تفسير المراغي - ج ٢١

أحمد مصطفى المراغي

وفى الحديث : «يأتى على الناس زمان ليس فيهم إلا أصعر أو أبتر» والأصعر : المعرض بوجهه كبرا ، وفى الحديث «كل صعّار ملعون» أي كل ذى أبهة وكبر هو كذلك. مرحا : أي فرحا وبطرا ، والمختال : هو الذي يفعل الخيلاء وهى التبختر فى المشي كبرا ، والفخور : من الفخر وهو المباهاة بالمال والجاه ونحو ذلك ، اقصد : أي توسط ، اغضض : أي انقص منه وأقصر ، من قولهم : فلان يغضّ من فلان إذا قصّر به ووضع منه وحط من قدره ، أنكر الأصوات : أي أقبحها وأصعبها على السمع من نكر (بالضم) نكارة ، أي صعب.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن لقمان أوتى الحكمة ، فشكر ربه على نعمه المتظاهرة عليه وهو يرى آثارها فى الآفاق والأنفس آناء الليل وأطراف النهار ـ أردف ذلك ببيان أنه وعظ ابنه بذلك أيضا ، ثم استطرد فى أثناء هذه المواعظ إلى ذكر وصايا عامة وصّى بها سبحانه الأولاد فى معاملة الوالدين رعاية لحقوقهم ، وردّا لما أسدوه من جميل النعم إليهم ، وهم لا يستطيعون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ، على ألا يتعدى ذلك إلى حقوقه تعالى ، ثم رجع إلى ذكر بقية المواعظ التي يتعلق بعضها بحقوقه ، وبعضها يرجع إلى معاملة الناس بعضهم مع بعض.

الإيضاح

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) أي واذكر أيها الرسول الكريم موعظة لقمان لابنه ، وهو أشفق الناس عليه ، وأحبهم لديه حين أمره أن يعبد الله وحده ، ونهاه عن الشرك ، وبين له أنه ظلم عظيم ؛ أما كونه ظلما ، فلما فيه من وضع الشيء فى غير موضعه ، وأما أنه عظيم ، فلما فيه من التسوية بين من لا نعمة إلا منه ، وهو سبحانه وتعالى ، ومن لا نعمة لها ، وهى الأصنام والأوثان.

٨١

روى البخاري عن ابن مسعود قال : لما نزل قوله تعالى : «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ» شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : أيّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه ليس بذلك. ألا تسمعون لقول لقمان : «يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ».

وبعد أن ذكر سبحانه ما أوصى به لقمان ابنه من شكر المنعم الأول الذي لم يشركه فى إيجاده أحد ، وذكر ما فى الشرك من الشناعة أتبعه بوصيته الولد بالوالدين لكونهما السبب فى وجوده ، فقال :

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) أي وأمرناه ببرهما وطاعتهما ، والقيام بحقوقهما ، وكثيرا ما يقرن القرآن بين طاعة الله وبر الوالدين كقوله : «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً».

ثم ذكر منّة الوالدة خاصة لما فيها من كبير المشقة ، فقال :

(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) أي حملته وهى فى ضعف يتزايد بازدياد ثقل الحمل إلى حين الطلق ، ثم مدة النفاس.

ثم أردفها ذكر منه أخرى ، وهى الشفقة عليه وحسن كفالته حين لا يملك لنفسه شيئا ، فقال :

(وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) أي وفطامه من الرضاع بعد وضعه فى عامين تقاسى فيهما الأم فى رضاعه وشئونه فى تلك الحقبة جمّ المصاعب والآلام التي لا يقدر قدرها إلا العليم بها ، ومن لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء.

وقد وصى بالوالدين لكنه ذكر السبب فى جانب الأم فحسب ، لأن المشقة التي تلحقها أعظم ، فقد حملته فى بطنها ثقيلا ، ثم وضعته وربته ليلا ونهارا ، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله من أبرّ؟ : أمك ، ثم أمك ، ثم أمك ، ثم قال بعد ذلك : ثم أباك.

٨٢

ثم فسر هذه الوصية بقوله :

(أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) أي وعهدنا إليه أن اشكر لى على نعمى عليك ، ولوالديك ، لأنهما كانا السبب فى وجودك ، وإحسان تربيتك ، وملاقاتهما ما لا قيا من المشقة حتى استحكمت قواك.

