دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٢

الفصل الثّالث

موسى الرّسول النّبيّ

(١) المبعث : ـ

في الطريق من مدين إلى مصر ، ضل موسى عليه‌السلام طريقه في الصحراء ، والليل مظلم ، والمتاهة واسعة ، نعرف هذا من قوله لأهله : (امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) (١) ، قال ابن عباس : إنه رأى شجرة خضراء أطافت بها من أسفلها إلى أعلاها نار بيضاء تتقد كأضوأ ما يكون ، فوقف متعجبا من شدة ضوئها ، وشدة خضرة الشجرة ، فلا النار تغيّر خضرتها ، ولا كثرة ماء الشجر تغير ضوءها ، وقيل إن الشجرة كانت عوسجة ، وقيل كانت سمرة ، وهناك طور سيناء ، وفي تلك الليلة المباركة (نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) (٢) (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى ، إِنَّنِي

__________________

(١) سورة طه : آية ١٠ ، تفسير أبي السعود ٦ / ٧.

(٢) ذهب المفسرون مذاهب شتى في أسباب أمر الله تعالى لموسى بخلع نعليه ، فقالوا ربما لأن الحفوة أدخل في التواضع وحسن الأدب ، وربما تعظيما لهذه البقعة المقدسة ، ومن ثم فقد كان السلف الصالح يطوفون بالكعبة حافين ، وربما ليباشر الوادي بقدميه تبركا به ، وربما لأن نعليه كانتا جلد حمار غير مدبوغ ، وربما كان المعنى فرغ قلبك من الأهل والمال ، ثم قيل إنك بالوادي المقدس وذلك لتعليل الخلع ، ثم نودي باصطفائه رسولا نبيا (تفسير أبي السعود ٦ / ٧ ، مختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٤٧١).

١٨١

أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (١) ، وذهل موسى ، ونسي ما جاء من أجله ، وبينما هو مستغرق فيما هو فيه ليس في كيانه ذرة واحدة تتلفت إلى سواه ، إذا هو يتلقى سؤالا لا يحتاج منه إلى جواب : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى ، قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى ، قالَ أَلْقِها يا مُوسى ، فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ، قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى ، وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى ، لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى ، اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ، قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي ، يَفْقَهُوا قَوْلِي ، وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً ، وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً ، إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً ، قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) (٢).

وهكذا ، هناك ، وفي هذا الموقف المشهود ، الذي وقفه موسى في تلك البقعة المباركة من سيناء ، اصطفى الله تعالى موسى لنفسه ، وعهد إليه برسالته إلى فرعون ، (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي ، اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ، فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ، قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى ، فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ، فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ ، قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ، وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) (٣).

وهنا يحس النبي الكريم بثقل العبء الذي ألقي على كاهله ، وقد كان ، وهو عائد إلى وطنه ، يقدر الأمن بعد الخوف ، والقرار بعد الفرار ، فإذا

__________________

(١) سورة طه : آية ١١ ـ ١٤.

(٢) سورة طه : آية ١٧ ـ ٣٦.

(٣) سورة طه : آية ٤٢ ـ ٤٦.

١٨٢

به يبعث ، كما يقول ابن كثير إلى أعظم ملك على وجه الأرض إذ ذاك ، وأجبرهم وأشدهم كفرا ، وأكثرهم جنودا ، وأبلغهم تمردا ، ولا ريب في أن في أحداث التاريخ مصداقا لذلك ، وموسى نفسه يعرف من هو فرعون ، فقد ربّي في قصره ، وشهد طغيانه وجبروته ، وشاهد ما يصبه على قومه من بني إسرائيل من عذاب ونكال ، إن موسى ، عليه‌السلام ، يعرف ذلك كله ويعرف أنه ذاهب لمواجهة أقوى ملك في الأرض وأطغى جبار ، وأن قومه قد أذلهم الاستعباد الطويل وأفسد فطرتهم ، ومن ثم فإن رسالة موسى بالذات ، قد تكون فيما يرى صاحب الظلال ، أضخم تكليف تلقاه بشر ، عدا رسالة سيد الأولين والآخرين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو مرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر ، أعتى ملوك الأرض في زمانه ، وأقدمهم عرشا ، وأثبتهم ملكا ، وأعرقهم حضارة ، وأشدهم بعدا للخلق ، واستعلاء في الأرض.

وهو مرسل أيضا لاستنقاذ قوم قد شربوا من كئوس الذل حتى استمرءوا مذاقه ، فمرءوا عليه واستكانوا دهرا طويلا ، والذل يفسد الفطرة البشرية حتى تأسن وتتعفن ، ويذهب بما فيها من الخير والجمال والتطلع ، ومن الاشمئزاز من العفن والنتن والرجس والدنس ، فاستنقاذ قوم كهؤلاء عمل شاق عسير ، وهو مرسل إلى قوم لهم عقيدة قديمة انحرفوا عنها وفسدت صورتها في قلوبهم ، فلا هي قلوب خامة تتقبل العقيدة الجديدة ، ببراءة وسلامة ، ولا هي باقية على عقيدتها القديمة ، ومعالجة مثل هذه القلوب شاقة عسيرة ، وهو في اختصار مرسل لإعادة بناء أمة ، بل لإنشائها من أساس ، فلأول مرة سيصبح بنو إسرائيل شعبا مستقلا ، له حياة خاصة ، تحكمها رسالة ، وإنشاء الأمم عمل ضخم شاق عسير (١).

ومن هنا كانت دعوة موسى وهارون «ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو

__________________

(١) في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٩٠.

١٨٣

أن يطغي» ، والفرط هو التسرع بالأذى للوهلة الأولى ، والطغيان أشمل من الأذى ، وفرعون يومئذ لا يتحرج من أحدهما أو كليهما ، وهنا يجيء الرد الحاسم للنبيين الكريمين (لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) ، ثم يحدد لهما قاعدة رسالتهما (فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) ليشعر منذ اللحظة الأولى بأن هناك إلها هو ربه ، وهو رب الناس ، فليس هو إلها خاصا بموسى وهارون أو ببني إسرائيل (١) ، كما كان سائدا في خرافات الوثنية يومذاك أن لكل قوم إلها أو آلهة ، أو كما كان سائدا في بعض العصور من أن فرعون مصر إله يعبد فيها لأنه من نسل الآلهة ، الأمر الذي سنناقشه فيما بعد ، ثم إيضاح لموضوع رسالتهما «فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم» ، ففي هذه الحدود كانت رسالتهما إلى فرعون ، لاستنقاذ بني إسرائيل ، والعودة بهم إلى عقيدة التوحيد ، وإلى الأرض المقدسة التي كتب الله لهم أن يسكنوها إلى أن يفسدوا فيها فيدمرهم تدميرا (٢).

