تفسير المراغي - ج ٢١

أحمد مصطفى المراغي

(قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي قل لهم : إذا حل بكم بأس الله وسخطه فى الدنيا وفى الآخرة لا ينفعكم إيمانكم الذي تحدثونه فى هذا اليوم ، ولا تؤخّرون للتوبة والمراجعة.

والخلاصة : لا تستعجلوه ولا تستهزئوا ، فكأنى بكم وقد حل ذلك اليوم وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان ، واستنظرتم حلول العذاب ، فلم تنظروا.

ثم ختم السورة بأمر رسوله بالإعراض عنهم ، وانتظار الفتح بينه وبينهم ، فقال :

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) أي فأعرض عن هؤلاء المشركين ، ولا تبال بهم ، وبلّغ ما أنزل إليك من ربك ، وانتظر ما الله صانع بهم ، فإنه سينجزك ما وعد ، وسينصرك على من خالفك ، إنه لا يخلف الميعاد ، وهم منتظرون يتربصون بكم الدوائر كما قال «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ».

وسترى عاقبة صبرك عليهم ، وعلى أداء رسالة ربك ، بنصرك وتأييدك ، وسيجدون نحب ما ينتظرون فيك ، وفى أصحابك من وبيل عقاب الله لهم ، وحلول عذابه بهم.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

١٢١

مجمل ما اشتملت عليه السورة الكريمة من الموضوعات

(١) إثبات رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيان أن مشركى العرب لم يأتهم رسول من قبله.

(٢) إثبات وحدانية الله ، وأنه المتصرف فى الكون ، المدبر له على أتم نظام وأحكم وجه.

(٣) إثبات البعث والنشور ، وبيان أنه يكون فى يوم كألف سنة مما تعدون.

(٤) تفصيل خلق الإنسان فى النشأة الأولى ، وبيان الأطوار التي مرت به ، حتى صار بشرا سويا.

(٥) وصف الذلة التي يكون عليها المجرمون يوم القيامة ، وطلبهم الرجوع إلى الدنيا لإصلاح أحوالهم ، ورفض ما طلبوا لعدم استعدادهم للخير والفلاح.

(٦) تفصيل أحوال المؤمنين فى الدنيا ، وذكر ما أعده الله لهم من النعيم ، والثواب العظيم فى الآخرة.

(٧) استعجال الكفار لمجئ يوم القيامة استبعادا منهم لحصوله.

١٢٢

سورة الأحزاب

هى مدنية نزلت بعد آل عمران.

وآيها ثلاث وسبعون.

ووجه اتصالها بما قبلها تشابه مطلع هذه وخاتمة السالفة ، فإن تلك ختمت بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن الكافرين ، وانتظار عذابهم ، وهذه بدئت بأمره عليه الصلاة والسلام بالتقوى ، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين واتباع ما أوحى إليه من ربه مع التوكل عليه.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣)).

تفسير المفردات

قال طلق بن حبيب : التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله ، وتوكل على الله : أي فوّض أمورك إليه ، الوكيل : الحافظ للأمور.

المعنى الجملي

أخرج ابن جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : إن أهل مكة ، ومنهم الوليد بن المغيرة ، وشيبة بن ربيعة دعوا النبي صلى الله عليه وسلم أن

١٢٣

يرجع عن قوله : على أن يعطوه شطر أموالهم ، وخوّفه المنافقون واليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه ، فنزلت الآيات.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) أي يا أيها النبي خف الله بطاعته ، وأداء فرائضه ، وواجب حقوقه عليك ، وترك محارمه ، وانتهاك حدوده.

والخلاصة : يا أيها المخبر عنا ، المأمون على وحينا ، اثبت على تقوى الله ، ودم عليها.

ولما وجّه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم الأمر بتقوى الولىّ الودود ـ أتبعه بالنهى عن الالتفات نحو العدو الحسود ، فقال :

(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) أي ولا تطع الكافرين الذين يقولون لك : اطرد عنا أتباعك من ضعفاء المؤمنين ، حتى نجالسك ، والمنافقين الذين يظهرون لك الإيمان والنصيحة ، وهم لا يألونك وأصحابك إلا خبالا ، فلا تقبل لهم رأيا ، ولا تستشرهم مستنصحا بهم ، فإنهم أعداؤك ، ويودون هلاكك ، وإطفاء نور دينك.

