تفسير المراغي - ج ٢١

أحمد مصطفى المراغي

تفسير المفردات

تثير : أي تحرك ، يبسط : أي ينشر ، فى السماء : أي فى سمتها وجهتها ، كسفا : أي قطعا ، والودق : المطر ، خلاله : واحدها خلل ، وهو الفرجة بين الشيئين ، لمبلسين : أي لآيسين.

المعنى الجملي

عود على بدء ، بعد أن سلى رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من أذى قومه ببيان أنه ليس ببدع فى الرسل ، فكائن من رسول قبله قد كذّب ، ثم دالت الدّولة على المكذبين ، ونصر الله رسوله والمؤمنين ، أعاد الكرة مرة أخرى ، فأتبع البرهان بالبرهان لإثبات الوحدانية ، وإمكان البعث والنشور بما يشاهد من الأدلة فى الآفاق ، مرشدة إلى قدرته ، وعظيم رحمته ، ثم بما يرى فى الأرض الموات من إحيائها بالمطر ، وهو دليل لائح يشاهدونه ، ولا يغيب عنهم الحين بعد الحين ، والفينة بعد الفينة ، أفليس فيه حجة لمن اعتبر ومقنع لمن ادّكر؟.

الإيضاح

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي الله الذي يرسل الرياح فتنشئ سحابا فينشره ويجمعه جهة السماء ، تارة سائرا ، وأخرى واقفا ، وحينا قطعا ، فترى المطر يخرج من وسطه ، فإذا أصاب به بعض عباده فرحوا به لحاجتهم إليه.

(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) أي وقد كانوا من قبل أن ينزل عليهم قانطين يائسين من نزوله ، فلما جاءهم على فاقة وحاجة وقع منهم موقعا عظيما.

٦١

والخلاصة : إنهم كانوا محتاجين إليه قبل نزوله ، ومن قبل ذلك أيضا ، إذ هم ترقّبوه فى إبّانه فتأخر ، ثم مضت فترة فترقبوه فيها فتأخر ، ثم جاء بغتة بعد اليأس والقنوط ، وبعد أن كانت أرضهم هامدة أصبحت وقد اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.

(فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي فانظر أيها الرسول أثر الغيث الذي أنبت به ما أنبت من الزرع والأشجار والثمار ، وفيه الدليل الكافي على عظيم القدرة وواسع الرحمة.

وإذ قد ثبتت قدرته على إحياء الميت من الأرض بالغيث ثبتت قدرته على إحياء الأجسام بعد موتها وتفرقها وتمزقها إربا إربا ، ومن ثم قال :

(إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) أي إن ذلك الذي قدر على إحياء الأرض قادر على إحياء الأجسام حين البعث.

ثم أكد هذا بقوله :

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يعجزه شىء ، فإحياؤكم من قبوركم هيّن عليه ، ونحو الآية قوله : «قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها. أَوَّلَ مَرَّةٍ».

ثم ذمهم على تزلزلهم وسوء اضطرابهم ، فإذا أصابهم الخير فرحوا به ، وإن أصابهم السوء يئسوا وأبلسوا ، وانقطع رجاؤهم من الخير ، فقال :

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) أي ولئن أرسلنا ريحا حارة أو باردة على الزرع الذي زرعوه وبما واستوى على سوقه ، فرأوه قد اصفر بعد خضرته ونضرته ـ لظلّوا من بعد ذلك الاستبشار والرجاء يجحدون نعم الله السابقة عليهم.

ولا يخفى ما فى ذلك من المبالغة فى احتقارهم لتزلزلهم فى عقيدتهم ، إذ كان الواجب

٦٢

عليهم أن يتوكلوا على الله فى كل حال ، ويلجئوا إليه بالاستغفار إذا احتبس عنهم المطر ، ولا يبأسوا من روح الله ، ويبادروا إلى الشكر بالطاعة إذا أصابهم جل وعلا برحمته ، وأن يصبروا على بلائه إذا اعترى زرعهم آفة ولا يكفروا بنعمائه ، لكنهم قد عكسوا الأمر ، وأبوا ما يجديهم ، وأتوا بما يؤذيهم.

