تفسير المراغي - ج ٢١

أحمد مصطفى المراغي

وقال عكرمة : كان أهل الجاهلية إذا ركبوا فى البحر حملوا معهم الأصنام ، فإذا اشتد عليهم الريح ألقوها فيه وقالوا يا رب يا رب.

قال الرازي فى اللوامع : وهذا دليل على أن معرفة الرب فى فطرة كل إنسان ، وأنهم إن غفلوا فى السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه فى حال الضراء ا ه.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا) أي يشركون لتكون عاقبة أمرهم الكفران بما آتيناهم من نعمة النجاة ، وليتمتعوا باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادّهم عليها.

ثم تهددهم وتوعدهم فقال :

(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة ذلك حين يعاقبون يوم القيامة.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن المشركين حين يشتد بهم الخوف إذا ركبوا فى الفلك ونحوه لجئوا إلى الله وحده مخلصين له العبادة ـ ذكر هنا أنهم حين الأمن كما إذا كانوا فى حصنهم الحصين وهو مكة التي يأمن من دخلها من الشرور والأذى يكفرون به ويعبدون معه سواه ، وتلك حال من التناقض لا يرضاها لنفسه عاقل ، فإن دعاءهم إياه حال الخوف مع الإخلاص ما كان إلا ليقينهم بأن نعمة النجاة منه لا من سواه ، فكيف يكفرون به حين الأمن ، وهم يوقنون بأن الأصنام حين الخوف لا تجديهم فتيلا ولا قطميرا؟

٢١

الإيضاح

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ؟) أي أو لم ير هؤلاء المشركون من قريش ما خصصناهم به من النعمة دون سائر عبادنا ، فأسكناهم بلدا حرّمنا على الناس أن يدخلوه لغارة أو حرب ، وآمنا من سكنه من القتل والسبي والناس من حولهم يقتلون ويسبون فى كل حين ، فيشكرونا على ذلك ، ويزدجروا عن كفرهم بنا وإشراكهم ما لا ينفعهم ولا يضرهم.

والخلاصة : إنه تعالى يمتنّ على قريش بما أحلهم من حرمه الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد ، ومن دخله كان آمنا ، فهم فى أمن عظيم ، والأعراب حولهم نهب مقسّم ، يقتل بعضهم بغضا ، ويسبى بعضهم بعضا ، ثم هم مع ذلك يكفرون به ، ويعبدون معه سواه.

ونحو الآية قوله : «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ. إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ. وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ».

ثم بين أن العقل كان يقضى بشكرهم على هذه النعمة ، لكنهم كفروا بها ، وما جنحوا إلى مرضاة ربهم ، فقال :

(أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ؟) أي أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به ، وعبدوا معه غيره من الأصنام والأنداد ، وبدلوا نعمة الله كفرا ، وأحلوا قومهم دار البوار ، فكفروا بنبي الله وعبده ورسوله.

والخلاصة : إنه كان من حق شكرهم له على هذه النعم إخلاص العبادة له ، وألا يشركوا به ، وأن يصدّقوا برسوله ، ويعظموه ويوقروه ، لكنهم كذبوه فقاتلوه وأخرجوه من بين أظهرهم ، ومن ثم سلبهم الله ما كان أنعم به عليهم ، بقتل من قتل منهم ببدر ، وأسر من أسر ، حتى قطع دابرهم يوم الفتح ، وأرغم آنافهم وأذل رقابهم.

٢٢

ولما استنارت الحجة ، وظهر الدليل ، ولم يكن لهم فيه مقنع ، بين أنهم قوم ظلمة مفترون ، وضعوا الأمور فى غير مواضعها بكذبهم على الله ، فقال :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ) أي ومن أظلم ممن كذبوا على الله ، بأن زعموا أن له شريكا ، وأنهم إذا فعلوا فاحشة قالوا : إن الله أمرنا بها ، والله لا يأمر بالفحشاء ، وكذبوا بالكتاب حين مجيئه ، دون أن يتأملوا فيه أو يتوقفوا ، بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه.

وفى هذا من تسفيه آرائهم ، وتقبيح طرائقهم ما لا يخفى.

