دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٢

النفس وتتجلى الحقيقة بالاستعداد للفداء في سبيلها ، ويظهر طغيان فرعون هذا الذي يستعظم أن يكون في مصر من يذعن للحق ، قبل أن يأذن له الملك.

وفوجئ فرعون بما لم يكن يتوقع من عجز السحرة ، وفضيحة الهزيمة أمام موسى بين الناس ، وأحس أن صرح كبريائه بدأ ينهار ، وأنه كاد أن يكون أضحوكة عامة تشيع في أرجاء مصر كلها ، ومن ثم فقد وقف يزأر ولا زئير ، ويتوعد السحرة ولا وعيد ، كما أحس الملأ من حوله أن مقامهم كذلك صائر إلى دمار ، والبطانة من حول الملك ، وكل الملوك وأصحاب السلطان ، لا تخلد إلى السكون ، فهي دائمة الحركة ، دائمة القول والتحريض ، لأن الدعوة الجديدة تعصف بمقامهم ومقام زعيمهم في البلاد ، ولعل ذلك يمكن أن يفهم من قولهم لموسى وهارون من أول لقاء (أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) (١) ، ومن ثم فإننا نراهم يحرضون فرعون على مذبحة جديدة بين بني إسرائيل ، (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ، قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) (٢) ، وفي سورة غافر (قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ، وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) (٣).

ومن المعروف أن بني إسرائيل قد عانوا من قبل ، في إبان مولد موسى ، مثل هذا التنكيل الوحشي من فرعون وملئه ، كما يقول تعالى :

__________________

(١) سورة يونس : آية ٧٨.

(٢) سورة الأعراف : آية ١٢٧.

(٣) سورة غافر : آية ٢٥ ـ ٢٦.

٢٠١

(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (١).

ومن ثم فهناك ، فيما يرى صاحب الظلال ، أحد احتمالين ، فيما حدث بعد ذلك الأمر ، الأول أن فرعون الذي أصدر ذلك الأمر ، كان قد مات وخلفه ابنه أو ولي عهده ، وهذا ما تذهب إليه التوراة (٢) ، ولم يكن الأمر منفذا في العهد الجديد ، حتى جاء موسى وواجه الفرعون الجديد ، الذي كان يعرفه وهو ولي للعهد ، ويعرف تربيته في القصر ، ويعرف الأمر الأول بتذبيح الذكور وترك الإناث من بني إسرائيل ، فحاشيته تشير إلى هذا الأمر ، وتوحي بتخصيصه لمن آمنوا بموسى ، سواء كانوا من السحرة أو من بني إسرائيل القلائل الذين استجابوا له على خوف من فرعون وملئه ، والاحتمال الثاني ، أنه كان فرعون الأول الذي تبنى موسى ما يزال ، على عرشه ، وقد تراخى في تنفيذ الأمر بعد فترة أو وقف العمل به بعد زوال حدته ، فالحاشية تشير بتجديده وتخص به الذين آمنوا مع موسى وحدهم للإرهاب والتخويف (٣).

وأما قتل موسى عليه‌السلام ، فإنما هو جد صعب المنال ، وربما كان السبب في ذلك خوف الفرعون وملئه ، من حدوث هياج عام بين المصريين أنفسهم ، وخاصة بعد أن شاع وذاع ، وملأ الأسماع ، نبأ المعجزة الباهرة التي قهرت المهرة من السحرة وحمّلتهم على أن يؤمنوا ويعلنوا إيمانهم على رءوس الأشهاد بهذه الصورة المؤثرة ، ومن ثم فأكبر الظن أن النبيين الكريمين لم تكن لهما قوة تحميهما ، في نظر فرعون ، إلا الخوف من هياج

__________________

(١) سورة القصص : آية ٤.

(٢) خروج ٢ / ٢٣ ، ٤ / ١٩ ، ثم قارن : البداية والنهاية ١ / ٢٥٠.

(٣) في ظلال القرآن ٥ / ٣٠٧٧ ـ ٣٠٧٨.

٢٠٢

الرأي العام ، إن صح هذا التعبير ، بعد أن سمع ما سمع ، ورأى ما رأى ، ومن يدري فقد يوحي هذا للجماهير بتقديس موسى واعتباره شهيدا ، والحماسة الشعورية له وللدين الذي جاء به ، ولعلنا نستطيع أن نلمس هذه المعارضة فيما حكاه القرآن عن فرعون حين قال (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) (١) ، فإن كلمة «ذرني» تفيد أنه كان هناك من يعوقونه أو يمنعونه أو يشيرون عليه بغير ما كان يرى ، وقد يكون بعض مستشاري الفرعون أحس في نفسه رهبة أن ينتقم إله موسى له أو يبطش بهم ، وليس هذا ببعيد ، فقد كان الوثنيون يعتقدون بتعدد الآلهة ، ويتصورون بسهولة أن يكون لموسى إله ينتقم له ممن يعتقدون عليه ، ويكون قول فرعون «وليدع ربه» ردا على هذا التلويح ، وإن كان لا يبعد أن هذه الكلمة الفاجرة من فرعون إنما كانت تبجحا واستهتارا ، لقي جزاءها في نهاية المطاف ، حيث أغرقه الله وجنده في البحر (٢).

هذا فضلا عن أن هناك دليلا من القرآن يفيد أن هناك من يعارض في قتل موسى عليه‌السلام ، ذلك أن فرعون عند ما ضاق ذرعا بموسى ، وعقد مع الملأ مؤتمرا للفتك به ، فوجئ بواحد من هذا الملأ يكتم إيمانه ، ينهض لمعارضة هذه الفكرة ويقول : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ ، وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ، إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ، يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ ، فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) ، وهال فرعون ما سمع ، فأخذته العزة بالإثم ونفخ الشيطان في روحه ، فقال : (ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى ، وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) ، وعاد الرجل يعقب على كلام

__________________

(١) سورة غافر : آية ٢٦.

(٢) في ظلال القرآن ٥ / ٣٠٧٨.

٢٠٣

فرعون ، ويحذره من غضب الله وبطشه ، وبما حدث لغيره من الطغاة العتاة ، ثم أعلن أنه أبرأ ذمته (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (١).