(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه صنوف الأدلة ، ثم ضرب المثل على توحيده ووجوب إرسال الرسل مبشرين ومنذرين ، وصحة بعث الأجسام يوم القيامة ، ووعد وأوعد بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد ، ثم ما زادهم دعاء الرسول إلا إعراضا ، ولا تكرار النصح إلا إصرارا وعنادا ـ أردف هذا تسليته على ما يراه من التمادي فى الإعراض ، وكثرة العناد واللجاج ، فأبان أن هؤلاء كأنهم موتى ، فأنّى لك أن تسمعهم ، وكأنهم صمّ ، فكيف يسمعون دعاءك حتى يستجيبوا لك؟ إنما الذي يستجيب من يؤمن بآيات الله ، فهو إذا سمع كتابه تدبره وفهمه ، فيخضع لك بطاعته ، ويتذلل لمواعظ كتابه.

الإيضاح

(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي إنك لا تقدر أن تفهم هؤلاء المشركين الذين قد ختم الله على أسماعهم ، فسلبهم فهم ما يتلى عليهم من مواعظ تنزيله ؛ كما لا تقدر أن تفهم الموتى الذين سلبوا أسماعهم بأن تجعل لهم

٦٣

أسماعا ، ولا تقدر أن تهدى من تصامّوا عن فهم آيات كتابه فتجعلهم يسمعونها ويفهمونها كما لا تقدر أن تسمع الصم ـ الدعاء إذا ولّوا عنك مدبرين.

ثم بين أن الهداية والضلالة بيده لا بيد الرسول ، فقال :

(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) أي ليس فى طوقك أن تهدى من أضله الله ، فتردّه عن ضلالته ، بل ذلك إليه وحده ، فإنه يهدى من يشاء ، ويضل من يشاء ، وليس ذلك لأحد سواه.

والخلاصة : إن هذا ليس من عملك ، ولا بعثت لأجله.

ثم أكد ما سلف بقوله :

(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي لا تسمع السماع الذي ينتفع به سامعه فيتّبعه ، إلا من يؤمن بآياتنا ، لأنه هو الذي إذا سمع كتاب الله تدبره وفهمه ، وعمل بما فيه ، وانتهى إلى حدوده التي حدها ، فهو مستسلم خاضع له ، مطيع لأوامره ، تارك لنواهيه.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر دلائل الآفاق على وحدانيته أردفها دلائل الأنفس ، فذكر خلق الأنفس ، فى أطوارها المختلفة من ضعف إلى قوة ، ثم انتكاسها وتغيير حالها من قوة إلى ضعف ، ثم إلى شيخوخة وهرم. وبين أنه العليم بها فى مختلف أحوالها ، القدير على تغييرها واختلاف أشكالها.

٦٤

الإيضاح

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) يقول سبحانه محتجا على المشركين المنكرين للبعث : إن الذي خلقكم من نطفة وماء مهين ، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ، ثم جعل لكم قوة على التصرف من بعد ضعف الصغر والطفولة ، ثم أحدث لكم الضعف بالهرم والكبر ، بعد أن كنتم أقوياء فى شبابكم ـ قادر أن يعيدكم مرة أخرى بعد البلى ، وبعد أن تكونوا عظاما نخرة.

والخلاصة : إن تنقل الإنسان فى أطوار الخلق حالا بعد حال من ضعف إلى قوة ، ثم من قوة إلى ضعف ـ دليل على قدرة الخالق الفعّال لما يشاء ، الذي لا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء ، ولا يعجزه أن يعيدكم كرّة أخرى.

(يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) أي يخلق ما يشاء من ضعف وقوة ، وشباب وشيب ؛ وهو العليم بتدبير خلقه ، القدير على ما يشاء ، لا يمتنع عليه شىء أراده ، وهو كما يفعل هذا قادر على أن يميت خلقه ويحييهم إذا شاء :

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧))

تفسير المفردات

الساعة الأولى : يوم القيامة ؛ سميت بذلك لأنها تقوم فى آخر ساعة من ساعات لدنيا ، ما لبثوا : أي ما أقاموا بعد الموت ، غير ساعة : أي غير قطعة قليلة من الزمان ؛

٦٥

يؤفكون : أي يصرفون عن الحق ، المعذرة : العذر ، يستعتبون : أي يطلب منهم إزالة عتب الله وغضبه عليهم بالتوبة والطاعة ، فقد حق عليهم العذاب ، يقال : استعتبني فلان فأعتبته : أي استرضانى فأرضيته.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف بدء النشأة الأولى ، وذكر الإعادة والبعث ، وأقام عليه الأدلة فى شتى السور ؛ وضرب له الأمثال ـ أردف ذلك ذكر أحوال البعث وما يجرى فيه من الأفعال والأقوال من الأشقياء والسعداء ليكون فى ذلك عبرة لمن يدّكر.

الإيضاح

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) أي ويوم تجئ ساعة البعث ، فيبعث الله الخلق من قبورهم ، يقسم المجرمون الذين كانوا يكفرون بالله فى الدنيا ، ويكتسبون فيها الآثام ، إنهم ما أقاموا فى قبورهم إلا قليلا من الزمان ، وهذا استقلال منهم لمدة لبثهم فى البرزخ على طولها ، وهم قد صرفوا فى الآخرة عن معرفة مدة مكثهم فى ذلك الحين.

(كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) أي كذبوا فى قولهم ما لبثنا غير ساعة ، كما كانوا فى الدنيا يحلفون على الكذب وهم يعلمون. والكلام مسوق للتعجب من اغترارهم بزينة الدنيا وزخرفها ، وتحقير ما يتمتعون به من مباهجها ولذاتها ، كى يقلعوا عن العناد ، ويرجعوا إلى سبل الرشاد ، وكأنه قيل : مثل ذلك الكذب العجيب كانوا يكذبون فى الدنيا اغترارا بما هو قصير الأمد من اللذات ؛ وزخارف الحياة.

ثم ذكر توبيخ المؤمنين لهم وتهكمهم بهم :

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) أي وقال

٦٦

الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان بالله لأولئك المنكرين : لقد لبثتم من يوم مماتكم إلى يوم البعث فى قبوركم.

وفى هذا رد عليهم وعلى ما حلفوا عليه ، وإطلاع لهم على الحقيقة.

ثم وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم :

(فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي فهذا هو اليوم الذي أنكرتموه فى الدنيا ، وزعمتم أنه لن يكون لتفريطكم فى النظر وغفلتكم عن الأدلة المتظاهرة عليه.

ولما كانت الأدلة تترى على أن الدنيا دار عمل ، وأن الآخرة دار جزاء ، ذكر أن المعاذير لا تجدى فى هذا اليوم ، فلا يجابون إلى ما طلبوا من الرجوع إلى الدنيا ، لإصلاح ما فسد من أعمالهم ، فقال :

(فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي ففى هذا اليوم لا تنفع هؤلاء المجرمين معاذيرهم عما فعلوا ، كقولهم : ما علمنا أن هذا اليوم كائن ، ولا أنا نبعث فيه ، ولا هم يرجعون إلى الدنيا ليتوبوا ، لأن التوبة لا تقبل حينئذ فالوقت وقت جزاء لا وقت عمل ، وقد حقت عليهم كلمة ربهم «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» والخلاصة : إنهم لا يعاتبون على سيئاتهم ، بل يعاقبون عليها.

ونحو الآية قوله : «وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ».