روى أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تابعه ناس من اليهود نفاقا وكان يلين لهم جانبه ، ويظهرون له النصح خداعا ؛ فحذره الله منهم ، ونبهه الى عداوتهم.

ثم علل ما تقدم بقوله :

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أي إن الله عليم بما تضمره نفوسهم ، وما الذي يقصدونه من إظهار النصيحة ، وبالذي تنطوى عليه جوانحهم ، حكيم فى تدبير أمرك ، وأمر أصحابك ، وسائر شئون خلقه ، فهو أحق أن تتبع أوامره وتطاع.

والخلاصة : إنه تعالى هو العليم بعواقب الأمور ، الحكيم فى أقواله وأفعاله ، وتدبير شئون خلقه.

١٢٤

ثم أكد وجوب الامتثال بأن الآمر لك هو مرّ بيك فى نعمه ، الغامر لك بإحسانه ، فهو الجدير أن يتّبع أمره ، ويجتنب نهيه ، فقال :

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي واعمل بما ينزله عليك ربك من وحيه ، وآي كتابه.

ثم علل ذلك بما يرغّبه فى اتباع الوحى ، وبما ينأى به عن طاعة الكافرين والمنافقين ، فقال :

(إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي إن الله خبير بما تعمل أنت وأصحابك ، لا يخفى عليه شىء منه ، ثم يجازيكم على ذلك بما وعدكم به من الجزاء.

ثم أمر رسوله بتفويض أموره إليه وحده ، فقال :

(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي وفوض أمورك إليه وحده ، واعتمد عليه فى شئونك.

(وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي وكفى به حافظا ، يوكل إليه جميع الشئون ، فلا تلتفت فى شىء من أمرك إلى غيره.

والخلاصة : حسبك الله ، فإنه إن أراد لك نفعا لم يدفعه عنك أحد ، وإن أراد ضرا لم يمنعه منك أحد.

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥)).

١٢٥

تفسير المفردات

جعل : أي خلق ، ويقال : ظاهر الرجل من زوجته إذا قال لها : أنت علىّ كظهر أمي ، يريدون أنت محرمة علىّ كما تحرم الأم ، وكانوا فى الجاهلية يجرون على المظاهر منها حكم الأم ، والأدعياء : واحدهم دعىّ ، وهو الذي تدّعى بنوته ، وقد كانت تجرى عليه أحكام الابن فى الجاهلية وصدر الإسلام ، السبيل : أي طريق الحق ، أقسط : أي أعدل ، ومواليكم : أي أولياؤكم فيه.

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه نبيه بتقواه ، والخوف منه ، وحذّره من طاعة الكفار والمنافقين ، والخوف منهم ـ ضرب لنا الأمثال ليبين أنه لا يجتمع خوف من الله وخوف من سواه ، فذكر أنه ليس للإنسان قلبان حتى يطيع بأحدهما ويعصى بالآخر ، وإذا لم يكن للمرء إلا قلب واحد ، فمتى اتجه لأحد الشيئين صدّ عن الآخر ، فطاعة الله تصدّ عن طاعة سواه ، وأنه لا تجتمع الزوجية والأمومة فى امرأة ، والبنوة الحقيقية والتبني فى إنسان.

روى الشيخان والترمذي والنسائي فى جماعة آخرين عن ابن عمر رضى الله عنهما «أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) الآية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنت زيد ابن حارثة بن شراحيل.

وكان من خبره أنه سبى من قبيلته كلب وهو صغير ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له ، ثم طلبه أبوه وعمه ؛ فخيّر بين أن يبقى مع رسول الله ، وأن يذهب مع أبيه ، فاختار البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعتقه وتبناه ، وكانوا يقولون زيد بن محمد ؛ فلما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ، وكانت زوجا لزيد وطلقها ؛ قال المنافقون : تزوج محمد امرأة ابنه ،

١٢٦

وهو بنهي عن ذلك ، فنزلت الآية لنفى أن يكون للمتبنّى حكم الابن حقيقة فى جميع الأحكام التي تعطى للابن.

