منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

السيد محمّد الصدر

منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

جوابه : مشهور المفسرين بما فيهم صاحب الميزان قدس‌سره (١) ، أنها من أسماء يوم القيامة في القرآن الكريم. مع أنها عامة المضمون ، لأن القرع هو الضرب الشديد. قال الراغب (٢) : القرع ضرب شيء على شيء ، ومنه قرعت بالمقرعة. قال تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ ـ الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ).

أقول : ولا يراد بها هنا الضرب جزما ، وإنما هو استعمال مجازي للتعبير عن التأثير النفسي المساوي لتأثير الضرب.

والله تعالى : يضرب في مختلف العوالم ، مع اقتضاء الحكمة والعدل الإلهيين ، فكل ضرب هو قارعة. كيوم القيامة وجهنم وبلاء الدنيا من مرض أو فقر أو عسر شديد وخاصة إذا كان مفاجئا. فهو إذن تعبير شامل لكل بلاء من مصائب الدنيا والآخرة.

سؤال : إن الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. مع أنه يدرك معنى القارعة. فما هو الوجه فيه؟

جوابه : إن لذلك عدة وجوه :

الوجه الأول : إن هذا السؤال مبني على أن يكون المراد بما الاستفهامية أو النافية. وأما إذا كانت تعجبية ، فهي تفيد ثبوت العلم فينسد السؤال.

الوجه الثاني : إن الخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقصود غيره من قبيل : إياك أعني فاسمعي يا جارة.

الوجه الثالث : أن يكون الخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمراد به الإحساس المباشر ، وليس الصورة الذهنية ، فهو لا يعلمها علم الإحساس إلّا عند تحققها خارجا.

الوجه الرابع : إن الخطاب للجميع ، لأن القرآن نازل إلى الناس أجمعين

__________________

(١) المصدر والصفحة.

(٢) المفردات مادة «قرع».

٢٦١

كما هو المستفاد من عدد من الآيات الكريمة ، فينال كل واحد ما يناسبه.

الوجه الخامس : أن يكون الخطاب للمضروب بالبلاء والقارعة.

سؤال : كيف نفهم من القارعة ما يشمل بلاء الدنيا في حين أن الآية الكريمة نص بيوم القيامة ، بقرينة قوله تعالى : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ). فإن ذلك لا يكون إلّا في يوم القيامة.

جوابه : قال الطباطبائي في الميزان (١) : الفراش على ما نقل عن الفراء ، الجراد الذي ينفرش ويركب بعضه بعضا ، وهو غوغاء الجراد. قيل : شبه الناس عند البعث بالفراش ، لأن الفراش إذا ثار لم يتجه إلى جهة واحدة ، كسائر الطير ، وكذلك الناس إذا خرجوا من قبورهم أحاط بهم الفزع فتوجهوا جهات شتى أو توجهوا إلى منازلهم المختلفة سعادة أو شقاء. والمبثوث من البث ، وهو التفريق.

أقول : ومن الواضح من سياق كلام الطباطبائي قدس‌سره ، أنه لا يتعهد بصحة شيء مما نقله. ونحن نجد أن الفراش جمع فراشة ، وهي معروفة ، وليس هو الجراد. ونستطيع إن شككنا باستعماله في زمن النزول ، أن نستصحب بنحو الاستصحاب القهقرائي ، استعماله إلى زمان صدر الإسلام.

كما يمكن عرض أطروحة في هذا المجال ، وهو إيجاد فهم عام يشملهما معا. وهو الحشرات الطائرة الكبيرة نسبيا (وليست كالذباب والبعوض) والقادرة على الاستمرار بالطيران (وليست كالخنافس والنمل المجنح) وليست ذات حمة لا سعة (كالزنابير). وهذا المعنى يشمل الجراد والفراش معا. فيكون من الممكن إطلاق لفظ الفراش ، على مثل هذا المعنى الكلي.

فهذه كلها مقدمات لبيان جواب السؤال الأخير. وسيأتي الحديث عن جوابه. مضافا إلى أنها في نفس الوقت توجب الاطلاع على تفاصيل السورة.

__________________

(١) ج ٢٠ ، ص ٣٤٩.

٢٦٢

ثم قال في الميزان للآية التي بعدها (١) :

العهن : الصوف ذو ألوان مختلفة. والمنفوش من النفش وهو نشر الصوف بندف ونحوه. فالعهن المنفوش : الصوف المنتشر ذو ألوان مختلفة. إشارة إلى تلاشي الجبال على اختلاف ألوانها ، بزلزلة الساعة.

أقول : الجبال فعلا ذات ألوان مختلفة ، أما باختلاف ألوان الصخور ، وأما باختلاف الجو المحيط بها ، وأما باختلاف النبات النابت عليها.

إلّا أنه يرد على فهمه هذا أمور :

أولا : إن العهن ـ حسب فهمي ـ هو مطلق الصوف. ولا ينبغي أن يكون اللون مأخوذا قيدا في مفهومه. وإن كان كل صوف ملونا تكوينا.

