دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٢

أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا ويصعدون من الأرض» (١).

وفي الواقع أننا إذا ما أردنا مناقشة أسباب التوراة هذه للاضطهاد المصري لبني إسرائيل ، لرأينا فيها بعض الصواب ، ولكننا سوف نرى فيها ـ في نفس الوقت ـ الكثير من الخطأ ، فالتوراة تجعل من فرعون الذي «لم يكن يعرف يوسف» سببا في الاضطهاد ، ورغم أنه سبب غير مقنع تماما ، إلا أنه ربما كان يحمل بعض الصواب بين طياته ، ذلك لأن هذا الفرعون الذي تشير إليه التوراة ـ دون أن تذكر اسمه ـ ربما كان «رعمسيس الثاني» وربما كان «سيتي الأول» ـ فيما يرى أطلس وستمنستر التاريخي ـ هو الملك الذي بدأ العمل في بناء مدينة «بر ـ رعمسيس» ، كما تدل بعض الآثار التي وجدت في موقع المدينة (٢).

وأما جهل هذا الفرعون بيوسف الصديق ، عليه‌السلام ، فلعل السبب في ذلك أن الصديق إنما عاش قبل هذا الفرعون بقرون ، ترجع إلى أيام الهكسوس ، وهم الغزاة الذين يحمل لهم المصريون في قلوبهم كل الكره والبغض ، ولم يحاولوا أن يسجلوا تاريخهم ، فضلا عن تاريخ موظفيهم ، والصديق واحد منهم ، ومن هنا فقد ارتبط يوسف بحدث مؤلم في الضمير الوطني المصري ، وذلك لسببين ، الواحد أنه كان أسيويا ، وجواب رمال ، والآخر أنه كان من أكبر موظفي الدولة المحتلة المكروهة ، وطبقا لوجهة النظر الأخيرة ، فإن أي إعجاب بيوسف إنما كان يعني ـ في نظر فرعون ـ الثناء على الهكسوس (٣).

وأما ما تذهب إليه التوراة من أن الإسرائيليين قد أصبحوا «شعبا أعظم

__________________

(١) خروج ١ : ٨ ـ ١٠.

(٢). ٣٧ The Westminester Historical Atlas to the Bible, p.

(٣) ١١٧W.Keller ,op ـ cit ,p ..

١٤١

وأكثر» من المصريين ، فهذا منطق غير مقبول ، وأن النص التوراتي لا شك أنه قد أوغل في المبالغة ، وأغرق في التعصب ، ذلك أن التوراة نفسها إنما تحدثنا أن بني إسرائيل عند ما قدموا إلى مصر ، للمرة الأولى ، إنما كان «جميع نفوس بيت يعقوب التي جاءت إلى مصر سبعون» (١) ، وها نحن الآن على أيام الاضطهاد ـ ثم الخروج فيما بعد ـ وقد انصرمت ٢١٥ سنة ، على رأي التوراة السبعينية ـ أو ضعف هذا الرقم على رأي التوراة العبرية ـ حتى يصبح هذا البيت من الناس «شعبا أعظم وأكثر» من المصريين ـ أصحاب أعظم وأقوى دولة في العالم وقت ذاك ـ أو حتى يصبح عدد بيت يعقوب قد ناهز المليوني ـ ربما الثلاثة ـ فلما طردوا من مصر ، كان من بينهم «نحو ستمائة ألف ماش من الرجال ، عدا الأولاد ، فكان جميع الأبكار الذكور ، من ابن شهر فصاعد ، اثنين وعشرين ألفا ومائتين وثلاثة وسبعون» (٢) ، فإذا ضاعفنا هذا العدد كان الأبكار من الجنسين قرابة ٤٥ ألف.

ويعلق بعض الباحثين على ذلك ، بأننا لو قسمنا عدد الجماعة على الأبكار ، لخلصنا إلى أن المرأة الإسرائيلية من اليهود الأبقين ، كانت تلد زهاء ٦٥ وليدا ، وهو أمر لا يستقيم مع المنطق ، فضلا عما تعرضوا له من ذلة وعسف تحت رؤساء التسخير ، ولا مع ما روى من عبورهم البحر في سويعات قصار ، ومن ثم فإن علماء اللاهوت والمؤرخين ، سواء بسواء ، أصبحوا الآن لا يعلقون على هذه الأرقام التي ذكرتها التوراة أية أهمية ، ويعتبرونها محض خيال إسرائيلي (٣) ، ـ الأمر الذي سوف نناقشه عند الحديث عن الخروج.

__________________

(١) تكوين ٤٦ : ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) خروج ١٢ : ٣٢ ، عدد ٤٣ : ٤٣.

(٣) عصام الدين حفني ناصف : محنة التوراة على أيدي اليهود ، القاهرة ١٩٦٥ ص ٣٥ ، أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ٧٢. وكذا

٣٥٨.p ، ١٩٣١.S.A.Cook ,The Rise of Israel ,CAH ,II ,

١٤٢

هذا فضلا عن أن الإسرائيليين لم يكونوا في مصر ـ في غالب الأحايين ـ إلا مجرد رعاة أغنام ، وأن المصريين إنما هم أصحاب البلد الأصلاء هم المالكون للسلطة والقوة والثروة في البلاد ، ومن ثم يبدو واضحا مدى المبالغة في نص التوراة الذي يصف الإسرائيليين بأنهم «شعب أكثر وأعظم» من المصريين ، وليس أدل على ذلك من الاضطهاد الذي تقول به التوراة ، وتحاول تبريره بمثل هذه الحجج الواهية ، وإلا فخبرني بربك : كيف يضطهد الأقل الأكثر ، والأذل الأعز ، والأضعف الأقوى؟.

وأما قول التوراة ، أنه «إذ حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا ويصعدون من الأرض» ، فلعل هنا موطن السر ، ولعل من كتبوا هذه النصوص في التوراة قد أشاروا إلى موطن الداء ، دون أن يدروا ، وهو عدم ثقة المصريين في بني إسرائيل ، وخشيتهم من أن يكونوا حربا عليهم ، إن طمع فيهم غاز لئيم ، أو أراد معتد أثيم أن يدنس أرضهم ، ولعل لهم من عهد الهكسوس ذكريات لا تضع الإسرائيليين فوق مستوى الشبهات ، بل إنهم ـ كما يقول الدكتور الحاخام أبشتين (١) ـ كانوا متهمين بالتعاطف مع الهكسوس ، وأقرباء نائب الملك السابق ، أو وزير تموينه على الأصح.