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))

٦٧

المعنى الجملي

بعد أن ذكر من الأدلة على الوحدانية والبعث ما ذكر ، وأعاد وكرر ، بشتى البراهين ، وبديع الأمثال ـ أردف ذلك أنه لم يبق بعد هذا زيادة لمستزيد ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أدى واجبه ، وأن من طلب شيئا بعد ذلك فهو معاند مكابر ، فإن من كذّب الدليل الواضح اللائح ، لا يصعب عليه تكذيب غيره من الدلائل.

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد

وينكر الفمّ طعم الماء من سقم

الإيضاح

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي ولقد أوضحنا لهم الحق ، وضربنا لهم الأمثال الدالة على وحدانية الخالق الرازق ، وعلى البعث وصدق الرسول ، ليستبينوا الحق ويتبعوه ، لكنهم أعرضوا عن ذلك استكبارا وعنادا كما أشار إلى ذلك بقوله :

(وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي والله لئن جئتهم بالآيات لا يؤمنون بها ، بل يعتقدون أنها سحر مفترى ، وما هى إلا أساطير الأولين.

ونحو هذا قوله : «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ».

(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي كذلك يختم الله على قلوب الذين لا يعلمون حقيقة ما تأتيهم به من العبرة والعظات ، والآيات البينات ، فلا يفقهون الأدلة ولا يفهمون ما يتلى عليهم من آي الكتاب لسوء استعدادهم ، ولما دسوابه أنفسهم من سوء القول والفعل ، فهم فى طغيانهم يعمهون.

ثم ختم السورة بأمر الرسول بالصبر على أذاهم ، وعدم الالتفات إلى عنادهم ، فقال :

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) أي فاصبر أيها الرسول على ما ينالك من أذى

٦٨

المشركين ، وبلغهم رسالة ربك ، فإن وعده الذي وعدك من النصر عليهم والظفر بهم ، وتمكينك وتمكين أصحابك وأتباعك فى الأرض ـ حق لا شك فيه ، وليكونن لا محالة.

(وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) أي ولا يحملنك الذين لا يوقنون بالميعاد ولا يصدقون بالبعث بعد الممات ـ على الخفة والقلق ، فيثبطوك عن أمر الله والقيام بما كلفك به من تبليغ رسالته.

وفى هذا إرشاد لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وتعليم له ، بأن يتلقى المكاره بصدر رحب ، وسعة حلم.

أخرج ابن أبى شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي أن رجلا من الخوارج نادى عليا وهو فى صلاة الفجر فقال : «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» فأجابه وهو فى الصلاة : «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ».

ولا عجب من صدور مثل هذا الجواب على البديهة من على كرم الله وجهه ، وهو مدينة العلم.

وصل ربنا على محمد وآله الكرام ، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

٦٩

خلاصة ما احتوت عليه السورة الكريمة من الموضوعات

(١) إثبات النبوة بالإخبار بالغيب.

(٢) البراهين الدالة على الوحدانية.

(٣) الاعتبار بما حدث للمكذبين من قبلهم.

(٤) الأدلة التي فى الآفاق شاهدة على وحدانية الله وعظيم قدرته.

(٥) الأدلة على صحة البعث.

(٦) ضرب الأمثال على أن الشركاء لا يجدونهم فتيلا ولا قطميرا يوم القيامة.

(٧) الأمر بعبادة الله وحده وهى الفطرة التي فطر الناس عليها.

(٨) النهى عن اتباع المشركين الذين فرقوا دينهم بحسب أهوائهم.

(٩) من طبيعة المشرك الإنابة إلى الله إذا مسه الضر ، والإشراك به حين الرخاء.

(١٠) من دأب الناس الفرح بالنعمة والقنوط حين الشدة. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

(١١) الأمر بالتصدق على ذوى القربى والمساكين وابن السبيل.

(١٢) الدلائل التي وضعها سبحانه فى الأنفس شاهدة على وحدانيته.