ثانيا : لو قلنا به ، فظاهر الآية هو وجود الألوان في طول الزلزلة ، فإنها عندئذ تكون (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ). وليس قبل ذلك. مع أنه قال : تلاشي الجبال بمختلف ألوانها ، يعني السابقة على الزلزلة. فهل تبقى بعد الزلزلة ذات ألوان؟! بينما نحن نفسر الآية بالعكس تماما ، من حيث إن التلوين لاحق للزلزلة : بحسب ظهور الآية وليس سابقا عليها.

ثالثا : إنه لا يراد من الآية : التلاشي المطلق. وإلّا لانمحت بالمرة. فلا عهن ولا ألوان. في حين أنه نص على أنها تكون (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ). وهذا يدل على أن التلاشي الذي فهمه السيد الطباطبائي ، غير حاصل ، وإلّا لم يمكن في الأصل تسميتها بالصوف. إذن ، يبقى لها نحو وجود. كما قال تعالى (٢) : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً).

إذن ، فكيف يكون الأمر هنا في الدنيا ، كما يكون في الآخرة؟

وجوابه يكون على مستويين :

__________________

(١) المصدر والصفحة.

(٢) الطور / ٩ ـ ١٠.

٢٦٣

المستوى الأول : يحصل لدى البلاء الدنيوي ، فيجد الفرد أن الناس كلهم غير ملتفتين إليه ، وغير مهتمين بأمره ، ولا قادرين على إزالة ضرره وإنقاذه من ورطته. بل كل منهم مشغول بحاله حتى أفراد أسرته. وهو معنى الشعور بالغربة أو الاغتراب ، الذي تحدثوا عنه في علم النفس الحديث. وهذا المعنى يتأكد كلما زاد البلاء.

ومن هنا يصدق أن الناس أصبحوا متفرقين (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) لأنهم تفرقوا عنه جميعا.

كما يجد الفرد أن من كان يشعر بأهميتهم من أهل الاختصاص ، لم ينقذوه ، حتى الأطباء والأثرياء وغيرهم. وهو تعبير عن تلاشي الجبال ، يعني لا يوجد منقذ من الأفراد العاديين ولا من الاختصاصيين.

المستوى الثاني : يحصل لدى أهل الإيمان العالي ، حيث يجد الفرد منهم : أن الناس لاهون عن مصالحهم الحقيقية ومستهدفون أهدافا دنيوية باطلة وظالمون لأنفسهم. لا يختلفون عن الحشرات الطائرة بشيء معتدّ به. كما قال الله سبحانه (١) : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً). إذن فهم كالفراش المبثوث ، والحشرات المنتشرة ، كل منهم يتوجه إلى مصلحته الذاتية.

و (تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) بعدة أطروحات :

الأولى : إن نفس الجبال تزول ، بما فيها من أهمية وعظمة في نظر أهل الدنيا. كما قال الله سبحانه (٢) : (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ).

الثانية : الأشخاص المهمون في الدنيا ، من أهل الاختصاص وأهل المال. تزول أهميتهم لعدة أسباب ، منها : اليأس من خيرهم ، كما أشرنا. ومنها تلاشي أهميتهم في مراتب اليقين.

__________________

(١) الفرقان / ٤٤.

(٢) الإسراء / ٥١.

٢٦٤

الثالثة : جبال الهموم الدنيوية ، الناتجة من البلاء ، تزول إما حقيقة إذا أميط البلاء وذهب. وإما اعتبارا وأهمية ، وذلك في درجات الإيمان. كما ورد : لا تفرح بما أتاك من الدنيا ولا تحزن على ما فاتك منها.

الرابعة : جبال البلاء الدنيوي ، تزول بنفحة التسليم والرضا ونحو ذلك. وفرقه عن سابقه أن النظر هنا إلى نفس البلاء ، وهناك النظر إلى رد الفعل النفسي عليه. وكلا الأمرين يزولان بنفس الأسباب.

فإن قلت : هذا التسلسل الفكري في نفسه وإن كان جيدا ، إلّا أنه مخالف للقرائن المتصلة في السورة ، وذلك لأن القارعة تحصل في الآخرة لا في الدنيا ، فبوحدة السياق تكون متعينة في الآخرة.

وبالنسبة إلى المستوى الثاني ، فإن الإنسان حينما يحصل على درجات اليقين ، فإنه لا يقرع في الدنيا ولا في الآخرة. مع العلم أن السورة تبدأ بالقارعة ، فكيف يكون ذلك؟

قلت : بل يجتمع ، لأكثر من أمر واحد :

أولا : إن البلاء الدنيوي من مقدمات التكامل. وهو معنى شامل لسائر المراتب.

ثانيا : إن كل البشر في الدنيا في بلاء ، حتى المعصومين عليهم‌السلام : غاية الأمر أن بعضهم له رضا وتسليم وبعضهم ليس له ذلك. ولم يؤخذ في مفهوم القارعة عدم التسليم بها. بل هي قارعة على كل حال.

نعم لو أخذ في مفهومها معنى الإيذاء النفسي ، لاختصّ بمن ليس له رضا وتسليم ، غير أن القارعة هي السبب والمسبب معا ، بل كلاهما قارعة بانفراده. وأيّ منهما صدق كفى. والمشهور هو السبب ، حتى لو فسرناه بيوم القيامة. وإلّا فيوم القيامة فيه جهة نفسية صعبة أيضا.