وهكذا فشل فرعون وملؤه في تدبير خطة لاغتيال موسى ، بل إن القرآن إنما يحدثنا أن فرعون إنما وجد المعارضة في داخل بيته نفسه ، من زوجته ، ذلك أن امرأة فرعون قد استطاعت أن تحرر فكرها ووجدانها من كل الأواصر والمؤثرات والقيود ، فترفض أن تسير في ركاب زوجها ، وأن تنساق في تيار المجتمع الذي تعيش فيه ، بل وتعلن عن موقفها في ثبات وإيمان ، بعد أن اتضح لها ضلال فرعون ، وتبيّن لها الحق في دعوة موسى ، رغم ضغط المجتمع وشدة وطأته ، ورغم مغيرات الحياة الرخية الناعمة في قصر أعظم ملوك الأرض ، وأكثرهم غنى ، وأرفعهم حضارة ، ورغم آصرة الزوجية التي تربطها بفرعون ، فكانت مثلا للشخصية الإنسانية المستقلة في الإيمان والقيم (٢) ، وإلى هذه السيدة الجليلة يشير القرآن الكريم في قوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٣) ، وهي التي

__________________

(١) أنظر : سورة غافر : آية ٢٨ ـ ٤٤ ، محمد بيومي مهران : إسرائيل ١ / ٣١٥ ـ ٣٣٠.

(٢) التهامي نقرة : المرجع السابق ص ٤٠١.

(٣) سورة التحريم : آية ١١ ، هذا وقد جاءت أحاديث شريفة في فضل امرأة فرعون منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خير نساء العالمين أربع ، مريم ابنة عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد رسول الله» ، ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حسبك من نساء العالمين بأربع ، مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون» (وأنظر عن هذه الأحاديث الشريفة وروايات أخرى لها : ابن كثير : التفسير ٢ / ٣٢ ـ ٣٤ ، البداية والنهاية ٢ / ٥٩ ـ ٦٣ ، تفسير الطبري ٦ / ٣٩٣ ـ ـ!؟ ، صحيح البخاري ٤ / ١٩٣ ، ٦ / ٢٣٩ ، صحيح مسلم ٢ / ٢٤٣ ، سنن الترمذي ٤ / ٣٦٥ ـ ٣٦٦ ، المستدرك للحاكم ٣ / ١٨٤ ، ـ

٢٠٤

أودع الله في قلبها حب موسى عليها‌السلام ، والشفقة عليه ، والرحمة به منذ أول لحظة رأته فيها ، (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) (١).

وعلى أي حال ، فلقد علم موسى عليه‌السلام أن فرعون ماض في غلوائه وكبريائه ، كما علم بنو إسرائيل ما ينتظرهم من المحن والبلايا والفتن ، فتملكهم الرعب ، ولم يجدوا في أنفسهم قوة تعينهم على مجرد الصبر والاحتمال ، فقد قال لهم موسى : (اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ، فكان جوابهم مما حكاه القرآن عنهم : (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) ، وهو جواب ينم عن عدم الإيمان بالله والثقة بعونه ونصره ، كما ينم عن شعورهم بهوان قدرهم والعجر عن الصبر (٢).

ونقرأ في التوراة أن موسى ضرب النهر بعصاه ، فتحول الماء دما ، ومات السمك وأنتن النهر ، وبعد أيام سبعة سلط الله عليهم الضفادع حتى اكتظت بها الأرض ، وحتى خيل أن الأرض تتحرك بسببها ، مما جعل فرعون يطلب من موسى أن يسأل ربه أن يرفع عنه هذا البلاء ، وحين أجيب إلى مسئوله عاد ثانية فاشتد قلبه (٣) ، فسلط الله على كل أرض مصر البعوض (٤) ، فإذا ما تذكرنا أن المصريين كانوا قوما يراعون منتهى الدقة في النظافة ، كما

__________________

ـ تحفة الأحوذي ١٠ / ٣٨٩) وأن امرأة فرعون ستكون زوجة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجنة (أنظر : البداية والنهاية ٢ / ٦٢).

(١) سورة القصص : آية ٩.

(٢) سورة الأعراف : آية ١٢٨ ـ ١٢٩ ، عبد الرحيم مودة : المرجع السابق ص ١٨٣.

(٣) خروج ٧ / ١٤ ـ ٢٢ ، ٨ / ١ ـ ١٥ ، ف. ب. ماير : حياة موسى ـ ترجمة القس مرقص داود ص ١٠٤.

(٤) استعملت الترجمة العربية والألمانية للتوراة كلمة «البعوض» ، وأما الترجمة الإنجليزية والفرنسية وهامش الكتاب المقدس ، فقد استعملت كلمة «القمل» بدلا من كلمة «البعوض».

٢٠٥

كان الكهنة أكثر القوم مراعاة للنظافة كانوا يغتسلون مرارا ، ويحلقون شعورهم لكي لا يعلق بها أي دنس يعطلهم عن واجباتهم الدينية ، ومن ثم فقد كانت ضربة «البعوض» هذه ، فوق أنها أليمة ، فهي بغيضة إلى نفوسهم ، فإذا أضفنا إلى ذلك الذباب ، ولعله الجعران ، لعرفنا السبب الذي جعل فرعون يكرر طلبه إلى موسى أن يسأل ربه أن يرفع عن مصر هذه المصائب ، في مقابل أن يسمح لبني إسرائيل أن يذبحوا لربهم في البرية ، على ألا يبتعدوا كثيرا ، فما أن دعا موسى ربه ، وفرج الله كربة فرعون وقومه ، حتى عاد الطاغية إلى سيرته الأولى ، فاشتد على بني إسرائيل ، ومنعهم من الخروج ، ومن ثم فإن دعوات موسى بالمصائب على فرعون وقومه سرعان ما تتكرر ، ولكنها هذه المرة في الحقول ، وعلى الخيل والحمير والجمال (١). والبقر والغنم ، ولا يستثنى رب إسرائيل من هذا الوباء غير ماشية بني إسرائيل ، ولعل الأخيرة كانت السبب في أن فرعون لم يطلق سراح بني إسرائيل ، بجانب عناده وإصراره على الكفر والعناد ، ومن ثم فقد كرر رب إسرائيل مصائبه على فرعون وقومه ، فإذا الدمامل تنتشر في كل أرض مصر.