الإيضاح

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) كان أهل مكة يقولون : إن معمرا الفهرىّ له قلبان لقوة حفظه ، وروى أنه كان يقول : إن لى قلبين أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد ، وكانت العرب تزعم أن كل أريب له قلبان ، فأكذب الله فى هذه الآية قوله وقولهم :

(وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) أي ولم يجعل الله لكم أيها الرجال نساءكم اللائي تقولون لهن : أنتنّ علينا كظهور أمهاتنا ـ أمهاتكم ، بل جعل ذلك من قبلكم كذبا وألزمكم عقوبة.

وقد كان الرجل فى الجاهلية متى قال هذه المقالة لامرأته صارت حراما عليه حرمة مؤيدة ، فجاء الإسلام ومنع هذا التأييد ، وجعل الحرمة مؤقتة ، حتى يؤدى كفّارة (غرامة) لانتهاكه حرمة الدين ، إذ حرم ما أحل الله.

(وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) أي ولم يجعل الله من ادعى أحدكم أنه ابنه ، وهو ابن غيره ـ ابنا له بدعواه فحسب.

وفى هذا إبطال لما كان فى الجاهلية وصدر الإسلام من أنه : إذا تبنى الرجل ابن غيره أجريت عليه أحكام الابن النسبي ، وقد تبنىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة زيد بن حارثة ، والخطّاب عامر بن ربيعة وأبو حذيفة سالما.

ثم أكد ما سبق بقوله :

(ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) أي هذا الذي تقدم من قول الرجل لامرأته : أنت علىّ كظهر أمي ، ودعاء من ليس بابنه أنه ابنه إنما هو قولكم بأفواهكم ، لا حقيقة له ، فلا تصير الزوجة أمّا ، ولا يثبت بهذا الدعاء دعوى النسب.

١٢٧

(وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أي والله هو الصادق ، الذي يقول الحق وبقوله يثبت نسب من أثبت نسبه ، وبه تكون المرأة أمّا إذا حكم بذلك ، وهو يبين لعباده سبيل الحق ، ويهديهم إلى طريق الرشاد ، فدعوا قولكم ، وخذوا بقوله عز اسمه.

وخلاصة ما سلف :

(١) إنه لم ير فى حكمته أن يجعل للإنسان قلبين ، لأنه إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر ، فأحدهما يكون نافلة غير محتاج إليه ، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك ، وهذا يؤدى إلى التناقض فى أعمال الإنسان ، فيكون مريدا للشىء كارها له ، وظانا له موقنا به فى حال واحدة ، وهذا لن يكون.

(٢) إنه لم ير أن تكون المرأة أما لرجل وزوجا له ، لأن الأم مخدومة ، مخفوض لها الجناح ، والمرأة مستخدمة فى المصالح الزوجية على وجوه شتى.

(٣) لم يشأ فى حكمته أن يكون الرجل الواحد دعيّا لرجل وابنا له ، لأن البنوة نسب أصيل عريق ، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير ، ولا يجتمع فى الشيء الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل.

ولما ذكر أنه يقول الحق فصل هذا الحق بقوله :

(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) أي انسبوا أدعياءكم الذين ألحقتم أنسابهم بكم ـ لآبائهم ، فقولوا : زيد بن حارثة ، ولا تقولوا زيد بن محمد ، فذلك أعدل فى حكم الله وأصوب من دعائكم إياهم لغير آبائهم.

(فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) أي فإن أنتم أيها الناس لم تعرفوا آباء أدعيائكم من هم؟ حتى تنسبوهم إليهم ، وتلحقوهم بهم ؛ فهم إخوانكم فى الدين إن كانوا قد دخلوا فى دينكم ومواليكم إن كانوا محرّرين أي قولوا : هو مولى فلان ، ولهذا قيل لسالم بعد نزول الآية : مولى حذيفة ، وكان قد تبناه من قبل.