(١٣) للخير والشر فائدة تعود إلى المرء يوم تجزى كل نفس بما كسبت.

(١٤) فى النظر فى آثار المكذبين عبرة لمن اعتبر.

(١٥) تسلية الرسول على عدم إيمان قومه بأنهم صم عمى لا يسمعون ولا يبصرون.

(١٦) بيان أن الكافرين يكذبون فى الآخرة كما كانوا يكذبون فى الدنيا.

(١٧) الإرشاد إلى أن الرسول قد بلغ الغاية فى الإعذار والإنذار ، وأن قومه قد بلغوا الغاية فى التكذيب والإنكار.

(١٨) أمره صلى الله عليه وسلم بإدامة التبليغ مهما لاقى من الأذى ، فإن العاقبة والنصر له ، والخذلان لمن كذب به.

٧٠

سورة لقمان

هى مكية إلا الآيات ٢٨ ، ٢٩ ، ٣٠ فمدنية ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة قال له أحبار اليهود : بلغنا أنك تقول : «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً» أعنيتنا أم قومك؟ قال : كلّا عنيت ، فقالوا : إنك تعلم أننا أوتينا التوراة وفيها بيان كل شىء ، فقال عليه الصلاة والسلام ذلك فى علم الله قليل ، فأنزل الله هؤلاء الآيات.

وآيها أربع وثلاثون ، نزلت بعد الصافات.

وسبب نزولها أن قريشا سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قصة لقمان مع ابنه وعن برّه والديه ، فنزلت.

ومناسبتها لما قبلها من وجوه :

(١) إنه تعالى قال فى السورة السالفة : «وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» وأشار إلى ذلك فى مفتتح هذه السورة.

(٢) إنه قال فى آخر ما قبلها : «وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ» وقال فى هذه : «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً».

(٣) إنه قال فى السورة السابقة : «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» وقال هنا : «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ» ، ففى كلتيهما إفادة سهولة البعث.

(٤) إنه ذكر هناك قوله : «وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» ، وقال هنا : «وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ» فذكر فى كل من الآيتين قسما لم يذكره فى الآخر.

٧١

(٥) إنه ذكر فى السورة التي قبلها محاربة ملكين عظيمين لأجل الدنيا ، وذكر هنا قصة عبد مملوك زهد فيها ، وأوصى ابنه بالصبر والمسألة ، وذلك يقتضى ترك المحاربة ، وبين الأمرين التقابل وشاسع البون كما لا يخفى

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

الإيضاح

(الم) تقدم تفسير هذا مرارا بإسهاب.

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) أي هذه آيات الكتاب الحكيم بيانا وتفصيلا.

(هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي هذه آيات الكتاب الهادي من الزيغ ، الشافي من الضلال ، لمن أحسنوا العمل ، وانبعوا الشريعة ، فأقاموا الصلاة على الوجه الأكمل ، الذي رسمه الدين فى أوقاتها ، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها ، وأيقنوا بالجزاء فى الدار الآخرة ، ورغبو إلى الله فى ثواب ذلك ؛ لم يراءوا به ، ولا أرادوا به جزاء ولا شكورا.

ولما كان المتصفون بهذه الخلال هم الغاية فى الهداية والفلاح قال :

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي إن هؤلاء الذين ذكرت أوصافهم على نور من ربهم ، وأولئك الذين رجوا ما أمّلوا من ثوابه يوم القيامة ، وقد تقدم مزيد إيضاح لهذا أول سورة البقرة.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا

٧٢

وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧))

تفسير المفردات

المراد بلهو الحديث : الجواري المغنيات ، وكتب الأعاجم ، وقد اشتريت حقيقة. وقال ابن مسعود : لهو الحديث : الرجل يشترى جارية تغنيه ليلا ونهارا ، وعن ابن عمر «أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى لهو الحديث : إنما ذلك شراء الرجل اللعب والباطل» ، وسبيل الله : هو دينه ، والهزو : السخرية ، مهين : أي تلحقهم به الإهانة ، وقرا : أي صمما يمنعهم من السماع.