وهكذا يبدو واضحا ـ وبنص التوراة نفسها ـ أن سبب الاضطهاد من أقوى الأسباب التي تخيف منهم أمة متحضرة كمصر ، وملكا مهيبا كفرعون ، وهو انعدام ولائهم للبلاد التي يعيشون فيها ، واستعدادهم للانضمام إلى أعدائهم وشن الحرب عليها (٢) ، حتى وقع في خلد فرعون وآله أنهم طابور خامس ، وربما كان ذلك ـ فيما يرى سير ليونارد وولي ـ انعكاسا للكراهية القومية للهكسوس المحتلين التي رأت في العبرانيين ظلالهم (٣).

__________________

(١) ١٥ I.Epstein ,Judaism ,p ..

(٢) حسن ظاظا : الصهيونية العالمية وإسرائيل ، القاهرة ١٩٧١ م ص ٤.

(٣) ٤٩٥. L.Woolley ,op ـ cit ,p.

١٤٣

هذا فضلا عن أن الشعب المصري لم يكن ينظر بارتياح إلى الإسرائيليين منذ أول يوم عرفهم فيه (١) ، ثم تحول هذا الشعور إلى كره ومقت ، حين رآهم أجراء أذلاء يستخدمهم الهكسوس الغزاة في أعمالهم ، ثم تحولت به الكراهية إلى احتقار وازدراء ، بخاصة وأنهم كانوا منذ البداية يعتبرون الأكل معهم نجاسة ، ثم رحل الغزاة من أرض مصر ، فبقي هؤلاء الأذناب ليلعبوا دور الذئاب ، وكان من رعمسيس ما كان مع هؤلاء الجواسيس (٢).

وهنا لنا أن نتساءل هل كان هناك حقا استعباد من المصريين للإسرائيليين؟ أم أن الأمر لا يعدو أن الإسرائيليين قد اعتادوا الدعة والرخاء منذ أيام يوسف ، فلما تغيرت الحال نوعا ، ورأى الفراعين ضرورة اشتراك اليهود فيما كان يبذل في البلاد من جهود نحو التنمية في الزراعة. وأعمال البناء وتشييد التماثيل والمعابد وما إلى ذلك ، عدوا ذلك عننا لا يطيقون احتماله وبدءوا يتذمرون (٣)؟

وإذا ما أردنا أن نصل إلى الحقيقة ، أو حتى أن نقترب منها ، فعلينا أن نتذكر أن مصر ، إحدى الدول التي لم تعرف السخرة والاستعباد قبل عهد الدولة الحديثة ، حين كان الأسرى يدفعون إلى العمل فيستعبدون عن هذا الطريق ، ولم يقل أحد من العلماء أن الإسرائيليين دخلوا مصر كأسرى حرب ، ومن ثم استعبدهم المصريون ، هذا فضلا عن أن التوراة إنما تذكر صراحة أن الفرعون إنما كان ينظر إليهم ـ حتى في أوقات الشغب ـ وكأنهم من الشعب ليسوا مجموعة من العبيد ـ أو حتى المستعبدين ـ ، تقول التوراة :

__________________

(١) تكوين ٤٣ : ٣٢.

(٢) عبد الرحيم فودة : من معاني القرآن ص ١٧٧ ـ ١٧٨.

(٣) صبري جرجس : التراث اليهودي الصهيوني ، القاهرة ١٩٧٠ م ص ٢٥.

١٤٤

«فقال لهما ملك مصر : لما ذا يا موسى وهارون تبطلان الشعب من أعماله (١) : ، بل إن القرآن الكريم إنما يقدم لنا الإسرائيليين على أنهم قد أصبحوا جزءا من رعية فرعون ، أو طائفة منهم ، يقول سبحانه وتعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) (٢).

بل إننا ـ حتى لو افترضنا جدلا ـ أن المصريين قد استعبدوهم يعد طرد الهكسوس ، فإن العمال ـ سواء كانوا يعملون في المقابر أو المحاجر الملكية ، أو كانوا يعملون في تشييد المدن ـ إنما كانوا يعاملون معاملة طيبة ، ويمنحون المكافآت في الأوقات المناسبة ، وأنهم كانوا يتمتعون بفترات راحة رسمية ، كانت تقع في اليوم العاشر والعشرين والثلاثين من كل شهر ، كما كانوا يمنحون إجازات في المناسبات الخاصة بالأعياد الكبرى للآلهة الرسمية كانت كثيرا ما تصل إلى أيام متتالية (٣) ، كما كان بعضهم يتخلفون عن العمل لأسباب مختلفة كالمرض وتقديم القرابين للإله ، كما كان انحراف مزاج الزوجة أو الابنة كافيا ـ وإن كان غريبا ـ يسوغ أحيانا التخلف عن العمل (٤).

ومن ثم فقد رأينا بعض الفراعنة يفخرون بأنهم إنما يعاملون عمالهم برفق وسخاء ، فها هو «سيتي الأول» يحدثنا أن الواحد من عماله ، إنما كان «يتقاضى أربعة أرطال من الخبز ، وحزمتين من الخضروات ، وقطعة من

__________________

(١) خروج ٥ : ٤.

(٢) سورة القصص : آية ٤.

(٣)J. Cerny, Egypt from the Death of Ramesses, III, to the End of the Twenty First Dynasty,

١٨.p ، ١٩٦٥.Cambridge

(٤) أرمان ، رانكة : مصر والحياة المصرية في العصور القديمة ، ترجمة عبد المنعم أبو بكر ، القاهرة ١٩٥٣ ص ١٢٤.

١٤٥

اللحم المشوي كل يوم ، وثوبا من الكتان النظيف مرتين كل شهر» (١) ، وفي الواقع أنه لو كان ما يقوله «سيتي» صحيحا ، لكان عماله يعيشون في مستوى يقارب مستوى العمال في العصر الحديث ، وفي أكثر البلاد تقدما ، فإذا أضفنا إلى ذلك أن «سيتي الأول» هذا ، أو ابنه رعمسيس الثاني ، هما اللذان تدور حولهما روايات التوراة عن السخرة ، وبناء مدينتي «فيثوم ورعمسيس» ، لتبين لنا مدى ما في رواية التوراة من مجافاة للحقيقة.