فإن قلت : فإن قوله : (مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) : دل على أن ذلك يحدث في يوم القيامة ، مضافا إلى ما سنسمع من أن هدف السورة هو التخويف من الآخرة لا من الدنيا.

٢٦٥

قلت : هذا وإن كان هو مسلك إجماع المفسرين. إلّا أنه مع ذلك يمكن القول بأن القارعة كما تكون في الآخرة تكون في الدنيا. وإن هذا الإيراد غير تام لعدة أمور :

الأمر الأول : إن قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) ، جملة مستأنفة ، لا ربط لها بما سبق. فلا تكون قرينة على الشكل المدعى في السؤال ، نعم ، ما يكون مرتبطا بما قبله يكون قرينة ، لأن للمتكلم أن يضيف على كلامه ما شاء من القرائن والحديث. إلّا أن هذه العبارة القرآنية غير مربوطة بما قبلها.

إلّا أن هذا الوجه غير تام لمناقشتين :

الأولى : الطعن في الكبرى : إن الكلام المنفصل تماما ، لا يكون قرينة ، على سابقه. كما لو كان بعد سكوت طويل. إلّا أن ظاهر الآية أنها نزلت دفعة واحدة.

الثانية : الطعن في الصغرى : بوجود قرينة تدل على الارتباط وهو الفاء في قوله (فأما) فإنها تكون بمنزلة السببية ، كأنه ذكر العلة ثم معلولها. أي النتائج المترتبة على السياق الأول.

الأمر الثاني : إنها ليست إشارة إلى يوم القيامة ، كما عليه مشهور المفسرين ، بل هما إشارة إلى ما بعد يوم القيامة. لأنه قال : (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) ، أي في الجنة وقال : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ). أي في النار.

ويمكن أن يجاب بمناقشتين :

الأولى : إن ما قيل في الأمر الثاني وإن كان صحيحا ، إلّا أنه سبحانه قال : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ـ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) وذلك يكون في يوم القيامة ، لا بعده.

الثانية : إنه يمكن أن يكون المراد به مطلق الآخرة ، لا خصوص يوم القيامة.

إلّا أن هذا على خلاف المشهور. فإن السياق واحد ، والقارعة هو يوم

٢٦٦

القيامة على المشهور. فيتعين أن يكون كله في يوم القيامة. إلّا أن يقال : إنه تعرض أولا ليوم القيامة ، ثم تعرض لمعلولاته ثانيا ، وهو دخول الجنة ودخول النار.

الأمر الثالث : إن هذه المعلولات تنتج في الدنيا أيضا. فقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ...) أي زادت حسناته على سيئاته ، في علم الله تعالى (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي مرضية. فإنه قد يستعمل اسم الفاعل بمعنى اسم المفعول. على معنى أنها مرضية لفاعلها أو مرضية لله سبحانه. أو نقول : إن راضية بمعنى اسم الفاعل مجازا. من حيث إنه نسب الرضا إلى العيشة ومراده العائش أي ذو العيشة الراضية. وأما لكونه راضيا بعطاء الله كما قال تعالى (١) : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) أو كونه راضيا بقضاء الله وقدره ، أي لديه تسليم بذلك ، لتكون موازينه ثقيلة. وهذا كله يمكن أن يحدث في الدارين : الدنيا والآخرة.

(وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) أي في النار. حسب الفهم المشهور. وهذا ما يحصل في الدنيا أيضا ، بدليل قوله تعالى (٢) : (ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها). أي في الدنيا. وهذا هو فهم المشهور لهذه الآية لاستحقاقهم العذاب ، فهم في جهنم وإن لم يشعروا. وسيشعرون بذلك بعد يوم القيامة.

ونحوه قوله تعالى (٣) : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) فإنه يمكن أن يحصل في الدنيا أيضا. فإن الاستغاثة إنما هي من بلاء الدنيا. فيجاب دعاؤهم بمقدار ما يستحقون. فتكون إجابة ضعيفة لا تسمن ولا تغني من جوع أو قل إنها : (كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً).

__________________

(١) الضحى / ٥.

(٢) الكهف / ٢٩.

(٣) الكهف / ٢٩.

٢٦٧

سؤال : ما هو هدف السورة؟

جوابه : هو تهويل يوم القيامة على العموم ، ونحن وإن قلنا : إن من جملة مفاهيم السورة ما ينطبق على معلومات يوم القيامة ، وهو ذهاب كل فرد إلى مكانه الذي يستحقه. ولكن ـ مع ذلك ـ فإن فردها الأهم هو يوم القيامة. ومن جملة القرائن على ذلك في السورة :

أولا : إن الناس على رشدهم وعقلهم ، يكونون كالفراش المبثوث.

ثانيا : إن الجبال على ضخامتها تكون كالعهن المنفوش.

ثالثا : إن التغيير سوف يكون شاملا وعميقا ومهولا.

إلّا أنني ـ مع ذلك ـ أكرر أن ذلك وإن حصل في يوم القيامة ، إلّا أن له مصاديق أخرى قابلة للحصول في الدنيا. ويكفينا أن نلتفت إلى أن الجبال تسير الآن بدوران الأرض ، وليس فقط في يوم القيامة.