ثم علل الأمر بشكره محذّرا إياه بقوله :

(إِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي إلىّ الرجوع ، لا إلى غيرى ، فأجازيك على ما صدر منك مما يخالف أمرى ، وسائلك عما كان من شكرك لى على نعمى عليك ، وعلى ما كان من شكرك لوالديك وبرّك بهما.

وبعد أن ذكر سبحانه وصيته بالوالدين وأكد حقهما ، ووجوب طاعتهما استثنى من ذلك حقوقه تعالى ، فإنه لا يجب طاعتهما فيما يغضبه ، فقال :

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) أي وإن ألحف عليك والداك فى الطلب ، وشدّ النكير عليك ، بأن تشرك بي فى عبادتى غيرى مما لا تعلم أنه شريك لى ، فلا تطعهما فيما أمراك به ، وإن أدى الأمر إلى السيف فجاهدهما به.

روى أن هذه الآية نزلت فى سعد بن أبى وقاص قال : «لما أسلمت حلفت أمي لا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا ، فناشدتها أول يوم فأبت وصبرت ، فلما كان اليوم الثاني ناشدتها فأبت ، فلما كان اليوم الثالث ناشدتها فأبت ، فقلت : والله لو كانت لك مائة نفس لخرجت قبل أن أودع دينى هذا ، فلما رأت ذلك وعرفت أنى لست فاعلا أكلت».

(وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) أي وصاحبهما فى أمور الدنيا صحبة يرتضيها الدين ، ويقتضيها الكرم والمروءة ، بإطعامهما وكسوتهما ، وعدم جفائهما وعيادتهما إذا مرضا ، ومواراتهما فى القبر إذا ماتا.

٨٣

وقوله : (فِي الدُّنْيا) إشارة إلى تهوين أمر الصحبة ، لأنها فى أيام قلائل وشيكة الانقضاء ، فلا يصعب تحمل مشقتها.

ولما كان ذلك قد يجر إلى نوع وهن فى الدين ببعض محاباة فيه نفى ذلك بقوله :

(وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ) أي واسلك سبيل من تاب من شركه ورجع إلى الإسلام ، واتبع محمدا صلى الله عليه وسلم.

والخلاصة : واتبع سبيلى بالتوحيد ، والإخلاص والطاعة ، لا سبيلهما.

(ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم مصيركم إلىّ بعد مماتكم ، فأخبركم بما كنتم تعملون فى الدنيا من خير وشر ، ثم أجازيكم عليه ، المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته.

ثم عاد إلى ذكر بقية وصايا لقمان لابنه بعد أن نهى فى مطلعها عن الشرك وأكده بالاعتراض الذي ذكره بقوله :

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ) أي يا بنى إن الفعلة من الإساءة والإحسان إن تك وزن حبة من خردل فتكن فى أخفى مكان وأحرزه كجوف الصخرة أو فى أعلى مكان كالسموات أو فى أسفله كباطن الأرض ـ يحضرها الله يوم القيامة ، حين يضع الموازين القسط ، ويجازى عليها إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، كما قال تعالى : «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً».

(إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) أي إن الله لطيف يصل علمه إلى كل خفى ، خبير : يعلم ظواهر الأمور وخوافيها.

(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) أي أدها كاملة على النحو المرضى ، لما فيها من رضا الرب بالإقبال عليه والإخبات له ، ولما فيها من النهى عن الفحشاء والمنكر ، وإذا تم ذلك صفت النفس وأنابت إلى بارئها فى السراء والضراء كما جاء فى الحديث : «اعبد الله كأنك كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك».

٨٤

وبعد أن أمره بتكميل نفسه توفية لحق الله عليه عطف على ذلك تكميله لغيره ، فقال :

(وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) أي وأمر غيرك بتهذيب نفسه قدر استطاعتك ، تزكية لها ، وسعيا إلى الفلاح ، كما قال : «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها».

(وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي وانه الناس عن معاصى الله ومحارمه التي توبق من اكتسبها ، وتلقى به فى عذاب السعير ، فى جهنم وبئس المصير.

(وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من أذى الناس فى ذات الله إذا أنت أمرتهم بالمعروف أو نهيتهم عن المنكر.

وقد بدأ هذه الوصية بالصلاة ، وختمها بالصبر ، لأنهما عمادا لاستعانة إلى رضوان الله كما قال : «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ».

