تفسير المراغي - ج ٢١

أحمد مصطفى المراغي

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧))

المعنى الجملي

بعد أن أقام الأدلة على الوحدانية وهى الأصل الأول ، وعلى القدرة على الحشر ، وهى الأصل الثاني ـ أعقب ذلك بهاتين الآيتين وجعلهما كالنتيجة لما سلف.

الإيضاح

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي إن من فى السموات والأرض من خلق الله مطيع له فيما أراد به ، من حياة أو موت ، من سعادة أو شقاء ، من حركة أو سكون ، إلى أشباه ذلك ، وإن عصاه بقوله أو فعله فيما يكسبه باختياره ، ويؤثره على غيره.

ثم كرر ذكر البعث والإعادة مرة أخرى لشدة إنكارهم له فقال :

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي وهو الذي يبدأ الخلق من غير أصل له ، فينشئه بعد أن لم يكن شيئا ، ثم يفنيه بعد ذلك ، ثم يعيده كما بدأه ، وذلك أسهل عليه على حسب ما يدور فى عقول المخاطبين ، من أن من فعل شيئا مرة كانت الإعادة أسهل عليه.

والخلاصة : إن الإعادة أسهل على الله من البدء بالنظر لما يفعله البشر مما يقدرون عليه ، فإن إعادة شىء من مادته الأولى أهون عليهم من إيجاده ابتداء والمراد بذلك التقريب لعقول الجهلة المنكرين للبعث ، وإلا فكل الممكنات بالنظر إلى قدرته سواء.

٤١

وقصارى ذلك : إنه أهون عليه بالإضافة إلى أعمالكم ، وبالقياس إلى أقداركم.

روى عن أبى هريرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى «كذّبنى ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمنى ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياى. فقوله : لن يعيدنى كما بدأنى ، وليس أول الخلق بأهون علىّ من إعادته ، وإما شتمه إياى ، فقوله : اتخذ الله ولدا ، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد».

(وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وله الوصف البديع فى السموات والأرض ، وهو أنه لا إله إلا هو ، ليس كمثله شىء ، تعالى عن الشبيه والنظير.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو العزيز الذي لا يغالب ولا يغلب ، الحكيم فى تدبير خلقه ، وتصريف شئونه فيما أراد ، وفق الحكمة والسّداد.

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩))

تفسير المفردات

من أنفسكم : أي منتزعا من أحوال أنفسكم ، التي هى أقرب الأمور إليكم وأعرفها عندكم ، ملكت أيمانكم : أي مماليككم وعبيدكم ، فيما رزقناكم : أي من العقار والمنقول ، فأنتم فيه سواء : أي تتصرفون فيه كتصرفكم ، تخافونهم : أي تخافون أن يستبدوا بالتصرف فيه ، كخيفتكم أنفسكم : أي كما يخاف الأحرار بعضهم من

٤٢

بعض ، نفصل الآيات : أي نبيتها بالتمثيل الكاشف للمعانى ، فمن يهدى من أضل الله؟ : أي لا أحد يهديهم ، وما لهم من ناصرين : أي ليس لهم من قدرة الله منقذ ولا مجير.

المعنى الجملي

بعد أن بين القدرة على الإعادة بإقامة الأدلة عليها ، ثم ضرب لذلك مثلا ؛ أعقب ذلك بذكر المثل على الوحدانية بعد إقامة الدليل عليها.

الإيضاح

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ؟) أي بين الله تعالى إثبات وحدانيته بما يكشفها من ذلك المثل المنتزع من أحوال أنفسكم وأطوارها التي هى أقرب الأمور إليكم ، وبه يستبين مقدار ما أنتم فيه من الضلال بعبادة الأوثان والأصنام ، فتسرعون إلى الإقلاع عن عبادة من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.

هل أنتم أيها الأحرار تشركون معكم عبيدكم فى أموالكم ، فيساوونكم فى التصرف فيها؟ لا ، لا يتصرفون فيها إلا بإذنكم خوفا من لأئمة تلحقهم منكم ، كما يخاف بعضكم بعضا ، وإذا كنتم لا ترضون بذلك لأنفسكم وأنتم وهم عبيد الله ، فكيف ترضون لرب الأرباب أن تجعلوا عبيده شركاء له؟

وهذا مثل ضربه الله للمشركين به ، العابدين معه غيره ، الجاعلين له شركاء ، وهم معترفون بأن شركاءه من الأصنام والأوثان عبيده وملكه ، إذ كانوا يقولون فى التلبية والدعاء ، حين أداء مناسك الحج : لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك.