ومع ذلك فإن فرعون لم يؤمن بدعوة موسى وهارون ، ولم يسمح بخروج بني إسرائيل من مصر ، ومن ثم فقد سلط الله عليه وعلى قومه عاصفة محملة بالرعد والبرد ، ولم تهدأ إلا برجاء من فرعون لموسى بأن يكف الله هذا البرد ، وذلك الرعد عن البلاد والعباد ، وما أن تم ذلك حتى عاد فرعون سيرته الأولى ، فسلط الله عليه الجراد ، حتى أصبح وجه مصر الأخضر أسمرا

__________________

(١) لعل كلمة «الجمال» هنا من تحريفات التوراة ، ذلك لأن الجمال وقت ذاك ظلت على التحقيق غريبة على المصريين ، بل لقد كانت غريبة على من أقبل على مصر من الساميين ، فقد جاءت قبيلة «أبشاي» في الأسرة الثانية عشرة على الحمير ، لا الجمال ، بل إن استعمال الجمال لم يعرف في هذه المنطقة إلا في أخريات القرن الثالث قبل الميلاد ، وربما بعد ذلك (حسن ظاظا : الساميون ولغاتهم ص ١٢ ـ ١٣ ، أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ٢٦).

٢٠٦

بسبب الجراد ، وأخيرا ، وبدون إنذار ، حل الظلام على الأرض ، حتى لم يبصر أحد أخاه ، فشلت كل حركة في البلاد ، وارتعدت أقسى القلوب ، وطلب فرعون من موسى ألا يرى وجهه أبدا (١).

هذه هي الضربات التي أوقعها رب إسرائيل بفرعون وقومه ، كما جاءت في توراة يهود ، وهي وإن اتسمت بالمبالغة أحيانا ، وعدم الدقة أحيانا أخرى ، فإن ملامح مما جاء عنها في الذكر الحكيم ، قال تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) إلى قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ) (٢) (وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ ، وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ ، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ، فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) (٣).

وروى ابن كثير في التفسير عن سعيد بن جبير ، وغيره من السلف ، قال : لما أتى موسى عليه‌السلام فرعون قال له : أرسل معي بني إسرائيل ،

__________________

(١) خروج ٨ / ١٦ ـ ٣٢ ، ٩ / ١ ـ ٣٥ ، ١٠ / ١ ـ ٢٩ ، مزمور ٧٨ / ٤٧ ـ ٤٨ ، ماير : المرجع السابق ص ١١١ ـ ١١٨.

(٢) اختلف المفسرون في لفظ «القمل» فقيل هي «الدبا» (الدبى) بفتح الباء ، وهي صغار الجراد الذي لا أجنحة له ، وهي البراغيث ، وهي دواب سود صغار ، وهي «الحمنان» وهي ضرب من القردان ، واحدتها «حمنانة» فوق القمقامة ، وهي ضرب شديد التشبث بأصول الشعر ، وهي السوس الذي يخرج من الحنطة ، وهي الجعلان وهو دابة سوداء من دواب الأرض ، وهي القمل جمع قملة ، وهي دابة تشبه القمل تأكل الإبل (تفسير ابن كثير ٣ / ٤٦١ ـ ٤٦٣ ، تفسير الطبري ١٣ / ٥٤ ـ ٥٦ ، مجاز القرآن ١ / ٢٢٦ ، الدر المنثور ٣ / ١٠٧ ـ ١٠٨ ، تفسير القرطبي ص ٢٧٠٥ ـ ٢٧٠٦ ، تفسير النسفي ٢ / ٧٢ ، صفوة التفاسير ١ / ٤٦٧).

(٣) سورة الأعراف : آية ١٣٠ ـ ١٣٦ ، وأنظر : تفسير الطبري ١٣ / ٤٥ ـ ٧٥ ، تفسير المنار ٩ / ٧٤ ـ ٨٤ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٤٥٥ ـ ٤٦٤ ، الجواهر في تفسير القرآن الكريم ٤ / ٢١٠ ـ ٢١٢ ، تفسير القرطبي ص ٢٦٩٩ ـ ٢٧٠٨ ، تفسير البيضاوي ٣ / ٢٤ ـ ٢٥ ، الدر المنثور ٣ / ١٠٧ ـ ١٠٨.

٢٠٧

فأرسل الله عليهم الطوفان وهو المطر ، فصب عليهم منه شيئا خافوا أن يكون عذابا ، فقالوا أدع لنا ربك يكشف عنا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ، فأنبت لهم في تلك السنة شيئا لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمار والكلأ ، فقالوا هذا ما كنا نتمنى ، فأرسل الله عليهم الجراد فسلطه على الكلأ ، فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقي الزرع ، فقالوا يا موسى أدع لنا ربك فيكشف عنا الجراد ، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه فكشف عنهم الجراد ، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ، فداسوا وأحرزوا في البيوت فقالوا قد أحرزنا ، فأرسل الله عليهم القمل ، وهو السوس الذي يخرج منه ، فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها إلا ثلاثة أقفرة ، فقالوا يا موسى أدع لنا ربك يكشف عنا القمل فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ، فبينما هو جالس عند فرعون إذ سمع نقيق ضفدع ، فقال لفرعون ما تلقى أنت وقومك من هذا ، فقال وما عسى أن يكون كيد هذا ، فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع ، ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه ، فقالوا يا موسى أدع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا ، وأرسل الله عليهم الدم فكانوا ما استقروا من الأنهار والآبار وما كان في أوعيتهم وجدوه دما عبيطا ، فشكوا إلى فرعون فقالوا إنا قد ابتلينا بالدم وليس لنا شراب ، فقال إنه قد سحركم ، فقالوا : من أين سحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئا من الماء إلا وجدناه دما عبيطا ، وقالوا يا موسى أدع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل» (١).

__________________

(١) مختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٤٥ ـ ٤٦.