ثم ذكر علة ذلك ، فقال :

(إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي إن ذلك الذي أوصيك به من الأمور التي جعلها الله محتومة على عباده لا محيص منها ، لما لها من جزيل الفوائد ، وعظيم المنافع ، فى الدنيا والآخرة ، كما دلت على ذلك تجارب الحياة ، وأرشدت إليه نصوص الدين.

وبعد أن أمره بأشياء حذره من أخرى ، فقال :

(١) (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) أي ولا تعرض بوجهك عمن تكلمه تكبرا واحتقارا له ، بل أقبل عليه بوجهك كله متهللا مستبشرا من غير كبر ولا عتوّ.

ومن هذا ما رواه مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا ، وكونوا عباد الله إخوانا ، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث».

(٢) (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي ولا تمش فى الأرض مختالا متبخترا ، لأن تلك مشية الجبارين المتكبرين الذين يبغون فى الأرض ، ويظلمون الناس ، بل امش هونا ، فإن ذلك يفضى إلى التواضع ، وبذا تصل إلى كل خير.

٨٥

روى يحيى بن جابر الطائي عن غضيف بن الحارث قال : «جلست إلى عبد الله ابن عمرو بن العاصي ، فسمعته يقول : إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه ، فيقول : يا بن آدم ما غرّك بي؟ ألم تعلم أنى بيت الوحدة؟ ألم تعلم أنى بيت الظلمة؟ ألم تعلم أنى بيت الحق؟ يا بن آدم ما غرك بي؟ لقد كنت تمشى حولى فدّادا (ذا خيلاء وكبر)». وفى الحديث : «من جرّ ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة».

ثم ذكر علة هذا النهى بقوله :

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي إن الله لا يحب المختال المعجب بنفسه ، الفخور على غيره ، ونحو الآية ما مر من قوله : «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً».

(٣) (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أي وامش مشيا مقتصدا ليس بالبطىء المتثبّط ، ولا بالسريع المفرط ، بل امش هونا بلا تصنع ولا مراءاة للخلق ، بإظهار التواضع أو التكبر.

روى عن عائشة أنها نظرت إلى رجل كاد يموت تخافتا ، فقالت : ما لهذا؟ فقيل : إنه من القرّاء (الفقهاء العالمين بكتاب الله) قالت : كان عمر سيّد القراء ، وكان إذا مشى أسرع ، وإذا قال أسمع ، وإذا ضرب أوجع.

ورأى عمر رجلا متماوتا ، فقال له : لا تمت علينا ديننا ، أماتك الله. ورأى رجلا مطأطئا رأسه ، فقال له : «ارفع رأسك ، فإن الإسلام ليس بمريض».

(وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أي وانقص منه وأقصر ، ولا ترفع صوتك حيث لا يكون إلى ذلك حاجة ، لأنه أوقر للمتكلم ، وأبسط لنفس السامع وفهمه.

ثم علل النهى وبيّنه بقوله :

(إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) أي إن أبشع الأصوات وأقبحها برفعها فوق

٨٦

الحاجة بلا داع هو صوت الحمير ، وغاية من يرفع صوته أنه يجعله شبيها بصوت الحمار فى علوه ورفعه ، وهو البغيض إلى الله.

وفى ذلك ما لا يخفى من الذم ، وتهجين رفع الصوت ، والترغيب عنه ، ومن جعل الرافع صوته كأنه حمار مبالغة فى التنفير من عمله ، وهذا أدب من الله لعباده بترك الصياح وجوه الناس تهاونا بهم ، أو بترك الصياح جملة.

وقد كانت العرب تفخر بجهارة الصوت ، فمن كان منهم أشد صوتا كان أعز ، ومن كان أخفض كان أذل ، قال شاعرهم :

جهير الكلام جهير العطاس

جهير الرواء جهير النّعم

ويعدو على الأين عدو الظّليم

ويعلو الرجال بخلق عمم (١)

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١))

المعنى الجملي

بعد أن أقام الأدلة على التوحيد ، وذكر أن لقمان فهمه بالحكمة دون أن يرسل إليه نبىّ ـ عاد إلى خطاب المشركين وتوبيخهم على إصرارهم على ما هم عليه من الشرك مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد لائحة للعيان ، يشاهدونها فى كل آن ، فى السموات والأرض ، وتسخيرهم لما فيها مما فيه مصالحهم فى المعاش والمعاد ، وإنعامه عليهم بالنعم المحسوسة والمعقولة ، المعروفة لهم وغير المعروفة ؛ ثم أبان أن كثيرا من الناس يجادلون

__________________

(١) الرواء بالضم : المنظر الحسن ، والنعم : الإبل ، والأين : الإعياء. والخلق العمم : التام.