سؤال : ما هو العامل في يوم. بقوله تعالى : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ)؟

جوابه : ما ذكره العكبري ، قال (١) : العامل فيه القارعة أو ما دلت عليه (أي مادة القارعة : قرع يقرع) وقيل : التقدير اذكر ، (فيكون يوم مفعولا به لا ظرفا).

وقال في الميزان (٢) : متعلق بفعل مقدر نحو : أذكر وتقرع وتأتي.

أقول : كل ما ذكر ممكن. وإن كان التأويل على خلاف الأصل. وإنما ينبغي أن نرجع الظرف إلى اللفظ نفسه. مع الإمكان. والأمر هنا ممكن لأن القارعة اسم فاعل يمكن أن يتعلق بها الظرف ، كما هو واضح ، فيتعين.

سؤال : ما هو معنى ثقل الميزان ، في قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ). ومعنى خفة الميزان في قوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ)؟.

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٧.

(٢) ج ٢٠ ، ص ٣٤٩.

٢٦٨

جوابه : قال السيد الطباطبائي في الميزان (١) : قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) إشارة إلى وزن الأعمال. وأن الأعمال منها ما هو ثقيل الميزان ، وهو ما له قدر ومنزلة عند الله ، وهو الإيمان وأنواع الطاعات. ومنها ما ليس كذلك وهو الكفر وأنواع المعاصي. ويختلف القسمان أثرا ، فيستتبع الثقيل السعادة ، ويستتبع الخفيف الشقاء.

أقول : الموازين لها قسط من الحديث في علم الفلسفة وعلم الكلام. وينبغي أن نحمل فكرة عنه ، ثم نطبقه على القرآن الكريم.

قال المشهور : إن الصحيح هو البعث المادي لا المعنوي. وإن الإنسان يحيا في يوم القيامة كما يحيا في الدنيا. ونحو ذلك. ويستنتج من ذلك : أن وزن الأعمال التي صرحت به الشريعة المقدسة موجود. وهو يناسب المعاد الجسماني أو المادي.

ومن هنا قالوا : إن هناك ميزانا توزن به أعمال الأفراد ، فإذا رجحت الحسنات على السيئات دخل الجنة. وإذا رجحت السيئات دخل النار. ولعل هذا هو المراد من قوله : (خَفَّتْ مَوازِينُهُ) و (ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ).

ولكن ينبغي أن نلتفت إلى بعض الإشكالات التي ترد على الميزان المادي الذي عليه المتشرعة. لأن الذي في أذهانهم من الربط بين المعاد الجسماني والوزن المادي ليس بصحيح. بل يمكن أن نقول بالمعاد الجسماني. ومع ذلك نقول : بأن الوزن ليس ماديا بل معنويا. وهو قواعد العدل الكلية. عند الله تعالى. ولا دليل على الربط المزبور.

فإن قلت : فإن ما ورد في الكتاب ، والسنة من ألفاظ : الميزان ، ظاهره الميزان المادي ، لأنه تعالى خاطبنا باللغة العرفية ، وهو كذلك عرفا.

قلنا : إن ما يستحيل الأخذ به من الظواهر لا بد من المصير إلى تأويله. كما هو الحال في كثير من آيات القرآن الحكيم. كقوله تعالى (٢) : (يَدُ اللهِ

__________________

(١) المصدر والصفحة.

(٢) الفتح / ١٠.

٢٦٩

فَوْقَ أَيْدِيهِمْ). وقوله تعالى (١) : (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى). وقوله تعالى (٢) : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، وغير ذلك.

والأدلة على تعذر فهم الميزان المادي عدة أمور :

الدليل الأول : ما ذكره القاضي عبد الجبار حين قال (٣) : إنه ليس هناك ثقل في الحقيقة ، لأن أعمال المكلف قد تقضت ، وهي مع ذلك عرض لا ثقل فيه. وإنما أراد بذلك رجحان طاعته على معاصيه. فتشبه بما يوزن من الأشياء الثقيلة.

أقول : نقتصر في هذا الدليل على قوله : قد تقضت. أي دخلت في الماضي ، ولا وجود لها في يوم القيامة. وسيأتي الكلام عن بقية حديثه.

وهذا في واقعه من ضيق النظر ، لأن الفاعل المختار سبحانه وتعالى له نظر إلى مجموع الأزلية والأبدية. فهو يستوي عنده الماضي والحاضر ، والمستقبل. وكله بالنسبة إليه حاضر ، يراه ويحسه ويتفاعل معه. إذن ، فليس هناك ما يكون متقضيا بالنسبة إليه ، حتى أعمال العباد.

الدليل الثاني : إن الأعمال من جنس الأعراض ، والميزان المادي لا يزن الأعراض بل يزن الأجسام والجواهر.

والصلاة مجموعة حركات وأقوال ، أي أعراض ، إذن ، فينبغي تحويلها إلى جسم ليمكن جعلها في الميزان وتأثيرها به. وهذا مستحيل لأكثر من أمر واحد :

الأمر الأول : إن الجوهر والعرض مقولتان مختلفتان متباينتان ، فلا يمكن تحول أحدهما إلى الآخر.