على أن موسى عليه‌السلام سرعان ما يتذكر أنه قتل من المصريين نفسا ، ما زال يحمل وزرها في ضميره ، وأنه قد خرج من مصر هاربا من

__________________

(١) تطلق التوراة على الله ، جل جلاله ، لفظ «يهوه» وأحيانا «إلوهيم» ، وهو في كلتا الحالتين إله بني إسرائيل دون سائر البشر ، وليس رب العالمين ، كما يعتقد المسلمون والمسيحيون ، وقد بدأت فكرة الإله الواحد في التوراة مع إبراهيم ، حيث جعلت الرب الإله ، ربا لإبراهيم ثم إسحاق فيعقوب ثم موسى ، ثم جعلته بعد ذلك إلها لبني إسرائيل جميعا على أيام النبي إشعياء ، ولكنها لم تخرج به من دائرة بني إسرائيل إلى غيرهم من الشعوب ، فقد ظل المعنى المتضمن لمفهوم الله تعالى في التوراة على أنه إله إسرائيل في المقام الأول ، وهكذا كانت ديانة يهود في التوراة ديانة أسرة بشرية واحدة هي بنو إسرائيل (تكوين ١٢ / ١ ـ ٣ ، ١٣ / ١٤ ـ ١٨ ، ١٥ / ١٨ ـ ٢٠ ، ٢٦ / ٢٤ ، خروج ٣ / ٦ ، ٦ / ٦ ـ ٧ ، يشوع ٨ / ٣ ، ٩ / ١٨ ، ١٣ ، صموئيل أول ٢٥ / ٣٣ ، أخبار أيام أول ١٦ / ٣٦ ، ثم أنظر : محمد بيومي مهران : ٤ / ٢١٩ (الباب الأول ـ الديانة اليهودية).

(٢) في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٣٦ ـ ٢٣٣٧.

١٨٤

الذين ائتمروا به ليقتلوه ، فكيف يعود إلى قبضة الحاقدين عليه ، المتربصين به ، المطالبين بالثأر منه ، ليدعو فرعون بترك ألوهيته المزعومة ، ثم استنقاذ بني إسرائيل من بين يديه ، وهم ، فيما يرى ، عبيده وخدمه ، ولكنه عليه‌السلام ، وهو في حضرة ربه ، وربه يكرمه بلقائه ، ويكرمه بنجائه ، ويكرمه بآياته ، ويكرمه برعايته ، فما له لا يحتاط لدعوته خيفة أن يقتل فتنقطع رسالته (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) (١) ، يقولها لا ليعتذر أو يتقاعس ، ولكن ليحتاط للدعوة ، ويطمئن إلى مضيها في طريقها ، لو لقي ما يخاف ، وهو الحرص اللائق بموسى القوي الأمين (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي (٢) ، إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) (٣) ، ومن ثم فسرعان ما تأتيه البشارة من ربه (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً

__________________

(١) أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ١٠٢ ، عبد الرحيم فودة : المرجع السابق ص ١٦٧.

(١) سورة القصص : آية ٣٣.

(٢) يقول الإمام الفخر الرازي في تفسيره (٢٤ / ١٢٢ ـ ١٢٣ ، ٢٤٩) لما أمر الله موسى بالذهاب إلى فرعون وقومه طلب أن يبعث معه هارون إليهم وذلك لسببين ، الأول : أن فرعون ربما كذب موسى ، والتكذيب سبب لضيق القلب ، وضيق القلب سبب لتعثر الكلام على من يكون في لسانه جسة ، ومن ثم فقد بدأ بخوف التكذيب ، ثم ثنى بضيق الصدر ، ثم تلث بعدم انطلاقة اللسان ، وأما هارون فهو أفصح لسانا منه ، وليس في حقه هذا المعنى ، فكان إرساله لائقا ، والثاني : أن لهم عندي ذنبا ، فأخاف أن يبادروا إلى قتلي ، وحينئذ لا يحصل المقصود من البعثة ، وأما هارون فليس كذلك فيحصل المقصود من البعثة ، وأعلم أنه ليس في التماس موسى أن يضم إليه هارون ما يدل على أنه استعفى من الذهاب إلى فرعون ، بل مقصودة فيما سأل ربه أن يقع ذلك الذهاب على أقوى الوجوه في الوصول إلى المراد ، وهكذا يكون تصديق هارون لموسى بمعنى أن يعاضده على إظهار الحجة والبيان ، وو ذلك بأن يلخص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار ، ويذهب السّدى إلى أن نبيّن وآيتين أقوى من نبي واحد وآية واحدة ، وإن ذهب آخرون إلى أنه من حيث الدلالة لا فرق بين معجزة ومعجزتين ونبي ونبيين.

(٣) سورة القصص : آية ٣٤.

١٨٥

فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) (١) ، وهنا تبدأ قصة موسى عليه‌السلام ، وخروج بني إسرائيل من مصر.

(٢) بني موسى وفرعون : ـ

صدع موسى بما أمره الله عزوجل به ، فولى وجهه ، مع أخيه هارون ، شطر قصر فرعون ، ليدعو صاحبه بدعوة الحق والعدل والعقيدة الصحيحة ، أملا من الكليم في أن يسمع فرعون دعوة التوحيد ، ويسمح بخروج بني إسرائيل من مصر ، تقول التوراة : «ودخل موسى وهارون ، وقالا لفرعون : هكذا يقول الرب إله إسرائيل ، أطلق شعبي ليعودوا لي في البرية ، فقال فرعون : من هو الرب حتى أسمع لقوله فأطلق إسرائيل ، لا أعرف الرب ، وإسرائيل لأطلقه ، فقالا له : إله العبرانيين قد التقانا ، فنذهب سفر ثلاثة أيام في البرية ، ونذبح للرب إلهنا ، لئلا يصيبنا بالوباء أو بالسيف (٢)» ، وإلى هذا يشير القرآن في قوله تعالى : (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ، حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ ، قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (٣).