٨٧

فى توحيد الله وصفاته بدون دليل عقلى على ما يدّعون ، ولا رسول أرسل إليهم بما عنه يناضلون ، ولا كتاب أنزل إليهم يؤيد ما يعتقدون ، وإذا هم أفحموا بالحجة والسلطان المبين ، لم يجدوا جوابا إلا تقليد الآباء والأجداد بنحو قولهم : «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» وما ذاك إلا من نزغات الشيطان ، والشيطان لا يدعو إلا إلى الضلال الموصّل إلى النار ، وبئس القرار.

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) أي ألم تروا أيها الناس أن الله الذي سخر لكم ما فى السموات من شمس وقمر ، ونجوم ، تستضيئون بها ليلا ونهارا ، وتهتدون بها فى ظلمات البر والبحر ، وسحاب ينزل لكم الأمطار لسقى الناس والحيوان والمزارع المختلفة ، وما فى الأرض من الدوابّ والأشجار ، والمياه والبحار ، والسفن والمعادن التي فى باطنها ، إلى نحو ذلك من المنافع التي جعلها لغذائكم وأقواتكم ، فتتمتعون ببعض ذلك ، وتنتفعون بجميع ذلك ، وأتمّ عليكم نعمه محسوسة وغير محسوسة.

والخلاصة : إنه تعالى نبّه خلقه إلى ما أنعم به عليهم فى الدنيا والآخرة ؛ بأن سخر لهم ما فى السموات وما فى الأرض وأسبغ عليهم من النعم الظاهرة والباطنة ، فأرسل الرسل وأنزل الكتب وأزاح الشبه والعلل.

روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عباس وقد سأله عن هذه الآية : «الظاهرة : الإسلام وما حسن من خلقك ، والباطنة : ما ستر عليك من سيئ عملك» وقيل : الظاهرة الصحة وكمال الخلق ، والباطنة : المعرفة والعقل ؛ وقيل : الظاهرة : ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال ، وتوفيق الطاعات ، والباطنة : ما يجده المرء فى نفسه من العلم بالله ، وحسن اليقين ، وما يدفع عن العبد من الآفات.

٨٨

ثم ذكر أنه مع كل هذه الأدلة الظاهرة قد مارى بعض الناس دون برهان من عقل ولا مستند من نقل ، فقال :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي وهناك فريق من الناس يجادل فى توحيد الله وصفاته كالنضر بن الحارث وأبىّ بن خلف اللذين كانا يجادلان النبي صلى الله عليه وسلم فى ذلك بلا علم من عقل ، ولا مستند من حجة صحيحة ، ولا كتاب مأثور يؤيد صحة ما يدّعون.

ثم بين أنه لا مطمع فى إيمان مثل هؤلاء ، لأنهم قد بلغوا الغاية فى الغباوة ، واستسلموا للتقليد ، وتركوا الدليل وإن كان لائحا ظاهرا ، فقال :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي وإذا قيل لهؤلاء المجادلين الجاحدين لوحدانية الله : اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الشرائع ـ لم يجدوا ردا لذلك إلا قولهم : إنا نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من دين ، فإنهم كانوا أهل حق ودين صحيح.

فوبخهم سبحانه على تلك المقالة التي هى من حبائل الشيطان ووساوسه فقال :

(أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ؟) أي أيتبعونهم على كل حال دون نظر إلى دليل؟ فربما كان اعتقادهم مبنيا على الهوى وترّهات الأباطيل ، سداه ولحمته ما زينه لهم الشيطان من وساوس ، لا تستند إلى حجة ولا برهان.

والخلاصة ـ أما كان لهم أن يفكروا ويتدبروا حتى يعلموا الحق من الباطل ، والصواب من الخطأ ، فإن الرجال بالحق وليس الحق بالرجال؟

وفى هذا ما لا يخفى من تسفيه عقولهم وتسخيف آرائهم ، وأنهم بلغوا الدّرك الأسفل فى هدم العقل ، وعدم الركون إلى الدليل مهما استبانت غايته ، واستقامت محجته.