ثم بين سوء مغبة أعمالهم بطريق الاستفهام التقريرى ، وهو أبلغ فى إثبات المطلوب ، فقال :

(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ؟) أي ألا يستوجب هؤلاء الكافرون من أهل مكة الثّواء فى جهنم ، فقد افتروا على الله الكذب ، فكذبوا بالكتاب لما جاءهم بلا تريّث ولا تلبث؟.

والخلاصة : إن مثوى هؤلاء وأشباههم جهنم وبئس المصير.

وبعد أن بين عاقبة أولئك الكافرين ذكر عاقبة المؤمنين الذين اهتدوا يهدى الله وجاهدوا فى سبيله ، فقال :

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) أي والذين قاتلوا هؤلاء المفترين على الله الكذب ، المكذبين لما جاءهم به رسوله ، مبتغين بقتالهم علوّ كلمتنا ، ونصرة ديننا ، لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير ، وتوفيقا لسلوكها كما قال : «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» وجاء فى الحديث : «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم» ، وقال عمر بن عبد العزيز : إنما قصّر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا فى العمل بما علمنا ، ولو عملنا ببعض ما علمنا لاورثنا علما لا تقوم به أبداننا. وقال أبو سليمان الداراني : ليس الجهاد فى الآية قتال الكفار فقط ، بل هو نصر الدين ، والرد على المبطلين ، وقمع

٢٣

الظالمين ، وعظمه الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، ومنه مجاهدة النفوس فى طاعة الله ، وهو الجهاد الأكبر.

ثم ذكر أن الله يعينهم بالنصرة والتوفيق.

(وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) أي وإن الله ذا الرحمة لمع من أحسن من خلقه ، فجاهد أهل الشرك مصدقا رسوله فيما جاء به من عند ربه بالمعونة والنصرة على من جاهد من أعدائه ، وبالمغفرة والثواب فى العقبى.

روى ابن أبى حاتم عن الشعبي قال : قال عيسى بن مريم عليه السلام : إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ، وليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك.

وقد انتهى بهذا تفسير السورة الكريمة ، ولله الحمد أولا وآخرا.

٢٤

مشتملات هذه السورة الكريمة

(١) اختبار المؤمنين ليعلم صدقهم فى إيمانهم.

(٢) فى الجهاد فائدة للمجاهد ، والله غنىّ عن ذلك.

(٣) الحسنات يكفّرن السيئات.

(٤) الأمر بالإحسان إلى الوالدين وبرهما مع عدم طاعتهما فى الإشراك بالله.

(٥) حال المنافق الذي يظهر الإيمان ولا يحتمل الأذى فى سبيل الله.

(٦) حال الكافرين الذين يضلون غيرهم ، ويقولون للمؤمنين : نحن نحمل خطاياكم إن كنتم ضالين.

(٧) قصص الأنبياء : كنوح وإبراهيم ولوط وشعيب وصالح وموسى وهرون ، وبيان ما آل إليه أمر الأنبياء من النصر ، وأمر أممهم من الهلاك بضروب مختلفة من العقاب.

(٨) حجاج المشركين بضرب الأمثال لهم مما فيه تقريعهم وتأنيهم.

(٩) حجاج أهل الكتاب ، والنهى عن جدلهم بالفظاظة والغلظة.

(١٠) إثبات النبوة ببيان صدق معجزته صلى الله عليه وسلم.

(١١) ذكر بعض شبههم فى نبوته ، والرد على ذلك.

(١٢) استعجالهم بالعذاب تهكما.

(١٣) أمر المؤمنين بالفرار بدينهم من أرض يخافون فيها الفتنة.

(١٤) العاقبة الحسنى للذين يعملون الصالحات.

(١٥) اعترافهم بأن الخالق الرازق هو الله.

(١٦) بيان أن الدار الآخرة هى دار الحياة الحقة.

(١٧) امتنانه على قريش بسكناهم البيت الحرام ، ثم كفرانهم بهذه النعمة بإشراكهم به سواه.

٢٥

سورة الروم

هى مكية إلا قوله تعالى : «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ» فمدنية وآيها ستون ، نزلت بعد سورة الانشقاق.

