إذ كانوا يدخرون غلة الأرض من أيام الري لأيام الجفاف ، ومن يسرهم لعسرهم ، ومن رخائهم لشدتهم ، وكانت حكمة الملوك والأمراء وحكام الأقاليم وحسن تدبيرهم خليقا أن يخفف عن الرعية بما كانوا يصنعون (١) ، ومن ثم فقد رأينا «خيتي» أمير أسيوط على أيام الإهناسيين يتحدث عن جهوده في القضاء على الأزمة الاقتصادية ، بأن يقدم هدية لمدينته بأن حفر ترعة ليروي الفلاحون منها أرضهم ويسقوا زرعهم ، ثم يقول : إنني غني بقمح الشمال حيث كانت الأرض في جفاف ، وعند ما شحت أقوات البلاد أمددت المدينة بالحبوب والخبز ، وسمحت لكل مواطن بأن يأخذ نصيبه ونصيب زوجته ، وقد أعطيت الأرملة وولدها ، وتجاوزت عن الضرائب التي فرضها أبي ، وملأت المراعي بالمواشي (٢)» ، وفي مدينة الكاب ، مقابل البصيلية عبر النهر ، نرى أميرها «ببي» من الأسرة الثالثة عشرة ، التي سبقت قليلا جدا عصر الصديق ، وربما عاصرت أوائله من أيام الهكسوس ، يقول : «لقد كنت أكدس القمح الجيد المطلوب ، وكنت يقظا في فصل البذر ، فلما وقعت المجاعة على مدى الكثير من السنين أعطيت مدينتي القمح في كل مجاعة (٣)».

على أن العلماء على كثرة ما قرءوا من أخبار المجاعات في مصر القديمة (٤) ، إنما يقفون خاصة موقف الفاحص من مجاعة تفشت أخبارها

__________________

(١) أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ٥٧ ـ ٥٨.

(٢) محمد بيومي مهران : الثورة الاجتماعية الأولى ـ الإسكندرية ١٩٦٦ ص ١٢٨ ـ ١٢٩. وكذا

J. Vandier, La Famine dans l\'Egypte Ancienne, Le caire, F

١٠١.p ، ١٩٣٦ وكذاJ.H.Breasted ,ARE ,I , ١٨١.p ، ١٩٠٦.

(٣) T.Vandier op ,cit ,P ١١٤

(٤) تعرضت مصر لكثير من المجاعات في العصور الوسطى بسبب انخفاض النيل ، كالتي حدثت على أيام الأمويين في عام ٨٧ م ، وعلى أيام الإخشيديين في أعوام ٣٢٩ م ، ٣٣٨ م ، ٣٤١ م ، ٣٤٣ م ، ٣٥١ م ، ولعل أشهر وأبشع المجاعات ما سجل البغدادي أثناء الشدة المستنصرية ـ

٧٢

على الصخر من جزيرة سهيل ـ جنوبي أسوان ، ولئن كان الخبر منسوبا إلى أيام الملك «زوسر» من الأسرة الثالثة فالذي لا شك فيه إنما نقش بعده بعشرين قرنا من الزمان ، نقشه كهان «خنوم» على عهد البطالة ، ربما عام ١٨٧ ق. م. على أيام بطليموس الخامس ، وربما بطليموس العاشر في أكبر الظن ، أي في الفترة (١٠٧ ـ ٨٨ ق. م.) ، وغير بعيد أن يكون النص صوتا من واقع بعيد ، يرجع إلى أيام الصديق ، وأن كهان خنوم حين كتبوه على عهد بطليموس الخامس أو العاشر ، إنما كانوا تحت تأثير ما كان يومئذ من أصداء الماضي السحيق ، وبما ورد في التوراة من أصداء السنين السبع الشداد التي جرت بها ألسنة من كان بمصر يومئذ من يهود ، بخاصة وأن الترجمة السبعينية (١) للتوراة كانت قد تمت بمصر على أيام بطليموس الثاني (٢٨٤ ـ ٢٤٦ ق. م) ، وأن هناك جالية من يهود إنما كانت تقيم في اليفانتين (جزيرة أسوان) (٢) وتطل من حيث الموقع على جزيرة سهيل حيث نقش نص المجاعة (٣).