الأمر الثاني : أننا لو تنزلنا وقبلنا أنه صار جسما ، إلّا أنه يصدق عليه السلب. لأن الجسم ليس صلاة بل جسما جديدا في الميزان فلا ثواب ولا

__________________

(١) طه / ٥.

(٢) البقرة / ٢٥٥.

(٣) تنزيه القرآن عن المطاعن ، سورة القارعة.

٢٧٠

عقاب عليه. وليس من أعمال الفرد إطلاقا. فإن صحة الحمل هنا للعرض لا للجوهر. فإن العمل هو العرض لا الجوهر.

الدليل الثالث : إننا لو تنزلنا عن الدليلين السابقين. وقلنا بتجسم الصلاة ، فنسأل عن حجم الجسم الذي يختاره الله تعالى له.

إن حجم الجسم لا بد أن يختلف بأهمية الطاعات. فكم سوف يكون حجم الجسم ، بحيث يكون موافقا للعدل الإلهي. وهو مردد لا محالة بين القليل والكثير ، وليس له تعين واقعي ثبوتا. وكذلك الكلام في حجم الأجسام المتحولة عن المعاصي. ويمكن القول : بأن أي حجم اختاره الله لهذه الأجسام المفروضة ، سيكون ظلما للفرد الفاعل ، لأنه لا يمثل عمله حقيقة ، ولا تحديد له ثبوتا. حتى بالعقل العملي. والظلم مستحيل عليه تعالى عقلا ونصا. وهذا بخلاف قواعد العدل الكلية ، الموجودة في علم الله سبحانه.

سؤال : لما ذا لاحظت الآية جانب الحسنات فقط؟

فإننا إذا لاحظنا الآية الكريمة ، وجدناها لاحظت جانب الحسنات فقط. حيث قال : من ثقلت موازينه. يعني زادت حسناته. ومن خفت موازينه يعني : قلّت حسناته. ولم يقل من رجحت أو ثقلت سيئاته. أو من قلّت أو خفّت سيئاته. فلما ذا كان الأمر كذلك؟

جوابه : إنه قد يقال : إن في العبارة تقديرا معنويا ، أي من ثقلت حسناته ، على سيئاته ومن خفت حسناته على سيئاته.

إلّا أن هذا لا يتم وإن كان أوفق بالمذاق المشهوري :

أولا : لأنه خلاف الظاهر باعتباره متضمنا للتقدير. ونحن ينبغي أن نفهم الآية كما أنزلت لا كما نرغب.

ثانيا : إن ما عليه فهم المتشرعة : أنه كلما زادت حسناته بالنسبة إلى سيئاته دخل الجنة وكلما زادت سيئاته على حسناته دخل النار.

٢٧١

ولكن هذا ، بهذا المقدار ليس صحيحا. فإن الحسنات عليها ثواب والسيئات عليها عقاب. ومقتضى القاعدة أن الفرد ينبغي أن ينال ثواب حسناته وعقاب سيئاته ، لا أن مجرد رجحان الحسنات موجب لسقوط العقاب كله أو أن رجحان السيئات موجب لسقوط الثواب كله.

فالذي ثقلت حسناته ، عليه أن ينال عقاب سيئاته ، ثم يدخل الجنة. وكذلك من ثقلت سيئاته عليه أن يأخذ عقابها ليدخل الجنة على حسناته. وهكذا.

ثم قال سبحانه : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ).

قال الراغب في المفردات (١) : الوزن معرفة مقدار الشيء. قال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ). أي أن الموازين جمع ميزان. والمراد الموازين العادلة المقسطة.

أقول : إنه حسب فهمي فإن جمع ميزان : ميازين وموازين : فإما أن يكونا بمعنى واحد ، وإما أن نفرق بينهما ببعض الفروق.

أولا : أن نقول : إن الميازين جمع ميزان. والموازين ما يسمى عرفا «عيارا» لأنه يوزن بها.

ثانيا : أن نقول : الميازين هي المادية والموازين هي المعنوية. كقواعد العدل الكلية.

سؤال : لما ذا استعمل الجمع في الموازين؟

جوابه : إن المراد من الجمع أحد أمور :

الأول : أن يكون المقصود ما في الميزان. أي الموزونات من الطاعات والمعاصي وهي كثيرة عادة ، ولا يمكن تصورها مفردا.

الثاني : أن نتصور ـ كأطروحة ـ أن لكل فعل ميزانه الخاص به. أي الفعل الكلي لا الجزئي ، من الحسنات والسيئات. كالصلاة والصوم والزنى والسرقة ، وغيرها.

__________________

(١) مادة «وزن».

٢٧٢

الثالث : إن لكل فرد ميزانه الخاص به يوم القيامة ، فتكون الموازين متعددة بعدد الأفراد : وهذا وإن وافق قوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ). إلّا أنه مخالف لقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ... وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ...) حيث أثبت لكل فرد الموازين جمعا. فيسقط هذا الوجه.