وخلاصة المثل : إن أحدكم يأنف أن يساويه عبيده فى التصرف فى أمواله ، فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه؟.

٤٣

(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي ومثل هذا التفصيل البديع بضرب الأمثال الكاشفة للمعانى ، المقربة لها إلى العقول ، إذ تنقل المعقول إلى المحسوس التي هى به ألصق ، ولإداركه أقرب ـ نفصل حججنا وآياتنا لقوم يستعملون عقولهم فى تدبر الأمثال ، واستخراج مغازيها ومراميها للوصول إلى الأغراض التي لأجلها ضربت ، ولمثلها استعملت ، فيستبين الرشد من الغى ، والحق من الباطل ، ولأمرمّا كثرت الأمثال فى جلاء الحقائق ، وإيضاح ما أشكل منها على الناظرين.

ثم بين أن المشركين إنما عبدوا غيره ، سفها من أنفسهم وجهلا ، لا ببرهان قد لاح لهم فقال :

(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ولكن الذين ظلموا أنفسهم فكفروا بالله ، اتبعوا أهواءهم جهلا منهم لحق الله عليهم ، فأشركوا الآلهة والأوثان فى عبادته ، ولو قلّبوا وجوه الرأى ، واستعملوا الفكر والتدبر لربما ردّهم ذلك إلى معرفة الحق ، ووصلوا إلى سبيل الرشد ، ولكن أنّى لهم ذلك؟

(فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ؟) أي فمن يهدى من خلق الله فيه الضلال ، وجعله كاسباله باختياره ، لسوء استعداده وميله بالفطرة إليه ، وعلم الله فيه ذلك؟

(وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي وليس لهم ناصر ينقذهم من بأس الله وشديد انتقامه إذا حل بهم ، لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢)).

٤٤

تفسير المفردات

أقم : من أقام العود وقوّمه إذا عدّله ؛ والمراد الإقبال على دين الإسلام والثبات عليه ، حنيفا : من الحنف وهو الميل ، فهو مائل من الضلالة إلى الاستقامة ، والفطرة : هى الحال التي خلق الله الناس عليها من القابلية للحق ، والتهيؤ لإدراكه ، وخلق الله : هو فطرته المذكورة أوّلا ، القيم : أي المستوي الذي لا عوج فيه ولا انحراف ، منبين إليه : أي راجعين إليه بالتوبة وإخلاص العمل ، من قولهم : ناب نوبة ونوبا إذا رجع مرة بعد أخرى ، واتقوه : أي خافوه ، فرقوا دينهم : أي اختلفوا فيما يعبدونه على حسب اختلاف أهوائهم ، شيعا : أي فرقا تشايع كل فرقة إمامها الذي مهد لها دينها وقرره ووضع أصوله.

المعنى الجملي

بعد أن عدد سبحانه البينات. والأدلة على وحدانيته ، وأثبت الحشر وضرب لذلك المثل ، وسلى رسوله ووطن عزيمته على اليأس من إيمانهم ، لأن الله قد ختم على قلوبهم ، فلا مخلص لهم مما هم فيه ولا ينقذهم من ذلك لا هو ولا غيره فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ـ أعقب ذلك بأمره بالاهتمام بنفسه ، وعدم المبالاة بأمرهم ، وإقامة وجهه لهذا الدين غير ملتفت عنه يمنة ولا يسرة ، فهو فطرة الله التي خلق العقول معترفة بها.

الإيضاح

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) أي فسدّد وجهك نحو الوجه الذي وجّهك إليه ربك لطاعته ، وهو الدين القيم ، دين الفطرة ، ومل عن الضلال إلى الهدى.

(فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) أي الزموا خلقة الله التي خلق الناس عليها ، فقد جعلهم بفطرتهم جانحين للتوحيد وموقنين به ، لكونه موافقا لما يهدى إليه

٤٥

العقل ، ويرشد إليه صحيح النظر ، كما ورد فى الحديث الذي رواه البخاري ومسلم : «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء» (مستوية لم يذهب من بدنها شىء) «هل تحسون فيها من جدعاء» (مقطوعة الأذن أو الأنف).

ثم علل وجوب الامتثال بقوله :

(لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) أي لا ينبغى أن تبدّل فطرة الله أو تغير ، وهذا خبر فى معنى النهى كأنه قيل : لا تبدّلوا دين الله بالشرك.

بيان هذا أن العقل الإنسانى كصحيفة بيضاء ، قابلة لنقش ما يراد أن يكتب فيها ، كالأرض تقبل كل ما يغرس فيها ، فهى تنبت حنظلا وفاكهة ، ودواء وسمّا ، والنفس يرد عليها الديانات والمعارف فتقبلها ، والخير أغلب عليها من الشر ، كما أن أغلب نبات الأرض يصلح للرعى ، والقليل منه سمّ لا ينتفع به ، ولا تغير بالآراء الفاسدة إلا بمعلم يعلمها ذلك كالأبوين اليهوديين أو النصرانيين ، ولو ترك الطفل وشأنه لعرف أن الإله واحد ولم يسقه عقله إلى غير ذلك ، فإن البهيمة لا تجدع إلا بمن يجدعها من الخارج ، هكذا صحيفة العقل لا تغيّر إلا بمؤثّر خارجى يضلّها بعد علم.

(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي ذلك الذي أمرتكم به من التوحيد هو الدين الحق الذي لا عوج فيه ولا انحراف.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك لعدم تدبرهم فى البراهين الواضحة الدالة عليه ، ولو علموا ذلك حق العلم لا تبعوه ، وما صدوا الناس عن الاقتباس من نوره ، وما سدلوا الحجب التي تحجب عنهم ضياءه.

(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) أي فأقم وجهك أيها الرسول أنت ومن اتبعك ، حنفاء لله منيبين إليه ، وخافوه ، وراقبوا أن تفرطوا فى طاعته ، وترتكبوا معصيته.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي وداوموا على إقامتها ، فهى عمود الدين ، وهى التي تذكّر المؤمن ربه ، وتجعله يناجيه فى اليوم خمس مرات ، وتحول بينه وبين الفحشاء

٤٦

والمنكر ، لأنها تعوّد النفس الخضوع والإخبات له ، ومراقبته فى السر والعلن ، كما جاء فى الحديث : «اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

(وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) به غيره ، بل أخلصوا له العبادة ولا تريدوا بها سواه ، وحافظوا على امتثال أوامره ، واجتناب نواهيه.

ثم بين صفات هؤلاء المشركين بقوله :

(مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) أي من المشركين الذين بدلوا دين الفطرة وغيّروه ، وكانوا فى ذلك فرقا مختلفة كلها جانبت الحق ، وركنت إلى الباطل ، كاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان ، وسائر الأديان الباطلة.

والخلاصة : إن أهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على مذاهب ونحل باطلة ، كل منها تزعم أنها على شىء.

(كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي كل طائفة من هؤلاء الذين فارقوا دينهم الحق ، وأحدثوا من البدع ما أحدثوا ـ فرحون بما هم به مستمسكون ، ويحسبون أن الصواب لا يعدوهم إلى غيرهم من النحل والمذاهب الأخرى.

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧))

٤٧

المعنى الجملي

لما أرشد سبحانه إلى التوحيد ، وأقام الأدلة عليه ، وضرب له المثل ؛ أعقبه بذكر حال للمشركين يعرفون بها ، وسيماء لا ينكرونها ، وهى أنهم حين الشدّة يتضرعون إلى ربهم ، وينيبون إليه ، فإذا خلصوا منها رجعوا إلى شنشنتهم الأولى ، وأشركوا به الأوثان والأصنام ، فليضلوا ما شاءوا ، فإن لهم يوما يرجعون فيه إلى ربهم ، فيحاسبهم على ما اجترحوا من السيئات ، وليتهم اتبعوا ذلك عن دليل ، حتى يكون لهم شبه العذر فيما يفعلون ، بل هو الهوى المطاع ، والرأى المتّبع ، ثم ذكر حال طائفة من المشركين دون سابقيهم ، وهم من تكون عبادتهم لله رهن إصابتهم من الدنيا ، فإن آتاهم ربهم منها رضوا ، وإذا منعوا منها سخطوا وقنطوا ، وقد كان عليهم أن يعلموا أن بسط النعمة وإقتارها بيده وحده ، وقد جعل لذلك أسبابا متى سلكها فاعلها وصل إلى ما يريد ، وليس علينا إلا أن تطمئن نفوسنا إلى ما يكون ، فكله بقدر الله وقضائه ، وعلينا أن نستسلم له ، ونعمل ما طلب إلينا عمله من الأخذ من الأسباب والجد فى العمل جهد الطاقة.