١٢٨

(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) أي ولا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين قبل النهى أو بعده نسيانا أو سبق لسان.

(وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) ولكن الجناح والإثم عليكم فيما فعلتموه عامدين.

وخلاصة ما سلف : إنه لا إثم عليكم إذا نسبتم الولد لغير أبيه خطأ غير مقصود ، كأن سهوتم أو سبق لسانكم بما تقولون ، ولكن الإثم عليكم إذا قلتم ذلك متعمدين.

أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه قال فى الآية : «لو دعوت رجلا لغير أبيه ، وأنت ترى أنه أبوه لم يكن عليك بأس ، ولكن ما تعمدت وقصدت دعاءه لغير أبيه».

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان الله ستارا لذنب من ظاهر من زوجته ، وقال الزور والباطل من القول ، وذنب من ادعى ولد غيره ابنا له إذا تابا ورجعا إلى أمر الله وأنتهيا عن قيل الباطل بعد أن نهاهما ؛ رحيما بهما فلا يعاقبهما على ذلك بعد توبتهما.

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦)).

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه فيما سلف : أن الدعىّ ليس ابنا لمن تبناه ، فمحمد صلى الله عليه وسلم ليس أبا لزيد بن حارثة ، ثم أعقب ذلك بالإرشاد إلى أن المؤمن أخو المؤمن فى الدين ، فلا مانع أن يقول إنسان لآخر : أنت أخى فى الدين ـ أردف ذلك بيان أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس أبا لواحد من أمته ، بل أبوته عامة ، وأزواجه أمهاتهم وأبوته أشرف من أبوة النسب ؛ لأن بها الحياة الحقيقية ، وهذه بها الحياة الفانية ، بل

١٢٩

هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فإذا حضهم على الجهاد ونحوه ، فذلك لارتقائهم الروحي ، فإذا كيف يستأذن الناس آباءهم وأمهاتهم حين أمرهم صلى الله عليه وسلم بغزوة تبوك ، وهو أشفق عليهم من الآباء ، بل من أنفسهم.

روى البخاري عن أبى هريرة قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به فى الدنيا والآخرة ، اقرءوا إن شئتم (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فأيّما مؤمن ترك مالا ، فلترثه عصبته من كانوا ، ومن ترك دينا أو ضياعا (عيالا) فليأتنى ، فأنا مولاه».

وفى الصحيح أن عمر رضى الله عنه قال : «يا رسول الله ، والله لأنت أحب إلىّ من كل شىء إلا من نفسى ، فقال صلى الله عليه وسلم : لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك ، فقال : يا رسول الله ، والله لأنت أحب إلىّ من كل شىء ، حتى من نفسى ، فقال صلى الله عليه وسلم : الآن يا عمر».

الإيضاح

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي النبي أشد ولاية ونصرة لهم من أنفسهم ، فإنه عليه الصلاة والسلام لا يأمرهم إلا بما فيه خيرهم وصلاحهم ، ولا ينهاهم إلا عما يضرهم ويؤذيهم فى دنياهم وآخرتهم ، أما النفس فإنّها أمارة بالسوء ، وقد تجهل بعض المصالح ، وتخفى عليها بعض المنافع.

ومما يلزم هذا أن يكون حكمه نافذا فيهم ، مقدّما على ما يختارونه لأنفسهم ، كما قال : «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً».

وخلاصة ذلك : إنه تعالى علم شفقة رسوله صلى الله عليه وسلم على أمته ، وشدة نصحه لهم ، فجعله أولى بهم من أنفسهم.

(وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أي هن منزلات منزلة الأمهات فى الحرمة والاحترام ،

١٣٠

والتوقير والإكرام ، وفيما عدا ذلك هن كالأجنبيات ، فلا يحل النظر إليهن ، ولا إرثهن ولا نحو ذلك.

وكان التوارث فى بدء الإسلام بالحلف والمؤاخاة بين المسلمين ، فكان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوى رحمه للأخوّة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حين الهجرة ، فقد آخى بين أبى بكر رضى الله عنه ، وخارجة بن زيد ، وآخى بين عمر وشخص آخر ، وآخى بين الزبير وكعب بن مالك ، فغيّر الله الحكم بقوله :

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) أي وأولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الدين ، وحق المهاجرين بحق الهجرة فيما كتبه الله وفرضه على عباده.