غير أن فرعون لم يؤمن بموسى ولم يسمح له ، وإنما اتهمه وهارون بأنهما «يبطلان الشعب من أعماله» ثم أمر ألا يعطي الإسرائيليين تبنا ، ومن ثم فعليهم أن يجمعوه بأنفسهم من القرى لعمل ما كلفوا به من التبن ، وأن من يتأخر منهم عن القيام بصناعة الكمية المحدة إنما سوف يكون عقابه الضرب الشديد (٤) ، ومن عجب أن التوراة وإن أشارت من قبل إلى إيمان بني

__________________

(١) سورة القصص : آية ٣٥.

(٢) خروج ٥ / ١ ـ ٣.

(٣) سورة الأعراف : آية ١٠٤ ـ ١٠٥ ، وأنظر : تفسير القرطبي ١٣ / ١٣ ـ ١٤ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٤٥٠ ، تفسير المنار ٩ / ٣٣ ، ٣٧ ـ ٤٠.

(٤) خروج ٥ / ٤ ـ ١٨ ، ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ٢٦٣.

١٨٦

إسرائيل بموسى وهارون ودعوتهما ، إلا أنها سرعان ما تعود ثانية لتقول إنهم «لم يسمعوا لموسى من صغر النفس ومن العبودية القاسية ، رغم ما وعدهم به موسى من إنقاذ لهم من عبودية المصريين ، ومن اتخاذهم شعبا مختارا لرب إسرائيل ، وإدخالهم الأرض التي تفيض لبنا وعسلا ، رغم ذلك كله فإنهم لم يؤمنوا بموسى ولم يسمعوا له ، بسبب صغار في نفوسهم بسبب العبودية القاسية (١) ، وإلى هذا يشير القرآن في قوله تعالى : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) (٢) (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ، وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) (٣) ، والنص القرآني يفيد أن الذين أظهروا إيمانهم بموسى من بني إسرائيل إنما كانوا هم الفتيان

__________________

(١) خروج ٤ / ٢٩ ـ ٣١ ، ٦ / ٦ ـ ٩.

(٢) اختلف المفسرون في هذه الذرية التي آمنت بموسى ، فذهب فريق ، وهم الأكثر ، إلى أنهم من بني إسرائيل ، وذلك أن موسى دعا الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون ، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف ، وقال مجاهد : هم أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم ، واختار ابن جرير قول مجاهد في الذرية أنها من بني إسرائيل ، لا من قوم فرعون ، لعودة الضمير على أقرب المذكورين ، وذهب فريق آخر إلى أنهم من قوم فرعون ، قال ابن عباس : الذرية التي آمنت لموسى من غير بني إسرائيل من قوم فرعون يسير ، منهم امرأة فرعون ، ومؤمن آل فرعون ، وخازن فرعون وامرأته خازنة (وإن كان لابن عباس قول آخر من بني إسرائيل) ، ويذهب ابن كثير إلى أنهم من قوم فرعون لأن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى عليه‌السلام ، وقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به من كتبهم المتقدمة ، وأن الله سينقذهم به من أسر فرعون ويظهرهم عليه ، وأما الضمير «وفي ملئهم» فيرجع إلى فرعون ، والجمع لما هو معتاد في ضمائر العظماء ، ولا يأباه مقام بيان علوه في الفساد والتسلط على العباد ، أو لأن المراد به فرعون بمعنى آل فرعون أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون أو إلى الذرية على خوف من فرعون وأشراف بني إسرائيل لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم (تفسير النسفي ٢ / ١٧٢ ـ ١٧٣ ، تفسير أبي السعود ٤ / ١٧٠ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٢٢٢ ـ ٢٢٣ ، تفسير الطبري ١٥ / ١٦٣ ـ ١٦٧ ، تفسير الخازن ٣ / ٢٠٤٨٢٠٢ ، تفسير المنار ١١ / ٣٨٣ ـ ٣٨٤ ، تفسير القرطبي ص ٣٢٠٨.).

(٣) سورة يونس : آية ٨٣.

١٨٧

الصغار ، لا مجموعة الشعب الإسرائيلي ، وأن هؤلاء الفتيان كان يخشى من فتنتهم وردهم من أتباع موسى ، خوفا من فرعون وتأثير كبار قومهم ذوي المصالح عند أصحاب السلطان ، والأذلاء الذين يلوذون بكل صاحب سلطة ، وبخاصة من بني إسرائيل ، وقد كان فرعون ذا سلطة ضخمة وجبروت ، كما كان مسرفا في الطغيان لا يقف عند حد ، ولا يتحرج من إجراء قاس (١) ، وهكذا يبدو واضحا إلى أي مدى قد أذل الاستعباد قوم موسى ، وأفسد طباعهم ، فأعرضوا عن الحق وأصبحوا لا يملكون من أمر نفسهم شيئا ، فلقي منهم نبيّهم العنت الشديد.

وعلى أية حال ، فلقد عجب فرعون ، وهو يرى موسى عليه‌السلام ، يواجهه بهذه الدعوى الضخمة «إني رسول رب العالمين» ثم يطالبه بهذا الطلب الضخم «أن أرسل معي بني إسرائيل» ، ومن ثم فقد كان بين موسى وفرعون جدل شق واستطال ذكّر فرعون فيه موسى بتربيته في القصر الملكي ، وكيف أحسن سلفه (٢) مثواه ، ثم كيف ارتكب جريمته تلك ، يعني قتل موسى لمصري ، ثم فر هاربا من مصر كلها ، دون أن يناله من القصاص ما يستحق (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً ، وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ، وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٣) ، وهكذا جمع فرعون كل ما حسبه ردا قاتلا لا يملك معه موسى جوابا ، ولا يستطيع مقاومته ، وبخاصة حكاية القتل ، وما يمكن أن يعقبها من القصاص ، فأجابه موسى عليه‌السلام (قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ، فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ، وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (٤).

__________________

(١) في ظلال القرآن ٣ / ١٨١٥.

(٢) قارن : ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ٢٥٠.

(٣) سورة الشعراء : آية ١٨ ـ ١٩.

(٤) سورة الشعراء : آية ٢٠ ـ ٢٢.

١٨٨

ويتصل الجدل والحوار بين الرجلين ، النبي والملك ، (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ، قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ، قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ ، قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ، قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ، قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ، قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ، قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ، قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) (١) ، وكانت هذه مفاجأة ضخمة لفرعون وملئه ، فالعصا (٢) تنقلب إلى ثعبانا لا شك في ثعبانيته ، ثم إن

__________________

(١) سورة الشعراء : آية ٢٣ ـ ٣٣.