الإيضاح

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) أي وإذا مس هؤلاء المشركين الذين يجعلون مع الله إلها آخر ـ ضرّ فأصابهم جدب وقحط أخلصوا لربهم التوحيد ، وأفردوه بالتضرع إليه واستغاثوا به منيبين إليه ، تائبين إليه من شركهم وكفرهم.

(ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) أي ثم إذا كشف ربهم عنهم ذلك الضر وفرجه عنهم ، وأصابهم برخاء وخصب وسعة ، إذا جماعة منهم يشركون به فيعبدون معه الآلهة والأوثان.

والخلاصة : إنهم حين الضرر يدعون الله وحده لا شريك له ، وإذا أسبغ عليهم

٤٨

نعمه إذا فريق منهم يشركون به سواه ، ويعبدون معه غيره.

ثم أمرهم أمر تهديد كما يقول السيد لعبده متوعدا إذا رآه قد خالف أمره : اعصنى ما شئت ، قال :

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) أي فليجحدوا نعمى عليهم وإحسانى إليهم كيف شاءوا ، فإن لهم يوما نحاسبهم فيه ، يوم يؤخذون بالنواصي ، ويجرّون بالسلاسل والأغلال ، ويقال لهم : ذوقوا ما كنتم تعملون.

ومثله الأمر بعده وهو :

(فَتَمَتَّعُوا) أي فتمتعوا بما آتيناكم من الرخاء ، وسعة النعمة فى الدنيا ، فما هى إلا أو يقات قصيرة تمضى كلمح البصر.

ثم هددهم أشد التهديد بقوله :

(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) إذا وردتم علىّ ما يصيبكم من شديد عذابى ، وعظيم عقابى ، على كفركم بي فى الدنيا.

روى عن بعض السلف أنه قال : والله لو توعدنى حارس درب لخفت فيه ، فكيف والمتوعّد هو الله الذي يقول للشىء كن فيكون؟.

ثم أنكر على المشركين ما اختلقوه من عبادة غيره بلا دليل ، فقال :

(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أي أأنزلنا على هؤلاء الذين يشركون فى عبادتنا الآلهة والأوثان كتابا فيه تصديق لما يقولون ، وإرشاد إلى حقيقة ما يدّعون.

وإجمال القصد : إنه لم ينزّل بما يقولون كتابا ولا أرسل به رسولا ، وإنما هو شىء افتعلوه اتباعا لأهوائهم.

ثم ذكر طبيعة الإنسان وجبلّته إلا من عصمه الله فقال :

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ

٤٩

يَقْنَطُونَ) أي إن الإنسان قد ركّب فى طبيعته الفرح والبطر حين تصيبه النعمة ، كما حكى الله عنه : «لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ» وإذا أصابته شدة بجهله بسنن الحياة ، وعصيانه أوامر الدين ، قنط من رحمة الله وأيس منها ، فهو كما قيل :

كحمار السوء إن أعلفته

رمح الناس وإن جاع نهق

«إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» فإنهم راضون بما قسمه لهم ربهم من خير أو شر ، علما منهم أن الله حكيم ، لا يفعل إلا ما فيه خير للعبد ، وفى الحديث الصحيح : «عجبا للمؤمن لا يقضى الله له قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته سراء شكر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر ، فكان خيرا له».