وعلى أية حال وأيا ما كانت ظروف هذه المجاعات التي كانت بسبب عدم فيضان النيل ، فإن المجاعة التي كانت ستحدث على أيام الصديق في عهد

__________________

ـ التي بدأت عام ٤٥٧ م ، واستمرت سبع سنين متصلة في أخريات أيام الفاطميين ، وبلغ من قسوتها أن أكل الناس القطط والكلاب ، ثم الجيف ، ثم أكلوا بعضهم بعضا ، حتى انتهت بفناء رهيب للسكان ، لا يملك قارئ البغدادي إلا أن يتصوره فناء كاملا أو شبه كامل (أنظر : جمال حمدان : المرجع السابق ص ٢٤٤ ـ ٢٤٥ ، محمد حمدي المناوي : مصر في ظل الإسلام ١ / ١٧١ ـ ١٧٥ ، الكندي : كتاب الولاة وكتاب القضاة ص ٥٩ (بيروت ١٩٠٨) ، السيوطي : حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة ٢ / ١٥٤.

(١) انظر : عن الترجمة السبعينية للتوراة (محمد بيومي مهران : إسرائيل ٣ / ١٠٧ ـ ١١٢).

(٢) أنظر : عن الجالية اليهودية في أسوان (محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ١٠٧٦ ـ ١١٠٢).

(٣) أنظر : عن نقش المجاعة على جزيرة سهيل : محمد بيومي مهران : مصر ١ / ٣٦٣ ـ ٣٦٦ ، إسرائيل ١ / ٢٢٧ ـ ٢٢٩ ، وكذا

P. Barguet, La Stele de La Famine a Sahel, Cairo,

١٩٥٣ وكذاJ.A.Wilson ,ANET , ٣٢ ـ ٣١.p ، ١٩٦٦ وكذاJ.Vandier ,op ـ cit ,P. ١٣٩ ـ ١٣٢

٧٣

الهكسوس ، إنما كانت حقيقة لا ريب فيها ، لو لا أن تداركت رحمة الله أرض الكنانة بحكمة يوسف عليه‌السلام ، ومن ثم فقد كانت أيام الصديق في مصر خيرا كلها ، دينا ودنيا ، بل إن وجود يوسف في مصر حين من الدهر ، شرف ما بعده شرف ، وأن دعوته كانت رحمة وهداية للمصريين ، ما في ذلك من ريب ، وأن الصديق عليه‌السلام قد أنقذ الله به مصر من مجاعة محققة ، كادت تهلك الحرث والنسل ، وأنه قد نشر في مصر دعوة التوحيد وبث العقيدة الصحيحة ، ما في ذلك شبهة من شك ، وهكذا حمل الصديق عليه‌السلام إلى مصر نور الإيمان وهداية التوحيد ، وعدالة الله ، وكل ما هو خير وطيب من نعم الله التي يجريها ، سبحانه وتعالى ، على أيدي المصطفين الأخيار من أنبيائه الكرام البررة.

(٢) يوسف وإخوته في مصر :

ما أن تمضي سنون الرخاء السبع ، وتبدأ سنون الجفاف في مصر ، حتى يجتاح أرض كنعان (فلسطين) جدب ، فتفقر الأرض وتعم المجاعة ، وتتجه كنعان صوب أرض الكنانة ، الطيبة والكريمة كذلك ، لعلها تجد عندها المأوى ، كالعهد بها دائما وأبدا ، وينطلق أبناء يعقوب إلى مصر مع المنطلقين ، فقد أصابهم من الجوع ما أصاب غيرهم ، ويتعرف الصديق على إخوته وهم له منكرون ، وهذا من بديهيات الأمور ، فإن يوسف قد عرفهم لقوة فهمه ، وعدم مباينة أحوالهم السابقة لحالهم يومئذ لمفارقته إياهم وهم رجال ، وتشابه هيأتهم وزيّهم في الحالين ، ولكن همته معقودة بهم وبمعرفة أحوالهم ، لا سيما زمن القحط ، وأما هم فلم يعرفوه لأن خيالهم لا يتصور قط أن هذا الوزير الخطير ، هو ذاك الغلام العبراني الذي ألقوه في الجب منذ عشرين عاما أو تزيد ، فقد كبر بعد صغر ، واغتنى بعد فقر ، وعاش بعد أن دفعوه إلى الموت ، وعزّ بعد أن حقّروه وأهانوه ، ووزّر بعد أن كان من رعاة

٧٤

الأغنام ، فكيف يعرفون وجودا من عدم ، ومن أجل هذا عرفهم ، وهم له منكرون ، ولم يخطر على بالهم أنه نجا من الجب الذي ألقوه فيه ، وأنه عاش وكبر ، ونزح من كنعان إلى مصر ليصير وزيرا خطيرا (١).