٢٠٨

وعلى أية حال ، فإن الكوارث التي جاءت في القرآن الكريم وترددت في التوراة ، على أنها لحقت بمصر سنين عددا ، فأصيبت البلاد بالقحط والعلل والآفات ، إنما تصدقها أحداث التاريخ ، فمصر لم تكن ، كما رأينا من قبل ، بمنجاة مما قد ينزل بها من كوارث ، فربما انحبس النيل فصوّح الزرع ، أو زاد فأغرق البلاد بطوفان عظيم ، وهو على الحالين ، كما يدمنا ، نذير النوازل ونقص في الثمرات ، فإذا وقعت الواقعة انتشرت بها الأدواء والأوبئة ، فحصدت الناس حصدا يعجزهم عن تشييع موتاهم إلى القبور ، وقد حدث مثل ذلك على أيام الثورة الاجتماعية ، وفي أخريات أيام الأسرة العشرين ، كما حدثنا «إيبو ـ ور» عن الأولى ، وكما تحدثت وثائق أخريات أيام الدولة الحديثة عن عام اشتد فيه الجوع بالناس ، حتى سموه «عام الضياع» (١).

على أن الأمر هنا ، بين موسى وفرعون ، فيما نعتقده ونؤمن به ، إنما هو معجزة نبي ، وبدهي أنه ليس بالضرورة أن تتفق المعجزات مع بعض أحداث في التاريخ ، فإذا ما كان لها صدى في هذه الأحداث التاريخية ، فإن ذلك تصديقا لهذه الأحداث ، وليس للمعجزات ، والتي سوف نتحدث عنها بالتفصيل عند حديثنا عن انقلاب البحر لموسى عليه‌السلام ، وعلى أي حال ، فالواضح من نصوص التوراة وآي الذكر الحكيم أن البلاد قد أصيبت في تلك الفترة بالقحط والجدب ، ونقصت ثمراتها بالجوائع الجوية والآفات السماوية ، وغرقت أرضها بطوفان ، وهجمت عليها جيوش جرارة من الجراد تجتاح الأخضر واليابس ، وامتلأ الجو بالبعوض ، وكثر «الدبا» في الأرض ، وكذا الضفادع التي نغصت على الناس حياتهم ، فكانوا يجدونها في كل

__________________

(١) محمد بيومي مهران : مصر والعالم الخارجي في عصر رعمسيس الثالث ص ٣٥٧ ـ ٣٥٩ ،

٩٥.p ، ١٩٢٧ Erman ,LAE وكذا A وكذا ١٧٧ ـ ١٧٣.p ، ١٩٣٣ ، ٦. J.Cerny ,AO ,

وكذا

٢٠٩

مكان ، وهكذا كانت النقمة عامة ، وكان بلاء من السماء ، لم يصب الطبقة الحاكمة وحدها ، وإنما شمل الناس جميعا ، بما فيهم الكهنة وعامة الناس (١) ، وصدق الله العظيم حيث يقول : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢).

ومع ذلك فقد ظل فرعون على عناده وكفره وكبريائه ، فدعا موسى على فرعون وملئه ، واستجاب الله لدعاء نبيّه الكريم وأخذ فرعون وقومه ببعض ذنوبهم ، لعل فرعون يرعوي ويؤمن بموسى ورسالته ، ويطلق بني إسرائيل من أسره ، غير أن ذلك لم يزده إلا تجبرا وتكبرا ، فيعلن للملإ : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ، فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى ، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٣) ، ولعل من الأهمية بمكان أن نقف قليلا عند هذه الآية الكريمة ، ذلك أن ما عرف عن فراعين مصر ، وما تشهد به اليوم آثارهم ، أنهم إنما كانوا ينشئون ، ما شاءوا ، من الحجر ، وهو كثير وافر يغنيهم عما سواه ، إن أرادوا لما ينشئون الدوام وطول البقاء ، فكانوا يتخذون منه المعابد والمسلات والقبور ، ولم يصطنعوا الطوب المحروق ، ولغير ذلك كانوا يتخذون اللبن من طين غير محروق ، فكانوا يتخذون منه بيوتهم ، سواء أكانت للعلية من القوم والملوك ، أم للعامة وغمار الناس ، وربما تردد القارئ غير المسلم فيما يسمع من قول الله في أمر فرعون أن يوقد له هامان على الطين ، وقد عرف أن المصريين فيما خلفوا من آثارهم لم يتخذوا الآجر المحروق في البناء قبل عصر الرومان (٤).

__________________

(١) عبد الرحيم فودة : المرجع السابق ص ١٨٣ ـ ١٨٤.

(٢) سورة الأنفال : آية ٢٥.

(٣) سورة القصص : آية ٣٨ ، وأنظر : سورة غافر : آية ٣٦.

(٤) أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ١٣٧ ـ ١٣٨.

٢١٠

وهنا لعلنا نتساءل : ما ذا عن الطوب المحروق الذي جاء في الآية الكريمة على عهد فرعون موسى ، وقد سبق عصره عصر الرومان بما لا يقل عن ألف من الأعوام؟

يروي الإمام الطبري في تاريخه عن قتادة أن فرعون موسى كان أول من طبخ الآجر ليبني به الصرح ، وروى الإمام النسفي في تفسيره لقوله تعالى : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) ، أي أطبخ لي الآجر وأتخذه ، وإنما لم يقل مكان الطين هذا لأنه أول من عمل الآجر ، فهو يعلمه الصنعة بهذه العبارة ، ولأنه أفصح وأشبه بكلام الجبابرة ، إذ أمر هامان وزيره بالإبقاء على الطين فنادى باسمه بـ «يا» في وسط الكلام ، دليل التعظم والتجبر ، وروى القرطبي عن حبر الأمة وترجمان القرآن ، عبد الله بن عباس ، رضي‌الله‌عنهما ، أن فرعون موسى إنما كان أول من صنع الآجر وبنى به ، وروى عن الإمام السيوطي في تفسيره عن ابن أبي حاتم عن قتادة : كان فرعون أول من طبخ الآجر وصنع له الصرح ، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريح قال : فرعون أول من صنع الآجر وبنى به ، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سعيد بن جبير في قوله : «فأوقد لي يا هامان على الطين» قال : أوقد على الطين حتى يكون آجرا ، وقال الإمام البيضاوي : أول من اتخذ الآجر فرعون ، ولذلك أمر باتخاذه على وجه يتضمن تعليم الصنعة ، مع ما فيه من تعظيم ، ولذا نادى هامان باسمه بيا في وسط الكلام (١) ، ومن ثم فأكبر الظن أن المفسرين ، كما بدا لنا من قبل ، قد كانوا يستندون إلى طائفة من الخبر الصحيح كانت بين أيديهم ، وأن اختلط كذلك بما لا قيمة له من الأوهام ، كحديثهم عن أصل فرعون موسى هذا (٢).