والخلاصة : إن هذه الآية أرجعت الأمور إلى نصابها ، وأبطلت حكما شرع لضرورة عارضة فى بدء الإسلام ، وهو الإرث بالتآخى فى الدين ، والتآخى حين الهجرة بين المهاجرين والأنصار حين كان المهاجرىّ يرث الأنصارىّ دون قرابته وذوى رحمه.

ثم استثنى من ذلك الوصية ، فقال :

(إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) الأولياء هنا المؤمنون والمهاجرون والمعروف الوصية أي إلا أن توصوا لهؤلاء بوصية ، فهم أحق بها من القريب الوارث.

ثم بين أن هذا الحكم هو الأصل فى الإرث ، وهو الحكم الثابت فى كتابه الذي لا يغيّر ولا يبدل ، فقال :

(كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي إن هذا الحكم ، وهو أن أولى الأرحام بعضهم أولى ببعض ـ حكم من الله مقدر مكتوب فى الكتاب الذي لا يبدل ولا يغير ، وإن كان قد شرع غيره فى وقت ما لمصلحة عارضة ، وحكمة بالغة ، وهو يعلم أنه سيغيره إلى ما هو جار فى قدره الأزلى ، وقضائه التشريعي.

١٣١

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨)).

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه فيما سلف أحكاما شرعها لعباده ، وكان فيها أشياء مما كان فى الجاهلية ، وأشياء مما كان فى الإسلام ، ثم أبطلت ونسخت ـ أتبع ذلك بذكر ما فيه حث على التبليغ ، فذكر أخذ العهد على النبيين أن يبلّغوا رسالات ربهم ، ولا سيما أولو العزم منهم ، وهم الخمسة المذكورون فى الآية ، كما ذكر فى آية أخرى سؤال الله أنبياءه عن تصديق أقوامهم له ، ليكون فى ذلك تبكيت للمكذبين من الكفار ، فقال : «يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ».

الإيضاح

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي واذكر أيها الرسول العهد والميثاق الذي أخذه الله على أولى العزم الخمسة بقية الأنبياء ليقيمنّ دينه ، ويبلغنّ رسالته ، ويتناصرنّ كما قال فى آية أخرى : «وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ، قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟ قالُوا أَقْرَرْنا. قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ».

(وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) بسؤالهم عما فعلوا حين الإرسال كما قال : «وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ».

وقد جرت العادة أن الملك إذا أرسل رسولا ، وأمره بشىء وقبله كان ذلك ميثاقا

١٣٢

عليه ، فإذا أعلمه بأنه سيسأله عما يقول ويفعل كان ذلك تغليظا للميثاق ، حتى لا يزيد ولا ينقص فى الرسالة.

ثم بين علة أخذ الميثاق على النبيين ، فقال :

(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) أي وأخذنا من هؤلاء الأنبياء ميثاقهم كيما أسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم ، وما فعل أقوامهم فيما أبلغوهم عن ربهم من الرسالة.

(وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) أي ليسأل الصادقين عن صدقهم ، وأعدّ لهم ثوابا عظيما ، ويسأل الكاذبين عن كذبهم ، وأعدّ لهم عذابا أليما.

غزوة الأحزاب ـ وقعة الخندق

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ

١٣٣

مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا

١٣٤

خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧)).