(٢) هناك عدة روايات بشأن عصا موسى هذه ، منها (أولا) أن شعيبا كانت عنده عصى الأنبياء ، فأمر موسى أن يأخذ له واحدة منها ، فأخذ موسى عصا هبط بها آدم من الجنة ولم تزل الأنبياء تتوارثها حتى وقعت إلى شعيب ، فضنّ بها شعيب على موسى وطلب أن يأخذ غيرها ، فما وقع في يده غيرها سبع مرات فعلم أن له معها شأنا ، وروى أن شعيبا أمر ابنته أن تأتي لموسى بعصا ، فلما أتته بها قال ائته بغيرها ، فلما أرادت أن تأخذ غيرها لم يقع في يدها غيرها ، فلما رآها الشيخ رضى ، ثم ندم وخرج يطلب موسى ، لكن موسى رفض أن يعطيه إياها ، ثم اتفقا على أن يحتكما إلى أول من يلقاهما ، فلقيهما ملك فقضى بأن يضعوها على الأرض فمن حملها فهي له ، فلم يستطع الشيخ حملها ، وأخذها موسى بسهولة ، فتركها له الشيخ ، ومنها (ثانيا) رواية تقول أنه كان في دار بيرون ابن أخي شعيب بيت لا يدخله إلا هو وابنته التي تزوجها موسى ، وكان في ذلك البيت ثلاث عشرة عصا ، وكان له أحد عشر ولدا ، فأخذ كل واحد منهم عصا ، ثم احتاج موسى عصا ، ولم يجد أهله في الدار ، فدخل البيت وأخذ تلك العصا ، فلم علم بيرون بما حدث فرح وقال لابنته : إن زوجك هذا نبي ، وأن له مع هذه العصا لشأنا ، ومنها (ثالثا) رواية تقول إن موسى كان يرعى غنم حميه فنام ، وإذا بالتنين قد جاء فقامت عصا موسى فقتلته وعادت وهي دامية ، فلما استيقظ موسى ورأى العصا دامية والتنين مقتولا ، أرتاح وعلم أن في تلك العصا آية ، فأخبر حميه بالقصة ففرح وعلم أن لهذه العصا شأنا ، وأراد أن يكافئ موسى على حسن رعيه وصلته لابنته ، فوهب له كل أبلق وبلقاء تضعها أغنامه في تلك السنة ، فأوحى الله إلى موسى أن أضرب بعصاك الماء الذي تسقي الغنم منه ، فوضعت جميعها ما بين أبلق وبلقاء ، فعلم شعيب أن هذا رزق ساقه الله لموسى وزوجته فوفي له شرطة ، ومنها (رابعا) رواية تقول إن هذه العصا عصا آدم وأن جبريل أخذها ـ

١٨٩

يده السمراء ، وقد كان موسى عليه‌السلام «آدم» أي مائلا إلى السمرة ، يخرجها من جيبه ، فإذا هي بيضاء من غير سوء ، بيضاء ليست عن مرض ، ولكنها المعجزة ، فإذا أعادها إلى جيبه عادت سمراء ، فإذا فرعون ، وقد أحس بضخامة المعجزة وقوتها يسرع بمقاومتها ودفعها ، وهو يحس ضعف موقفه ، ويكاد يتملق القوم من حوله ، ويهيج مخاوفهم من موسى وقومه ليغطي على وقع المعجزة المزلزلة (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ) (١).

ولعل سائلا يتساءل : لم اختار الله معجزة لموسى عليه‌السلام من نوع السحر؟

ولعل الجواب على ذلك ، إنما يأتي من دراستنا للتاريخ المصري في عصوره القديمة ، حتى نستطيع أن ندرك الحكمة من نزول الآية والمعجزة بالصورة التي شاء الله أن تنزل بهما ، فما كانت لتنزل إلا في أمر من واقع حياة الناس وما يدور بأذهانهم فتكون محققة في أعينهم على غير قاعدة ولا قياس لخارق من الأعمال ، طالما فكروا فيه وسمروا به وضربوا به أغوار الوهم وتخيلوه ، وقد ورد لنا عن الحياة المصرية القديمة من أحاديث السحر والسحارين ما كان الناس يخرجون به إلى عالم الغيب من عالم الشهادة ، ومن دنيا الواقع إلى آفاق الخيال (٢).

__________________

ـ بعد موت آدم فبقيت معه حتى لقي موسى ربه ليلا ، ومنها (خامسا) رواية تنسب للحسن البصري تقول إنها من عرض الشجر أخذها موسى دون أن يتخيرها ، وعن الكلبي أنها من شجرة العوسج ، ورأى الفخر الرازي أنه لا مطمع في ترجيح رواية على أخرى ، لأنه ليس في القرآن ما يدل عليها والأخبار متعارضة (تفسير الفخر الرازي ٢٤ / ٢٤٦ ـ ٢٤٧).

(١) سورة الشعراء : آية ٣٤ / ٣٥ ، تاريخ الطبري ١ / ٤٠٣ ، في ظلال القرآن ٣ / ١٣٤٧ ، ٥ / ٢٥٩٤.

(٢) أحمد عبد الحميد : المرجع السابق ص ١٠٤.

١٩٠

وهكذا كانت معجزة موسى من نوع السحر الذي برع المصريون فيه ، ومن نفس المنطق ، وعلى نفس الدرب ، كانت معجزة القرآن الكريم الأولى في بيانه الذي خرست معه الألسنة فما تنطق ، وفي فصاحته التي شدهت معها الأفئدة فما تعي ، وسوف يظل هذا البيان وتلك الفصاحة حجة على العالمين ، تلك كانت معجزة القرآن الأولى يوم طالع الرسول العرب ، وهم ما هم بيانا وفصاحة (١) ، يستوي في ذلك رجالهم ونساؤهم ، وما أمر أسواق العرب التي كانوا يعرضون فيها بضاعة الكلام وصناعة الشعر والخطابة ، بخاف على متأدب.

