دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٢

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

والصّلاة والسّلام عليه المبعوث رحمه للعالمين

سيّدنا محمّد وآله

تقديم

تحدثنا في الجزء الأول من هذه الدراسة عن النبوات في بلاد العرب ، ومن ثم فقد قدمنا دراسة تاريخية عن أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وكذا عن هود وصالح وشعيب عليهم‌السلام ، هذا إلى جانب دراسة أحداث تاريخية جاء ذكرها في القرآن الكريم ، كقصة سيل العرم وأصحاب الأخدود وأصحاب الفيل.

وقد خصصنا هذا الجزء الثاني من هذه السلسلة «دراسات تاريخية من القرآن الكريم» لدراسة تاريخ النبوات في أرض الكنانة.

وقد قدمنا له بدراسة عن النبوة والأنبياء ، ثم قدمنا بعد ذلك دراسة مفصلة عن تاريخ النبيّين الكريمين يوسف وموسى عليهما‌السلام ، فضلا عن تاريخ بني إسرائيل في مصر.

وأملي في الله تعالى كبير أن يكون فيها بعض النفع ، والله من وراء

٥

القصد ، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

«وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب».

دكتور محمد بيومي مهران استاذ تاريخ مصر والشرق القديم

ورئيس قسم التاريخ والآثار المصريّة والاسلامية

كلّية الآداب. جامعة الاسكندريّة

الإسكندرية في ١٢ ربيع الأول عام ١٤٠٨ ه‍

٤ نوفمبر عام ١٩٨٧ م

٦

الكتاب الأول

دراسات تمهيدية

٧
٨

الفصل الأول

النّبوّة والأنبياء

١ ـ النبي والنبوة :

النبيّ : لغة قيل المنبأ المأخوذ من النبأ ، أي الخبر المفيد لماله شأن ، ويصح فيه معنى الفاعل والمفعول ، لأنه منبئ عن الله ومنبأ عنه ، وإن كان الإمام ابن تيمية يفضل أن يكون بمعنى مفعول ، فإنه إذا أنبأه الله ، فهو نبي الله (١) ، والنبي بالتشديد أكثر استعمالا ، أبدلت الهمزة فيه ياء ، لأنه من أنبأ عن الله فهو ينبئ عنه ، والاسم منه منبئ ، أو هو من النبوة ، وهي الرفعة والشرف (٢).

وتجمع كلمة «نبي» على «نبيين وأنبياء» (٣) ، وقد حكى سماعا عن العرب في جمع النبي «النبآء» ، وذلك من لغة الذين يهمزون «النبيء» ، ثم يجمعونه على «النبآء» ، ومن ذلك قول عباس بن مرداس في مدح النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

__________________

(١) ابن تيمية : النبوات ـ القاهرة ١٣٤٦ ه‍ ص ١٦٦ ، وانظر : ابن حزم : الفصل في الملل والأهواء والنحل ـ الجزء الخامس ، القاهرة ١٩٦٤ ص ٨٧.

(٢) محمد رشيد رضا : الوحي المحمدي ـ القاهرة ١٩٥٥ ص ٣٧ ، تفسير الطبري ٢ / ١٤٠ ـ ١٤١ ، محمود الشرقاوي : الأنبياء في القرآن الكريم ، القاهرة ١٩٧٠ ص ٩ ، معجم ياقوت الحموي ٥ / ٢٥٩ ـ ٣٦٠ (بيروت ١٩٥٧).

(٣) انظر : سورة البقرة : آية ٦١ ، آل عمران : آية ١١٢ ، تفسير الطبري ٢ / ١٣٩ ـ ١٤١ ، ٧ / ١١٦ ـ ١١٨ (دار المعارف).

٩

يا خاتم النبآء إنك مرسل

بالخير كل هدى السبيل هداكا (١)

والنبوة فضل يسبغه الله على من يشاء من عباده ، وهبة ربانية يمنحها الله لمن يريد من خلقه ، وهي لا تدرك بالجد والتعب ، ولا يتوسل إليها بسبب ولا نسب ، وإنما هي بمحض الفضل الإلهي ، فالله تعالى ، يختص برحمته من يشاء ، وهي تأتي إلى النبي من تلقاء نفسها ، وعلى غير توقع منه ، فهي إذن اصطفاء واختيار من الله سبحانه وتعالى للمصطفين الأخيار من عباده (٢) ، و «الله أعلم حيث يجعل رسالته» (٣) ، ومن ثم فإن الله تعالى إنما يختص بهذه الرحمة العظيمة ، والمنقبة الكريمة ، من كان أهلا لها ، بما أهله هو ، جل شأنه ، من سلامة الفطرة ، وعلو الهمة ، وزكاة النفس وطهارة القلب ، وحب الخير والحق.