ومن عجب أن التوراة ، ومن نحا نحوها من المفسرين ، إنما تفاجئنا بصورة غريبة عن محاورة دارت بين يوسف وإخوته ، تذهب فيها إلى أن الصديق إنما عرف إخوته منذ اللحظة الأولى للقائه بهم ، وأنه قد اتهمهم بالتجسس ثم حبسهم أياما ثلاثة ، ثم أطلق سبيلهم ، وإن استبق أخاهم «شمعون» حيث قيّده على مرأى منهم ، حتى يعودوا إليه بأخيهم «بنيامين» (٢) ، وهذا التهديد ، إن حملناه محمل الجد ، فلا بدّ من القول إنه إنما يدل على أن يوسف إنما كان يحمل حقدا دفينا على إخوته ، وهو أمر لا نشك في براءة الصديق منه البراءة ، كل البراءة ، هذا وقد ذهبت جمهرة من المفسرين والمؤرخين المسلمين إلى أن إخوة يوسف لما دخلوا عليه عرفهم وقال كالمنكر عليهم : ما أقدمكم بلادي؟ قالوا : جئنا للميرة ، قال لعلكم عيون (جواسيس) علينا ، قالوا : معاذ الله ، قال فمن أين أنتم ، قالوا من بلاد كنعان ، وأبونا يعقوب نبيّ الله ، قال : وله أولاد غيركم ، قالوا نعم ، كنا اثنى عشر ، فذهب أصغرنا وهلك في البرية ، وكان أحبنا إليه ، وبقي شقيقه فاحتبسه ليتسلى به عنه ، وجئنا نحن العشرة ، فأمر بإنزالهم وإكرامهم (٣).

وأما القرآن الكريم فقد ذكر أن يوسف أكرم وفادتهم ، ورد إليهم ما

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٤ / ٢٨٨ ، محمود زهران : قصص من القرآن ص ٨٧.

(٢) تكوين ٤٢ / ٧ ـ ٢٤.

(٣) أنظر : تفسير النسفي ٢ / ٢٨٨ ، تفسير الجلالين ٢ / ٢٤٩ ، مختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٢٥٥ ، صفوة التفاسير ٢ / ٥٨ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٤٨ ، الكامل لابن الأثير ١ / ٨٤ ، البداية والنهاية لابن كثير ١ / ٢١١.

٧٥

دفعوه من ثمن دون أن يشعرهم (١) ، وجاء أن يغريهم ذلك بإحضار شقيقه بنيامين ، وهددهم بلطف إن لم يأتوا به (فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) ، ولم يرد في الذكر الحكيم مما ورد في التوراة من إساءته لإخوته ، إذ أن ذلك لا يتفق والصورة التي رسمها القرآن الكريم وأبرز معالمها لشخصية يوسف ، وما اتسمت به من حلم وإخلاص وبر ، وهو الذي علمه ربه وأحسن هدايته ، وطهر قلبه من الحسد ، قال تعالى منوها بشأنه : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (٢).

ودارت مفاوضات بين يعقوب عليه‌السلام وأبنائه انتهت بقبوله إرسال بنيامين معهم ، على أن يؤتره موثقا من الله أن يردوه عليه ، إلا أن يحاط بهم (٣) ، فلما آتوه موثقهم جعل النبي الكريم يوصيهم بما خطر له ، (وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ، وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٤).

وتضرب الروايات والتفاسير في هذا وتبدي وتعيد بلا ضرورة ، ولو كان السياق القرآني يحب أن يكشف عن السبب لقال ، ولكنه قال فقط «إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها ، فينبغي أن يقف المفسرون عند ما أراده السياق احتفاظا بالجو الذي أراده ، والجو يوحي بأنه كان يخشى شيئا عليهم ، ويرى

__________________

(١) جاء في تفسير الظلال (٤ / ٢٠١٦) أن يوسف لم يعطهم قمحا ، إنما وضع لهم بضاعتهم في رحالهم ، فلما عادوا قالوا : يا أبانا منع منا الكيل ، وفتحوا رحالهم فوجدوا بضاعتهم ، وكان ذلك ليضطرهم إلى العودة بأخيهم ، وكان هذا بعض الدرس الذي عليهم أن يأخذوه.

(٢) أنظر : سورة يوسف : آية ٥٨ ـ ٦٣.

(٣) سورة يوسف : آية ٦٣ ـ ٦٦.

(٤) سورة يوسف : آية ٦٧ ـ ٦٨.