ولعلنا نستخلص الدليل على حسن معاملة الفراعين للعمال من بني إسرائيل من توراة بني إسرائيل نفسها ، ذلك أننا نقرأ في سفر الخروج أن الإسرائيليين قد ثاروا على موسى ، ولما يمضي شهر ونصف الشهر على خروجهم من مصر ، بعد أن أفقدهم موسى حياة الرخاء في مصر ، وجاء بهم إلى البرية (٢) ، ثم سرعان ما تمضي فترة فتعود الثورة ويشتد الحنين إلى مصر ، ومن ثم نقرأ في سفر العدد : «فعاد بنو إسرائيل أيضا ، وبكوا وقالوا من يطعمنا لحما ، قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجانا ، والقثاء والبطيخ والكرات والبصل والثوم (٣) ، بل إن التوراة في سفر الخروج إنما تؤكد أن الإسرائيليين إنما كانوا يعارضون في الخروج من مصر منذ بادئ الأمر ، تقول التوراة ـ على لسان الإسرائيليين ـ «ما ذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر ، أليس هذا هو الكلام الذي كلمناك به في مصر قائلين : كف عنا فنخدم المصريين» (٤).

وهكذا يبدو لي أن الأمر لم يكن بالصورة التي قدمتها التوراة ، وأن

__________________

(١) ٤١٤.p ، ١٩٠٧. J. H. Breasted, Ancient Records of Egypt, IV, Chicago ,

(٢) خروج ١٦ : ٢.

(٣) عدد ١١ : ٤ ـ ٦.

(٤) خروج : ١٤ : ١١ ـ ١٢٢.

١٤٦

الإسرائيليين لم يكونوا عبيدا مسخرين في مصر ، وإنما كانوا قوما طفيليين اعتادوا حياة الدعة والرخاء في ظل رعاية الهكسوس وإيثارهم على الوطنيين ، وحين ولى ذلك كله ، وتحررت البلاد من نير الهكسوس ، وأراد الفراعين إعادة الدولة المصرية إلى ما كانت عليه من مجد وسؤدد ، فكان لزاما عليهم الاهتمام بزراعتها وإعادة ما تهدم من منشآتها ، وهنا كان على القاطنين بأرض الكنانة ، الإسهام في هذا الجهد العظيم ، فطلب أولوا الأمر من بني إسرائيل أن يشاركوا في ذلك كله ، لا أن يكون عملهم مقصورا على رعاية المواشي والأغنام ، وهو أمر يعود عليهم بالنفع وحدهم.

وهنا غضب الإسرائيليون لأنهم ما تعودوا أن يشاركوا بجهد في إقامة الدولة من كبوتها ، ولأنهم سوف يفقدون امتيازاتهم القديمة ، وربما فكروا في العمل ضد الدولة ، أو أن الدولة نفسها كانت تخشى ـ كما تقول التوراة (١) ـ أن يتآمر بنو إسرائيل ضدها في محاولة للانتكاس ، بل إن بعض الباحثين إنما يذهب إلى أن شعب مصر إنما كان قد اكتشف فعلا أن بني إسرائيل يتآمرون عليه (٢).

وعلى أي حال ، فلو اتفقنا مع الآراء التي تنادي بأن فرعون التسخير ، إنما كان «رعمسيس الثاني» (٣) ـ أو حتى أبوه «سيتي الأول» ، لرأينا أن ظروف البلاد إنما كانت تستدعي وقت ذاك الحذر والحيطة من الأخطار الخارجية التي كانت تهددها ، ولم يكن لرعمسيس ـ أو أبوه ، ـ بداهة أن يفاجىء الناس ـ على غير علة ولا سبب ـ بتلك السياسة ، عن مجرد مزاج مال

__________________

(١) خروج ١ : ١٠.

(٢) سليمان مظهر : قصة العقائد ص ٢٨٣.

(٣) قاموس الكتاب المقدس ٢ / ٩٢٣ ، ١٣٤ ، ١٢٠. M.Noh ,op ـ cit ,p وكذا. E ,naville , ١٣٤ ، ١٢٠.J. Finegan, op ـ cit, p.

٣٩ وكذاArchaeology of the Old Testament ,p ..

١٤٧

به إليها ، وشهوة إلى الدم عصفت به في قوم أبرياء. وإنما لا بد وأن تكون هناك أسباب ، تستدعي كل هذا العنف ، وتلك القوة القاسية.

كان عهد رعمسيس الثاني (١٢٩٠ ـ ١٢٢٤ ق. م) ـ وكذا عهد أبيه سيتي الأول (١٣٠٩ ـ ١٢٩١ ق. م) من قبل ـ قد تميز بالحرب الضروس التي اشتعل أوارها بين القوتين الأعظم في ذلك الوقت ، وأعني بهما القوة المصرية والقوة الحيثية ، فالتاريخ يحدثنا أن الحيثيين كانوا من وراء الثورات التي شبت في إمبراطورية مصر الآسيوية على أيام أخناتون (١٣٦٧ ـ ١٣٥٠ ق. م) ، حتى قضوا ـ أو كادوا ـ على النفوذ المصري في غربي آسيا (١) ، حتى إذا ما كانت أيام «حور محب (١٣٣٥ ـ ١٣٠٨ ق. م) بدأت مصر تستعيد قوتها ، وتنازع الحيثيين سلطانهم الذي اكتسبوه في غيبة الإمبراطورية المصرية ، بل إن الرجل إنما أحرز انتصارا عليهم حتى قبل توليته عرش الكنانة (٢).

على أن «سبتي الأول» إنما كان حقا هو الفرعون الذي قام بالمحاولة الجادة لاستراد الإمبراطورية المفقودة في آسيا ، ووضع حد لنزوات البدو الذين كانوا يهدون الحدود الفلسطينية من الشرق ، فيقوم بحملات ثلاث ينجح فيها في إخضاع كل بلاد فلسطين ، وجانب من سورية ، ثم يستمر في تقدمه شمالا ، حتى إذا ما كانت الحملة الرابعة تحدث المواجهة المباشرة بينه وبين الحيثيين في مكان ما إلى الشمال من مدينة قادش ، وطبقا لنصوص

__________________

(١) ٥١.p ، ١٩٦٩ O.R.Gurney ,The Hittites , (Penguin Books) , ، وكذا

II ,p.F ٢١ ـ ٤١٧ ، ٢١٥ S.A.B.mercer ,The Tell ـ el Amarna Tablest ,I ,p. ،

، ٥٢٩ ، ٢٣٨.