ثم أنكر عليهم ما يلحقهم من اليأس والقنوط لدى الضراء ، فقال :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ؟) أي ألم يشاهدوا ويعلموا أن الأمرين من الله ، فما بالهم لم يشكروا فى السراء ، ويحتسبوا فى الضراء ، كما يفعل المؤمنون ، فإن من فطر هذا العالم لا ينزل الشدة بعباده إلا لما لهم فيها من الخير كالتأديب والتذكير والامتحان ، فهو كما يربى عباده بالرحمة يربيهم بالتعذيب ؛ فلو أنهم شكروه حين السراء ، وتضرعوا إليه فى الضراء ، لكان خيرا لهم.

والخلاصة : إنه يجب عليهم أن ينيبوا إليه فى الرخاء والشدة ، ولا يعوقهم عن الإنابة إليه نعمة تبطرهم ، ولا شدة تحدث فى قلوبهم اليأس ، بل يكونون فى السراء والضراء منيبين إليه.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن فى ذلك البسط على من بسط له والقدر على من قدر عليه ـ لدلالة واضحة لمن صدّق بحجج الله إذا عاينها.

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ

٥٠

اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠))

تفسير المفردات

حقه : هو صلة الرحم والبرّ به ، والمسكين : هو المعدم الذي لا مال له ، وابن السبيل : هو المسافر الذي احتاج إلى مال وعزّ عليه إحضاره من بلده ، ووسائل المواصلات الحديثة الآن تدفع مثل هذه الحاجة ، ربا : أي زيادة ، والمراد بها الهدية التي يتوقع بها مزيد مكافأة ، فلا يربو عند الله : أي فلا يبارك فيه ، والمراد بالزكاة الصدقة ، المضعفون : أي الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ـ أردف ذلك ببيان أنه يحبّ الإحسان على ذوى القربى وذوى الحاجات من المساكين وأبناء السبيل ، فإنه إذا بسط الرزق لم ينقصه الإنفاق ، وإذا قدر لم يزده الإمساك :

إذا جادت الدنيا عليك فجدبها

على الناس طرّا إنها تتقلّب

فلا الجود يفنيها إذا هى أقبلت

ولا البخل يبقيها إذا هى تذهب

الإيضاح

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) أي أعط أيها الرسول ومن تبعك من المؤمنين : الأقارب الفقراء جزءا من مالك صلة للرحم ، وبرا بهم لأنهم أحق الناس بالشفقة ؛ ومن ثم حكى عن أبى حنيفة أنه استدل بهذه الآية على وجوب النفقة على كل ذى رحم محرم ذكرا كان أو أنثى إذا كان فقيرا عاجزا عن الكسب.

٥١

وكذا المسكين الذي لا مال له إذا وقع فى ورطة الحاجة ، فيجب على من عنده مقدرة دفع حاجته ، وسدّ عوزه.

ومثله المسافر البعيد عن ماله ، الذي لا يستطيع إحضار شىء منه لانقطاع السبل به فيجب مساعدته بما يدفع خصاصته ، حتى يصل إلى مأمنه ، وسرعة طرق المواصلات الآن تدفع هذه الضرورة.

(ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ذلك الإعطاء لمن تقدم ذكرهم ، من فعل الخير الذي يتقبّله الله ، ويرضى عن فاعليه ، ويعطيهم جزيل الثواب ، وأولئك قد ربحوا فى صفقتهم ، فأعطوا ما يفنى ، وحصلوا على ما يبقى ، من النعيم المقيم ، والخير العميم.

وإنما كان هذا العمل خيرا ، لما فيه من تكافل الأسرة الخاصة ، وتعاونها فى السراء والضراء ، وتعاون الأسرة العامة ، وهى الأمة الإسلامية جمعاء ، كما جاء فى الحديث : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا».

ولا يخفى ما لذلك من أثر فى تولد المحبة والمودة ، وفى التكاتف لدفع عوادى الأيام ، ومحن الزمان.

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) أي ومن أهدى هدية يريد أن تردّ بأكثر منها ، فلا ثواب له عند الله ، وقد حرم الله ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم على الخصوص ، كما قال تعالى : «وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ» أي ولا تعط العطاء تريد أكثر منه.

روى عن ابن عباس أنه قال : الربا ربوان : ربا لا يصح وهو ربا البيع ، وربا لا بأس به ، وهو هدية الرجل يريد فضلها وإضعافها ، ثم تلا هذه الآية.