المعنى الجملي

بعد أن بين حال السعداء الذين يهتدون بكتاب الله ، وينتفعون بسماعه ؛ وهم الذين قال الله فيهم : «اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ» ـ أردف ذلك ذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله ، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب.

روى عن ابن عباس أن الآية نزلت فى النضر بن الحارث اشترى قينة (مغنية) وكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام ؛ إلا انطلق بها إليه ، فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه ، ويقول : هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام ، وأن تقاتل بين يديه.

وروى عن مقاتل أنه كان يخرج تاجرا إلى فارس ، فيشترى كتب الأعاجم فيرويها ويحدّث بها قريشا ، ويقول لهم : إن محمدا يحدثكم. حديث عاد وثمود ، وأنا أحدثكم

٧٣

حديث رستم وإسفنديار ، وأخبار الأكاسرة ، فيستملحون حديثه ويتركون سماع القرآن.

الإيضاح

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً) أي ومن الناس فريق يتخذ ما يتلهّى به عن الحديث النافع للإنسان فى دينه ، فيأتى بالخرافات والأساطير والمضاحيك وفضول الكلام ، كالنضر بن الحارث الذي كان يشترى الكتب ، ويحدّث بها الناس ، وربما اشترى الفتيات ، وأمرهن بمعاشرة من أسلم ، ليحملهم على ترك الإسلام ، وما مقصده من ذلك إلا الإضلال ، والصد عن دين الله وقراءة كتابه ، واتخاذه هزوا ولعبا.

وعن نافع قال «كنت أسير مع عبد الله بن عمر فى الطريق ، فسمع مزمارا ، فوضع أصبعيه فى أذنيه ، وعدل عن الطريق ، فلم يزل يقول : يا نافع أتسمع؟ قلت : لا ، فأخرج أصبعيه من أذنيه ، وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع». وعن ابن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة لهو ومزامير شيطان. وصوت عند مصيبة خمش وجوه ، وشق جيوب ، ورنة شيطان».

والخلاصة : إن سماع الغناء الذي يحرك النفوس ، ويبعثها على اللهو والمجون بكلام يشبب فيه بذكر النساء ، ووصف محاسنهن ، وذكر الخمور والمحرمات ، لا خلاف فى تحريمه ، أما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه فى أوقات الفرح : كالعرس والعيد ، وحين التنشيط على الأعمال الشاقة ، كما كان فى حفر الخندق وحدو أنجشه (عبد أسود كان يقود راحلة نساء النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع) فأما ما ابتدعه الصوفية من الإدمان على سماع المغانى بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام ، وأما طبل الحرب فلا حرج فيه ، لأنه يقيم النفوس ، ويرهب العدو ،

٧٤

فقد ضرب بين يدى النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل المدينة ، فهمّ أبو بكر بالزجر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح» فكنّ يضربن ويقلن : نحن بنات النجار ، حبذا محمد من جار.

ولا بأس من استعمال الطبل والدف فى النكاح. وكذا الآلات المشهرة به والغناء بما يحسن من الكلام مما لا رفث فيه.

وسماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم لا يجوز.

ثم بين عاقبة أمرهم ، فقال :

(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي إنه كتب لهم العذاب والخزي يوم القيامة ، لأنهم لما أهانوا الحق باختيارهم الباطل ـ جوزوا بإهانتهم يوم الجزاء بعذاب يفضحهم ويخزيهم أمام الخلائق :

ثم أشار سبحانه إلى أن هذا داء قد استشرى فى نفسه ، فكلما تليت عليه آية ازداد إباء ونفورا ، فقال :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) أي وإذا تتلى آيات الكتاب الكريم على هذا الذي اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله ـ يعرض عن سماعها ويولّى مستكبرا ، كأن لم يسمعها ، كأن فى أذنيه ثقلا ، فلا يصيخ لها ، ولا يأبه لتلقّفها وتأملها.