(٢) أنظر : دريوتون ، فانسيية : مصر ، ترجمة عباس بيومي ، القاهرة ١٩٥٠ ص ٤٦٦ ـ ٤٦٧ ، محمد بيومي مهران : المرجع السابق ص ٢٢٩ ـ ٢٣٠ وكذاJ.H.Breasted ,A History of Egypt ,N ,Y , ٤٠.p ، ١٩٤٦ وكذا

A. H. Gardiner, the Mephite Tomb of the General Haremhab, jea,

٤.p ، ١٩٥١ ، ٣٩.

١٤٨

الكرنك ، فقد كتب النصر للفرعون ، فضلا عما استطاع الحصول عليه من الغنائم والأسرى ، إلى جانب إجبار الحيثيين على العودة إلى بلادهم (١).

ويخلف «رعمسيس الثاني» أباه «سيتي الأول» على عرش الكنانة في عام ١٢٩٠ ق. م ، ويبدأ حكمه بأن يوجه كل جودة في متابعة الانتصارات التي حققها أبوه في فلسطين ومدها نحو الشمال ، إلى سورية ، وهنا تحدث مواجهة أخرى بين المصريين والحيثيين على أرض قادش (٢) ، حيث كانت

__________________

(١) أنظر محمد بيومي مهران : المرجع السابق ص ٢٣٠ ـ ٢٣٢. وكذاJ.Wilson ,in ANET ، ٢٥٤.p ، ١٩٦٦.

١٩٧٤ ، ٣٣. R.O.Faulkner ,the Wars of Sethos ,I ,in JEA وكذا R. O

وكذا. ٣٨ ـ ٣٧.p ،

Cambridge ٢ FAulkner ,in CAH ,II ,part , وكذاAH, Gardiner, Egypt of

٢٠١ ـ ٢١٨.p ، ١٩٧٥.

٢٥٤ ـ ٢٥٣.p. ١٦٤ ، ١٩٦٤.the Pharaohs, oxford ,

(٢) قادش : بلد تقع على نهر الأورنت (العاصي) في مكان «تل نبي مند» ، على الشاطئ الأيسر لنهر العاصي ، داخل الزاوية المكونة من التقاء العاصي بنهر الموقادية الصغير من ناحية الغرب ، وعلى مبعدة بضعة أميال جنوبي النهاية الجنوبية لبحيرة حمص ، وكانت قادش تدعى في حوليات تحوتمس الثالث «قدشو» وفي رسائل العمارنة «كنزا» أو «كدش» وفي بعض الحالات «كدشو» و «جيزا» وربما كان «إدوارد ماير» مصيبا في ظنه أن الاسمين مختلفان حقيقة ، فالأول هو الإسم الحقيقي ، والثاني اسم بمعنى «المحراب» من الأصل السامي «قدش» أي مقدس ، ويبدو أن المدينة قد خربت بعد المعركة الطاحنة بين رعمسيس الثاني ومواتيلا ملك الحيثيين ، ثم جددت بعد ذلك عدة مرات ، ربما كان آخرها في العصر الروماني. وترجع أهمية قادش من الناحية الإستراتيجية أنها تقع في النهاية الشمالية لوادي البقاع ، ومن ثم فقد كان لزاما على الجيوش المتجهة شمالا أو جنوبا أن تمر بها ، إلا إذا فضلت السير على الساحل الضيق بطريق أرواد أو أجاريات.

وأما قدش وقادش المذكورتان في التوراة فهما مكانان في جنوب فلسطين (غير قادش الأورنت) ، فأما الأولى : فهي قادش برنيع ، والتي يرجح أنها على مبعدة ٥٠ ميلا جنوبي بئر سبع ، ٧٠ ميلا جنوبي حبرون (الخليل) ، وأما الثانية فهي مكان قرية قدس الحالية على مبعدة عشرة أميال شمالي صفد ، وأربعة أميال إلى الشمال الغربي من بحيرة الحولة (أنظر قاموس الكتاب المقدس ٢ / ٧٠٨ ـ ٧٠٩ وكذا

وكذا A. Gardiner, Ancient Egyptian Onomastica,

M.F.Unger ,op ـ cit ,p. وكذا I, J. H. Breasted, The Battle of Kadesh ,

١٤١ ـ ١٣٧P وكذا ٦٢٥

١٣.p ١٩٠٣ Chicago. ،

١٤٩

معركتها المشهورة في السنة الخامسة من عهد رعمسيس الثاني (حوالي عام ١٢٨٥ ق م) ، والتي انتهت بنصر غير مؤزر للمصريين ، مما اضطر الفرعون إلى العودة إلى النضال ثانية عام حكمه الثامن (حوالي عام ١٢٨٢ ق م) ضد أعدائه في الأرض الأسيوية ، ويكتب له هذه المرة نجحا بعيد المدى في إخضاع المدن الثائرة من جنوبي فلسطين حتى شمال سورية ، ثم يتقدم حتى بلاد النهرين ، ويوقع بالحيثيين هزيمة ثانية في «تونب» ، وهكذا ينجح رعمسيس الثاني في أن يستعيد الإمبراطورية المصرية في آسيا ، وفي أن يسجل اسمه كأحد الفراعين المحاربين ، الذين أفنوا عمرهم في الحفاظ على الإمبراطورية المصرية التي ورثوها عن فرعون مصر العظيم «تحوتمس الثالث» ، كما كانت الحملة درسا قاسيا للحيثيين أجبرهم على احترام السيادة المصرية في آسيا ، وعدم التدخل في شئون الولايات المصرية هناك (١).

هذه هي الظروف التي كانت تمر بها مصر في تلك الفترة التي تحدثت التوراة عن استعباد الإسرائيليين في مصر إبانها ، ولعل أي منصف ليرى أن الفرعون ما كان في استطاعته أن يترك البلاد تحت رحمة الدسائس الإسرائيلية ، وأغلب الظن أن رعمسيس إنما طارد بني إسرائيل بعد أن أوعز صدره عليهم ، وثقة مفقودة ربما افتقدها عندهم في حروبه ضد الحيثيين ، ولعله وجد فيهم ما لم يتعففوا عنه من خيانة وتجارة بولائهم للغالب في ظنهم من المتنازعين ، وما كان من حق الفرعون أن يترك طائفة من الناس ـ أيا

__________________

(١) محمد بيومي مهران : مصر والعالم الخارجي في عصر رعمسيس الثالث ـ الإسكندرية ١٩٦٩ ص ٧٧ ـ ٩٣ (رسالة دكتوراه) ٢٦٥ ANET ,p وأنظر : وكذا A.Gardiner ,The Kadesh

Inscription of Ramesses ,II ,oxford وكذا. H.Goedicke ,Consideration on the

, ٩ ـ ٧.p ، ١٩٦٦.