فما هو إلا أن جاء القرآن ، وإذا الأسواق قد انفضت ، إلا منه ، وإذا الأندية صفرت ، إلا عنه ، فما قدر أحد منهم أن يباريه أو يجاريه ، أو يقترح فيه إبدال كلمة بكلمة ، أو حذف كلمة أو زيادة كلمة ، أو تقديم واحدة وتأخير أخرى ، ذلك على أنه لم يسد عليهم باب المعارضة ، بل فتحه على مصراعيه ، بل دعاهم إليه أفراد أو جماعات ، بل تحداهم وكرر عليهم ذلك التحدي في صور شتى ، متهكما بهم متنزلا معهم إلى الأخف فالأخف (٢) ، فدعاهم أول مرة أن يجيئوا بمثله (٣) ، ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور مثله (٤) ، ثم أن يأتوا بسورة واحدة مثله (٥) ، ثم بسورة واحدة من مثله (٦) ، وأباح لهم في كل مرة أن يستعينوا بمن شاءوا ومن استطاعوا ، ثم رماهم ـ والعلم كله ـ

__________________

(١) إبراهيم الأبياري : تأريخ القرآن ، القاهرة ١٩٦٥ ص ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) محمد عبد الله دراز : النبأ العظيم ، نظرات جديدة في القرآن ، الكويت ١٩٧٠ ص ٨٤.

(٣) سورة الإسراء : آية ٨٨.

(٤) سورة هود : آية ١٣.

(٥) سورة يونس : آية ٣٨.

(٦) سورة البقرة : آية ٢٣.

١٩١

بالعجز في غير مواربة ، فقال : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١).

وهكذا شاء الله ، أن يقرأ النبي الأمي ، وأن تكون معجزته كتابا (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٢) ، وأن يكون هذا الكتاب بما يتعلق فيه من آيات العلم والحكمة والسمو الأدبي ، هو حجته البالغة على أنه مبلغ عن الله ، لا بد له فيما يتلوه منه ، كما يقول الله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٣) ، ثم ليكون هذا الكتاب دستور أمة أمية ، لم تكن تقرأ وتكتب ، وأن يكون هذا الدستور أكمل وأمثل نظام عرفته البشرية ، وأن يكون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، معجزة الإنس والجن في كل دهر وعصر (٤).

وعودا على بدء ، إلى معجزة موسى عليه‌السلام ، حيث نرى أن المصريين إنما كانوا ـ فيما تشهد به قصص أدبهم ـ يحبون أحاديث السحر وخوارق الأعمال ، وفيما نسبوه إلى خوفو ـ وهو اختصار اسمه الكامل خنوم خوفو وى ـ في بردية وستكار (٥) ـ أو قصة خوفو والسحرة ، من حبه السحر

__________________

(١) سورة الإسراء : آية ٣٨ ، وأنظر : تفسير القرطبي ص ٣٩٤٢ ـ ٣٩٤٣ ، عبد الله محمود شحاتة : تفسير سورة الإسراء ص ٢٣٤ ـ ٢٣٧.

(٢) سورة فصلت : آية ٤٢ ، وأنظر تفسير الكشاف ٤ / ٢٠١ ـ ٢٠٢ ، تفسير مجمع البيان ٢٤ / ٢٤ ـ ٢٦ ، تفسير روح المعاني ١٤ / ١٢٧ ـ ١٢٨ ، تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ١٣١ ، تفسير النسفي ٤ / ٣٨٠ ، تفسير القرطبي ص ٥٨١٠ ـ ٥٨١١ ، تفسير ابن كثير ٧ / ١٧١ ـ ١٧٢.

(٣) سورة العنكبوت : آية ٤٨ ، وأنظر : تفسير القرطبي ص ٥٠٦٧ ـ ٥٠٦٩.

(٤) عبد الرحيم فودة : من معاني القرآن ص ٤ ـ ٦.

(٥) البردية محفوظة بمتحف برلين ، وترجع إلى أيام الدولة الوسطى ، وربما إلى عصر الهكسوس ، وكان «أدولف إرمان» أول من عني بنشرها ، كما نشرها «جاستون ماسبيرو» و «ماكس بيير» و «بييت» ، ومجموعة من العلماء المصريين والأوروبيين بعد ذلك ، (انظر : ـ

١٩٢

وإقباله عليه ، ما يصور لنا كذلك ما تعلقت به أوهام الناس في العصور القديمة من خيالات يردونها إلى السحر ويستعينونه عليها (١).

تروى البردية في القصة الثالثة ـ أو قصة الزوج المخدوع ـ أن كاهنا يدعى «أوبا أونر» كانت له زوجة قد أقامت علاقة غير شريفة مع فتى من أواسط الناس ، وأنهما كانا يلتقيان ـ في غياب زوجها ـ في منزل ريفي يملكه الزوج الكاهن على حافة بحيرة ، حيث كانا يعاقران الخمر ، ويرتكبان ما حرم الله ، ثم ينزل الفتى آخر النهار في البحيرة ، على أن حارس البيت ، وقد سدرت المرأة في غيها ، ومضت في ضلالها زمنا ، قد عمد فمشى بخبرها إلى زوجها ، الذي صنع من الشمع كهيئة التمساح ، فألقاه في البحيرة بعد أن قرأ عليه من عزائم السحر ، ما حوله إلى تمساح مفترس عظيم ، فلما نزل الفتى إلى الماء قبض التمساح عليه ونزل به إلى الماء ، ثم تحدث الكاهن بخبر زوجته الخاطئة إلى الملك ودعاه إلى بيته ليشهد العشيق الشاب بين فكي التمساح ، هنالك وقف الملك على حافة البحيرة مع الكاهن الذي نادى التمساح فخرج إليهما فريسته ، فما أن رأى الملك التمساح حتى ارتاع وفزع من مرآة ، ولكن الكاهن ما كاد ينحني عليه ليلتقطه حتى عاد سيرته الأولى دمية من الشمع (٢).

__________________

١٩٢٧ A. Erman, The Literature of the Ancient Egyptians, London وكذا

,٤٧ ـ ٣٦.p ..

G. Lefebvre, Romans et Contes Egyptien de L\'Epoque Pharaoninque, Paris,٧٧ ـ ٧٠.p ، ١٩٤٩.

J. Maspero, Popular Stories of Ancient Egypt, p. F٢١

Max pieper, Die Agyptische Literatur. F.

(١) أحمد عبد الحميد : المرجع السابق ص ١٠٥.