هذا ، وليس صحيحا ما ذهب إليه «سيجال» من أن كلمة «نبي» عبرية الأصل ، وأن لفظ «النبي» (٤) إنما كان خاصا ببني إسرائيل ، ذلك لأنه ، فيما يرى سيجال هذا ، ليست هناك نقوش تثبت وجوده في اللغة الكنعانية والفينيقية ، ثم إن الفعل «نبأ» الذي اشتق منه الاسم «نبي» لا يوجد في عبرية العهد القديم في صورته الأساسية ، أي في الثلاثي المجرد ، وأن الفعل الذي جاء للدلالة على عمل النبي في العهد القديم (التوراة) إنما جاء في الصيغ المزيدة على زنة «فعل» و «تفعل» ، وهي في الحقيقة صيغ مشتقة من الاسم

__________________

(١) انظر : تفسير الطبري ٢ / ١٤١ ، سيرة ابن هشام ٤ / ١٠٣ ، ثم قارن : تفسير البحر المحيط ١ / ٢٢٠ ، ياقوت ٥ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

(٢) تفسير المنار ٨ / ٣٣ ـ ٣٤ ، محمد علي الصابوني : النبوة والأنبياء ، بيروت ١٩٨٠ ص ٩ ـ ١٠.

(٣) سورة الأنعام : آية ١٢٤.

(٤) انظر تعريفات مختلفة للفظة النبي عند بني إسرائيل وعند علماء اللاهوت الأوربيين (محمد بيومي مهران : النبوة والأنبياء عند بني إسرائيل ـ الإسكندرية ١٩٧٨ ص ٢٥ ـ ٣٠.

١٠

«نبي» نفسه ، وهذه الحقيقة تدعونا إلى الاعتقاد بأن الاسم «نبي» قديم جدا في العبرية الإسرائيلية ، وأنه يصعد إلى ما قبل التاريخ من حياة بني إسرائيل ، ولما كان هذا الاسم يميز عمادا حيا وفعالا لا في حياة الأمة ، فإنه حفظ منذ تلك الحقب السحيقة ، بعد أن نسي الفعل المجرد «نبأ» الذي اشتق منه ، مع توالي العصور ، وانتهى أمره واختفى من اللغة (١).

وفي الواقع ، فإن كلمة «نبي» ليست عبرية الأصل ، كما يقول أدولف لودز (٢) ، ومن ثم فإن علماء اللاهوت الأوروبيين وغيرهم ، من أمثال جوستاف هولشر (٣) ، وشميدت ، ولوذر (٤) ، وكلود سوربري (٥) ، إنما يتفقون على أن كلمة «نبي» ، عربية ، وليست عبرية ، في شكلها ومعناها ، وأن أصل الكلمة سامي قديم موجود في الأكدية بمعنى «يدعو» Nalu)) (٦).

غير أن الأمر ، كما يقول الأستاذ العقاد (٧) ، طيب الله ثراه ، غني عن الخبط فيه بالظنون مع المستشرقين ، من يفقه منهم اللغة العربية ، ومن لا يفقه منها غير الأشباح والخيالات ، فإن وفرة الكلمات التي لا تلتبس بمعنى «النبوة» في اللغة العربية كالعرافة والكهانة والعيافة والزجر والرؤية ، تغنيها عن اتخاذ كلمة واحدة للرائي والنبي ، وتاريخ النبوات العربية التي وردت

__________________

(١) م. ص. سيجال : حول تاريخ الأنبياء عند بني إسرائيل ـ ترجمة الدكتور حسن ظاظا ـ بيروت ١٩٦٧ ص ١٧ ـ ١٨.

(٢).A. Lods, Israel, From the Beginnings to the middle of the Eight Century,٤٤٥.p ، ١٩٦٢.

(٣).G. Holscher, Die Proften, Untersuchung Zun Religion Geschichte Isreal, Leipzig, ٤٦ ـ ١٤٥.p ، ١٩١٤.