الرابع : ما فيه اقتضاء الوزن ، فإن الموزون على شكلين : إما فعلي وإما اقتضائي ويعبر عنه في الفقه بالمكيال والموزون ، يعني ما فيه قابلية الوزن وإن لم يوزن فعلا. فيصح الجمع ، لأنه متعدد وليس واحدا.

الخامس : تعدد دفعات استعمال الميزان.

السادس : قواعد العدل الكلية ، وهي كثيرة ولكل منها حقلها.

وبهذا الاعتبار نسميها موازين. لكل حقل ميزانه الخاص به.

سؤال : إنه نسب الثقل إلى الميزان في الآية ، مع أن المناسب أن ينسب إلى ما في الميزان. فما هو الوجه في ذلك؟

جوابه : من عدة وجوه :

الأول : أن نسمي ما في الميزان ميزانا مجازا ، بعلاقة المظروف بظرفه.

الثاني : أن نقصد بالميزان «الكفة» باعتبار إطلاق اسم الكل على الجزء.

الثالث : أن نقصد من الميزان الموزون ، أعني نفس الإنسان. فإذا ثقل ميزانه زادت أهميته ، وإذا خفّ قلّت أهميته. بل يكون التعبير بالثقل والخفة باعتبار ذلك. وخاصة مع ملاحظة ما سبق من أن الملحوظ في الآية هو زيادة الحسنات وثقلها دون السيئات.

سؤال : الرجاء إعطاءنا فكرة عن قواعد العدل الكلية؟

جوابه : إن هذه القواعد يختص بعلمها الله سبحانه والراسخون في العلم من خلقه ، ولذا عبّر عن قسيم الجنة والنار سلام الله عليه بميزان الأعمال (١)

__________________

(١) مفاتيح الجنان ص ٣٥٣ و ٣٤٦.

٢٧٣

وإنما نعرف منها قليلا مما يمكن استفادته من الكتاب والسنّة ، مما يفيد إيجاد النسبة بين بعض الأعمال وبعض.

فمن ذلك قوله تعالى (١) : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ). وقوله سبحانه (٢) : (اصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ).

ونحوه ما ورد عن الصلاة (٣) ، أنها بمنزلة النهر قرب باب داره إذا اغتسل بالنهر خمس مرات ، هل يبقى في جسمه من درن. وغيرها.

سؤال : ما هي الحسنات المنجية؟

جوابه : هناك عدة أطروحات لذلك ، وهي غير متنافية بل يمكن صدقها جميعا ، بل لعله المتعين :

الأولى : إن الحسنات لا تكون منجية إلّا بالولاية. وأما مع عدمها فوجودها كعدمها.

الثانية : إن المدار هو العلم والجهل. فحسنات العالم حسنات. وأما حسنات الجاهل ، فليست حسنات ، لأنه لا يعلم أنها حسنات فهي متدنية إلى درجة كبيرة.

الثالثة : أن يكون الفرق بينهما في وجود قصد القربة وعدمه. فمع وجوده في الحسنات ، فهي تثقل الميزان. وأما إذا لم تكن حسناته قربة إلى الله ، كما هو الأعم الأغلب ، فهي لا تثقل الميزان.

الرابعة : إن المدار هو المقصور والتقصير ، فإن كان الفرد مقصرا رجحت سيئاته على حسناته. وإن كان قاصرا رجحت حسناته على سيئاته. ومنه

__________________

(١) هود / ١١٤.

(٢) النحل / ١٢٧ ـ ١٢٨.

(٣) انظر من لا يحضره الفقيه ، ج ١ ، حديث ٦٤٠.

٢٧٤

القول المشهور عن المجتهد المستنبط للأحكام : إنه إن أصاب فله كفلان من الثواب فإن أخطأ فله كفل واحد من الثواب.

قوله تعالى : (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ).

سؤال : لم لم توجد السين أو سوف التي تفيد الاستقبال. لأنه حسب ارتكاز المتشرعة : أن من ثقلت موازينه فسيكون في عيشة راضية أو سوف يكون كذلك. لأن ذلك لا يحدث إلّا حين يدخل الجنة. وأما في الدنيا أو في يوم القيامة فلن يكون في عيشة راضية.

أو نقول : إن ظاهر قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أن الثقل والرضا متزامنان. مع أن الثقل في يوم القيامة والرضا في الجنة ، وهو متأخر عنه. فاحتاج إلى حرف التسويف. فكيف صح حذفه؟

جوابه : إن لذلك عدة وجوه :

الوجه الأول : إن هذا مما قد يحصل في الدنيا ، حين يكثر إيمان الفرد ويزداد يقينه ، ويجعل الله تعالى له من أمره فرجا ومحرجا ويسرا ، فيكون في عيشة راضية.

الوجه الثاني : إنه قد يدخل الجنة بلا حساب ، فلا يرى أهوال يوم القيامة ولا صعوبة الحساب. فيكون في عيشة راضية.

الوجه الثالث : إنه اختصار في التعبير باعتبار وضوح فوز الفرد وقرب دخوله الجنة ، فيكون من قبيل المجاز ، باعتبار مشارفة الحقيقة.