(٢) جوستاف لوفيغر : روايات وقصص مصرية من العصر الفرعوني ، ترجمة علي حافظ ، ص ١٤١ ـ ١٤٤ ، أحمد فخري : تاريخ الحضارة المصرية ـ العصر الفرعوني ، الأدب المصري القديم ، القاهرة ١٩٦٢ ص ٣١٧ ، أحمد عبد الحميد : المرجع السابق ص ٤٧ ، ١٠٥ ، سليم حسن : الأدب المصري القديم ، الجزء الأول ، القاهرة ١٩٤٥ ص ٧٧ ـ ٧٨.

١٩٣

وتروي البردية في قصة سنفرو ـ رأس الأسرة الرابعة ـ وفتيات القصر ، أن الملك إنما كان قد أحس ذات يوم ضيقا في الصدر ، وحزنا في النفس ، فأشار عليه كاهنه «جا جام عنخ» بالنزول إلى بحيرة القصر ، مع عشرين فتاة من الغيد الحسان من فتيات قصره ، يجدفن ويغنين ، وقد فعل الملك ، فتسربت إليه البهجة وسرى إلى نفسه السرور ، بما شهد من فتيات ليس عليهم من اللباس إلا ثياب من شبك لا تكاد تستر شيئا ، وبما سمع من غنائهن ، وهن يسرن به في أمواه البحيرة وسط الخمائل والأغصان ، لو لا ما رأى من توقفهن عن التجديف ، لما شكت إحداهن من سقوط حليّة لها في الماء وإصرارها على الحصول على حليتها لا ترضى عنها بديلا ولا عوضا من الملك.

وسرعان ما استدعى الكاهن «جا جام عنخ» على عجل ، فما أن علم بالخبر ، حتى قرأ من عزائم السحر ، الذي انشقت له مياه البحيرة ، حيث انطوت نصف على نصف ، فأصبح ارتفاع ماء البحيرة أربعة وعشرين ذراعا في أحد الجانبين ، بعد أن كان اثنى عشر فقط ، ورأوا في قاع البحيرة تلك الحلية ، وقد استقرت فوق قطعة مكسورة من فخار ، فأشار إليها الكاهن ثم سلمها إلى صاحبتها.

وتروي البردية ـ مرة ثالثة ـ في قصة الساحر «ددي» الذي بلغ من سحره أن يلحم الرأس المقطوع ، ويذلل الأسد لإرادته ، أن قد دعى إلى حضرة الملك «خوفو» ، حيث عرض سحره عليه ، وأوقعه بأوزة ثم ثور ، فصل رأس كل منهما ، ثم ما زال يقرأ من عزائمه ، والرأس يقترب من الجسد حتى التحما وعادت الحياة إلى كل منهما ، ثم أعاد التجربة مرة ثانية في بطة ، ثم في ثور ، فنجح في ذلك كله (١).

__________________

(١) جوستاف لفيقر : المرجع السابق ص ١٤٧ ـ ١٥١ ، أحمد فخري : المرجع السابق ص ٣٩٨ ـ ٤٠٠ ، سليم حسن : المرجع السابق ص ٨١ ـ ٨٣ ، أحمد عبد الحميد يوسف المرجع السابق ص ١٠٥ ـ ١٠٦.

١٩٤

وهكذا يمكننا أن نفهم ما دار بين موسى وسحرة فرعون ، حينما «كلم الرب موسى وهارون قائلا : إذا كلمكما فرعون قائلا : هاتيا عجيبة تقول لهارون خذ عصاك وأطرحها أمام فرعون فتصير ثعبانا ، فدخل موسى وهارون إلى فرعون وفعلا هكذا كما أمر الرب ، طرح هارون عصاه أمام فرعون وأمام عبيده فصارت ثعبانا» (١) ، وإلى عصا موسى ـ وليس هارون كما تقول التوراة ـ يشير القرآن الكريم في قوله تعالى : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) (٢).

وهنا رأى الملأ من قوم فرعون ما راعهم وروّعهم ، ولكن خوفهم من فرعون منعهم من أن يقولوا كلمة الحق ، رأوا عصا موسى وقد صارت حية تسعى ، ورأوا يده بعد أن أخرجها من جيبه ، وقد صارت بيضاء من غير سوء ، فلم يصدقوه مع ذاك في أنه مرسل من قبل الله رب العالمين ، واتهموه بأنه ساحر ماهر ، يريد أن يستعلي هو وأخوه في أرض مصر ، ليخرجا منها أهلها ، ويمكنا لبني إسرائيل فيها ، وانتهوا بعد التشاور إلى أن يرجئ فرعون موسى وأخاه ، دون عقاب ، حتى تبطل حجتهما وتثبت إدانتهما ، وذلك بأن يحضر المهرة من السحرة من مدائن مصر ، ليواجه بهم هذا الساحر الماهر ، وإلى هذا يشير القرآن في قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ ، قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) (٣).

واجتمع السحرة في ميقات معلوم ، يوم الزينة ، ولعله يوم عيد وفاء

__________________

(١) خروج ٧ : ٨ ـ ١٠.

(٢) سورة الشعراء : آية ٣٢ ـ ٣٣.

(٣) سورة الأعراف : آية ١٠٩ ـ ١١٢ ، وأنظر : تفسير الطبري : ١٣ / ١٨ ـ ٢٥ ، تفسير المنار ٩ / ٣٣ ـ ٥٥ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٤٥١ ـ ٤٥٢ ، وأنظر : يونس آية ٧٨ ـ ٧٩ ، طه ٥٧ ـ ٦٤ ، الشعراء ٣٤ ـ ٣٨.

١٩٥

النيل ، أو غيره من أعياد المصريين (١) ، ثم تقدموا ممتلئين ثقة بأن لهم النصر والأجر ، (قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ ، قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (٢) ، ومن ثم فقد خيروا موسى فيمن يبدأ قائلين : (يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) (٣) ، ويذهب الإمام الفخر الرازي إلى أن السحرة المصريين قد تواضعوا لموسى عليه‌السلام فقدموه على أنفسهم ، فقالوا «إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى» ، فلما تواضعوا له ، تواضع هو أيضا فقدمهم على نفسه ، وقال : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) ، وهكذا قدم موسى السحرة على نفسه ، رجاء أن يصير ذلك التواضع سببا لقبول الحق ، ولقد حصل ببركة ذلك التواضع ذلك المطلوب ، ويقول الزمخشري في الكشاف : تخيّرهم إياه أدب حسن راعوه معه ، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين قبل أن يتخاصموا في الجدال ، والمتصارعين قبل أن يأخذوا في الصراع ، وقال القرطبي : تأدبوا مع موسى بقولهم «إما أن تلقي» فكان ذلك سبب إيمانهم.