ونحو الآية قوله : «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى».

ولما تسبب عن ذلك استحقاقه لما بزيل كبره وعظمته قال :

(فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي فبشر هذا المعرض وأوعده بالعذاب الذي يؤلمه ويقض مضجعه يوم القيامة.

٧٥

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر حال من أعرض عن الآيات وبيّن مآله ـ عطف على ذلك ذكر مآل من قبل تلك الآيات وأقبل على تلاوتها والانتفاع بها.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ. خالِدِينَ فِيها) أي إن الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ، وعملوا الأعمال الصالحة ، فأتوا بما أمرهم به ربهم فى كتابه على لسان رسله ، وانتهوا عما نهاهم عنه ـ لهم جنات ينعمون فيها بأنواع اللذات والمسارّ من المآكل والمشارب ، والملابس والمراكب ، مما لم يخطر لأحدهم ببال ، وهم فيها مقيمون دائما لا يظعنون ، ولا يبغون عنها حولا.

(وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي ما أخبرنا به كائن لا محالة ، لأنه وعد الله الذي لا يخلف وعده وهو الكريم المنّان على عباده.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو الشديد فى انتقامه من أهل الشرك به ، الصادّين عن سبيله ، الحكيم فى تدبير خلقه ، فلا يفعل إلا ما فيه الحكمة والمصلحة لهم.

(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١))

٧٦

تفسير المفردات

العمد : واحدها عماد ، وهو ما يعمد به أي يسند به ، تقول : عمدت الحائط إذا دعمته ، رواسى : أي جبالا ثوابت ، تميد : أي تضطرب ، والبثّ : الإثارة والتفريق كما قال : «كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» والمراد الإيجاد والإظهار : وزوج : أي صنف ، كريم : أي شريف كثير المنفعة.

المعنى الجملي

بعد أن أبان فيما سلف كمال قدرته وعلمه وإتقان عمله ـ أردف ذلك الاستشهاد لما سلف بخلق السموات والأرض وما بعده ، مع تقرير وحدانيته ، وإبطال أمر الشرك ، وتبكيت أهله.

الإيضاح

(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) أي ومن الأدلة على قدرته البالغة ، وحكمته الظاهرة أن خلق السموات السبع بغير عمد تستند إليه ، بل هى قائمة بقدرة الحكيم الفعال لما يشاء ، وقد تقدم تفصيل ذلك فى سورة الرعد.

(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أي وجعل على ظهر الأرض ثوابت الجبال ، لئلا تضطرب بكم ، وتميد بالمياه المحيطة بها ، الغامرة لأكثرها.

(وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) أي وذرأ فيها من أصناف الحيوان ما لا يعلم عددها ومقادير أشكالها وألوانها إلا الذي فطرها.

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) أي وأنزلنا من السماء مطرا فكان ذلك سببا لإنبات كلّ صنف كريم من النبات ذى المنافع الكثيرة.

ثم بكتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلقه الله وأنشأه ، فأرونى ماذا خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة فقال :

(هذا خَلْقُ اللهِ) أي هذا الذي تشاهدونه من السموات والأرض وما فيهما من الخلق ـ خلق الله وحده دون أن يكون له شريك فى ذلك.

٧٧

(فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ؟) أي فأخبرونى أيها المشركون الذين تعبدون هذه الأصنام والأوثان : أىّ شىء خلق الذين من دونه مما اتخذتموهم شركاء له سبحانه فى العبادة ، حتى استحقوا به العبودية ، كما استحق ذلك عليكم خالفكم وخالق هذه لأشياء التي عددتها لكم؟.