سؤال : ما المراد بالعيشة ، هل ذلك في الدنيا أم في الآخرة؟

جوابه : إن الظاهر الأولي العرفي من العيشة هي معيشة الحياة الدنيا ، إلّا أن ذلك لا ينافي إرادة الراحة في الجنة خاصة أو الأعم منها. فإن الحياة في الآخرة هي الحياة الحقيقية. كما قال الله تعالى (١) : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ

__________________

(١) العنكبوت / ٦٤.

٢٧٥

لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ). وقال أيضا عن الشهداء (١) : (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).

وإنما كان ذلك هو الانصراف العرفي ، باعتبار تقيد محسوساتنا بالمكان والزمان والحياة الدنيا ، وعادتنا عليها. وإلّا فمن الواضح أن الفرد الأهم والأفضل هو الحياة الأخرى. ويمكن فهم ذلك على أحد مستويين :

المستوى الأول : لذة النفس ، أو قل : لذة البطن والفرج ، في الجنة ، كما هو ظاهر القرآن. قال تعالى (٢) : (وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ). وقال (٣) : (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ).

المستوى الثاني : لذة الروح. قال تعالى (٤) : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) ... أي إن الحياة هي تلك ، وليست هنا. بدليل فهم الحصر من الآية ، كما هو معلوم. وقال تعالى : (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ). أي بالرزق المعنوي المناسب لكونهم هناك لا لذة البطن والفرج.

سؤال : كيف قال : عيشة راضية؟

جوابه : إن هذا تعبير مجازي حتما. لأن العيشة لا تتصف بالرضا ، لأن الرضا جانب نفسي أكثر منه خارجي. فالمراد : عائش راضي أو عائش مرضي ـ بالفتح ـ قال تعالى (٥) : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ). أو المراد عيشة مرضية لصاحبها ، من قبيل استعمال اسم الفاعل بمعنى اسم المفعول مجازا. وهو موجود في اللغة.

أو هي عيشة مرضية لله عزوجل : أما في الدنيا باعتبار أنه سبحانه يريد لنا الطاعات والقربات ، وأما في الجنة ، باعتبار أنه سبحانه يريد لنا دخول

__________________

(١) آل عمران / ١٦٩.

(٢) الواقعة / ٢٢ ـ ٢٣.

(٣) الواقعة / ٢٠ ـ ٢١.

(٤) العنكبوت / ٦٤.

(٥) المائدة / ١١٩.

٢٧٦

الجنة. وفي القرآن الكريم ما يدل على كل الأمرين. قال تعالى (١) : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ. فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً). وقال سبحانه (٢) : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ). أي لكم وليس لنفسه.

سؤال : ما معنى قوله تعالى : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ)؟.

جوابه : إن المشهور أن أمه تعبير مجازي عن جهنم ، باعتبار رجوعه إليها ، كالمأوى ، كما يأوي الطفل إلى أمه. وكذلك الهاوية. قالوا إنها إشارة إلى جهنم باعتباره يلقى فيها. ولكننا إذا اقتصرنا على هذا الفهم فإنه سيرد عليهم إشكال مفاده : أن المبتدأ والخبر واحد. وتكون القضية بمنزلة القضية بشرط المحمول ، كأنه قال : فجهنم جهنم. وهو لغو عرفا.

فإن قلت : إن كلا اللفظين يراد به الإشارة إلى جهنم من زاوية معينة ، وبعنوان غير الآخر ، فتندفع اللغوية.

قلت : هذا إنما يصح في صورة ما إذا لوحظ العنوان بما هو لا بما هو مشير إلى المعنون. مع أن فهم المشهور كون العنوان مشيرا محضا إلى المعنون ، فرجعت اللغوية.

والأطروحات المحتملة لأمه ثلاث :

أولا : الوالدة ، وهي أقرب الاحتمالات إلى المعنى الحقيقي.

ثانيا : النفس الأمارة بالسوء ، فإن الإنسان قد يطيعها كما يطيع والديه فيمكن التعبير عنها بأنها : أمه.

ثالثا : جهنم. وهو أيضا تعبير مجازي ، لوضوح عدم انطباقه حقيقة.

والأطروحات المحتملة لهاوية ثلاث أيضا :

أولا : من (الهوى) أي الرغبة والشهوة. وهذا مما لم يتعرض له المفسرون.

__________________

(١) الحجرات / ٧ ـ ٨.

(٢) الأنفال / ٦٧.

٢٧٧

ثانيا : ما عليه مشهور المفسرين من أنه من الهويّ ، وهو السقوط أو الانخفاض.

ثالثا : محل السقوط ، ويسمى بالهاوية.

فيكون الاحتمال الثاني إشارة إلى السقوط نفسه أو طريق السقوط ويكون الاحتمال الثالث هو نهاية السقوط.

ومعه فتكون الاحتمالات لقوله تعالى : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ). تسعة ، ناتجة من ضرب ثلاثة في ثلاثة. يتم توضيحها كما يأتي :

الاحتمال الأول : أن (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) يعني أن والدته تتبع الهوى والشهوة.

فتكون سبب فساد أولادها. كما قال الشاعر (١) :

الأم مدرسة إذا أعددتها

أعددت شعبا طيب الأعراق

وكما ورد في الحديث الشريف (٢) : يولد الإنسان على الفطرة ولكن أبواه يهودانه وينصّرانه.