تفسير المفردات

المراد بالجنود هنا : الأحزاب ، وهم قريش يقودهم أبو سفيان ، وبنو أسد يقودهم طليحة ، وغطفان يقودهم عيينة بن حصن ، وبنو عامر يقودهم عامر بن الطّفيل ، وبنو سليم يقودهم أبو الأعور السّلمى ، وبنو النّضير من اليهود ، ورؤساؤهم حيىّ ابن أخطب ، وأبناء أبى الحقيق ، وبنو قريظة من اليهود أيضا سيدهم كعب بن أسد ، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنبذه كعب بسعى حيىّ ، وكان مجموع جيوش الأعداء عشرة آلاف أو نحو ذلك ، والجنود التي لم تروها : هى الملائكة من فوقكم : أي من أعلى الوادي من جهة المشرق ، وكانوا بنى غطفان ، ومن أسفل منكم : أي من أسفل الوادي من قبل المغرب ، وكانوا قريشا ومن شايعهم ، وبنى كنانة وأهل تهامة ، زاغت الأبصار : أي انحرفت عن مستوى نظرها حيرة ودهشة ، وبلغت القلوب الحناجر : يراد به فزعت فزعا شديدا ، ابتلى المؤمنون : أي اختبروا وامتحنوا ، وزلزلوا زلزالا شديدا : أي اضطربوا اضطرابا شديدا من الفزع وكثرة العدوّ ، والذين فى قلوبهم مرض : قوم كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشّبه عليهم لقرب عهدهم بالإسلام ، إلا غرورا : أي إلا وعد غرور لا حقيقة له ؛ يثرب : من أسماء المدينة ، لا مقام لكم : أي لا ينبغى لكم الإنامة هاهنا ، عورة : أي ذات عورة لأنها خالية من الرجال فيخاف عليها سرق السّرّاق ، والأقطار : واحدها قطر وهو الناحية والجانب ، والفتنة :

١٣٥

الردة ومقاتلة المؤمنين ، آتوها : أي أعطوها ، وما تلبثوا بها : أي وما أقاموا بالمدينة ، يعصمكم : أي يمنعكم ، المعوّقين : أي المثبطين عن القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هلم إلينا : أي أقبلوا إلينا ، والبأس : الشدة ، والمراد به هنا الحرب والقتال ، أشحة : واحدهم شحيح أي بخيل بالنّصرة والمنفعة ، تدور أعينهم : أي تدير أعينهم أحداقهم من شدة الخوف ، سلقوكم : أي آذوكم بالكلام ، بألسنة حداد : أي ألسنة دربة سلطة تفعل فعل الحديد ، أشحة على الخير : أي بخلاء حريصين على مال الغنائم ، أحبط الله أعمالهم : أي أبطلها لإضمارهم الكفر ، لو أنهم بادون فى الأعراب : أي خارجون إلى العدو مقيمون بين أهله ، أسوة : أي قدوة ، والمراد به المقتدى به ، قضى نحبه : أي فرغ من نذره ووفى بعهده ، وصبر على الجهاد حتى استشهد كحمزة ، ومصعب بن عمير ، والغيظ : أشد الغضب ، وكفى الله المؤمنين القتال : أي وقاهم شره ، عزيزا : أي غالبا مستوليا على كل شىء ، ظاهروهم : أي عاونوهم ، من أهل الكتاب : أي من بنى قريظة ، من صياصيهم : أي من حصونهم واحدها صيصية وهى كل ما يمتنع به ؛ قال الشاعر :

فأصبحت الثيران صرعى وأصبحت

نساء تميم يبتدرن الصياصيا

وقذف : أي ألقى ، والرعب : الخوف الشديد.

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه عباده بتقواه ، وعدم الخوف من سواه ـ ذكر هنا تحقيق ما سلف فأبان أنه أنعم على عباده المؤمنين ، إذ صرف عنهم أعداءهم وهزمهم حين تألّبوا عليهم عام الخندق.

وتفصيل هذا على ما قاله أرباب السير : أن نفرا من اليهود قدموا على قريش فى شوال سنة خمس من الهجرة بمكة ، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا لهم : إن دينكم خير من دينه ، ثم جاءوا غطفان وقيسا وعيلان ، وحالفوا جميع هؤلاء أن يكونوا معهم عليه ، فخرجت هذه القبائل ومعها قادتها وزعماؤها.