وقال عكرمة : الربا ربوان : ربا حلال ، وربا حرام ؛ فأما الربا الحلال : فهو الذي يهدى ، يلتمس ما هو أفضل منه ؛ وعن الضحاك فى هذه الآية : هو الربا الحلال

٥٢

الذي يهدى ، ليثاب ما هو أفضل منه ، لا له ولا عليه ، ليس له أجر ؛ وليس عليه فيه إثم.

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي ومن أعطوا صدقة يبتغون بها وجه الله تعالى خالصا ، فأولئك من الذين يضاعف لهم الثواب والجزاء ، كما قال تعالى : «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً؟» ، وجاء فى الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «وما تصدّق أحد بعدل تمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربّى أحدكم فلوّه أو فصيله حتى تصير التمرة أعظم من أحد (جبل)».

ولما بين أنه لا زيادة إلا فيما يزيده ، ولا خير إلا فيما يختاره أكد ذلك بقوله :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي الله الذي لا تصح العبادة إلا له ، ولا ينبغى أن تكون لغيره ، هو الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا ، ثم رزقكم ما به تقوم شئونكم فى هذه الحياة ، ثم يقبض أرواحكم فى الدنيا ، ثم يحييكم يوم القيامة للبعث.

ثم وبخ هؤلاء المشركين الذين يعبدون الآلهة والأصنام التي لا تخلق ولا ترزق ولا تحيى ولا تميت بقوله :

(هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟) أي هل من آلهتكم وأوثانكم الذين جعلتموهم شركاء لى فى العبادة من يخلق أو يرزق أو ينشر الميت يوم القيامة؟.

وإجمال المعنى : إن شركاءكم لا يفعلون شيئا من ذلك ، فكيف يعبدون من دون الله؟.

ثم برأ سبحانه نفسه من هذه الفرية التي افتروها ، فقال :

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه عن الشريك ، فهو الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد.

٥٣

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢))

تفسير المفردات

البر : الفيافي والقفار ، ومواضع القبائل ، والبحر : المدن ، والعرب تسمى الأمصار بحارا لسعتها ؛ كما قال سعد بن عبادة فى عبد الله بن أبى بن سلول : ولقد أجمع أهل هذه البحيرة (المدينة) ليتوّجوه.

وقال ابن عباس : البر ما كان من المدن والقرى على غير نهر ، والبحر ما كان على شط نهر.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن المشركين عبدوا مع الله سواه ، وأشركوا به غيره ، والشرك سبب الفساد ، كما يرشد إلى ذلك قوله : «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا» ـ أعقب ذلك ببيان أن الناس قد انتهكوا حرمات الله ، واجترحوا المعاصي ، وفشا بينهم الظلم والطمع ، وأكل القوى مال الضعيف ، فصب عليهم ربهم سوط عذابه ، فكثرت الحروب ، وافتنّ الناس فى أدوات التدمير والإهلاك ، فمن غائصات البحار تهلك السفن الماخرة فيها ، إلى طائرات قاذفات للحمم والموادّ المحرقة ، إلى مدافع تحصد الناس حصدا ، إلى دبابات سميكة الدروع تهدّ المدن هدا ؛ وما الحرب القائمة

٥٤

الآن إلا مثال الوحشية الإنسانية ، والمجازر البشرية التي سلط الله فيها العالم بعضه على بعض ، فارتكب المظالم ، واجترح المآثم ، والإنسان فى كل عصر هو الإنسان.

وكما أهلك الله الكافرين قبلهم بكفرهم وظلمهم ، يهلك الناس بشؤم معاصيهم وفسادهم ، فليجعلوا من سبقهم مثلا لهم ، ليتذكروا عقاب الله وشديد عذابه للمكذبين.