ومناسبتها ما قبلها من وجوه :

(١) إن السورة السابقة بدئت بالجهاد وختمت به ، فافتتحت بأن الناس لم يخلقوا فى الأرض ليناموا على مهاد الراحة ، بل خلقوا ليجاهدوا حتى يلاقوا ربهم ، وأنهم يلاقون شتى المصاعب من الأهل والأمم التي يكونون فيها ، وهذه السورة قد بدئت بما يتضمن نصرة المؤمنين ودفع شماتة أعدائهم المشركين ، وهم يجاهدون فى الله ولوجهه فكأن هذه متممة لما قبلها من هذه الجهة.

(٢) إنّ ما فى هذه السورة من الحجج على التوحيد والنظر فى الآفاق والأنفس مفصل لما جاء منه مجملا فى السورة السالفة ، إذ قال فى السالفة : «فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ» إلخ ، وهنا بيّن ذلك ، فقال : «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ» إلخ ، وقال : «اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧))

٢٦

تفسير المفردات

الروم : أمة عظيمة من ولد روم بن عيص بن إسحق بن إبراهيم ، كذا قال النسابون من العرب ، أدنى الأرض : أي أقربها من الروم ، والأقربية بالنظر إلى أهل مكة الذين يساق إليهم الحديث ، والبضع : ما بين الثلاث إلى العشر ، وقال : المبرد ما بين العقدين فى جميع الأعداد ، ظاهر الحياة الدنيا : هو ما يشاهدونه من زخارفها ولذاتها الموافقة لشهواتهم التي تستدعى انهما كهم فيها وعكوفهم عليها.

المعنى الجملي

روى أن فارس غزوا الروم ، فوافوهم بأذرعات وبصرى من أرض الشام فغلبوا عليهم ، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو بمكة ، فشق ذلك عليهم ، من قبل أن الفرس مجوس ، والروم أهل كتاب ، وفرح المشركون بمكة وشمتوا ، ولقوا أصحاب النبي وهم فرحون ، وقالوا : إنكم أهل كتاب ، والنصارى أهل كتاب ، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب ، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم ، فأنزل الله هؤلاء الآيات ، فخرج أبو بكر رضى الله عنه إلى المشركين فقال : أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا؟ فلا تفرحوا ولا يقرّن الله أعينكم (لا يسرّنكم) فو الله لتظهرنّ الروم على فارس كما أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم فقام إليه أبىّ ابن خلف ؛ فقال : كذبت ، فقال : أنت أكذب يا عدو الله ، اجعل بيننا أجلا أنا حبك عليه (أراهنك) على عشر قلائص منى ، وعشر قلائص منك ، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت ، وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين ، فناحبه ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال عليه السلام : زايده فى الخطر وماده فى الأجل ، فخرج أبو بكر ، فلقى أبيا ، فقال : لعلك ندمت ، فقال : لا ، تعال أزايدك فى الخطر ، وأمادك فى الأجل فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين ، قال : قد فعلت ، فلما أراد أبو بكر الهجرة طلب منه أبى كفيلا بالخطر إن غلب ، فكفل به ابنه

٢٧

عبد الرحمن ، فلما أراد أبىّ الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بالكفيل فأعطاه كفيلا ، ومات أبىّ من جرح جرحه إياه النبي صلى الله عليه وسلم فى الموقعة وظهرت الروم على فارس لما دخلت السنة السابعة ، فأخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبىّ وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تصدق به (وقد كان هذا قبل تحريم القمار كما أخرجه ابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي ، لأن السورة مكية وتحريم الخمر والميسر بالمدينة).

الإيضاح

(الم) تقدم فى السورة قبلها ما فيه الكفاية من الكلام فى أمثال هذه الحروف فى أوائل السور ، وقد بينا هناك أنه ينطق بأسمائها فيقال (ألف. لام. ميم).

(غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) أي غلبت فارس الروم فى أقرب أرض الروم بالنسبة إلى بلاد العرب ، إذ الوقعة كانت بين الأردن وفلسطين ، والروم من بعد غلب فارس إياهم سيغلبون فارس فى بضع سنين ، وقد تحقق ذلك فغلبوهم بعد سبع من الوقعة الأولى.