على أن هناك من يذهب إلى أن تخيّرهم لموسى لم يكن من باب الأدب ، وإنما كان كما يقول صاحب البحر المحيط ، من باب الإدلال لما يعلمونه من السحر ، وإيهام الغلبة والثقة بأنفسهم ، وعدم الاكتراث بأمر موسى ، وقد أعطاهم موسى فرصة التقدم ، وثوقا بالحق ، وعلما بأن الله تعالى سيبطل سحرهم ، كما حكى الله عن موسى ، حيث قال : (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ

__________________

(١) أنظر عن الأعياد (محمد بيومي مهران : الحضارة المصرية ـ الإسكندرية ١٩٨٤ ص ١١٢ ـ ١١٥).

(٢) سورة الأعراف : آية ١١٣ ـ ١١٤ ، وأنظر : الشعراء : آية ٤١ ـ ٤٢.

(٣) سورة طه : آية ٦٥ ، وأنظر : الأعراف : آية ١١٥ ، ثم قارن : يونس : آية ٨٠ (فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون) والشعراء آية ٤٣ (قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون) وفي هاتين الآيتين (بعكس آيتي الأعراف ١١٥ ، طه ٦٥) نرى موسى عليه‌السلام هو الذي يقدم السحرة ، دونما تخيير منهم له ، على أن يبدءوا بعرض مهاراتهم السحرية.

١٩٦

إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) ويذهب صاحب الظلال إلى أن التحدي إنما كان واضحا في تخيرهم لموسى ، وتبدو كذلك ثقتهم بسحرهم وقدرتهم على الغلبة ، وفي الجانب الآخر تتجلى ثقة موسى عليه‌السلام ، واستهانته بالتحدي ، «قال ألقوا» فهذه الكلمة الواحدة تبدو فيها قلة المبالاة ، وتلقي ظل الثقة الكامنة وراءها في نفس موسى ، على طريقة القرآن الكريم في إلقاء الظلال بالكلمة المفردة في كثير من الأحايين (١).

وأيا ما كان الأمر ، فلقد تقدم السحرة (٢) واثقين من النصر ،

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٣ ـ ١٣٤ ، تفسير البحر المحيط ٤ / ٣٦١ ، تفسير القرطبي ١١ / ٢١٤ ، في ظلال القرآن ٣ / ١٣٤٩.

(٢) اضطرب الناقلون للأخبار في عدد السحرة اضطرابا متناقضا يعجب العاقل ، كما يقول أبو حيان ، من تسطيره في الكتب ، فمن قائل ١٢ ألف أو ١٧ ألف أو ٣٠ ألف أو ٨٠ ألف ، أو ٧٠ ألف ، ألقوا ٧٠ ألف عصا ، ٧٠ ألف حبل ، على أن أغرب ما في الروايات أنهم كانوا ٧٢ ساحرا ، اثنان من المصريين ، ٧٠ من بني إسرائيل ، وقيل تسعمائة ، ثلاثمائة من الفرس ، وثلاثمائة من الروم ، وثلاثمائة من الإسكندرية ، وجاء في تفسير الطبري عن ابن عباس أن فرعون قال : لا نغالبه (أي موسى) إلا بمن هو منه ، فبعث بعلماء بني إسرائيل إلى الفرما يعلمونهم السحر ، لما يعلم الصبيان الكتاب في الكتاب ، فعلموهم سحرا كثيرا ، حتى قال كبيرهم أنه علمهم سحرا لا يطيقه أهل الأرض ، إلا أن يكون ، أمرا من السماء ، فإنهم لا طاقة لهم به ، فأما سحر أهل الأرض فإنه لن يغلبهم (تفسير الطبري ١٣ / ٢٥ ، تفسير البحر المحيط ٤ / ٣٦٠ ، ٦ / ٢٦ ، تفسير القرطبي ١١ / ٢١٤ ، ابن كثير : مختصر التفسير ٢ / ٤٨٦ ، البداية والنهاية ١ / ٢٥٤ ، تفسير الدر المنثور ٣ / ١٠٦ ، تاريخ ابن الأثير ١ / ١٠٣ ، تفسير النسفي ٣ / ٥٧) وبدهي أن المبالغة واضحة من هذه الأعداد ، فما كان التنافس بينهم وبين موسى يحتاج إلى أعداد تصل إلى تسعمائة ألف ساحر ، وربما كان رقم ٧٢ ساحرا ، مقبولا نوعا ما ، وأما الأماكن التي جاء منها السحرة كبلاد الفرس والروم والإسكندرية ، فليت الذين كتبوا ذلك يعلمون أن الإسكندرية أنشئت عام ٣٣٢ ق. م ، وبعد هذه الأحداث بما يقرب من ألف عام ، وأن الفرس ظهروا عام ٥٢٥ ق. م ، أي بعد هذه الأحداث بحوالي ٧٠٠ عام ، والروم بعدها بما يقرب من اثنى عشر قرنا ، وأن الفرما أو العريش لم تكن من المراكز العلمية في مصر ، وأن مصر باتت تموج بالسحرة ، وقد بلغوا شأوا بعيدا فيه ، وما كانوا في حاجة لبني إسرائيل ، الذين ما كانوا يعرفون علما أو فنا أو صناعة ، غير ـ

١٩٧

فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) (١) ، وسرعان ما صارت الحبال والعصي ، كما تقول التوراة ، ثعابين ، أو بالأحرى خيل إليهم من سحرهم إنها تسعى وكما نص الذكر الحكيم (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) ، قال الزمخشري : استرعبوهم وأرهبوهم إرهابا شديدا ، وحسبنا أن يقرر القرآن الكريم أنه سحر عظيم ، لندرك أي سحر كان ، وحسبنا أن نعلم أنهم سحروا أعين الناس وأثاروا الرهبة في قلوبهم ، واسترعبوهم ، لنتصور إي سحر كان ، ولفظ «استرهب» ذاته لفظ مصور ، فهم استجاشوا إحساس الرهبة في الناس وقسروهم عليه قسرا ، ثم حسبنا أن نعلم من النص القرآني الآخر في سورة طه أن موسى عليه‌السلام قد أوجس في نفسه خيفة ، لنتصور حقيقة ما كان ، يقول الله تعالى : (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ، قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ، وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ ، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى ، فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) (٢).