Battle of Kadesh ,JEA وكذا R. O. Faulkner, in CAH, II, Part ٢,

٧٩ ـ ٧٢.p ، ١٩٦٦ ، ٥٢.

Cambridge وكذا A. Buren, Sons Notes on the Battle of Kadesh, JEA, ـ ٢٣٠٢٢٦.p ، ١٩٧٥.

١٩٥ ـ ١٩٤.p ، ١٩٢١.

١٥٠

كانت ـ تنعم بخيرات الكنانة ودون أن تؤدي عملا يتفق وظروف الحرب هذه ، فضلا عن الخيانة والتجسس ، بخاصة وأن الإسرائيليين كانوا يسكنون في منطقة الحدود الشرقية ، وهو التي اضطر رعمسيس تحت ضغط الظروف أن ينقل إليها عاصمته ، لتكون في مكان وسط بين مملكته في مصر وأملاكها في آسيا ، ومن ثم يصبح على مقربة من الأحداث التي كانت تدور وقت ذاك في أملاك مصر الأسيوية ، أضف إلى ذلك كله أن الإسرائيليين إنما كانوا يرتبطون بفلسطين بالذات بالأساطير التي تجعلها «أرض الميعاد» ، فضلا عن أنهم قدموا إلى مصر منها كذلك ، ومن هنا كان خوف الفرعون من أن يكونوا جواسيس عليه ، لمصلحة أعدائه من الأمراء الأسيويين ، فضلا عن الحيثيين.

وانطلاقا من هذا كله ، كان أمر فرعون أن يعمل عبيده الإسرائيليين في بناء المدن الجديدة ـ مكرهين كانوا أم راغبين ـ بل وتحت إشراف رؤساء مصريين ، ولم يكن في هذا الأمر شيء من تعنت أو شذوذ ـ فما أظن ـ فالفرعون أراد بوضعهم تحت إشراف المصريين أن يكون في مأمن من جانبهم ، وحتى لا يصاب بضربة خيانة منهم ، في وقت هو في أشد الحاجة إلى من يؤمن له ظهره إبان قتاله المرير ضد الحيثيين ، وضد الأمراء الأسيويين ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، فإن هذه الشوامخ الراسيات على أرض الكنانة قد قام بها من قبل مصريون ، فما الغريب في الأمر ، أن يسهم بنو إسرائيل في بناء مدينتي «فيثوم ورعمسيس» ـ وهما المدينتان اللتان شيدهما رعمسيس الثاني في نفس المنطقة التي يقيم فيها الإسرائيليون ـ وهو إسهام لم يتجاوز صنع قوالب من اللبن تستخدم في بناء المدن ، بل إنه في أشد حالات قسوته ـ كما تصوره التوراة (١) ـ أن يجمع الإسرائيليون اللبن الذي يستخدمونه في صنع اللبن بأنفسهم من القرى المصرية ، بعد أن كان

__________________

(١) خروج ١ : ٨ ـ ١٤ ، ٥ : ٦ ـ ١١.

١٥١

المشرفون عليهم هم الذين يقومون بجمعه.

هذا هو العمل القاسي الذي كلف به الإسرائيليون ، إسهام في بناء بعض مدن الدلتا ، والحق أنه ما كان من المنطق ، وما كان من العدل ، أن يعمل المصريون ـ فضلا عن الأسرى الأسيويين (١) ـ في الحقول ، وفي بناء المدن وتشييد المحاريب والتماثيل ، ثم يخوض أشبال الكنانة وأسودها بعد ذلك المعارك الضارية ، يقتلون ويقتلون ، بينما يظل الإسرائيليون ـ ما شاء الله لهم أن يظلوا ـ عالة على البلاد التي استضافتهم نيفا وأربعة قرون ، منذ أن وصلوا إليها لاجئين ، يطلبون الرزق ، ويلتمسون وسائل العيش الناعم ، والحياة السهلة الرضية ، بين أهلها الكرام أبدا ، دون أن يقوموا لأهلها جزءا ولا شكورا.

والرأي عندي ، أنه حتى هذه المرحلة ، لم يكن هناك تعذيب للإسرائيليين قد بدأ بعد ، وإنما العذاب المهين قد بدأ ، حين «أمر فرعون جميع شعبه قائلا : كل ابن يولد تطرحونه في النهر ، لكن كل بنت تستحيونها (٢)» ؛ وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً ، يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) (٣) ، وقول : (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ ، يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ، وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (٤)

__________________

(١) أنظر عن استخدام الأسرى في المباني :

٤٩٨ J.Breasted ,ARE ,III ,no. وكذا Barasanti et

Gauthier, Steles Trouvees a Quadi ES ـ Seboua (nubi) ASAE, XI,

٨٤.p ، ١٩١١.

(٢) خروج ١ : ٢٣.

(٣) سورة القصص : آية ٤ ، وأنظر : تفسير روح المعاني ٢٠ / ٤٢ ـ ٤٤ ، في ظلال القرآن ٢٠ / ٢٦٧٦ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٣٧٩ ـ ٣٨٠ (دار إحياء التراث العربي ـ بيروت) ، تفسير القرطبي ص ٤٩٦٣ ـ ٤٩٦٥.

(٤) سورة البقرة : آية ٤٩ ، وأنظر : تفسير روح المعاني ١ / ٢٥٢ ـ ٢٥٤ ، تفسير الكشاف ١ / ـ

١٥٢

وسؤال البداهة الآن : لم تغير الحال إلى هذا المصير الأليم؟ ولم أذاق الفرعون بني إسرائيل العذاب المهين؟

إن الإسرائيليين ـ كما هو معروف ـ لم يكونوا أول الشعوب الأسيوية التي استضافتها مصر ، ولم يكونوا كذلك آخرها ، وبخاصة إذا أرخنا مرحلة الاضطهاد هذه بعصر رعمسيس الثاني ، فإننا نعلم أن عاصمته التي سخر الإسرائيليين في بنائها ، طبقا لرواية التوراة ، مثل سائر المدن الكبرى في مصر حيث كان يخالط المصريون الليبيين والزنوج والأسيويين ، ولا شك في أن موقع العاصمة الجديدة بين مصر وأقاليم الشرق جعل الوفود تقصدها ، فظهر الغرباء في بعض وظائف الدولة ، وامتلأت لغة المصريين بكلمات أسيوية سامية وردت كثيرا في الأدب المصري ، وبخاصة في القرن الثالث عشر ق. م ، وكان ازدواج اللغة واضحا في عاصمة الرعامسة ، هذا فضلا عن أن الآلهة الكنعانية قد مثلت في مجمع الآلهة المصري ، كذلك شاعت بين المصريين بعض العادات السامية ، بل أصبح للغرباء في العاصمة أحياء خاصة ، كما أصبح لغير المصريين من جندها ثكنات خاصة بهم في قلبها وفي ضواحيها (١).