ولا شك أن وقوعه على نحو ما قال الكتاب الكريم بعد من أكبر الدلائل على إعجازه ، وأنه كلام الله العليم بكل شىء لا كلام البشر.

(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي لله الأمر من قبل غلب دولة الروم على فارس ومن بعدها ، فمن غلب فهو بأمر الله وقضائه وقدره كما قال : «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» فهو يقضى فى خلقه بما يشاء ويحكم بما يريد ، ويظهر من شاء منهم على من أحب إظهاره عليه.

(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) أي ويوم تغلب الروم فارس يفرح المؤمنون بنصر الله وتغليبه من له كتاب على من لا كتاب له ، وغيظ من شمتوا من كفار مكة ، وأنه سيكون فألا حسنا لغلبة المؤمنين على الكافرين.

٢٨

ثم أكد قوله «لِلَّهِ الْأَمْرُ» بقوله :

(يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي ينصر من يشاء أن ينصره على عدوه ويغلّبه عليه على مقتضى السنن التي وضعها فى الخليقة ، وهو المنتقم ممن يستحقون الانتقام بالنصر عليهم ، الرحيم بعباده ، فلا يعاجلهم بالانتقام على ذنوبهم كما قال : «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى».

(وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي وعد الله وعدا بظهور الروم على فارس ، والله لا يخلف ما وعد ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك لجهلهم بشئونه تعالى وعدم تفكرهم فى النواميس والسنن التي وضعها فى الكون ، فإنه قد جعل من تلك السنن أن وعده لا يخلف إذ هو مبنى على مقدمات ووسائل هو يعلمها ، وقد رتب عليها تلك العدة التي وعدها ، وجعل قانون الغلب فى الأمم والأفراد مبنيا على الاستعداد النفسي والاستعداد الحربي ، فلا تغلب أمة أخرى إلا بما أعدت لها من وسائل الظفر بها ، وما كان لها من صفات تكفل لها هذا الظفر من أناة وصبر وتضحية بما تملك من عزيز لديها من مال ونفس.

وهكذا حكم الفرد فهو لا ينجح فى الحياة إلا إذا كان معه أسلحة يغالب بها عوامل الأيام حتى يغلبها بجدّه وكدّه ، فهذه الأمور وأمثالها تحتاج إلى دقة نظر لا يدركها إلا ذوو البصائر.

(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) كتدبير معايشهم ، وإحسان مساكنهم ، وتنمية متاجرهم ، وتصرفهم فى مزارعهم ، على النحو الذي يجعلها تزدهر وتفى بحاجة المجتمع (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) أي وهم غافلون عن أن النفوس لها بقاء بعد الموت وأنها ستلبس ثوبا آخر فى حياة أخرى ، وستنال إذ ذاك جزاء ما قدمت من خير أو شر ، ولو لم تكن النفوس تتوقع هذه الحياة لكانت آلام الدنيا ومتاعبها لا تطاق ولا تجد النفوس

٢٩

لاحتمالها سبيلا ، وهى ما قبلت تلك الآلام واحتملتها إلا لأنها توقن بسعادة أخرى وراء ما تقاسى من المناعب فى هذه الحياة ، ولله در القائل :

ومن البلية أن ترى لك صاحبا

فى صورة الرجل السميع المبصر

فطن بكل مصيبة فى ماله

وإذا يصاب بدينه لم يشعر

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠))

المعنى الجملي

لما أنكر المشركون الإله بإنكار وعده ، وأنكروا البعث كما قال وهم عن الآخرة هم غافلون ـ أردف هذا أن الأدلة متظاهرة فى الأنفس والآفات على وجوده وتفرده بخلقها ، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه ، وأنها لم تخلق سدى ولا باطلا ، بل خلقت بالحق ، وأنها مؤجلة إلى أجل مسمى هو يوم القيامة ، ثم أمرهم بالسير فى أقطار الأرض ليعلموا حال المكذبين من الأمم قبلهم ، وقد كانوا أشد منهم بأسا وقوة ، فكذبوا رسلهم فأهلكهم الله وصاروا كأمس الدابر والمثل الغابر ، وما كان ذلك إلا بظلمهم وفساد أنفسهم لا بظلم الله لهم.