١٣٦

ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم أمر المسلمين بحفر خندق حول المدينة بإشارة سلمان الفارسي ، وعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وأحكموه ؛ وكان رسول الله يرتجز بكلمات ابن رواحة ، ويقول :

اللهم لو لا أنت ما اهتدينا

ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا

وثبّت الأقدام إن لاقينا

وفى أثناء العمل برزت لهم صخرة بيضاء فى بطن الخندق فكسرت حديدهم وشقّت عليهم ، فلما علم بها صلى الله عليه وسلم أخذ المعول من سلمان وضربها به ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها (جانبى المدينة) حتى كأنه مصباح فى جوف بيت مظلم ؛ فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون وهكذا مرة ثانية وثالثة فكانت تضىء وكان التكبير ؛ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ضربت ضربتى الأولى فبرق البرق الذي رأيتم فأضاء لى منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب ، وأخبرنى جبريل أن أمتى ظاهرة عليها ؛ ثم ضربت ضربتى الثانية ، فبرق البرق الذي رأيتم أضاء لى منها قصور قيصر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب ، فأخبرنى جبريل أن أمتى ظاهرة عليها ؛ ثم ضربت الثالثة فبرق البرق الذي قد رأيتم أضاء لى منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب ، فأخبرنى جبريل أن أمتى ظاهرة عليها ، فأبشروا ؛ فاستبشر المسلمون ، وقالوا : الحمد لله الذي صدقنا وعده ؛ فقال المنافقون : ألا تعجبون؟ يمنّيكم ويعدكم الباطل ، ويخبركم أنه ينظر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى ، وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا ، فنزل : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) إلخ ، ونزل : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) الآية.

ولما اجتمع هؤلاء الأحزاب الذين حزّبهم اليهود ، وأتوا إلى المدينة رأوا الخندق حائلا بينهم وبينها ، فقالوا : والله هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها ، ووقعت

١٣٧

مصادمات بين القوم كرّا وفرّا ، فمن المشركين من كان يقتحم الخندق فيرمى بالحجارة ، ومنهم من كان يقتحمه بفرسه فيهلك.

ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر من غطفان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمه أنه أسلم وأن قومه لم يعلموا بذلك ، فقال صلى الله عليه وسلم : إنما أنت فينا رجل واحد ، فخذّل عنا إن استطعت ، فإن الحرب خدعة ، فأتى قريظة وقال لهم : لا تحاربوا مع قريش وغطفان إلا إذا أخذتم منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم تقيّة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا ، لأنهم رجعوا وسئموا حربه ، وإنكم وحدكم لا تقدرون عليه ، وذهب إلى قريش وإلى غطفان ، فقال لهم : إن اليهود يريدون أن يأخذوا منكم رهنا يدفعونها لمحمد ، فيضرب أعناقهم ، ويتحدون معه على قتالكم ، لأنهم ندموا على ما فعلوا من نقض العهد وتابوا ، وهذا هو المخرج الذي اتفقوا عليه.

وحينئذ تخاذل اليهود والعرب ، ودبّ بينهم دبيب الفشل. ومما زاد فى فشلهم أن بعث الله عليهم ريحا فى ليلة شاتية شديدة البرد ، فجعلت تكفئ قدورهم ، وتطرح آنيتهم.

وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة يصلى على التّل الذي عليه مسجد الفتح ، ثم يلتفت ويقول : هل من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم؟ فعل ذلك ثلاث مرات ، فلم يقم رجل واحد ، من شدة الخوف ، وشدة الجوع ، وشدة البرد ، فدعا حذيفة بن اليمان وقال : ألم تسمع كلامى منذ الليلة؟ قال حذيفة : فقلت يا رسول الله منعنى أن أجيبك الضّر والقرّ ، قال : انطلق حتى تدخل فى القوم ، فتسمع كلامهم وتأتينى بخبرهم. اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، حتى تردّه إلىّ ، انطلق ولا تحدث شيئا حتى تأتينى ، فانطلق حذيفة بسلاحه ، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يقول : يا صريخ المكروبين ، ويا مجيب المضطرين ، اكشف همّى وغمى وكربى ، فقد ترى حالى وحال أصحابى فنزل جبريل وقال : إن الله قد سمع دعوتك ، وكفاك هول عدوك ، فخر رسول الله صلى الله عليه وسلم على