__________________

ـ ١٢٧ ـ ١٣٨ ، تفسير الطبري ٢ / ٣٦ ـ ٢٩ (دار المعارف) ، تفسير النسفي ١ / ٤٩ ، تفسير القرطبي ص ٢٢٥ ـ ٢٣٠ تفسير الطبرسي ٢ / ٢٣١ ـ ٢١٥ ، التفسير الكاشف لمحمد جواد مغنية ١ / ٩٨ ـ ١٠٠ ، تفسير البحر المحيط ١ / ١٨٧ ـ ١٨٨ ، تفسير المنار ١ / ٣٠٨ ـ ٣١٣ ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور ١ / ٦٨ ـ ٦٩ (طهرا ١٣٧٧ ه‍) ، في ظلال القرآن ١ / ٧٠ ـ ٧٢ ، تفسير ابن كثير ١ / ١٢٨ ١٣٠ (القاهرة ١٩٧١) الجواهر في تفسير القرآن الكريم ١ / ٥٩ ـ ٦١ (للشيخ طنطاوي جوهري).

(١) بيير مونتيه : الحياة اليومية في مصر الرعامسة ، ترجمة عزيز مرقس منصور ، القاهرة ١٩٦٥ ص ١٩ ـ ٢٠ ، وأنظر

W. F. Albright, The Biblical Period, From Abraham to Ezra, N. Y

. ١٤.p ، ١٩٦٣.

١٥٣

وإذا كان ذلك كذلك ، فلم حاق الإسرائيليون بغضب فرعون دون سواهم من ضيوف مصر وأسراها؟

وهنا علينا أن نبحث عن سبب مقنع لهذا التحول الخطير في حياة الإسرائيليين في مصر ، وليس هذا السبب ـ بحال من الأحوال ـ ما ترويه الأساطير من أن الإسرائيليين قد أذاعوا بين الناس ـ أو أن الكهنة المصريين قد تنبّئوا ـ بأنه سيولد من بني إسرائيل من سيكون على يديه زوال فرعون وضياع ملكه (١) ، فلعمري إنما تلك روايات رأينا مثلها عن إبراهيم الخليل (٢) وعن المسيح (٣) ، عليهما‌السلام ، فضلا عن تلك التي دارت حول «زرادشت» (٤).

ومن هنا ، فليس أمامنا سوى أن نفترض أن أمرا قد حدث من الإسرائيليين الذين ساءهم ما كانوا به من عمل في مدينتي فيثوم ورعمسيس ، فعصف ذلك الأمر بالبقية الباقية من صبر فرعون ، وإن كنا لا ندري على التحقيق ما هو هذا الأمر ، فربما كان خيانة ، وربما كان بداية تمرد ، أو على الأقل ، فإن الإسرائيليين ربما بدءوا يوجهون حربا نفسية لخلخلة الرأي العام المصري ـ إن صح هذا التعبير ـ وبخاصة في منطقة شرق الدلتا ، التي كانت تعج بالأجانب من كل جنس ، إن لم يكونوا قد قاموا بالاتصال بالعدو الأسيوي ، والقوات المصرية في حالة نزال معه على الأرض الأسيوية نفسها ، وربما اكتشف المصريون ذلك بعد عودة قواتهم من معركة قادش

__________________

(١) ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ١٣٧ ـ ٢٣٨ ، قصص الأنبياء ٢ / ٤ ـ ٥ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٨٦ ـ ٣٨٨ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٣٣ مروج الذهب ١ / ٦١.

(٢) تاريخ الطبري ١ / ٢٣٤ ـ ٢٣٦ ، ابن الأثير : الكامل في التاريخ ١ / ٩٤ ـ ٩٥ ، ابن كثير البداية والنهاية ١ / ١٤٨ ، أبو الفداء المختصر في أخبار البشر ١ / ١٣.

(٣) متى ٢ : ١ ـ ٢٣.

(٤) على عبد الواحد وافي : الأسفار المقدسة ص ١٢٩ ـ ١٣٠.

١٥٤

المشهورة ، أو ربما كان ذلك بعد حملة العام الثامن التي قضى فيها رعمسيس الثاني على أعدائه ـ سواء أكانوا من الأمراء الأسيويين الثائرين ، أو من الملوك الحيثيين الطامعين ، ذلك لأننا نميل أن ما حدث إنما كان بعد هذه الحملة الأخيرة ، حيث أن الفترة ما بين معركة قادش في السنة الخامسة من حكم رعمسيس الثاني (حوالي عام ١٢٨٥ ق م) ، وبين حملة العام الثامن (حوالي عام ١٢٨٢ ق م) إنما تميزت باندلاع الثورة في كل فلسطين بتحريض من الحيثيين ، وربما بدسائس الإسرائيليين كذلك.

ومن هنا فقد عاد رعمسيس من حملته هذه ، وفي غضب من أحس أنه طعن من وراء ظهره ممن آوتهم مصر بعد تشرد ، وأطعمتهم بعد جوع ، فكان العذاب الأليم صبّه فرعون ، دونما رحمة أو شفقة ، على الإسرائيليين ، حيث أمر بذبح أبنائهم واستحياء نسائهم ، وفي هذه الأيام العصيبة ولد لبني إسرائيل أمل جديد ، ذلكم هو «موسى بن عمران بن قاهت بن لاوى بن يعقوب» عليه‌السلام.

ويعلق أحد علماء الإسلام الأجلاء على هذه الأحداث ، وعلى موقف فرعون منها ، فيرى فضيلته : أن فرعون كان عظيما وكريما في موقفه من بني إسرائيل ، ثم يتساءل فضيلته : ما ذا يفعل أي حاكم ـ عادل أو ظالم ـ في قوم دخلاء غرباء ، وجدوا في بلاده المرعى الخصيب ، والعيش الرطب ، والضيافة الكريمة ، على الرغم من أن أهلها يكرهونهم ، ثم وجدهم بعد ذلك ، وبعد طول الإقامة في بلاده خونة وجواسيس ، ومثار فتن ودسائس وأذنابا لأعدائه ، يعملون على هدم وطنه واستعباد أهله.