٨٩

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤))

تفسير المفردات

يسلم وجهه : أي يفوّض أمره ، محسن : أي مطيع لله فى أمره ونهيه ، والمراد بالعروة الوثقى ، أوثق العرى وأمتنها ، وهو مثل : وأصله أن من يرقى فى جبل شاهق أو يتدلى منه يستمسك بحبل متين مأمون الانقطاع ، نضطرهم : أي نلزمهم ، وغليظ : أي ثقيل ثقل الأجرام الغلاظ.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه حال المشرك المجادل فى الله بغير علم ـ أردف ذلك ذكر حال المستسلم المفوّض أموره إلى الله ، وبيان عاقبته ومآله ، ثم سلى رسوله على ما يلقاه من المشركين من العناد والكفران ، وبين له أنه قد بلّغ رسالات ربه وتلك وظيفة الرسل ، وعلى الله الحساب والجزاء ، فهو يجازيهم بما يستحقون من العذاب الغليظ فى جهنم وبئس المصير.

الإيضاح

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي ومن يعبد الله وهو متذلل خاضع مع الإحسان فى العمل بفعل الطاعات ، وترك المعاصي والمنكرات ، فقد تعلق بأوثق الأسباب التي توصل إلى رضوان ربه ومحبته ، وحسن جزائه على ما قدم من عمل صالح.

٩٠

ثم بين العلة فى أنه يلقى الجزاء الأوفى فقال :

(وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي إن المصير إلى الله لا إلى غيره ، فلا يكوننّ لأحد إذ ذاك أمر ولا نهى ، ولا عقاب ولا ثواب ، فيجازى المتوكل عليه أحسن الجزاء ، ويعاقب المسيء أنكل العذاب.

ثم سلى رسوله على ما يلقاه من أذى المشركين وعنادهم فقال :

(وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) أي لا تحزن على كفرهم بالله وبما جئت به ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ، فإن قدر الله نافذ فيهم.

ثم بين لرسوله أنه لا يهملهم على أعمالهم بل هو مجازيهم عليها فقال :

(إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي إن مصيرهم يوم القيامة إلينا فنخبرهم بما عملوا فى الدنيا من خبيث الأعمال حتى لا يكون هناك سبيل إلى الإنكار ثم نجازيهم على ذلك أشد الجزاء.

ثم بين أنه عادل فى الجزاء لسعة علمه وعظيم إحاطته بكل شىء فقال :

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إنه تعالى يجازيهم بكل ما عملوا ، إذ لا تخفى عليه خافية.

ثم بين أن ما يمتعون به فى الدنيا عرض قليل وظل زائل لا ينبغى لعاقل أن يقيم له وزنا بجانب العذاب الدائم فقال :

(نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) أي نمهلهم فى الدنيا زمنا قليلا يتمتعون فيه بزخارفها ثم نلجئهم على كره منهم إلى عذاب شاقّ على نفوسهم.

ونحو الآية قوله : «قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ».

٩١

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦)).

المعنى الجملي

بعد أن أقام الأدلة على وحدانيته تعالى بخلق السموات بلا عمد وبإسباغ نعمه الظاهرة والباطنة عليهم ـ أردف ذلك ببيان أن المشركين معترفون بذلك غير جاحدين له ، وهذا يستدعى أن يكون الحمد كله له وحده ، ومن يستحق الحمد هو الذي يستحق العبادة فأمرهم عجب يعلمون المقدمات ثم ينكرون النتيجة التي تستتبعها ، فيعبدون من لا يستحق عبادة ، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا من الأصنام والأوثان.

الإيضاح

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي ولئن سألت أيها الرسول هؤلاء المشركين بالله من قومك : من خلق السموات والأرض؟ ليقولن الله.

وفى هذا إيماء إلى أنه قد بلغ من الوضوح مبلغا لا يستطيعون معه الإنكار والجحود ولما استبان بذلك صدقه صلى الله عليه وسلم وكذبهم قال آمرا رسوله.

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على إلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان ما هم عليه من إشراك غيره تعالى به فى العبادة التي لا يستخقها سوى الخالق المنعم على عباده.