وجاء في تفسير ابن كثير : قال ابن عباس : فجعلت لا تمر بشيء من حبالهم ولا من خشبهم إلا التهمته ، فعرفت السحرة أن هذا شيء من السماء ، ليس هذا بسحر ، فخروا سجدا ، وقالوا آمنا برب العالمين رب موسى

__________________

ـ سخرة في بناء المدن ورعي مواشيهم ، ثم كيف يستعين فرعون ببني إسرائيل على موسى الذي جاء لينقذهم من فرعون الذي كان يذبح أبناءهم ويستبي نساءهم ، ثم إن سياق القصة في القرآن يشير إلى استعانة فرعون بالسحرة المصريين ، وليس ببني إسرائيل.

(١) سورة الشعراء : آية ٤٤.

(٢) سورة الأعراف : آية ١١٦ ، طه : آية ٦٥ ـ ٧٠ ، في ظلال القرآن ٣ / ١٣٤٩ ، تفسير الطبري ١٣ / ٢٨.

١٩٨

وهارون ، قال ابن إسحاق : جعلت تتبع تلك الحبال والعصي واحدة واحدة حتى ما يرى بالوادي قليل ولا كثير ، ثم أخذها موسى فإذا هي عصا في يده كما كانت ، ووقع السحرة سجدا ، وقالوا : لو كان هذا ساحرا ما غلبنا ، وفي هذا إشارة إلى أهمية العلم وتكريمه ، فقد كان هؤلاء السحرة أعرف الناس بما جاء به موسى عليه‌السلام ، وأنه من عند الله ، وليس من فنون السحر الذي تجروا فيه ، ومن ثم فقد خروا ساجدين وقالوا : «آمنا برب العالمين رب موسى وهارون» ، لأن العالم في فنه إنما هو أكثر الناس استعدادا للتسليم بالحقيقة حين تنكشف له ، لأنه أقرب من غيره إدراكا لهذه الحقيقة ، ومن ثم فما أن تأكدوا من معجزة موسى حتى ملك الحق قلوبهم ، وملأ الإيمان مشاعرهم ، فاستخفوا بتهديد فرعون لهم أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، ويصلبهم في جذوع النخل «وقالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون ، إنا نطمع أن يغفر لنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين».

ويقول أبو حيان : قال المتكلمون إن في هذا دلالة على فضل العلم ، لأنهم كانوا كاملين في علم السحر ، ومن ثم فما أن علموا أن ما جاء به موسى خارج عن جنس السحر ، حتى آمنوا به ، ولو لا العلم لتوهموا أنه سحر ، وأن موسى أسحر منهم ، ولكن نظرا لأنهم كانوا ، كما يقول الفخر الرازي ، في الطبقة العليا من علم السحر ، فقد علموا أن ذلك خارجا عن حد السحر ، وما كان ذلك إلا ببركة تحقيقهم في علم السحر ، ومن ثم لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين ، كأنهم أخذوا فطرحوا طرحا ، قال أبو السعود : روى أن رئيسهم قال : كنا نغلب الناس ، وكانت الآلات تبقي علينا ، فلو كان هذا سحرا ، فأين ما ألقيناه من الآلات ، فاستدل بتغير أحوال الأجسام على الصانع القادر العالم ، وأن ظهور ذلك على يد موسى دليل على صحة رسالته ، ومن ثم فقد خروا سجروا ، آمنا برب موسى وهارون (١).

__________________

(١) تفسير البحر المحيط ٤ / ٣٦٤ ـ ٣٦٥ ، تفسير الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٤ ، تفسير أبي السعود ٦ / ـ

١٩٩

وبدهي أن ذلك كله إنما يدل على أن سلطان السحر محدود ، فهو ، وإن كان له حقيقة ، فإن حقيقته لا تتجاوز الأيدي والأرجل من خلاف فرعون ، وقد جاءت هذه الرواية في معظم كتب التفسير ، على أن هناك خلافا في تنفيذ فرعون لوعيده ، فليس في القرآن الكريم نص على أن فرعون أنفذ وعيده ، ولكن الظاهر من سياق القصة أنه صلبهم وعذبهم ، قال ابن عباس وعبيد بن عمير : كانوا من أول النهار سحرة ، فصاروا من آخره شهداء بررة ، ويؤيد هذا قولهم : «ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين» (١) ، وأما النص الذي يصور وسائل التعذيب في زمان فرعون فقد ورد في معبد عمدا من بلاد النوبة المصرية ، ويرجع إلى السنة الرابعة من عهد «مرنبتاح» (حوالي عام ١٢٢٠ ق. م) ، ويؤكد أن مرنبتاح هذا ، والذي شاع في الناس أنه فرعون موسى ، إنما قطع من خلاف وصلب ، وقد نشر هذا النص الزميل الفاضل الدكتور أحمد عبد الحميد يوسف (٢)

وأيا ما كان الأمر ، فلقد كان هذا موقف الذين آمنوا من المصريين ، ملك الحق قلوبهم ، وملأ الإيمان مشاعرهم ، فاستخفوا بتهديد فرعون لهم أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، ويصلبهم في جذوع النخل (قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ ، إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) (٣) ، وهنا تتجلى قوة الإيمان ، إذا سكن القلب واطمأنت به

__________________

ـ ٢٧ ـ ٢٨ ، في ظلال القرآن ٣ / ١٣٥٠ ، ابن كثير : مختصر التفسير ٢ / ٤٢ ، البداية والنهاية ١ / ٢٥٨ ، تاريخ الطبري ١ / ٤٠٩ ، الكامل لابن الأثير ١ / ١٠٣.

(١) تفسير الطبري ١٣ / ٣٤ ، تفسير البيضاوي ٣ / ٢٣ ، تفسير الفخر الرازي ٤ / ١٣٥ ، تفسير البحر المحيط ٤ / ٣٦٥ ، تفسير النسفي ٢ / ٧٠ ، الدر المنثور ٣ / ١٠٧ ، ابن كثير : مختصر التفسير ٢ / ٤٣ ، البداية والنهاية ١ / ٢٥٨.

(٢) أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ١١٠ ، وكذا A. A. Joussef, Merenptah\'s

٢٧٣.p ، ١٩٦٤. fourth year Text at Amada, ASAE, L VIl, F

(٣) سورة الشعراء : آية ٥٠ ـ ٥١ ، عبد الرحيم فودة : المرجع السابق ص ١٧٩.

٢٠٠