٧٦

في دخولهم من أبواب متفرقة اتقاء لهذا الشيء ، مع تسليمه بأنه لا يغني عنهم من الله شيء ، فالحكم كله إليه ، والاعتماد كله عليه ، إنما هو خاطر شعر به ، وحاجة في نفسه قضاها بالوصية ، وهو على علم بأن إرادة الله نافذة ، فقد علمه الله هذا فتعلم بنور النبوة أنه لا ينفع حذر من قدر ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، ثم ليكن هذا الشيء الذي كان يخشاه هو العين الحاسدة ، وقد قال سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن العين حق ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم العين حق تدخل الرجل القبر ، والجمل القدر» ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعوّذ الحسن والحسين فيقول : «أعيذكما بكلمات الله التامة من كل هامة ومن كل عين لامة» ، وفي رواية «أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة» ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : كان أبوكما (يعني إبراهيم) يعوّذ بهما إسماعيل وإسحاق» (رواه البخاري) ، أو كان يعقوب يخشى على أولاده غيرة الملك من كثرتهم وفتوتهم أو هو تتبع قطاع الطرق لهم ، أو كائنا ما كان فهو لا يزيد شيئا في الموضوع (١).

وعلى أية حال ، فما أن دخلوا على يوسف ورأى أخاه ، حتى سجد شكرا لله على أن ساق إليه أخاه ووجده على قيد الحياة ، في يد أعداءه ، وهم الذين من قبل طاردوا أخاه ، وثارت شجون يوسف لما رآه ، وتحركت نفسه لسابق ما عاناه ، فمال على أخيه بنيامين وقال : إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون ، وسأدبر أمرا وهم لا يشعرون ، وستبقى وهم راحلون ، (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ، ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ : أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ، قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ ، قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ، وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ، قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي

__________________

(١) في ظلال القرآن ٤ / ٢٠١٨ ، صفوة التفاسير ٢ / ٥٩ ، تفسير النسفي ٢ / ٢٣٠ ، تفسير أبي السعود ٤ / ٢٩٢ ، مختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٢٥٦.

٧٧

الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) (١) ، قال البيضاوي استشهدوا بعلمهم على براءة أنفسهم لما عرفوا منهم من فرط أمانتهم ، كرد البضاعة التي جعلت في رحالهم ، وككمّ أفواه الدواب لئلا تتناول زرعا أو طعاما لأحد (٢) ، وهنا سألوهم : (فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ ، قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ ، كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٣).

وهنا ينكشف طرف التدبير الذي ألهمه الله يوسف ، وطبقا الرواية ابن كثير ، فقد كانت شريعة إبراهيم عليه‌السلام أن السارق يدفع إلى المسروق منه ، أو كما يقول صاحب الظلال : فقد كان المتبع في دين يعقوب أن يؤخذ السارق رهينة أو أسيرا أو رقيقا في مقابل ما يسرق ، وتقول التوراة : الذي يوجد معه من عبيدك يموت ، ونحن أيضا نكون عبيدا لسيدي ، فقال نعم الآن بحسب كلامكم هذا يكون الذي يوجد معه يكون لي عبدا ، وأما أنتم فتكونون أبرياء» ، ولما كان إخوة يوسف موقنين بالبراءة فقد ارتضوا تحكيم شريعتهم فيمن يظهر أنه سارق ، ذلك ليتم تدبير الله ليوسف وأخيه ، ذلك لأنه لو حكم فيهم بشريعة ملك مصر ما تمكن من أخذ أخيه ، إنما كان يعاقب السارق على سرقته ، دون أن يستولي على أخيه ، كما استولى عليه بتحكيم إخوته لدينهم هم ، وهذا هو تدبير الله الذي ألهم يوسف أسبابه ، وهو كيد الله له ، والكيد يطلق على التدبير في الخفاء للخير أو للشر سواء وإن كان الشر قد غلب عليه (٤).

وبدأ التفتيش ، وأرشدت الصديق حصافته إلى أن يبدأ برحالهم قبل

__________________

(١) سورة يوسف : آية ٧٠ ـ ٧٣.

(٢) تفسير البيضاوي ٢ / ٢٦٧.

(٣) سورة يوسف : آية ٧٤ ـ ٧٥.

(٤) تفسير الظلال ٤ / ٢٠١٩ ـ ٢٠٢٠ ، مختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٢٥٧ ، تفسير النسفي ٢ / ٢٣٢ تكوين ٤٤ / ٩ ـ ١٠.