ثم بين أنهم بلغوا الغاية فى الجهل فهم يعترفون بالشيء ويعملون نقيضه فقال :

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي بل أكثر المشركين لا يعلمون من له الحمد ، وأين موضع الشكر ، فهم مع تكذيبك يعترفون بما يوجب تصديقك.

ولما أثبت لنفسه الإحاطة بأوصاف الكمال استدل على ذلك بقوله :

٩٢

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي له سبحانه كل ما فى السموات والأرض ملكا وخلقا وتصرفا وليس ذلك لأحد سواه ، فلا يستحق العبادة فيهما غيره ، وهو الغنى عن عبادة جميع خلقه ، لأنهم ملكه وهم المحتاجون إليه المحمود على نعمه التي أنعمها عليهم.

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنه أجرى الحكمة على لسان لقمان ، ثم قفى على ذلك ببيان أنه أسبغ نعمه على عباده ظاهرة وباطنة ، وأن له ما فى السموات وما فى الأرض ـ أردف ذلك ببيان أن تلك النعم وهذه المخلوقات لا حصر لها ، ولا يعلمها إلا خالقها كما قال : «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها».

ولما كانت تلك النعم لا نهاية لها ، وربما ظن أنها مبعثرة لا قانون لها ، أو أنها لكثرتها يصعب عليه تدبيرها وتصريف شئونها كما يريد ـ دفع هذا بقوله : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ).

روى أنه لما نزل بمكة قوله تعالى : «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ» الآية وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار اليهود وقالوا بلغنا أنك تقول : «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً» أتعنينا أم تعنى قومك؟ قال : كلّا عنيت : قالوا ألست تتلو فيما جاءك أنا أوتينا التوراة فيها علم كل شىء ، فقال صلى الله عليه وسلم هى فى علم الله قليل ، وقد أتاكم ما إن عملتم به انتفعتم ، قالوا كيف تزعم هذا وأنت

٩٣

تقول : «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» فكيف يجتمع علم قليل وخير كثير ، فنزلت الآية : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) إلخ.

الإيضاح

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) أي ولو أن أفنان الأشجار وأغصانها بريت أقلاما وجعل البحر مدادا وأمدته سبعة أبحر والخلائق جميعا يكتبون بها كلمات الله الدالة على عظمته وجلاله لتكسرت الأقلام ونفد ماء البحر ولم تنفد كلمات الله :

ونحو الآية قوله «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» وإنما ذكرت السبعة الأبحر للدلالة على الكثرة ، لا لقصد هذا العدد بعينه ، فقد تقدم أن قلنا آنفا إن العرب تذكر السبعة والسبعين ، والسبعمائة ، وتريد بذلك الكثرة كما جاء فى الحديث «سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله» وفى الآية : «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ».

وقصارى ذلك : إنه سبحانه أخبر أن عظمته وكبرياءه وجلاله وأسماءه الحسنى لا يحيط بها أحد ، ولا يصل البشر إلى معرفة كنهها وعدها كما ورد فى الحديث : «سبحانك لا نحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي إن الله قد عز كل شىء وقهره ، فلا مانع لما أراد ، ولا معقّب لحكمه ، وهو الحكيم فى خلقه وأمره ، وأقواله وأفعاله ، وشرعه وجميع شئونه.

ثم أبان أن هذا الخلق الذي لا حصر له محيط به علما ، ولا يعجزه شىء فيه متى أراد ، فقال :

(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) أي ما خلق جميع الناس ولا بعثهم

٩٤

يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته إلا كخلق نفس واحدة ، فالكل هين عليه كما قال : «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» وقال «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» ، وقال «فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ».

(إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي إن الله سميع لأقوال عباده ، بصير بأفعالهم.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢))

تفسير المفردات

يولج : أي يدخل ، والمراد أنه يضيف الليل إلى النهار ، والعكس بالعكس ، فيتفاوت بذلك حال أحدهما زيادة ونقصانا ، تجرى أي تسير سيرا سريعا ، بنعمة الله أي بما تحمله من الطعام والمتاع ونحوهما ، غشيهم : أي غطاهم ، والظلل : واحدها ظلة ، وهى كما قال الراغب : السحابة تظلّ ، مقتصد : أي سالك للقصد أي للطريق المستقيم وهو التوحيد لا يعدل عنه إلى غيره ، وما يجحد : أي ما ينكر ، وختار : من الختر ، وهو أشد الغدر ، قال عمرو بن معد يكرب :