(٤)A. Lods, The Prophets and the Rise of Judaism, London,١٩٣٧.

(٥).C. Saurlrei, The Holy man in Israel, Astudy in the Development of Prophecy, in JNES, ٦٢١٦.p ، ١٩٤٧ ،.

(٦).P. K. Hitti, The near East in the History, Princeton,١٠٧.p ، ١٩٦١.

(٧) عباس محمود العقاد : حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ـ بيروت ١٩٦٦ ص ٩١ ـ ٩٢.

١١

في التوراة سابق لاتخاذ العبريين كلمة النبي بدلا كلمة الرائي والناظر ، وتلمذة موسى لنبي شعيب مذكورة في التوراة قبل سائر النبوات الإسرائيلية ، وموسى الكليم ، ولا ريب ، رائد النبوة الكبرى بين بني إسرائيل.

ثم إن كلمة «النبي» عربية لفظا ومعنى ، عربية لفظا ، لأن المعنى الذي تؤديه لا تجمعه كلمة واحدة في اللغات الأخرى ، فهي تجمع معاني الكشف والوحي والإنباء بالغيب والإنذار والتبشير ، وهي معاني متفرقة تؤديها في اللغات الحديثة بكلمات متعددة ، فالكشف مثلا تؤديه في اللغة الإنجليزية كلمة (Revelation) ، والوحي تؤديه كلمة (Inspiration) واستطلاع الغيب تؤديه كلمة (Divination) أو (Oraclc) ولا تجتمع كلها في معنى «النبوة» كما تجتمع في هذه الكلمة باللغة العربية.

وقد وجدت كلمة «النبوة» في اللغة العربية غير مستعارة من معنى آخر ، لأن اللغة العربية غنية بكلمات العرافة والعيافة والكهانة وما إليها من الكلمات التي لا تلتبس في اللسان العربي بمعنى النبوة ، كما تلتبس في الألسنة الأخرى عن أصل التسمية واشتقاق المعاني الجديدة عن الألفاظ القديمة ، فكلمة «النبي» تدل على معنى واحد لا تدل على غيره ، خلافا لأمثالها من الكلمات في كثير من اللغات.

وقد استعار العبريون كلمة «النبي» من العرب في شمال شبه الجزيرة العربية بعد اتصالهم بها ، لأنهم كانوا يسمون الأنبياء الأقدمين بالآباء ، وكانوا يسمون المطلع على الغيب بعد ذلك باسم الرائي أو الناظر ، ولم يفهموا من كلمة «النبوة» في مبدأ الأمر ، إلا معنى الإنذار (١).

وأما كلمة (Prophet) الإنجليزية وكلمة (Prophete) الفرنسية ، وكلمة (Profeten) الألمانية وغيرها ، فإنها منقولة عن اليونانية القديمة ، ذلك أن

__________________

(١) عباس العقاد : إبراهيم أو الأنبياء ص ١٥٩.

١٢

الأمم التي كانت تشيع فيها نبوة الجذب ، يكثر أن يكون مع المجذوب ، مفسر يدعى العلم بمغزى كلامه ولحن رموزه وإشاراته ، وقد كانوا من اليونان يسمون المجذوب «مانتي» (Manti) ويسمون المفسر (بروفيت Prophet) أي المتكلم عن غيره ، ومن هذه الكلمة نقل الأروبيون كلمة «النبوة» بجميع معانيها (١).

٢ ـ الفرق بين النبي والرسول :

هذا ويفرق العلماء بين النبي والرسول ، اعتمادا على عدة أمور ، منها ما ورد في كتاب الله من عطف النبي على الرسول في قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) (٢) ، ومنها وصف الله بعض رسله بالنبوة والرسالة ، مما يدل على أن الرسالة أمر زائد على النبوة ، كقوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (٣) ، وكقوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (٤) ، ومنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن النبي (ص) أن عدة الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي ، وعدة الرسل ثلاثمائة وبضعة عشر رسولا.

ومن هنا ذهب فريق من العلماء إلى أن النبي هو من أوحى إليه بشرع ، سواء أمر بتبليغه أو لم يؤمر ، والرسول هو من أوحى إليه بشرع وأمر بتبليغه (٥) ، قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) الآية ،

__________________

(١) عباس العقاد ، حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ص ٩٠.