وحين سئل فضيلته : أيقتل أطفالهم ، ويستحي نساءهم ، ويسخرهم في تعبيد الطرق ، وبناء المدن ، كما فعل فرعون؟

أجاب فضيلته : وهل هذا يعد شيئا إذا قيس بما وقع عليهم من «نبوخدنصّر

١٥٥

» (٦٠٥ ـ ٥٦٢ ق. م) و «أدولف هتلر» (١٨٨٩ ـ ١٩٤٥ م) ، وأباطرة الرومان ، وما عانوه من المذابح التي أكلت نساءهم وأطفالهم في روسيا وأسبانيا ، وفي كل مكان كان لهم فيه كيان؟.

إن هؤلاء كانوا وراء كل فتنة عامة ، وخلف كل محنة إنسانية في كل عصر ولم يكن هلاك فرعون تكريما لهؤلاء الذين يقول الله فيهم (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا) ، وإن كان انتقاما من فرعون لتكبره وتجيره وما آل إليه أمره من الطغيان ، حتى انتهى به إلى الكفر ، والإصرار على الكفر (١) ، وقال : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) (٢) ، وقوله لموسى : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) (٣) ، وقوله : (فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (٤) ، وكذلك جاء بعد هذه الآية قوله تعالى : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٥) ، وهذا التعليل للفرق هو الذي تذكره الآية الكريمة : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) (٦) ، وأخيرا فإن النقيصة التي أخذت على فرعون إنما كانت اندفاعه في العذاب وإسرافه في القتل للمذنب وغير المذنب على السواء (٧).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هناك رأيا يذهب إلى أن سبب اضطهاد الفراعين لبني إسرائيل إنما هي أسباب سياسية ودينية ، ذلك أن ديانة

__________________

(١) عبد الرحيم فودة : من معاني القرآن ص ١٩٢ ـ ١٩٣.

(٢) سورة القصص : آية ٣٨.

(٣) سورة الشعراء : آية ٢٩.

(٤) سورة النازعات : آية ٢٢ ـ ٢٤.

(٥) سورة النازعات : آية ٢٥ ـ ٢٦.

(٦) سورة الأعراف : آية ١٣٦.

(٧) أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ٨٧.

١٥٦

التوحيد التي كانت قد عرفت قبل تولي يوسف مقاليد الحكم في مصر ، لا بد أن تكون قد انتشرت بعد ذلك واستقرت على نطاق واسع في أثناء توليه الحكم ، ثم من بعد ذلك في عهد أسرة الرعاة (الهكسوس) فلما استرد الفراعنة زمام الأمور في الأسرة الثامنة عشرة أخذوا يقاومون ديانة التوحيد ممثلة في ذرية يعقوب التي تكاثرت في مصر ، لإعادة الوثنية التي تقوم عليها الفرعونية ، وهكذا يكشف لنا سببا أصيلا من أسباب اضطهاد الفراعنة بعد ذلك لبني يعقوب ، إلى جانب السبب السياسي ، وهو أنهم جاءوا واستوطنوا وحكموا واستقروا في عهد ملوك الرعاة (الهكسوس) فلما طرد المصريون ملوك الرعاة طاردوا حلفاءهم من بني يعقوب أيضا ، وإن كان إختلاف العقيدتين ينبغي أن يكون هو التفسير الأقوى لذلك الاضطهاد الفظيع ، ذلك أن انتشار عقيدة التوحيد الصحيحة يحطم القاعدة التي يقوم عليها ملك الفراعنة ، فهي العدو الأصيل للطواغيت وحكم الطواغيت وربوبية الطواغيت (١).

ورغم جاذبية هذه النظرية ، وما فيها من أوجه صواب ، فإن فيها نقاط ضعف أيضا ، منها (أولا) أن الهكسوس ، على الأقل بعد عهد يوسف عليه‌السلام ، لم يكونوا موحدين بدليل أن ملكهم أبو فيس الذي قامت ضده حرب التحرير لم يكن موحدا ، فلقد أطلق على نفسه في رسالته لأمير كوش «عاوسررع ، ابن رع ، أبوبي» ، كما وصف نفسه ، كما أشرنا من قبل ، بأنه «ابن رع من جسده» و «الصورة الحية لرع على الأرض» ، وبدهي أن هذه ليست أسماء أو صفات الموحدين ، ومنها (ثانيا) أن كثيرا من ملوك الهكسوس ، بعد عهد يوسف ، قد قبلوا عبادة إله الشمس رع ، بجانب ست ، كما أن كثيرا من ملوكهم ، كما أشرنا من قبل ، كانت لهم أسماء مركبة من اسم «رع» مثل «هائلة هي قوة رع» و «رع هو سيد السيف».

__________________

(١) في ظلال القرآن ٤ / ١٩٦١ (بيروت ١٩٨٢).

١٥٧

ومنها (ثالثا) أن صورة الأنثى العارية التي تظهر على الجعارين من عصر الهكسوس ، إنما تمثل الإلهة السامية «عنات» أو «عتر ـ عشتارت» ، ويشار إليها في نصوص متأخرة من عهدهم ، وكأنها زوجة للإله «ست ـ بعل» (١) ، ومنها (رابعا) أن رويات المفسرين والمؤرخين المسلمين إنما تذهب إلى أن ملك الهكسوس الذي فسر له يوسف رؤياه ، هو الذي آمن به فقط ، أما من جاء بعده فلم يؤمن ، يقول ابن الأثير في الكامل : لما ولي يوسف عمل مصر ، دعا الملك الريان إلى الإيمان فآمن ثم توفي ، ثم ملك بعده مصر قابوس ... فدعاه يوسف إلى الإيمان فلم يؤمن ، وتوفي يوسف في ملكه (٢).