فإنك لو رأيت أبا عمير

ملأت يديك من غدر وختر

٩٥

وقال الأعشى :

بالأبلق الفرد من تيماء منزله

حصن حصين وجار غير ختّار

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنه سخر للانسان ما فى السموات وما فى الأرض ـ ذكر هنا بعض ما فيهما بقوله يولج الليل فى النهار إلخ ، وبعض ما فى السموات بقوله وسخر الشمس والقمر ، وبعض ما فى الأرض بقوله ألم تر أن الفلك تجرى فى البحر بنعمة الله ، ثم ذكر أن كل المشركين معترفون بتلك الآيات ، إلا أن البصير يدركها على الفور ، ومن فى بصيرته ضعف لا يدركها إلا إذا وقع فى شدة ، وأحدق به الخطر ، فهو إذ ذاك يعترف بأن كل شىء بإرادة الله.

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي ألم تشاهد أيها الناظر بعينيك أن الله يزيد ما نقص من ساعات الليل فى ساعات النهار ، ويزيد ما نقص من ساعات النهار فى ساعات الليل.

والخلاصة : إنه يأخذ من الليل فى النهار ، فيقصر ذاك ويطول هذا ، وذاك فى مدة الصيف ، إذ يطول النهار إلى الغاية ، ثم يبتدئ النهار فى النقصان ، ويطول الليل إلى الغاية فى مدة الشتاء.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لمصالح خلقه ومنافعهم.

(كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي كل منهما يجرى بأمره إلى وقت معلوم ، وأجل محدد ، إذا بلغه كوّرت الشمس والقمر.

(وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي وأن الله بأعمالكم من خير وشر خبير بها لا تخفى عليه خافية من أمرها ، وهو مجازيكم بها.

٩٦

ثم بين الحكمة فى إظهار آياته للناس ، فقال :

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) أي إنما يظهر آياته للناس ليستدلوا بها على أنه هو المستحق للعبادة ، وأن كل ما سواه هو الباطل الذي يضمحلّ ويفنى ، فهو الغنى عما سواه ، وكل شىء فقير إليه.

(وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي وأنه تعالى المرتفع على كل شىء ، والمتسلط على كل شىء ، فكل شىء خاضع له ، وهو الحكم العدل اللطيف الخبير.

وبعد أن ذكر الآيات السماوية الدالة على وحدانيته أشار إلى آية أرضية ، فقال :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) أي ألم تشاهد أيها الرسول السفن وهى تسير فى البحر حاملة للأقوات والمتاع ، من بلد إلى آخر ، ومن قطر إلى قطر هو فى حاجة إليها لينتفع الناس بما على ظاهر الأرض مما ليس فى أيديهم.

وفى هذا دليل على عجبب قدرته التي ترشدكم إلى أنه الحق الذي أوجد ما ترون من الأحمال الثقيلة على وجه الماء الذي ترسب فيه الإبرة فما دونها.

ثم ذكر من يستفيد من النظر فى الآيات ، فقال :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن فيما ذكر لدلائل واضحات لكل صبار فى الضراء ، شكور فى الرخاء. قال الشعبي : الصبر نصف الإيمان ، والشكر نصف الإيمان ، واليقين الإيمان كله ، ألم تر إلى قوله : «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ». وقوله : «وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ». وقال عليه الصلاة والسلام : «الإيمان نصفان : نصف صبر ، ونصف شكر».

ثم بين أن المشركين ينسون الله فى السراء ويلجئون إليه حين الضراء ، فقال :

(وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي وإذا أحاطت بالمشركين الذين يدعون من دون الله الآلهة والأوثان ـ الأمواج العالية كالجبال ، وأحدق بهم الخطر من كل جانب حين يركبون السفن ـ فزعوا بالدعاء إلى الله مخلصين له الطاعة لا يشركون به شيئا ، ولا يدعون معه أحدا سواه ، ولا يستغيثون بغيره.

٩٧

(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) أي فلما نجوا من الأهوال التي كانوا فيها ، وخلصوا إلى البر ، فمنهم متوسط فى أقواله وأفعاله بين الخوف والرجاء ، موفّ بما عاهد عليه الله فى البحر ، ومنهم من غدر ونقض عهد الفطرة ، وكفر بأنعم الله عليه.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)).