٣٠

الإيضاح

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى؟) أي أو لم يتفكر هؤلاء المكذبون بالبعث من قومك فى خلق الله لهم ولم يكونوا شيئا ، ثم تصريفهم أحوالا وتارات حتى صاروا كاملى الخلق كاملى العقل فيعلموا أن الذي فعل ذلك قادر أن يعيدهم بعد فنائهم خلقا جديدا ، ثم يجازى المحسن منهم بإحسانه ، والمسيء منهم بإساءته ، لا يظلم أحدا منهم فيعاقبه بدون حرم صدر منه ، ولا يحرم أحدا منهم جزاء عمله ، لأنه العدل الذي لا يجور ، فهو ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالعدل ، وإقامة الحق إلى أجل مؤقت مسمى ، فإذا حل الأجل أفنى ذلك كله ، وبدل الأرض غير الأرض ، وبرزوا للحساب جميعا.

ثم ذكر أن كثيرا من الناس غفلوا عن الآخرة وما فيها من حساب وجزاء فقال :

(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) لأنهم لم يتفكروا فى أنفسهم ، ولو تفكروا فيها ودرسوا عجائبها لأيقنوا بلقاء ربهم ، وأن معادهم إليه بعد فنائهم.

ثم نبههم لى صدق رسله فيما جاءوا به عنه ، بما أيدهم به من المعجزات والدلائل الواضحة ، من إهلاك من جحد نبوتهم ، ونجاة من صدقهم فقال :

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها ، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي أو لم يسر هؤلاء المكذبون بالله ، الغافلون عن الآخرة ، فى البلاد التي يسلكونها تجرا ، فينظروا إلى آثار الله فيمن كان قبلهم من الأمم المكذبة ، كيف كان عاقبة أمرهم فى تكذيبهم رسلهم ، وقد كانوا أشد منهم قوة ، وحرثوا الأرض وعمروها أكثر مما عمر هؤلاء ثم أهلكهم الله بكفرهم وتكذيبهم رسله ، وما كان الله بظالم لهم ، بعقابه إياهم على تكذيبهم رسله وجحودهم آياته ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بمعصيتهم ربهم.

٣١

والخلاصة ـ إنه قد كان لكم فيمن قبلكم من الأمم معتبر ومزدجر ، فقد كانوا أكثر منكم أموالا وأولادا ، ومكّنوا فى الدنيا تمكينا لم تبلغوا معشاره ، وعمّروا فيها أعمارا طوالا واستغلوها أكثر من استغلالكم ، ولما جاءتهم الرسل بالبينات كذبوهم وفرحوا بما أوتوا فأخذوا بذنوبهم ولم تغن عنهم أموالهم شيئا ، ولم تحل بينهم وبين بأس الله ثم أكد ما سلف بقوله :

(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ثم كان العذاب عاقبتهم ، أما فى الدنيا فلهم البوار والهلاك ، وأما فى الآخرة فالنار لا يخرجون منها ولا هم يستعتمون ، وما ذاك إلا لأن كذبوا بحجج الله وآياته ، وهم أنبياؤه ورسله ، وسخروا منهم عنتا وكبرا.

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦))

تفسير المفردات

يبلس المجرمون : أي يسكتون وتنقطع حجتهم ، الروضة : الأرض ذات النبات والماء ؛ ويقال أراض الوادي واستراض إذا كثر ماؤه ، وأرض القوم : أرواهم بعض الرّىّ ، يحبرون : يسرون ، يقال حبره يحبره (بالضم) حبرا وحبورا : إذا سره سرور لتهلل له

٣٢

وجهه ، وظهر فيه أثره ، وفى المثل : امتلأت بيوتهم حبرة ، فهم ينتظرون العبرة ، محضرون : أي مدخلون فيه لا يغيبون عنه.