عقب طرد الهكسوس مباشرة أو حتى بعده بقليل ، وإنما تم بعد ذلك بفترة طويلة ، وإذا كان ما ذهبنا إليه من أن رعمسيس الثاني (١٢٩٠ ـ ١٢٢٤ ق. م) هو فرعون التسخير ، صحيحا ، فإن هذا يعني أن بني إسرائيل لم يضطهدوا إلا بعد قرابة قرون ثلاثة من طرد الهكسوس حوالي عام ١٥٧٥ ق. م ، ومنها (سادسا) صحيح أن بني إسرائيل على أيام يعقوب ويوسف عليهما‌السلام ، بل وبعد ذلك بفترة ليست قصيرة ، كانوا ، دون شك ، على ديانة التوحيد ، ولكنه صحيح كذلك أنه بعد مضي قرون من عهد يوسف ، قد تصل إلى الثلاثة ، لم يكن بنو إسرائيل ، كما كانوا موحدين ، وإن ظلوا على بقايا من دينهم ، وخاصة في فترة الاضطهاد العنيفة ، وهكذا ما أن تمضي الأيام وتمر السنين على عهد يوسف الصديق ، وتطول إقامة بني إسرائيل في مصر إلى

__________________

(١) محمد بيومي مهران : حركات التحرير في مصر القديمة ـ القاهرة ١٩٧٦ ص ١٥٢ ـ ١٥٥ ، وكذا

T.Sove ـ Saderbergh ,JEA وكذا.C.Hayes ,Egypt From the W

, ٦٥ ـ ٦٤.p ، ١٩٥١ ، ٣٧

١٨ ـ ١٧.p ، ١٩٦٥. Death of Ammenemes III ,to Sequence II

(٢) تاريخ الطبري ١ / ٣٦٣ ، ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ٢١٢ ، ابن الأثير : الكامل في التاريخ ١ / ٨٣.

١٥٨

قرون ، ربما تجاوزت الأربعة ، حتى ينسى الإسرائيليون خلالها دعوة التوحيد ، التي نادى بها الآباء من أنبياء الله الكرام ، إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف عليهم‌السلام ، وينغمسون في وثنية المصريين ، ويتعبدون لآلهتهم (١).

ومنها (سابعا) أن سيرة بني إسرائيل مع موسى عليه‌السلام ، لا تدل أبدا أنهم كانوا موحدين على أيام الاضطهاد فمن المعروف أنه ما أن كتب الله النصر لموسى على فرعون ، ونجح في الخروج بقومه من قبضته ، حتى عاد بنو إسرائيل إلى الوثنية ، وعبادة الأصنام ، وفي الواقع فإن التراث الديني اليهودي ليزخر بأدلة لا تقبل الشك ، على أن اليهود الذين رافقوا موسى لم يكونوا أكفاء لحمل عبء التوحيد وفلسفته التجريدية الروحية الرفيعة ، ولم يجدوا فيما تقدمه الديانة الجديدة ما يشبع حاجتهم إلى الاعتبارات المادية ، بل إنه لا يفهم من حادث واحد من حوادث رحلة الخروج أن القوم كانوا يؤثرون الفرار حرصا على عقيدة دينية ، فإنهم أسفوا على ما تعودوه من المراسيم الدينية في مصر ، وودوا لو أنهم يعودون إليها ، ويعبدونها مسوخة ممسوخة في الصحراء (٢) ، ومن ثم فلم يكد بنو إسرائيل يمضون مع موسى عليه‌السلام ، بعد خروجهم من البحر ، ونجاتهم من آل فرعون ، حتى رأوا قوما يعبدون أصناما لهم ، فنسوا كل ما كانوا يذكرونه من آيات الله ، ونجاتهم مع موسى ، وقالوا ما حكاه القرآن في قوله تعالى : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ ، قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ، قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ، إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣) ، والفاء في قوله تعالى : (فَأَتَوْا) تفيد ، كما هو معروف ،

__________________

(١) خروج ١٢ / ٤٠ ، حزقيال ٢٠ / ٤ ـ ٨.

(٢) عباس العقاد : مطلع النور أو طوالع البعثة المحمدية ـ القاهرة ١٩٦٨ ص ١٠٧.

(٣) سورة الأعراف : آية ١٣٨ ـ ١٣٩.

١٥٩

الترتيب والتعقيب ، ومعنى ذلك أنه لم يمضي وقت بعد خروجهم من البحر ، ونجاتهم من الهلاك ، حتى عادوا إلى الوثنية التي ألفوها ، وألفوا الذل معها ، وهذا يدل على أن الإيمان لم يخالط بشاشة قلوبهم ، ولم يتمكن من ضمائرهم ومشاعرهم ، ولم يثمر فيهم الثمرة الطيبة لكل شجرة طيبة ، وإنما كان إيمانهم بموسى إيمانا بإمامته وزعامته ، لا إيمانا بالذي خلقه وسواه (١).

وهكذا لم يمضي وقت طويل حتى كانت الردة الثانية ، بعد فشل الأولى ، ممثلة في العجل الذي عبدوه ، والتي تحدثت عنها التوراة (٢) ، كما تحدث عنها القرآن (٣) ، وليس هناك من شك في أن هذا من تأثير الديانة المصرية على بني إسرائيل ، ذلك أن عبادة العجل في مصر إنما هي جد عميقة الجذور ، ترجع إلى أيام اسرة الأولى (٤) ، وهكذا بقيت الوثنية راسخة في قلوب بني إسرائيل ، حتى بعد انغلاق البحر لهم ، وحتى بعد أن جاوزوه على يبس ، وحتى بعد أن منّ الله عليهم بالمن والسلوى ، وحتى بعد أن استقوا موسى فضرب الحجر بعصاه فانبجست منه اثنتا عشرة عينا ، لكل سبط من أسباطهم مشربه ، وحتى بعد أن نزلت عليهم شريعته تحذرهم من اتخاذ آلهة غير الله ، حتى بعد هذا كله ، ومع وجود موسى نبيّهم بين ظهرانيهم ، فإنهم سرعان ما زاغوا عن الطريق المستقيم ، وكفروا بالله الواحد الأحد «وصنعوا لهم عجلا مسبوكا وسجدوا له وذبحوا وقالوا : «هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر (٥)» ، وهذا ما سوف يفعلونه في دويلة إسرائيل على

__________________

(١) عبد الرحيم قودة : من معارف القرآن ص ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٢) خروج ٣٢ / ١ ـ ٢٨.

(٣) سورة البقرة : آية ٥١ ، ٥٤ ، ٩٢ ، ٩٣ ، سورة النساء : آية ١٥٣ ، سورة الأعراف : آية ١٤٨ ـ ١٥٢ ، سورة طه : آية ٨٣ ـ ٩٨.

(٤) ١٢٤.p ، ١٩٦٣. W.B.Emery ,Archaic Egypt ,

(٥) خروج ٣٢ / ٨.

١٦٠