٧٨

رحل أخيه ، كي لا يثير شبهة في نتيجة التفتيش ، قال قتادة : ذكر لنا أنه كان لا يفتح متاعا ولا ينظر وعاء إلا أستغفر الله مما قذفهم به ، حتى بقي أخوه ، وهو أصغرهم ، فقال : ما أظن هذا أخذ شيئا ، فقالوا والله لا نتركك حتى تنظر في رحله ، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا ، فلما فتحوا متاعه وجدوا الصواع فيه ، فلما أخرجها منه نكس الأخوة رءوسهم من الحياء وأقبلوا عليه يلومونه ويقولون له : فضحتنا وسوّدت وجوهنا يا ابن راحيل. وفي رواية لابن الأثير قالوا : يا بني راحيل لا يزال لنا منكم بلاء ، فقال بنيامين : بل بنو راحيل ما يزال لهم منكم بلاء ، وزاد الطبري : ذهبت بأخي فأهلكتموه في البرية ، وضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم ، فقالوا : لا تذكرا الدراهم فتؤخذ بها. ثم صاح الأخوة ، وقد حرك الحرج الذي يلاقونه الآن كوامن حقدهم على بنيامين ، وعلى يوسف قبله ، فإذا هم ينتصلون من نقيصة السرقة ، وينفونها عنهم ويلقونها على أبناء هذا الفرع من أبناء يعقوب (أبناء راحيل) قالوا : «إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل» ، وتنطلق الروايات والتفاسير تبحث عن مصداق قولهم هذا في تعلانية وحكايات وأساطير ، فمن قائل إنه كان سرق صنما لجده أبي أمه فكسره فعيروه بذلك ، ومن قائل كان بنو يعقوب على طعام ، إذ نظر يوسف إلى عرق (وهو العظم أكل لحمه) فخبأه فعيروه بذلك ، إلى غير ذلك من روايات لا سند لها ، وكأن أخوة يوسف لم يكذبوا قبل ذلك على أبيهم في يوسف ، وكأنهم لا يمكن أن يكذبوا على عزيز مصر دفعا للتهمة التي تحرجهم ، وتبرءوا من يوسف وأخيه السارق ، وإرواء لحقدهم القديم على يوسف وأخيه ، وعلى أية حال ، فلقد أسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم (١).

__________________

(١) تفسير النسفي ٢ / ٢٣٢ ، تفسير الظلال ٤ / ٢٠٢٢ ، صفوة التفاسير ٢ / ٦٢ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٥٤ ـ ٣٥٥ ، الكامل لابن الأثير ١ / ٨٥ ، مختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٢٥٨ ، البداية والنهاية ١ / ٢١٣.

٧٩

ثم سرعان ما عاد أخوة يوسف إلى الموقف الحرج الذي وقعوا فيه ، وإلى الموثق الذي أخذه عليهم أبوهم ، فراحوا يسترحمون يوسف باسم والد الفتى ، الشيخ الكبير ، ويعرضون أن يأخذ بدله واحدا منهم ، إن لم يكن مطلقه لخاطر أبيه ، ويستعينون في رجائه بتذكيره بإحسانه وصلاحه وبره لعله يلين «قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين» ، ولكن يوسف كان يريد أن يلقي عليهم درسا ، وكان يريد أن يشوقهم إلى المفاجأة التي يعدها لهم ولأبيه ليكون وقعها أعمق وأشد أثرا في النفوس «قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون» ، ولم يقل معاذ الله أن نأخذ بريئا بجريرة سارق ، لأنه كان يعلم أن أخاه ليس بسارق ، فعبر أدق تعبير يحيكه السياق هنا باللغة العربية بدقة ، قال صاحب تفسير روح المعاني : والتعبير بقوله «من وجدنا متاعنا عنده» بدل «من سرق» لتحقيق الحق والاحتزار عن الكذب (١).

وهكذا وقع القوم في ضيق ، وانحدروا في مأزق ، وابتعدوا عن الناس ، وتناجوا في أمرهم ، «قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ، ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا ما علمنا وما كنا للغيب حافظين» ، وإن كان في شك من أمركم فليسأل القرية (٢) التي كنا فيها ، أو ليسأل القافلة التي كنا فيها فهم

__________________

(١) في ظلال القرآن ٤ / ٢٠٢٢ ، تفسير روح المعاني ١٣ / ٣٤.

(٢) القرية هنا ليست اسما لعاصمة مصر ، حتى وإن رأى البعض أن اسم القرية إنما يعني المدينة الكبيرة لأن عاصمة مصر على أيام الهكسوس (أفاريس) وهو عصر يوسف ، لم تكن عاصمة لمصر كلها ، وإنما للجزء الذي كان يحكمه الهكسوس حتى مدينة القوصية (شمالي أسيوط بحوالي ١٥ كيلا) فحسب ، ولأن الله وصف مكة المكرمة عند ظهور الإسلام بأنها أم القرى (الأنعام ٩٢) ثم يصف عاصمة مصر كلها بأنها قرية ، ومن ثم فالرأي عندي أنها ربما كانت القرية أو المدينة التي اختيرت لتوزيع الغلال خارج العاصمة أو قريبا منها.

٨٠