(٢) سورة الحج : آية ٥٢.

(٣) سورة مريم : آية ٥١.

(٤) سورة مريم : آية ٥٤.

(٥) تفسير القرطبي ص ٤٤٧٢ ، الإمام الطحاوي ، شرح العقيدة الطحاوية ، بيروت ١٩٧١ ص ١٦٧ ، الديار بكري : تاريخ الخميس ص ٧ ، محمود الشرقاوي : المرجع السابق ص ٩.

١٣

ويرى الإمام ابن تيمية أن الله في قوله : (مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) قد ذكر إرسالا يعم النوعين ، وقد خص أحدهما بأنه رسول ، فإن هذا هو الرسول المطلق الذي أمر بتبليغ رسالته إلى من خالف الله ، كنوح عليه‌السلام ، والذي ثبت في الصحيح أنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض،وقد كان قبله أنبياء كشيث وإدريس ، وقبلهما آدم كان نبيا مكلما (١).

على أن العقل ، فيما يرى الشرقاوي ، لا يستسيغ أن يوحي الله العلي القدير إلى نبي بشرع ثم لا يأمره بتبليغه ، لأن الشرع أمانة وعلم وأداء واجب ، وكتمان العلم نقص ورذيله (٢) ، ثم إن الله لا ينزل وحيه ليكتم ويدفن في صدر واحد من الناس ، ثم يموت هذا العلم بموته ، هذا فضلا عن الحديث الشريف الذي رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ، والذي يقول فيه (ص) «عرضت على الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط ، والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد» ، فدل هذا على أن الأنبياء مأمورون بالبلاغ ، وأنهم يتفاوتون في مدى الاستجابة لهم (٣).

على أن هناك وجها آخر للنظر يذهب إلى أن الرسول من أوحى إليه بشرع ، وأنزل عليه كتاب ، كإبراهيم وموسى. وداود وعيسى ومحمد ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، والنبي الذي ليس برسول هو من أوحى إليه بشرع ، ولم ينزل عليه كتاب ، كإسماعيل وشعيب ويونس ولوط وزكريا وغيرهم من الأنبياء ، وهذا التعريف لا يستقيم أيضا لأن الله سبحانه وتعالى قد وصف بعض الأنبياء الذين لم تنزل عليهم كتب بالرسالة (٤) ، فقال عن إسماعيل عليه‌السلام. «واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد

__________________

(١) ابن تيمية : كتاب النبوات ص ١٧٣.

(٢) محمود الشرقاوي : المرجع السابق ٩ ـ ١٠.

(٣) عمر سليمان الأشقر : المرجع السابق ص ١٤ ـ ١٥.

(٤) محمود الشرقاوي : المرجع السابق ص ١٠.

١٤

وكان رسولا نبيا» (١) ، وقال تعالى عن لوط عليه‌السلام : (وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢) ، وقال تعالى عن يونس : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٣).

وهناك وجه ثالث للنظر يذهب إلى أن الرسول من الأنبياء إنما هو من بعثه الله بشرع جديد يدعو الناس إليه ، أما النبي الذي ليس برسول ، فهو من بعث لتقرير شرع سابق ، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهما‌السلام ، ومن ثم فقد قيل إن كل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولا (٤).

غير أن الإمام ابن تيمية إنما يرى أنه ليس من شرط الرسول أن يأتي بشريعة جديدة ، فإن يوسف كان رسولا ، وكان على ملة إبراهيم ، وداود وسليمان كانا رسولين ، وكانا على شريعة التوراة (٥) ، قال تعالى ، عن مؤمن آل فرعون : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) (٦).

هذا ويذهب فريق رابع من العلماء إلى أن الرسول إنها يختلف عن النبي ، لأن اختلاف الأسماء إنما يدل على اختلاف المسميات ، والرسول أعلى منزلة من النبي ، ولذلك سميت الملائكة رسلا ، ولم يسموا أنبياء ، هذا وقد اختلف من قال بهذا في الفرق بينهما على ثلاثة أقاويل ، أحدهما : أن الرسول هو الذي تنزل عليه الملائكة بالوحي ، والنبي هو الذي يوحي إليه في

__________________

(١) سورة مريم : آية ٥٤.

(٢) سورة الصافات : آية ١٣٣.