تفسير المفردات

اتقوا ربكم : أي خافوا عقابه ، لا يجزى : أي لا يغنى ، والغرور : ما غرّ الإنسان من مال وجاه ، وشهوة وشيطان ، والساعة : يوم القيامة ، ما فى الأرحام : أي ما فى أرحام النساء من صفاته وأحواله كالذكورة والأنوثة ، والحياة والموت ، وغيرها من الأعراض.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر دلائل التوحيد على ضروب مختلفة ، وأشكال منوّعة ـ أمر بتقوى الله على سبيل الموعظة والتذكير بيوم عظيم ، يوم يحكم الله بين عباده ، يوم لا تنفع فيه قرابة ، ولا تجدى فيه صلة رحم ، فلو أراد والد أن يفدى ابنه بنفسه لما قبل منه ذلك وهكذا الابن مع أبيه ، فلا تلهينكم الدنيا عن الدار الآخرة ، ولا يغرنكم الشيطان

٩٨

فيزيننّ لكم بوساوسه المعاصي والآثام ثم ختم السورة بذكر ما استأثر الله بعلمه ، مما فى الكائنات ، وهى الخمس التي اشتملت عليها الآية الكريمة ، مما لم يؤت علمها ملك مقرّب ، ولا نبى مرسل.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) أي يا أيها المشركون من قريش وغيرهم ، اتقوا الله وخافوا أن يحل بكم سخطه فى يوم لا يغنى والد عن ولده ، ولا مولود هو مغن عن والده شيئا ، لأن الأمور كلها بيد من لا يغالب ، ومن لا تنفع عنده الشفاعة والوسائل التي تنفع فى الدنيا ، بل لا تجدى عنده إلا وسيلة واحدة ، هى العمل الصالح الذي قدمه المرء فى حياته الأولى.

ثم أكد ما سلف بقوله :

(إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) أي اعلموا أن مجىء هذا اليوم حق ، لأن الله قد وعد به ، ولا خلف لوعده.

ثم حذرهم من شيئين ، فقال :

(١) (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي فلا تخدعنّكم زينة هذه الحياة ولذاتها ، فتميلوا إليها وتدّعوا الاستعداد لما فيه خلاصكم من عقاب الله فى ذلك اليوم.

(٢) (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي ولا يغرنكم الشيطان ، فيحملنّكم على المعاصي بتزيينها لكم ، ثم إرجاء التوبة إلى ما بعد ذلك ، ثم هو ينسينكم ذلك اليوم ، فلا تتخذنّ له زادا ، ولا تعدّنّه معادا.

ثم ذكر سبحانه خمسة أشياء لا يعلمها إلا هو ، فقال :

(١) (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) فلا يعلمها أحد سواه ؛ لا ملك مقرّب ، ولا نبى مرسل ، كما قال : «لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ».

(٢) (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) فى وقته المقدر له ، ومكانه المعين فى علمه تعالى ، والفلكيون وإن علموا الخسوف والكسوف ، ونزول الأمطار بالأدلة الحسابية ،

٩٩

فليس ذلك غيبا ، بل بأمارات وأدلة تدخل فى مقدور الإنسان ، ولا سيما أن بعضها قد يكون أحيانا فى مرتبة الظن ، لا فى مرتبة اليقين.

(٣) (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) أذكر هو أم أنثى ، أتامّ الخلق أم ناقصه ، أو نحو ذلك من الأحوال العارضة له.

(٤) (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من خير أو شر.

(٥) (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) أي لا يدرى أحد أين مضجعه من الأرض؟ أفي بحر أم فى برّ ، أم فى سهل ، أم فى جبل.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أي إن الله عليم بجميع الأشياء ، خبير ببواطنها كما هو خبير بظواهرها.

أخرج ابن المنذر عن عكرمة «أن رجلا يقال له : الوارث بن عمرو بن حارثة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد متى قيام الساعة ، وقد أجدبت بلادنا ، فمتى تخصب؟ وقد تركت امرأتى حبلى فما تلد؟ وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غدا؟

وقد علمت بأى أرض ولدت ، فبأى أرض أموت ، فنزلت الآية : إن الله عنده علم الساعة إلخ».

وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «مفاتيح الغيب خمس : إن الله عنده علم الساعة ، وينزل الغيث ، ويعلم ما فى الأرحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا ، وما تدرى نفس بأى أرض تموت إن الله عليم خبير». وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

١٠٠