المعنى الجملي

بعد أن بين أن عاقبة المجرمين النار ، وكان ذلك يستلزم الإعادة والحشر لم يتركه دعوى بلا بينة ، بل أقام عليه الدليل بأن أبان أن من خلق الخلق بقدرته وإرادته لا يعجز عن رجعته ، ثم بين ما يكون حين الرجوع من إفلاس المجرمين وتحقق بأسهم وحيرتهم ، إذ لا تنفعهم شركاؤهم ، بل هم يكفرون بهم ، ثم ذكر أن الناس حينئذ فريقان : فريق فى الجنة وفريق فى السعير ، فالأولون يمتعون بسرور وحبور ، والآخرون يصلون النار دأبا لا يغيبون عنها أبدا.

الإيضاح

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي الله ينشىء جميع الخلق بقدرته ، وهو منفرد بإنشائه من غير شريك ولا ظهير ، ثم يعيده خلقا جديدا بعد إفنائه وإعدامه كما بدأه خلقا سويا ولم يك شيئا ، ثم إليه يردّون فيحشرون لفصل القضاء بينهم ، فيجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى.

ثم بين ما سيحدث فى هذا اليوم من الأهوال للأشقياء ، والنعيم والحبور للسعداء ، فقال :

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) أي ويوم تجىء الساعة التي فيها يفصل الله بين خلقه بعد نشرهم من قبورهم وحشرهم إلى موقف الحساب ـ يسكت الذين أشركوا بالله واجترحوا فى الدنيا مساوى الأعمال ، إذ لا يجدون حجة يدفعون بها عن أنفسهم ما يحل بهم من النكال والوبال.

ولما كان الساكت قد يغنيه غيره عن الكلام نفى ذلك بقوله :

٣٣

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ) أي ولم يكن لهؤلاء المجرمين من شركائهم الذين كانوا يتبعونهم على ما دعوهم إليه من الضلالة ـ شفعاء يستنقذونهم من عذاب الله ، وإذ ذاك يستبين لهم جهلهم وخطؤهم إذ قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله.

ولما ذكر سبحانه حال الشفعاء معهم ذكر حالهم مع الشفعاء بقوله :

(وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) أي وجحدوا ولاية الشركاء وتبرءوا منهم كما جاء فى آية أخرى : «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ. وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا».

ثم بين بعدئذ أن الله يميز الخبيثين من الطيبين فقال :

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) أي ويوم تجىء الساعة التي يحشر فيها الخلق إلى الله يتفرق أهل الإيمان بالله وأهل الكفر به ؛ فأما أهل الإيمان به فيؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة ، وأما أهل الكفر فيؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ، قال قتادة : فرقة والله لا اجتماع بعدها.

ثم بين كيف يكون كل من الفريقين فقال :

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) أي فأما الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا بما أمرهم الله به وانتهوا عما نهاهم عنه ، فهم فى رياض الجنات يمرحون ، وبألوان الزّهر والسندس الأخضر يتمتعون ، ويتلذذون بالسماع والعيش الطيب الهنى.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) أي وأما الذين جحدوا توحيد الله وكذبوا رسله وأنكروا البعث بعد الممات والنشور للدار الآخرة ، فأولئك فى عذاب الله محضرون لا يغيبون عنه أبدا.

٣٤

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩))

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه حالى الفريقين المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، والكافرين المكذبين بالآيات ، وما أعدّ لكل منهما من الثواب والعقاب ـ أرشد إلى ما يفضى إلى الحال الأولى وينجى من الثانية ، وهو تنزيه الله عز وجل عن كل ما لا يليق به ، وحمده ، والثناء عليه بما هو أهل له من صفات الجلال والكمال.

ولما كان الإنسان حين الإصباح يخرج من حال النوم التي هى أشبه بالموت منها إلى اليقظة ، وكأنها حياة بعد موت ـ أتبع ذلك بذكر الموت والحياة حقيقة.

الإيضاح

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) أي نزّهوا الله سبحانه فى وقت المساء حين إقبال الليل وظلامه ، وحين الصباح حين إسفار النهار بضيائه.

(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي والله هو المحمود من جميع خلقه فى السموات من سكانها من الملائكة ، وفى الأرض من أهلها من أصناف خلقه فيها.

(وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) أي ونزهوه وقت العشى حين اشتداد الظلام ، ووقت الظهيرة حين اشتداد الضياء كما قال : «وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها. وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها» ، وقال : «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى. وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى».