__________________

(١) تفسير النسفي ٣ / ٢٣٧ ، تفسير الدر المنثور ٥ / ١٢٩ ، تفسير القرطبي ص ٥٠٠٤ ، تفسير البيضاوي ٤ / ١٢٨ ، تاريخ الطبري ١ / ٤٠٥.

(٢) يروي المفسرون عن فرعون موسى حكايات أشبه بالأساطير منها بحقائق التاريخ ، فهو ، فيما ـ

٢١١

ومهما يكن من أمر ، فلقد أعثرتنا الأحافير على ما يوافق أقوال المفسرين من حيث البناء بالآجر ، فلقد عثر «بتري» على طائفة من غير مألوف المصريين من الآجر المحروق ، بنيت به قبور ، وأقيمت به بعض من أسس المنشآت ، ترجع إلى عصور الفراعين : رعمسيس الثاني ومرنبتاح وسيتي

__________________

يزعمون ، الوليد بن مصعب أو مصعب بن ريان أو هو قنطورس أو قابوس ، وكنيته أبو مرة ، وهو مصري أو هو من بني عمليق ومن يقايا عاد ، على أن أسوأ ما في هذه الأساطير أن يكون فرعون مصر ، (أعظم دول العالم وقت ذاك ، وأعرقها حضارة وأرسخها ملكا ، وأقدمها عرشا ، بل ويكاد الوحيد ، فيما نعلم ، في كل تاريخ النبوات الذي أرسل إليه نبيّين ، وليس نبيا واحدا) فرعون مصر هذا ، فيما يزعم المفسرون ، كان فارسيا من إصطخر أو أصفهان ، وكان عطارا ركبته الديون فأفلس ، فخرج إلى الشام فلم يتسن له المقام ، فدخل مصر ، ورأى في ظاهره حملا من البطيخ بدرهم ، وفي نفسه بطيخة بدرهم فخرج إلى السواد فاشترى حملا بدرهم ، وتوجه إلى السوق فكل من لقيه من المكاسين أخذ منه بطيخة ، فدخل مصر وما معه إلا بطيخة فباعها بدرهم ، ورأى أهل البلد متروكين سدى لا يتعاطى أحد سياستهم (تصور هذا في عصر الإمبراطورية وفي وقت كانت مصر تحكم فيه الشرق ، وكان ملكها سيد الملوك طرا ، لأنه أعظمهم وأغناهم وأقواهم) فتوجه نحو المقابر فرأى ميتا يدفن فتعرض لأوليائه ، على أنه أمين المقابر ، ومنعهم من دفنه حتى يدفعوا خمسة دراهم ، فدفعوها ، وكذا فعل آخرون ، حتى جمع في ثلاثة أشهر مالا عظيما ، ثم تعرض له يوما أحد أولياء متوفى وذهبوا به إلى فرعون ، فسأله : من أنت ومن أقامك بهذا المقام ، فقال لم يقمني أحد ، وإني فعلت ذلك لأحضر إلى مجلسك ، فأنبئك إلى اختلال حال قومك ، وقد جمعت بهذا الطريق هذا المال وأحضره ودفعه إلى فرعون ، ثم قال ولني أمورك ترني أمينا فولاه فسار بهم سيرة حسنة فانتظمت مصالح العسكر واستقامت أحوال الرعية ولبث فيهم أمدا طويلا ، وترامى أمره بالعدل والصلاح (وبدهي أن المفسرين تأثروا في هذا بقصة يوسف عليه‌السلام) فلما مات فرعون أقامه مقامه ، فكان من أمره ما كان ، وكان فرعون يوسف ريان ، وكان بينهما أكثر من أربعمائة عام (ولا تعليق على هذه الأساطير سوى أنها تدل على جهل فاضح بالتاريخ المصري القديم).

وعلى أية حال ، فلقد ذهب الزمخشري إلى فرعون اسم علم لمن ملك العمالقة ، كقيصر لملك الروم وكسرى لملك الفرس. ولعتو الفراعنة اشتقوا تفرعن إذا عتا وتجبر (تفسير الكشاف ١ / ١٠٢ ، الدر المنثور ٣ / ١٠٥ ، روح المعاني ١ / ٢٥٣ ، تفسير أبي السعود ١ / ١٧٢.

٢١٢

الثاني ، من الأسرة التاسعة عشرة (١٣٠٨ ـ ١١٨٤ ق. م) ، وكان عثوره عليها في «نبيشة» و «دفنة» غير بعيد من «بي رعمسيس» (قنيتر) عاصمة هؤلاء الفراعين في شرق الدلتا ، وقال «بتري» في ذلك : إن حرق اللبن قد ظل نادرا إلى عصر الرومان ، وهو قول لا يكاد يخالف قول المفسرين من بدء اتخاذ الآجر المحروق ، على عهد فرعون موسى ، وهو كذلك من قرائن القرآن الكريم التي نتخذها مطمئنين في تحديد عصر خروج بني إسرائيل من مصر ، وبأنه كان على أيام الأسرة التاسعة عشرة التي بدأت ، كما أثبتت الحفائر ، وألمع القرآن الكريم ، تصطنع في بنائها الآجر المحروق (١).

(٣) ألوهية الفرعون المزعومة : ـ

لعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا ، وقبل أن نترك موضوع موسى وفرعون ، أن نشير إلى «ألوهية الفرعون المزعومة» التي رأيناها موضوع جدل شديد بين النبي الكريم والملك الفرعون بل هي الصخرة التي تحطمت عليها ، فيما نعتقد ، كل أوجه التقارب بينهما ، ومما يزيد الأمر أهمية أننا لا نعرف في تاريخ النبوات ، دعوة يتعرض صاحبها لزعم كذوب ممن أرسل إليه ، على أنه إله للناس ، بل إن الفرعون إنما يهدد النبي الكريم نفسه (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) (٢) ، ثم يعلن للناس عامة (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) (٣) ، وعند ما يتقدم له موسى عليه‌السلام بمعجزات تدل على صدق رسالته ، إذا به يرفض الدعوة كلها (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (٤).