(٣) سورة الصافات : آية ١٣٩.

(٤) تفسير البيضاوي ٢ / ٩٥ ـ ٩٦ ، تفسير القرطبي ص ٤٤٧٢ ، الإمام الطحاوي : المرجع السابق ص ١٦٧ ، عبد الحليم محمود : في رحاب الأنبياء والرسل ـ القاهرة ١٩٧٧ ص ٤٢ ، تفسير المنار ٩ / ١٩٤ ـ ١٩٥.

(٥) ابن تيمية : المرجع السابق ص ١٧٣.

(٦) سورة غافر : آية ٣٤.

١٥

نومه ، والثاني أن الرسول هو المبعوث إلى أمة ، والنبي هو المحدث الذي لا يبعث إلى أمة ، والثالث أن الرسول المبتدئ بوضع الشرائع والأحكام ، والنبي هو الذي يحفظ شريعة غيره (١).

ومن هنا يذهب الإمام الطحاوي في العقيدة (ص ١٦٧) إلى أن الرسول أخص من النبي ، وأن الرسالة أعم من جهة نفسها فالنبوة جزء من الرسالة ، إذ الرسالة تتناول النبوة وغيرها ، بخلاف الرسل ، فإنهم لا يتناولون الأنبياء وغيرهم ، بل الأمر بالعكس ، فالرسالة أعم من جهة نفسها ، وأخص من جهة أهلها.

وأما عدد الأنبياء والرسل ، فعلم ذلك عند ربي جل جلاله ، ولكننا نعرف من القرآن الكريم أسماء خمسة وعشرين من هؤلاء المصطفين الأخيار (٢) ، ونعلم كذلك أنه ما من أمة إلا وجاءها رسول من عند الله العلي القدير ، فلقد اقتضت حكمة الله تعالى في الأمم ، قبل هذه الأمة ، أن يرسل في كل منها نذيرا ، ولم يرسل رسولا للبشرية كلها ، إلا سيدنا محمد (ص) ، واقتضى عدله ألا يعذب أحدا من الخلق ، إلا بعد أن تقوم عليه الحجة (٣) ، قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٤) ، ومن هنا كثر الأنبياء والرسل في تاريخ البشرية كثرة هائلة ، قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا

__________________

(١) أبو الحسن الماوردي : المرجع السابق ص ٣٨.

(٢) هم آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وأيوب وشعيب وموسى وهارون ويونس وداود وسليمان وإلياس والسبع وزكريا ويحيى وعيسى ، وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين ، وسيدهم محمد (ص) ، وفي حديث أبي ذر ، منهم أربعة من العرب : هود وصالح وشعيب ومحمد (ص) (انظر تفسير ابن كثير ٢ / ٤٢٢ ، تفسير البيضاوي ٢ / ٣١٢).

(٣) عمر سليمان الأشقر : المرجع السابق ص ١٧.

(٤) سورة الإسراء : آية ١٥.

١٦

فِيها نَذِيرٌ) (١) ، وقال تعالى : (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) (٢) ، وقال تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) (٣) ، وقال تعالى : (رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) (٤).

ومن هنا كان الخلاف على عدد الأنبياء ، عليهم‌السلام ، فمن قائل إنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، ومن قائل إنهم ثمانية آلاف ، منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل ، وأربعة آلاف من سائر الناس ، ومن قائل إنهم أربعة آلاف ، ومن قائل إنهم ، ثلاثة آلاف ، وأن الرسل من الأنبياء ثلاثمائة وثلاثة عشر ، أولهم آدم وآخرهم محمد (ص) (٥).

وعلى أية حال ، فليس من المستحب ، فيما أظن ، وليس كل الظن إثما ، الخوض في إحصاء الرسل والأنبياء ، فإنه لا يعلم إلا بوحي من الله تعالى ، ولم يبيّن الله ذلك في كتابه (٦) ، غير أن هناك حديث أبي ذر المشهور ، والذي جاء فيه أنه دخل المسجد النبوي الشريف ، فإذا رسول الله (ص) جالس وحده ، فسأله عن أشياء كثيرة ، منها الصلاة والهجرة والصيام والصدقة ، ثم سأله : كم الأنبياء؟ فقال : مائة ألف وأربعة وعشرون ، قال : قلت يا رسول الله كم الرسل عن ذلك؟ قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر ، جم غفير ، كثير طيب ، قال قلت : فمن كان أولهم ، قال آدم ، قلت : أنبي مرسل؟ قال

__________________

(١) سورة فاطر : آية ٢٤.