ثم انتقل من توبيخهم بما ذكر إلى تسجيل الضلال عليهم ، المستدعى للإعراض عنهم ، وعدم مخاطبتهم بالمعقول من القول لاستحالة أن يفهموا منه شيئا فيهتدوا إلى بطلان ما هم عليه ، فقال :

(بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي بل المشركون بالله ، العابدون معه غيره فى جهل وعمى واضح لا اشتباه فيه لمن تأمله ونظر فيه ، فأنّى لهم أن يرعووا عن غىّ أو يهتدوا إلى رشد وحق؟.

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢))

تفسير المفردات

لقمان كان نجارا أسود من سودان مصر ذا مشافر آتاه الله الحكمة ، ومنحه النبوة.

والحكمة : العقل والفطنة ، وقد نسب إليه من المقالات الحكيمة شىء كثير ، كقوله لابنه : أي بنىّ إن الدنيا بحر عميق ، وقد غرق فيها ناس كثيرون ، فاجعل سفينتك فيها تقوى الله تعالى ، وحشوها الإيمان ، وشراعها التوكل على الله ، لعلك تنجو ، ولا أراك ناجيا.

وقوله : من كان له من نفسه واعظ ، كان له من الله حافظ ، ومن أنصف الناس من نفسه ، زاده الله بذلك عزا ، والذل فى طاعة الله ، أقرب من التعزز بالمعصية.

وقوله : يا بنىّ لا تكن حلوا فتبتلع ، ولا مرّا فتلفظ.

٧٨

وقوله : يا بنى إذا أردت أن تواخى رجلا فأغضبه قبل ذلك ، فإن أنصفك عند غضبه فآخه ، وإلا فاحذره.

والشكر : الثناء على الله تعالى ، وإصابة الحق ، وحب الخير للناس ، وتوجيه الأعضاء وجميع النعم لما خلقت له.

المعنى الجملي

بعد أن بين فساد اعتقاد المشركين بإشراك من لا يخلق شيئا بمن خلق كل شىء ، ثم بين أن المشرك ظالم ضالّ ـ أعقب ذلك ببيان أن نعمه الظاهرة فى السموات والأرض ، والباطنة : من العلم والحكمة ترشد إلى وحدانيته ، وقد آتاها لبعض عباده كلقمان الذي فطر عليها دون نبىّ أرشده ، ولا رسول بعث إليه.

الإيضاح

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) أي ولقد أعطى سبحانه لقمان الحكمة ، وهى شكره وحمده على ما آتاه من فضله بالثناء عليه بما هو أهل له ، وحب الخير للناس ، وتوجيه الأعضاء إلى ما خلقت له.

(وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأن الله يجزل له على شكره الثواب ، وينقذه من العذاب كما قال : «وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ».

(وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي ومن كفر نعم الله عليه ، فإلى نفسه أساء ، لأن الله معاقبه على كفرانه إياها ، والله غنى عن شكره ، لأن شكره لا يزيد فى سلطانه ، وكفرانه لا ينقص من ملكه ، وهو المحمود على كل حال ، كفر العبد أو شكر.

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ

٧٩

وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩))

تفسير المفردات

العظة : تذكير بالخير يرقّ له القلب ، والوهن : الضعف ، والفصال : الفطام ، جاهداك : أي حرصا على متابعتك لهما فى الكفر ، أناب : أي رجع ، المثقال : ما يوزن به غيره ، ومثقال حبة الخردل مثل فى الصغر ، لطيف : أي يصل علمه إلى كل خفىّ ، خبير : أي عليم بكنه الأشياء وحقائقها ، من عزم الأمور : أي من الأمور المعزومة التي قطعها الله قطع إيجاب ، تصعير الخد : ميله وإبداء صفحة الوجه ، وهو من فعل المتكبرين ، قال أعرابى : وقد أقام الدهر صعرى بعد أن أقمت صعره ، وقال عمرو بن حنىّ التغلبي :

وكنا إذا الجبار صعّر خدّه

أقمنا له من ميله فتقوّما

٨٠