__________________

(١) أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ١٣٨ ، وكذاW.M.F.Petrie ,Nbesheh and. ٤٧ ، ١٩ ـ ١٨. Defeneh ,p

(٢) سورة الشعراء : آية ٢٩.

(٣) سورة القصص : آية ٣٨.

(٤) سورة النازعات : آية ٢٢ ـ ٢٤.

٢١٣

فما قصة ألوهية فرعون هذه :

يحدثنا التاريخ أن مؤسس الأسرة المصرية الأولى ، استطاع أن يكوّن لمصر حوالي عام ٣٢٠٠ قبل الميلاد ، حكومة مركزية قوية ثابتة الأركان ، كان على رأسها «الملك المؤله» الذي استطاع أن يجمع بين يديه كل السلطات ، حكومة كان الملك فيها هو المحور ، بل هو الروح التي تبعث الحياة في الدولة هو المحور ، بل هو الروح التي تبعث الحياة في الدولة ، وكل ما يحدث فيها وحي منه ، على أسس دينية عميقة الأثر ، فهو «الإله الأعظم» ، وهو «الإله الصقر حور» ، الذي تجسم في هيئة بشرية ، ولهذا فهو ـ في نظر رعاياه ـ إله حي على شكل إنسان ، يتساوى مع غيره من الآلهة الأخرى فيما لها من حقوق ، ومن ثم فله حق الاتصال بهم ، وله على شعبه ـ ما لغيره من الآلهة ـ من التقديس والمهابة (١).

ومن هنا كان الأساس السياسي والاجتماعي الذي قامت عليه الحضارة المصرية ، هو التأكيد كل التأكيد ، بأن مصر يحكمها إله ، وأن هذا الإله الجالس على العرش غير محدود المعرفة والمقدرة ، وأنه على علم بكل ما يدور في أرض الكنانة ، ومن هنا كان من الصعب أن نفرق بين الملك والدولة ، إذ كانت كلمته قانون ، ورغبته أمر ، ورعيته ملك يمينه ، يتصرف فيها كيف شاء ، ومتى شاء (٢).

وقد اختلف المؤرخون فيما بينهم في كيفية إيمان المصريين بأن الجالس على العرش إله يحكم بشرا؟ وكيف أصبحت ألوهية الفرعون عقيدة الدولة الرسمية ، فهناك من يرى أنها إنما كانت وليدة أسباب انتصاره على

__________________

(١) محمد بيومي مهران : التنظيم السياسي في مصر والعراق القديم ص ٤ (الإسكندرية ١٩٧٠) ، الحضارة المصرية ـ الإسكندرية ١٩٨٤ ص ٩٩ ـ ١١٥.

(٢) محمد بيومي مهران : حركات التحرير في مصر القديمة ، القاهرة ١٩٧٦ ص ١٧.

٢١٤

منافسيه. ثم اصطناعه صفات إلهية ، حتى غدا إلها بين الآلهة (١) ، ومن يرى أن الصعاب التي لاقاها مؤسسوا الوحدة دافعا للقول بأن مصر يحكمها إله ، تتمثل فيه القوى التي تهيمن على القطرين (الصعيد والدلتا) ، بل إنه أدعى منذ الأسرة الخامسة بأنه الابن الشرعي لإله الشمس «رع» ، أعظم الآلهة طرا وسيدهم ، وبذلك تمكن الملك من أن يتباعد بنفسه عن أن يكون من البشر ، وعن أن يكون منتسبا لأي جزء من أجزاء مصر ، ومن ثم فقد انتفت حجة الوجه البحري في معارضته في أن يحكمه رجل من الصعيد (٢).

وهناك وجه آخر للنظر ، يذهب إلى أن المصري كان لا يحس بضرورة تحديد الأنواع تحديدا صريحا ، فقد سهل عليه أن ينتقل من البشري إلى الآلهي براحة تامة ، وأن يقبل العقيدة التي تنص على أن الفرعون الذي كان يعيش بين الناس كأنما هو من لحم ودم إنساني ، كان في الحقيقة إلها تكرم فأقام فوق الأرض ليحكم أرض مصر ، ومن ثم فإن طريقة التفكير هذه ، فيما يرى جون ويلسون ـ بجانب العوامل الجغرافية ـ إنما كانت سببا في عقيدة الملكية الإلهية ، التي ربما كانت سهلة وطبيعية بالنسبة للمصريين ، وربما كانت متأصلة الجذور منذ أيام ما قبل التاريخ (٣).

وهناك رأي رابع ، يجعلها نتيجة أسباب دينية ، ذلك أن المصريين القدامى إنما كانوا يعتقدون ـ كما تروي الأساطير ـ أن آلهة التاسوعيين قد حكموا الواحد تلو الآخر على الأرض في مصر ذاتها ، قبل أن يعرجوا إلى السماء ـ أو فيما يختص بالذين ذاقوا الموت قبل أن يهبطوا إلى الجحيم ـ

__________________

(١) نجيب ميخائيل : مصر والشرق الأدنى القديم ـ الجزء الرابع ـ ص ٧٤ (الإسكندرية ١٩٦٦.

(٢) عبد المنعم أبو بكر : تاريخ الحضارة المصرية ـ العصر الفرعوني ، النظم الاجتماعية ـ القاهرة ١٩٦٢ ص ١١١.

(٣) ٤٧ ، ٤٥ J.A.Wilson ,op ـ cit ,p ..

٢١٥

وكانت القوائم الملكية تبدأ بهم ، بل وتحدد عدد سنى حكمهم ـ كما تفعل بردية تورين ـ وقد ترك «أوزير» آخر الآلهة العظام ، لابنه حور ملك مصر ، ومن «حور» هذا تحدر في زعمهم كل ملوك مصر ، وبناء على ذلك ، فإن حتى الملك يقوم على طبيعته الإلهية التي كانت تنتقل مع الدم ، وفي عهد الأسرات الأولى لم تكن ألوهية الملك مؤكدة إلا لتسلسله من «حور» إله الأسرة بغض النظر عن أية مؤلفة دينية (١).