١٣٨

ركبتيه ، وبسط يديه ، وأرخى عينيه ، وهو يقول : شكرا شكرا كما رحمتنى ورحمت أصحابى ، وذهب حذيفة إلى القوم ، فسمع أبا سفيان يقول : يا معشر قريش ، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخفّ ، وأخلفتنا بنو قريظة ، وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من هذه الريح ما ترون ، فارتحلوا فإنى مرتحل ، فلما رجع أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فضحك حتى بدت أنيابه فى سواد الليل.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) أي تذكروا أيها المؤمنون نعم الله التي أسبغها عليكم حين حوصرتم أيام الخندق ، وحين جاءتكم جنود الأحزاب من قريش وغطفان ، ويهود بنى النضير الذين كانوا أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر ، فأرسلنا عليهم ريحا باردة فى ليلة باردة أحصرنهم ، وسفت التراب فى وجوههم ، وأمر ملائكته ، فقلعت الأوتاد ، وقطعت الأطناب ، وأطفأت النيران ، وأكفأت القدور ، وما جت الخيل بعضها فى بعض ، وقذف الرعب فى قلوب الأعداء ، حتى قال طليحة بن خويلد الأسدى : إن محمدا قد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء ، فانهزموا من غير قتال.

قال حذيفة بن اليمان وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتى بخبر القوم : خرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت فى ضوء نار لهم توقد ، وإذا رجل أدهم ضخم (أبو سفيان) يقول : الرحيل الرحيل لا مقام لكم ، وإذا الرجل فى عسكرهم ما يجاوز عسكرهم شبرا ، فو الله إنى لأسمع صوت الحجارة فى رحالهم وفرشهم ، والريح تضربهم ؛ ثم رجعت نحو النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فلما صرت فى منتصف الطريق أو نحو ذلك إذا أنا بنحو عشرين فارسا معتمّين قالوا : أخبر صاحبك أن الله قد كفاك القوم.

١٣٩

والخلاصة : إنه تعالى يمتنّ على عباده المؤمنين بذكر النعم التي أنعم بها عليهم ، إذ صرف عنهم أعداءهم حين تألبوا عليهم وتحزبوا عام الخندق.

(وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) أي وكان الله عليما بجميع أعمالكم من حفركم للخندق ، وترتيب وسائل الحرب لإعلاء كلمته ، ومقاساتكم من الجهد والشدائد ما لا حصر له ، بصيرا بها لا يخفى عليه شىء منها ، وهو يجازيكم عليها «وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً».

ثم زاد الأمر تفصيلا وبيانا ، فقال :

(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي حين جاءتكم الأحزاب من أعلى الوادي من جهة المشرق ، وكانوا من غطفان ، ومن تابعهم من أهل نجد ، ومن بنى قريظة والنضير من اليهود ، ومن أسفله من قبل المغرب ، وكانوا من قريش ، ومن شايعهم من الأحابيش ، وبنى كنانة وأهل تهامة.

(وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) أي وحين مالت الأبصار عن سننها ، وانحرفت عن مستوى نظرها حيرة ودهشة ، وخاف الناس خوفا شديدا ، وفزعوا فزعا عظيما ، وظنوا مختلف الظنون ، فمنهم مؤمن مخلص يستنجز الله وعده فى إعلاء دينه ونصرة نبيه ، ويقول : هذا ما وعدنا الله ورسوله ، ومنهم منافق وفى قلبه مرض يظن أن محمدا وأصحابه سيستأصلون ، ويستولى المشركون على المدينة ، وتعود الجاهلية سيرتها الأولى ، إلى نحو ذلك من ظنون لا حصر لها تجول فى قلوب المؤمنين والمنافقين ، على قدر ما يكون القلب عامرا بالإخلاص مكتوبا له السعادة أو متشككا فى اعتقاده ليست له عزيمة صادقة.

ثم ذكر أن هذه الشدائد محّصت المؤمنين ، وأظهرت المنافقين.

(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) أي حين ذاك اختبر الله المؤمنين ومحصنهم أشد التمحيص ، فظهر المخلص من المنافق ، والراسخ الإيمان من المتزلزل ، واضطربوا اضطرابا شديدا من الفزع وكثرة العدو.

١٤٠