الإيضاح

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ظهر الفساد فى العالم بالحروب والغارات ، والجيوش والطائرات ، والسفن الحربية والغواصات ، بما كسبت أيدى الناس من الظلم وكثره المطامع ، وانتهاك الحرمات ، وعدم مراقبة الخلاق ، وطرح الأديان وراء ظهورهم ، ونسيان يوم الحساب ، وأطلقت النفوس من عقالها ، وعاثت فى الأرض فسادا ، إذ لا رقيب من وازع نفسى ، ولا حسيب من دين يدفع عاديتها ، ويمنع أذاها ، فأذاقهم الله جزاء بعض ما عملوا من المعاصي والآثام ، لعلهم يرجعون عن غيهم ، ويثوبون إلى رشدهم ، ويتذكرون أن هناك يوما يحاسب الناس فيه على أعمالهم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، فيخيّم العدل على المجتمع البشرى ، ويشفق القوىّ على الضعيف ، ويكون الناس سواسية فى المرافق العامة ، وحاج المجتمع بقدر الطاقة البشرية.

وبعد أن بين أن ظهور الفساد كان نتيجة أفعالهم أرشدهم إلى أن من كان قبلهم وكانت أفعالهم كأفعالهم ، أصابهم بعذاب من عنده ، وصاروا مثلا لمن بعدهم وعبرة لمن خلفهم ، قال :

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين من قومك : سيروا فى البلاد فانظروا إلى مساكن الذين كفروا بالله من قبلكم وكذبوا رسله ، كيف أهلكناهم بعذاب منا ، وجعلناهم عبرة لمن بعدهم؟.

٥٥

ثم بين سبب ما حاق بهم من العذاب ، فقال :

(كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) فما حل بهم من العذاب كان جزاء وفاقا لكفرهم بآيات ربهم ، وتكذيبهم رسله.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥))

تفسير المفردات

لا مرد له : أي لا يقدر أحد أن يردّه ، يصّدّعون : أي يتصدعون ويتفرقون ، كما قال متمّم بن نويرة من قصيدة يرثى بها أخاه مالكا :

وكنا كندمانى جذيمة حقبة

من الدهر حتى قيل لن نتصدعا (١)

فأصبحنا كأنى ومالكا

لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

يمهدون : من مهد فراشه إذا وطّأه حتى لا يصيبه ما ينغّص عليه مرقده من بعض ما يؤذيه ، وتمهيد الأمور تسويتها وإصلاحها ، وتمهيد العذر بسطه وقبوله ، لا يحب الكافرين : أي إنه يبغضهم ، وسيعاقبهم على ما فعلوا.

__________________

(١) وجذيمة : هو جذيمة الأبرش ، وكان ملكا فى الحيرة ، ونديماه مالك وعقيل ، وبهما يضرب المثل فى طول المنادمة ، فقد نادماه أربعين سنة ما أعادا عليه حديثا كان قالاه من قبل.

٥٦

المعنى الجملي

بعد أن نهى الكافر عن بقائه على حاله التي هو عليها خيفة أن يحل به سوء العذاب ـ أردف ذلك أمر رسوله ومن تبعه بالثبات على ما هم عليه ، بعبادتهم الواحد الأحد ، قبل أن يأتى يوم الحساب ، الذي يتفرق فيه العباد ، فريق فى الجنة ، وفريق فى السعير ، فمن كفر فعليه وبال كفره ، ومن عمل صالحا فقد أعد لنفسه مهادا يستريح عليه بما قدم من صالح العمل ، وسينال من فضل ربه وثوابه ورضاه عنه ما لا يخطر له ببال ، ولا يدور له فى حسبان.

والكافر سيلقى فى هذا اليوم العذاب والنكال ، لأن ربه يبغضه ويمقته جزاء ما دسّى به نفسه من سيئ العمل.

الإيضاح

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ) أي فاسلك أيها الرسول الكريم الطريق الذي رسمه لك ربك بطاعته ، واتباع نهجه القويم ، الذي لا عوج فيه ولا أمت ، من قبل أن يجىء ذلك اليوم الذي لا راد له ، وهو يوم الحساب الذي كتب الله مجيئه وقدّره ، وما قدّر لا بد أن يكون.

ثم ذكر حال الناس يومئذ ، فقال :

(يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) أي يومئذ يتفرق الناس بحسب أعمالهم ، فريق فى الجنة يؤتى ثمرة عمله ، وفريق يزجى إلى النار بما اجترح من الآثام ، وبما ران على قلبه مما كسبت يداه.