وتذهب وجهة النظر الخامسة إلى أن ألوهية الفرعون إنما تتصل اتصالا وثيقا بالعناصر الأساسية التي شكلت المبادئ والقيم المصرية منذ البداية ، وتتركز تلك العناصر بصفة خاصة على تأثر الإنسان بكافة المقومات البيئية المحلية في مصر تأثرا كاملا بطريق مباشر أو غير مباشر ، فقد بدأ الإنسان حياته المستقرة بالزراعة ، ونشأ لأول مرة المجتمع الزراعي المستقر والمعتمد على ضمان توفير مياه الري ومساعدة العوامل الطبيعية المختلفة اللازمة للإنتاج الزراعي السليم ، ثم سرعان ما أدرك الإنسان ضرورة ضمان ذلك الاستمرار حتى يطمئن على حياته المستقلة ، وفي نفس الوقت آمن بالظواهر الطبيعية المحيطة به والمسيطرة على تلك البيئة ، وشعر بارتباط حياته ومستقبله بتلك القوى الكونية المسيطرة على هذا العالم ، وقد اعتبر الملك أحق من يقوم بوظيفة الوساطة بين الإنسان والآلهة ، حتى يستطيع أن يضمن رضى تلك القوى على الإنسان ، وبالتالي اطمئنانه على حياته الحاضرة والمستقبلة ، ولذلك ارتبط ملوك مصر بعالم الآلهة ارتباطا كبيرا لم يألفه المؤرخ في أنظمة الحكم الأخرى في منطقة الشرق الأدنى القديم (٢).

__________________

(١) أيتين دريوتيوجاك فانديه : مصر ، ترجمة عباس بيومي ، القاهرة ١٩٥٠ ص ٩٠ ـ ٩١.

(٢) رشيد الناضوري : جنوب غربي آسيا وشمال إفريقيا ـ الكتاب الأول ـ بيروت ١٩٦٨ ، ص ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

٢١٦

وهكذا نرى العلماء يختلفون في تفسيرهم لألوهية الملك المصري ، وكيف نشأت؟ وكيف اقتنع المجتمع المصري وآمن بألوهية ملوكه؟

وإذا أردنا مناقشة هذا كله ، لرأينا أن الأسباب العسكرية لا تستطيع وحدها أن تصل بالمغلوبين إلى الإيمان بألوهية ملوكهم ، ذلك لأن الغزو قد يجبر قوما على الخضوع لآخرين ، وقد يجعل من زعيم المنتصرين «دكتاتورا» يأمر فيطيع المغلوبين ، ولكنه لا يجعل منه ـ بحال من الأحوال ـ إلها يؤمن الناس به ، كواحد من آلهتهم الأخرى ، وحتى لو آمنوا به في فترة الغزو ـ وفي أعقابه لفترة ما ـ فكيف تسنى لملوك مصر أن يجعلوا من ألوهيتهم عقيدة يؤمن بها الناس حتى نهاية العصور الفرعونية.

وأما النظرية التي تجعل الصعاب التي لاقاها مؤسسوا الوحدة دافعا إلى القول بأن مصر يحكمها إله تتمثل فيه القوى التي تهيمن على القطرين ، فقد يكون الأمر كذلك إلى حد ما ، وفي هذه الحال ، فإن توطيد هذا المبدأ في جميع أنحاء البلاد إنما احتاج إلى وقت طويل ، حتى قبل القوم أن ذلك الإنسان الذي يحكمهم ليس بشرا ، بل هو من نوع آخر ، فلدينا ما يثبت أن الوحدة التي قامت في أول عصر التأسيس لم يكتب لها البقاء طويلا ، وإنما إنهارت في النصف الثاني من عصر الأسرة الثانية ، إذ تدلنا آثار الملك «خع سخم» ـ والتي تقتصر على مدينة «نخن» ـ على مدى جهوده في استرجاع الدلتا ، وتوطيد الوحدة ، والقضاء على الفتنة ، الأمر الذي تمّ على يد خلفه «خع سخموي».

وأما الرأي الذي جعل من العوامل الجغرافية ـ إلى جانب طريقة التفكير المصري ـ سببا في الإيمان بألوهية الفرعون ، فإنها تضعف كثيرا ، إذا ما تذكرنا أن ألوهية الملك المصري إنما كانت مرتبطة إلى حد كبير بتقدم البلاد وازدهارها ـ وليس بالعوامل الجغرافية فيها ، وأن أية فترة من الفترات

٢١٧

التي كان يضعف فيها الحكم ، كان القطران ينفصلان بعضهما عن البعض الآخر ، ولم يمسك عليهما وحدتهما إلا اعتمادهما المشترك على مياه النيل.

وأما ذلك الرأي الذي أرجعها لأسباب دينية ، فهو في الواقع إنما يعتمد على الأساطير ـ أكثر من اعتماده على الأدلة التاريخية ـ إذ لو كان الأمر كذلك ، وكان مؤسس الوحدة معترفا بألوهيته على اعتبار أنه سليل الإله «حور» ، لما احتاجت الوحدة إلى كل هذه الحروب التي خاضها أبطال التوحيد ، من أمثال «عقرب» و «عحا» ، ولما احتاجت كذلك إلى جهود خلفائهم بعد النكسة التي أصيبت بها الوحدة في عصر الأسرة الثانية.

وأما النظرية الاقتصادية ، فرغم أهمية ضمان توفير الأمن الاقتصادي وغيره من مظاهر الاستقرار في المجتمع ، على أساس إمكان توسط الفراعنة بعد حملهم لتلك الصفة الإلهية من أجل تحقيق ذلك ، فإن ذلك الأمر ليس بكاف لتعليل إيمان المصريين بألوهية ملوكهم ، إذ لو كان الأمر كذلك ، لكان ملوك العراق القديم أحق بالألوهية من ملوك مصر ، فبلاد الرافدين إنما كانت معرضة بصورة مستمرة ببتقلبات الجوية التي تحول دون الاستقرار والطمأنينة ، مما أدى إلى تعدد القوى الإلهية ، وظواهر التنبؤ والتمائم ، بينما كانت البيئة المصرية مطمئنة إلى حد كبير (١).