(٢) سورة الزخرف : آية ٦.

(٣) سورة غافر : آية ٧٨.

(٤) سورة النساء : آية ١٦٤.

(٥) تفسير ابن كثير ٢ / ٤٢٢ ـ ٤٢٨ (القاهرة ١٩٧١) ، تفسير القرطبي ص ٢٠١٤ ـ ٢٠١٥ (دار الشعب ـ القاهرة ١٩٧٠) تفسير المنار ٧ / ٥٠٠ ـ ٥٠٧ ، تفسير روح المعاني ٢٤ / ٨٨ ـ ٨٩ ، مجمع الزوائد ٨ / ٢١٠ ، ابن قتيبة : المعارف ، القاهرة ١٩٣٤ ص ٢٦ ، أبو الحسن الماوردي : المرجع السابق ص ٥٢.

(٦) محمود الشرقاوي : المرجع السابق ص ٢٤.

١٧

نعم ، خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وسواه قبيلا» (١).

نبوة المرأة :

من المعروف أن النبوة في الإسلام إنما هي مقصورة على الرجال دون النساء ، لقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) (٢) ، وهكذا استنبط بعض العلماء من هذه الآية الكريمة أن النبوة لا تكون إلا في الرجال ، وأما النساء فليس فيهن نبية أبدا (٣) ، والحكمة من تخصيص الرجال بالنبوة دون النساء ، أن النبوة عبء ثقيل ، وتكليف شاق لا تتحمله طبيعة المرأة الضعيفة ، لأنه يحتاج إلى مجاهدة ومصابرة ، ولهذا كان جميع الرسل في محنة قاسية مع أقوامهم ، وابتلوا ابتلاء شديدا في سبيل تبليغ دعوة الله تعالى (٤) ، يقول الله تعالى لنبيه الكريم : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (٥).

غير أن الإمام ابن حزم إنما يتجه إلى أن آية النحل (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) ، إنما تعني الرسل دون الأنبياء ، ومن ثم فلم يدع أحد أن الله تعالى قد أرسل امرأة ، وأما النبوة ، وهي لفظة مأخوذة من الإنباء وهو الإعلام ، فمن أعلمه الله ، عزوجل ، بما يكون قبل أن يكون ، أو أوحى إليه

__________________

(١) تفسير ابن كثير ٢ / ٤٢٢ ـ ٤٢٦ ، وانظر : مسند الإمام أحمد ٥ / ٢٦٥ ـ ٢٦٦ ، تفسير روح المعاني ٢٤ / ٨٨ ، مجمع الزوائد ٨ / ٢١٠ ، مشكاة المصابيح ٣ / ١٢٢ ، تفسير النسفي ١ / ٢٦٣ ـ ٢٦٤.

(٢) سورة النحل : آية ٤٣ ، يوسف : آية ١٠٩ وانظر : تفسير الطبري ١٤ / ١٠٨ ـ ١٠٩ ، تفسير روح المعاني ١٤ / ١٤٧ ـ ١٤٨ ، تفسير الطبرسي ١٤ / ٧٥ ـ ٧٨.

(٣) لم تكن النبوة الإسرائيلية مقصورة على الرجال دون النساء ، فلقد تنبأت المرأة ، كما تنبأ الرجال ، ومن ذلك : مريم ، أخت هارون وموسى (خروج ١٥ / ٢٠) ودبورة (قضاة ٤ / ٤) وحنة أم صموئيل النبي (صموئيل أول ٢ / ١) وخلدة امرأة شلوم بن تقوة (ملوك ثان ٢٢ / ١٤) وحنة بنت فتوئيل (لوقا ٢ / ٢٦) وبنات فيلبس العذارى الأربع (أعمال الرسل ٢١ / ٩) ، كما كانت زوجات الأنبياء يدعون أحيانا نبيات (إشعياء ٨ / ٣).

(٤) محمد على الصابوني : النبوة والأنبياء ص ١٠ ، صفوة التفاسير ٢ / ١٢٩.

(٥) سورة الأحقاف : آية ٣٥.