وتخصيص هذه الأوقات من بين سائرها لما فيها من التبدل الظاهر فى أجزاء الزمن ، والانتقال من حال إلى أخرى على صورة واضحة ، كالانتقال من الضياء إلى الظلام

٣٥

فى المساء ، ومن الظلام إلى النور فى الإصباح ، ومن ضياء تام وقت الظهيرة إلى اضمحلال لذلك الضياء وقت العشى ، وهكذا.

ثم بين صفات ذلك الإله المستحق للثناء والتقديس ، فقال :

(١) (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) فهو القادر على خلق الأشياء المتقابلة بعضها من بعض ، فيخرج الإنسان والطائر من النطفة والبيضة ، كما يفعل ضد هذا ، فيخرج النطفة والبيضة من الإنسان والطائر ، وفى هذا دلالة على كمال قدرته ، وبديع صنعه ، وكون البيضة والنطفة كائن حى لا تعرفه العرب ولا تعترف به.

(٢) (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي ويحيى الأرض بالمطر ، فتخرج النبات الغض بعد أن كانت صعيدا جرزا.

ونحو الآية قوله : «وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ» وقوله : «وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ».

(٣) (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي وكما سهل حركة النائم الساكن بالانتباه ، وإنماء الأرض بإنباتها بعد موتها ـ يسهل عليه إحياء الميت وإخراجه من قبره لفصل القضاء.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)).

٣٦

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه بتنزيهه عن الأسواء والنقائص التي لا تليق بجلاله وكماله ، ذكر أن الحمد له على خلقه جميع الموجودات ، وبين قدرته على الإماتة والإحياء بقوله : (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) ، ذكر هنا أدلة باهرة ، وحججا ظاهرة على البعث والإعادة ، ومنها : خلقكم من التراب الذي لم يشمّ رائحة الحياة ، ولا مناسبة بينه وبين ما أنتم عليه فى ذاتكم وصفاتكم ، ثم إبقاء نوعكم بالتوالد ، فإذا مات الأب فام ابنه مقامه ، لتبقى سلسلة الحياة متصلة بهذا النوع وبسائر الأنواع الأخرى بالازدواج والتوالد إلى الأجل الذي قدره الله لأمد هذه الحياة.

الإيضاح

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) أي ومن حججه الدالة على أنه القادر على ما يشاء من إنشاء وإفناء ، وإيجاد وإعدام : أن خلقكم من تراب بتغذيتكم إما بلحوم الحيوان وألبانها وأسمانها ، وإما من النّبات ؛ والحيوان غذاؤه النبات ، والنبات من التراب ، فإن النواة لا تصير شجرة إلا بالتراب الذي ينضم إليه أجزاء مائية تجعلها صالحا للتغذية ، ثم بعد إخراجكم منه إذا أنتم بشر تنتشرون فى الأرض. تتصرفون فيها فى أغراضكم المختلفة ، وأسفاركم البعيدة ، تكدحون وتجدّون لتحصيل أرزاقكم من فيض ربكم ، وواسع نعمه عليكم.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) أي ومن آياته الدالة على البعث والإعادة : أن خلق لكم أزواجا من جنسكم لتأنسوا بها ، وجعل بينكم المودة والرحمة لتدوم الحياة المنزلية على أتم نظام.

ونحو الآية قوله : «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها».

٣٧

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي إن فيما سلف من خلقكم من تراب ، وخلق أزواجكم من أنفسكم ، وإبقاء المودة والرحمة ـ لعبرة لمن تأمل فى تضاعيف تلك الأفعال المبنية على الحكم والمصالح ، فهى لم تخلق عبثا ، بل خلقت لأغراض شتى ، تحتاج إلى الفكر حتى يصل إلى معرفتها ذوو الذّكن والعقل الراجح.

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر دلائل وجوده بما ذكره فى خلق الإنسان ـ أعقبه بذكر الدلائل فى الأكوان المشاهدة ، والعوالم المختلفة ، وفى اختلاف ألوان البشر ولغاتهم التي لا حصر لها ، مع كونهم من أب واحد وأصل واحد ، وفيما يشاهد من سباتهم العميق ليلا ، وحركتهم السريعة نهارا ، فى السعى على الأرزاق ، والجدّ والكد فيها.