ومن هنا يمكن أن نفهم أن قوله : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) إشارة إلى العلة ، لا إلى المعلول ، كما عليه المشهور. أعني علة حصول الفساد للفرد.

الاحتمال الثاني : أن والدته هاوية ، وهي الضالة المضلة. أو هي سبب الضلال فيكون هاوية بمعنى مهوية أي مسقطة لابنها من استعمال الثلاثي محل الرباعي. وخاصة وأن الرباعي من هذه المادة غير متعارف ، فيمكن استعمال الثلاثي لإفادة معناه.

الاحتمال الثالث : أن والدته هي محل السقوط (المسقط) وهو مجاز يراد به نفس المعنى السابق.

الاحتمال الرابع : أن النفس الأمارة بالسوء ذات هوى.

__________________

(١) حافظ إبراهيم ، انظر ديوان حافظ إبراهيم ج ١ ص ٢٨٢.

(٢) البحار ج ٦٧ ، ص ١٣٣ وج ٥٤ ، ص ٢٨١.

٢٧٨

وهو أمر أكيد وواضح ، ولا يكون من قبيل القضية بشرط المحمول. لأن مفهوم الهوى لم يؤخذ في معنى النفس ليلزم ذلك.

الاحتمال الخامس : النفس الأمارة بالسوء هي ساقطة.

الاحتمال السادس : النفس هي محل السقوط.

الاحتمال السابع : جهنم هاوية أي مريدة لاحتراق وتعذيب الكافرين طاعة لرب العالمين. ولا يحتمل أن تكون جهنم هاوية بمعنى أنها مريدة للسوء.

الاحتمال الثامن : جهنم هاوية أي ساقطة. وهذا غير محتمل ، فيكون مجازا من محل السقوط من تسمية الحال باسم المحل.

الاحتمال التاسع : جهنم هاوية أي محل السقوط. ويراد بمحل السقوط أحد أمرين :

الأمر الأول : المسقط نفسه. وهذا يكون بالعمل. فالمسقط هو الدنيا ، والخسران يكون فيها. فالدنيا هاوية ، بهذا المعنى وليس جهنم ، إلّا أنه بسبب الدنيا يكون مستمر السقوط في جهنم.

الأمر الثاني : أن يكون المسقط بمعنى نتيجة السقوط. فهو يصل بانتهاء السقوط إلى جهنم ، أو إلى أحد دركاتها. أو قل يصل إلى مستواه الرديء الذي وصل إليه ثبوتا.

قال في الميزان (١) : وقيل : المراد بأمه : أم رأسه. والمعنى فأم رأسه هاوية أي ساقطة ، لأنهم يلقون في النار على أم رءوسهم.

ثم قال : ويبعده بقاء الضمير في قوله : ماهيه ، بلا مرجع ظاهر.

أقول : هذا ليس بصحيح ، لأننا حتى لو قلنا بأن أمه بمعنى أم رأسه ، إلّا أن يصلح ـ مع ذلك ـ مرجعا للضمير ، وإن فرضنا امتناع رجوعه إلى (أمه) فيرجع إلى الهاوية.

مضافا إلى أن أصل الوجه المذكور غير تام ، لأنه يحتاج إلى تقدير ، بأن

__________________

(١) ج ٢٠ ، ص ٣٤٩.

٢٧٩

يقال : فأم رأسه ، وهو خلاف الأصل وخلاف الظاهر.

سؤال : وهو ما ذكره الرازي في هامش العكبري (١) : من أنه كيف قال الله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ). أي رجحت سيئاته على حسناته فأمه هاوية أي فمسكنه النار. وأكثر المؤمنين سيئاتهم راجحة على حسناتهم.

جوابه : من عدة وجوه :

الوجه الأول : ما أجاب به بقوله (٢) : قوله تعالى : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) لا يدل على خلوده فيها. فيسكن المؤمن فيها بقدر ما تقتضيه ذنوبه ثم يخرج منها إلى الجنة.

الوجه الثاني : ما ذكره أيضا (٣) : قيل المراد بخفة الموازين خلوها من الحسنات بالكلية ، وذلك موازين الكفار.

أقول : وتعليقنا على ذلك من وجوه :

منها : أنه يمكن القول إن كل الناس لهم شيء من الحسنات. غير أن الحسنات إنما تكون حقيقية وثقيلة في الميزان بصحة الاعتقاد والولاية.

فيمكن حمل الحسنات هنا على مطلق الحسنات. فيكون المراد من : خفت موازينه أي قلّت حسناته أي ليس لها ثقل حقيقي وإن كانت موجودة.

أما الذنوب فهي ذات ثقل حقيقي وكبير. لأنها تكتسب مسئولية أخلاقية لا متناهية ، لأنها تعبر عن عصيان الأمر اللامتناهي في الوجود وفي الفضل والرحمة.

ويمكن تقديم تفسيرين لفهم كلام المشهور أنه لا حسنات له.

الأول : ما قلناه من أن الآية أشارت إلى الحسنات ولم تشر إلى السيئات.

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٥.

(٢) المصدر والصفحة.

(٣) المصدر والصفحة.

٢٨٠