ثم بين أن ما ناله كل منهما من الجزاء كان نتيجة حتمية لعمله فقال :

(مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أي من كفر بالله ، ودسّى نفسه بما عمل من السيئات ، واجترح من الآثام ، فعليه وحده أوزار جحوده

٥٧

وكفره بنعم ربه ، ومن عمل الصالحات ، وأطاع الله فيما به أمر ، وعنه نهى ، فقد أعدّ لنفسه العدّة ، ووطأ لنفسه الفراش حتى لا يقضّ عليه مضجعه ، ويقع فى عذاب السعير.

ثم بين العلة فى تفرقهم ، فقال :

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) أي إنهم يتفرقون ليجازى المؤمنين بالحسنى من فضله ، فيكافئ الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، إلى ما شاء الله من المنح والعطايا.

وذكر جزاء الكافرين بما يدل عليه قوله :

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي إنه يبغضهم ، وذلك يستدعى عقابهم ، ولا يخفى ما فى ذلك من تهديد ووعيد.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦))

المعنى الجملي

لما ذكر سبحانه أن الفساد ظهر فى البر والبحر بسبب الشرك والمعاصي ، نبههم إلى دلائل وحدانيته بما يشاهدونه أمامهم من إرسال الرياح وبالأمطار ، فتحيا بها الأرض بعد موتها وجرى الفلك حاملة لما هم فى حاجة إليه ، مما فيه غذاؤهم ، وعليه مدار حياتهم.

الإيضاح

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي ومن الأدلة على وحدانيته تعالى ، والحجج القائمة على أنه رب كل شىء ، أنه يرسل الرياح من حين إلى آخر مبشرات بالغيث الذي به تحيا

٥٨

الأرض وينبت الثمر والزرع ، فتأكلون منه مالذ وطاب ، وتعيشون أنتم ودوابكم وأنعامكم فضلا من ربكم ، وتجرى السفن ما خرة للبحار ، حاملة للأقوات وأنواع الثمار ، متنقلة من قطر إلى قطر ، فتأتى بما فى أقصى المعمور من الشرق إلى أقصاه فى الغرب ، والعكس بالعكس ، فلا تحتجن الثمرات والأقوات فى أماكنها ، وتكون وقفا على قوم بأعيانهم.

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي وليعدّكم لشكره كفاء ما أسدى إليكم من نعمه الوفيرة ، وخيراته العميمة التي لا تحصى ، كما قال : «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها».

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧))

المعنى الجملي

لما ذكر سبحانه البراهين الساطعة الدالة على الوحدانية والبعث والنشور ، ولم يرعو بها المشركون ، بل لجّوا فى طغيانهم يعمهون ، سلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، فذكر له أنك لست أول من كذّب ، فكثير ممن قبلك جاءوا أقوامهم بالبينات ، فلم تغنهم الآيات والنذر ، فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر ، ونصرنا رسلنا ومن آمن بهم ، فلا تبتئس بما كانوا يعملون ، ولنجرينّ عليك وعلى قومك سنننا ، ولننتقمنّ منهم ، ولننصرنّك عليهم ، فالعاقبة للمتقين.

الإيضاح

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) أي ولقد أرسلنا أيها الرسول رسلا من قبلك إلى أقوامهم

٥٩

الكافرين ، كما أرسلناك إلى قومك عابدى الأوثان من دون الله ، فجاءوهم بالحجج الواضحة على أنهم من عند الله ، فكذبوهم كما كذبك قومك ، وردّوا عليهم ما جاءوهم به من عنده ، كما ردوا عليك ما جئتهم به ، فانتقمنا من الذين اجترحوا الآثام ، واكتسبوا السيئات من أقوامهم ، ونجينا الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله ، ونحن فاعلوا ذلك بمجرمى قومك ، وبمن آمن بك ، سنة الله التي شرعها لعباده ، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

وهذا إخبار من الله سبحانه بأن نصره لعباده المؤمنين حق عليه ، وهو لا يخلف الميعاد. أخرج الطبراني وابن أبى حاتم وابن مردويه والترمذي عن أبى الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ما من مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة» ثم تلا : «وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» :

ولا يخفى ما فى هذا من الوعد والبشارة بالظفر على أعدائه ، والوعيد والنكال ، والخسران فى المآل ، لمن كذب به من قومه.

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١))

٦٠