الإيضاح

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ومن دلائل وجوده وآيات قدرته :

خلقه السموات المزدانة بالكواكب ، والنجوم الثوابت والسيارة المرتفعة السموك الواسعة الأرجاء ، وخلق الأرض ذات الجبال والوديان ، والبحار والقفار ، والحيوان والأشجار.

(وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) أي واختلاف لغاتكم اختلافا لا حدّ له ، فمن عربية إلى فرنسية ، إلى إنجليزية ، إلى هندية ، إلى صينية ، إلى نحو ذلك مما لا يعلم حصره إلا خالق اللغات ، واختلاف أنواعكم وأشكالكم اختلافا به أمكن التمييز بين الأشخاص فى الأصوات والألوان ، وهذا مما لا غنى عنه فى منازع الحياة ومختلف

٣٨

أغراضها ، فكثيرا ما تميز الأشخاص بالأصوات ، وبذا نعرف الصديق من العدو ، فنتخذ ما يلزم من العدّة لكل منهما ، كما نميزها بلغاتها ، فنعرف من أي الأجناس هى.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) أي إن فيما ذكر لدلائل لائحة لأولى العلم الذين يفكرون فيما خلق الله ، فيعلمون أنه لم يخلق الخلق عبثا ، بل خلقه لحكمة بالغة فيها عبرة لمن تذكر.

(وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي ومن علامات قدرته نومكم بالليل واستقراركم فيه ، حتى لا تكون حركة ولا حس ، وسعيكم للأرزاق نهارا بمزاولة أسباب المعاش ووسائله.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي إن فى فعل الله ذلك لعبرا وأدلة لمن يسمعون مواعظه فيتعظون بها ، ويفهمون حججه عليهم ، على أن صانع ذلك لا يعجزه بعث العالم وإعادته.

(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر ما يعرض للأنفس من الأوصاف ـ ذكر ما يعرض للأكوان والآفاق ونشاهده رأى العين الفينة بعد الفينة ، مما فيه العبرة لمن ادّكر ، ونظر فى العوالم نظرة متأمل معتبر فى بدائع الأكوان ، ليتوصّل إلى معرفة مدبرها وخالقها الذي أحسن كل شىء خلقه ثم هدى.

٣٩

الإيضاح

(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي ومن آياته الدالة على عظيم قدرته أنه يريكم البرق ، فتخافون مما فيه من الصواعق ، وتطمعون فيما يجلبه من المطر الذي ينزل من السماء ، فيحيى الأرض الميتة التي لا زرع فيها ولا شجر.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي إن فى ذلك الذي سلف ذكره لبرهانا قاطعا ، ودليلا ساطعا ، على البعث والنشور ، وقيام الساعة ، فإن أرضا هامدة لا نبات فيها ولا شجر يجيئها الماء فتهتز وتربو ، وتنبت من كل زوج بهيج : لهى المثال الواضح ، والدليل اللائح ، على قدرة من أحياها على إحياء العالم بعد موته ، حين يقوم الناس لرب العالمين.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) أي ومن الحجج الدالة على قدرته على ما يشاء قيام السماء والأرض بلا عمد ، بل بإقامته وتدبيره ؛ فالأرض تجرى ، والسحاب يجرى حولها ، والهواء تبع لها ، وهى والقمر والسيارات يجرين حول الشمس ، والشمس ولواحقها يجرين حول كواكب أخرى ، لا نعلم عنها إلا هذه الآثار العلمية الضئيلة.

وقصارى ذلك : إلى إمساك هذه العوالم ، وإقامتها وتدبيرها وإحكامها من الآيات التي ترشد إلى إله مدبر لها.

(ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) أي ولا يزال الأمر هكذا حتى ينتهى أجل الدنيا ، ويختل نظام العالم ، فتبدل الأرض غير الأرض ، وتدك الجبال دكا ، وحينئذ تخرجون من قبوركم سراعا حينما يدعوكم الداعي.

ونحو الآية قوله : «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً» وقوله : «فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» وقوله : «إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً. فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ».

٤٠