١٨

منبئا بأمر ما ، فهو نبي بلا شك ، فأمرها مختلف ، وقد جاء في القرآن الكريم بأن الله قد أرسل ملائكة إلى نساء ، فأخبروهن بوحي حق من الله تعالى ، كما حدث مع أم إسحاق وأم موسى وأم المسيح ، عليهم‌السلام (١).

ولنقرأ هذه الآيات الكريمة ، يقول تعالى : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ، فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ، قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ ، وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ ، قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ ، وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ، قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ ، رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (٢) ، فهذا خطاب الملائكة لأم إسحاق عن الله عزوجل بالبشارة لها بإسحاق ، ثم يعقوب ، ولا يمكن أن يكون هذا الخطاب من ملك لغير نبي» (٣).

هذا فضلا عن أن الله تعالى قد أرسل جبريل إلى مريم أم المسيح ، عليهم‌السلام ، يقول لها : «إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا» (٤) ، فهذه نبوة صحيحة بوحي صحيح ، ورسالة من الله تعالى إليها ، وليس قوله عزوجل : (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) (٥). يمانع أن تكون نبيه ، فقد قال الله تعالى :(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) (٦).

وهو مع ذلك رسول نبي (٧) ، وجاء في تفسير روح المعاني (٣/١٥٤)

__________________

(١) ابن حزم : الفصل في الملل والأهواء والنحل ٥ / ٨٧.

(٢) سورة هود : آية ٦٩ ـ ٧٣ ، وانظر : تفسير ابن كثير ٤ / ٢٦٤ ـ ٢٦٦ ، تفسير الطبري ١٥ / ٣٨١ ـ ٤٠٠ ، تفسير القرطبي ص ٣٢٩٠ ـ ٣٢٩٩ ، تفسير المنار ١٢ / ١٠٥ ـ ١٠٨.

(٣) ابن حزم : المرجع السابق ص ٨٧.

(٤) سورة مريم : آية ١٩ ، وانظر تفسير القرطبي ص ٤١٢٨ ـ ٤١٣٠.

(٥) سورة المائدة : آية ٧٥.

(٦) سورة يوسف : آية ٤٦.

(٧) ابن حزم : المرجع السابق ص ٨٧ ـ ٨٨.

١٩

أن القول بنبوة مريم شهير ، بل مال الشيخ تقي الدين السبكي في الحلبيات ، وابن السيد ، إلى ترجيحه ، وذكر أن ذكرها مع الأنبياء في سورتهم قرينة قوية لذلك ، وأما الاستدلال بآية (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً) ، لا يصح ، لأن المذكور فيها الإرسال وهو أخص من الاستنباء على الصحيح المشهور ، ولا يلزم من نفي الأخص ، نفي الأعم. والأمر كذلك بالنسبة إلى أم موسى ، إذ أوحى الله تعالى إليها بإلقاء ولدها في اليم ، وأنه سوف يرده إليها ويجعله نبيا مرسلا (١) ، يقول تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢) ، غير أن هناك من يرى أن ذلك استدلالا خاطئا ، لأن الوحي ليس بإنزال ملك ، وإنما هو بطريق الإلهام ، فقد أخبر الله تعالى بأنه أوحى إلى النحل ، فقال تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) (٣) ، فهل يصح أن نقول أن النحل قد نبأه الله تعالى (٤).

ويذهب الفخر الرازي في التفسير الكبير إلى أن مريم عليها‌السلام ما كانت من الأنبياء ، لقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ») ، وإذا كان كذلك كان إرسال جبريل عليه‌السلام إليها ، إما أن يكون كرامة لها ، وهو مذهب من يجوز كرامات الأولياء ، أو إرهاصا لعيسى عليه‌السلام ، وذلك جائز عندنا ، وعند الكعبي من المعتزلة ، أو معجزة لزكريا عليه‌السلام ، ومن الناس من قال : إن ذلك كان على سبيل النفث في الروع والإلهام والإلقاء في القلب ، كما كان في حق أم موسى عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) (٥).

__________________

(١) نفس المرجع السابق ص ٨٨.

(٢) سورة القصص : آية ٧.

(٣) سورة النحل : آية ٦٨.

(٤) محمد علي الصابوني : النبوة والأنبياء ص ١٠.

(٥) تفسير الفخر الرازي ٣ / ٥٤.

٢٠