ومن ثم ، فالرأي عندي : أن هذه الأسباب مجتمعة هي التي عملت على تأليه الفرعون في أرض الكنانة ، وربما كانت هناك فكرة أصيلة عن الملكية الإلهية في مصر ، ولكنها فكرة غير منتظمة ، ثم جاءت الأسرة الأولى وانتهزت فرصة وجود هذا الرأي لتأييد النظام الجديد ، فرفعت الفرعون من رتبة بشر متميز ـ من الجائز أن ينازعه في سلطانه بشر آخر متميزون وأقوياء ـ إلى مرتبة «إله» لا يمكن منازعته ، وهكذا كانت عقيدة الملكية الإلهية ، كما

__________________

(١) رشيد الناضوري : التطور التاريخي للفكر الديني ص ١٦١ ، ١٦٣.

٢١٨

نعرفها قد صيغت وعدلت كثيرا ، ثم وجدت قبولا رسميا في أوائل أيام الأسرات ، وهذا قول لا يمكن إثباته بالتأكيد ، ولكننا نستطيع القول أن العوامل الاقتصادية. وحاجة الناس إلى وسيط يكون بينهم وبين آلهتهم ، لتحقيق ما يمكن أن نسميه «بالأمن الوقائي» ضد كل ما يصيبهم بأذى من قريب أو بعيد ، ثم بدأ الملوك ينسبون أنفسهم ـ بعد قيام الوحدة وإخضاع الدلتا ـ إلى الإله «حور» ، خليفة أبيه «أوزير» ـ آخر الآلهة العظام الذين حكموا مصر في عصور ممعنة في القدم ـ ومنذ الأسرة الخامسة (حوالى عام ٢٤٨٠ ق. م) ، يصبح الملوك أبناء للإله «رع» من صلبه ، وفي عصور تالية ، وحين يصبح آمون ـ سيد الآلهة وكبيرهم ـ يصبحون أبناء له.

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن ألوهية الفرعون لم تكن بمعنى أنه خالق الكون ومدبره أو أن له سلطانا في عالم الأسباب الكونية ، إنما كان يدعي الألوهية على شعبه ، بمعنى أنه حاكم هذا الشعب بشريعته وقانونه ، وأنه بإرادته وأمره تمضي الشئون وتقضي الأمور ، كما أشرنا من قبل ، كذلك لم يكن الناس ، في مصر يتعبدون إلى فرعون بمعنى تقديم الشعائر التعبدية له ، فقد كانت لهم آلهتهم ، كما كان لفرعون نفسه آلهته التي يعبدها كذلك ، كما هو ظاهر ، من قول الملأ له «ويذرك وآلهتك» ، وكما يثبت ذلك تاريخ مصر في العصور الفرعونية ، ومن هنا فإن هذا الملك المؤله لم تكن تقام له المعابد ، كما كانت تقام لغيره من الآلهة ، كما لم تكن تقدم له القرابين (١) ، وأن تسميته بالإله العظيم لم تقف حائلا ، دون أن تكون له شخصية بشرية ، وأن طبيعته لم تمنع القوم من أن ينظروا إليه كحاكم بشري ، له أملاكه الخاصة ومخازنه ودواوينه الخاصة.

__________________

(١) قارن حالات : أمنحتب الثالث ورعمسيس الثاني والثالث (محمد بيومي مهران ـ الحضارة المصرية ـ الإسكندرية ١٩٨٤ ص ١٢٨).

٢١٩

وبدهي أنه في مقابل هذه الحقوق التي كان يتمتع بها الفرعون ، كان عليه عدة واجبات ، فهو المسئول عن مصر وحماية حدودها من غارات الشعوب المجاورة الطامعة في خيراتها ، وهو الذي يعمل على تدعيم العدالة ونشر لواء الحور بين أفراد شعبه ، وهو المسئول عن تأمين وسائل الحياة للمصريين بحفر الترع وإقامة الجسور ليتيسر فلاحة الأرض وزراعتها ، كما كان عليه حماية المدن من غائلة الفيضان ، وتشجيع الصناع والفنانين ، فضلا عن إقامة المعابد للآلهة وتقديم القرابين لها ، فإن أهمل واجباته ، كلها أو بعضها ، فقد قدسيته ، ومن ثم يحور لغيره من الآلهة ألا يعترفوا به كواحد منهم ، وهكذا يبدو أن الملكية ، وإن أفاءت على الملك القداسة والألوهية ، فهي في الوقت نفسه ، قد حددت من سلطانه ، بما فرضت عليه من واجبات.

ومن هنا فإن القوم في عصر الثورة الاجتماعية الأولى ، وقد تدهورت أحوال البلاد الداخلية والخارجية ، فضلا عن ظهور اللامركزية منذ أخريات الدولة القديمة ، لم يعودوا ينظرون إلى ملوكهم تلك النظرة التي كان أسلافهم ينظرون بها إلى ملوك الأسرة الرابعة مثلا ، الأمر الذي أدى إلى التقليل من هالة التقديس التي كان يحاط بها الملك أو يحيط بها نفسه ، وهكذا لم يعد الملك ذلك الإله المترفع والحاكم الجبار فوق البشر ، والذي يرجو رعاياه عطفه ورضاه ، وإنما أصبح شخصا غير معصوم يتحدث عن ضعفه وعن خطاياه ، كما يتحدث الآخرون من رعاياه ، بل إننا نرى في هذا العصر الحكيم «إيبو ـ ور» يتهم الفرعون بأنه سبب الفوضى والاضطرابات التي سادت في البلاد ، فرغم أنه قد أعطي الحكمة والسلطة ، فقد بقي في قصره يحيط نفسه بمجموعة من المنافقين ، حتى ساءت الحال وفقد الناس الأمن والأمان ، ثم يبلغ به العنف أشده حتى يتمنى للملك أن يذوق البؤس بنفسه ، وحين يرد الفرعون بأنه حاول جهده أن يحمي شعبه ، يتهمه «إيبو ـ ور» بالجهل وعدم الكفاءة للمنصب الخطير ، ثم يرسم له صورة الملك

٢٢٠