روح المعاني - ج ٨

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٨

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٨

قيل : للمرأة والولد والخادم ، وقيل : للمرأة وحدها والجمع إما لظاهر لفظ الأهل أو للتفخيم كما في قول من قال:

وإن شئت حرمت النساء سواكم

وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة ونافع في رواية «لأهله امكثوا» بضم الهاء (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي أبصرتها إبصارا بينا لا شبهة فيه ، ومن ذلك إنسان العين والإنس خلاف الجن ، وقيل : الإيناس خاص بإبصار ما يؤنس به ، وقيل : هو بمعنى الوجدان ، قال الحارث بن حلزة :

آنست نبأة وقد راعها القن

اص يوما وقد دنا الإمساء

والجملة تعليل للأمر والمأمور به ولما كان الإيناس مقطوعا متيقنا حققه لهم بكلمة إن ليوطن أنفسهم وإن لم يكن ثمة تردد أو إنكار (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها) أي أجيئكم من النار (بِقَبَسٍ) بشعلة مقتبسة تكون على رأس عود ونحوه ففعل بمعنى مفعول وهو المراد بالشهاب القبس وبالجذوة في موضع آخر وتفسيره بالجمرة ليس بشيء ، وهذا الجار والمجرور متعلق بآتيكم ، وأما منها فيحتمل لأن يكون متعلقا به وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من (قبس) على ما قاله أبو البقاء (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) هاديا يدلني على الطريق على أنه مصدر سمي به الفاعل مبالغة أو حذف منه المضاف أي ذا هداية أو على أنه إذا وجد الهادي فقد وجد الهدى ، وعن الزجاج أن المراد هاديا يدلني على الماء فإنه عليه‌السلام قد ضل عن الماء ، وعن مجاهد. وقتادة أن المراد هاديا يهديني إلى أبواب الدين فإن أفكار الأبرار مغمورة بالهمم الدينية في عامة أحوالهم لا يشغلهم عنها شاغل وهو بعيد فإن مساق النظم الكريم تسلية أهله مع أنه قد نص في سورة القصص على ما يقتضي ما تقدم حيث قال : (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ) [القصص : ٢٩] الآية ، والمشهور كتابة هذه الكلمة بالياء.

وقال أبو البقاء : الجيد أن تكتب بالألف ولا تمال لأن الألف بدل التنوين في القول المحقق ، وقد أمالها قوم وفيه ثلاثة أوجه ، الأول أن يكون شبه ألف التنوين بلام الكلمة إذا اللفظ بهما في المقصور واحد ، الثاني أن يكون لام الكلمة ولم يبدل من التنوين شيء في النصب ، والثالث أن يكون على رأي من وقف في الأحوال الثلاثة من غير إبدال انتهى ، وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع وعلى على بابها من الاستعلاء والاستعلاء على النار مجاز مشهور صار حقيقة عرفية في الاستعلاء على مكان قريب ملاصق لها كما قال سيبويه في مررت بزيد : إنه لصوق بمكان يقرب منه ، وقال غير واحد : إن الجار والمجرور في موضع الحال من (هُدىً) وكان في موضع الصفة له فقدم والتقدير أو أجد هاديا أو ذا هدى مشرفا على النار ، والمراد مصطليا بها وعادة المصطلي الدنو من النار والإشراف عليها.

وعن ابن الأنباري أن على هاهنا بمعنى عند أو بمعنى مع أو بمعنى الباء ولا حاجة إلى ذلك وكان الظاهر عليها إلا أنه جيء بالظاهر تصريحا بما هو كالعلة لوجدان الهدى إذ النار لا تخلو من أناس عندها ، وصدرت الجملة بكلمة الترجي لما أن الإتيان وما عطف عليه ليسا محققي الوقوع بل هما مترقبان متوقعان. وهي على ما في إرشاد العقل السليم إما علة لفعل قد حذف ثقة بما يدل عليه من الأمر بالمكث والأخبار بإيناس النار وتفاديا عن التصريح بما يوحشهم ، وإما حال من فاعله أي فاذهب إليها لآتيكم أو كي آتيكم أو راجيا أن آتيكم منها بقبس الآية ، وقيل : هي صفة لنارا ، ومتى جاز جعل جملة الترجي صلة كما في قوله :

وإني لراج نظرة قبل التي

لعلي وإن شطت نواها أزورها

فليجز جعلها صفة فإن الصلة والصفة متقاربان ولا يخفى ما فيه (فَلَمَّا أَتاها) أي النار التي آنسها وكانت كما في بعض الروايات عن ابن عباس في شجرة عناب خضراء يانعة ، وقال عبد الله بن مسعود : كانت في سمرة ، وقيل : في شجرة عوسج. وأخرج الإمام أحمد في الزهد. وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه قال : لما

٤٨١

رأى موسى عليه‌السلام النار انطلق يسير حتى وقف منها قريبا فإذا هو بنار عظيمة تفور من ورق شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق لا تزداد النار فيما يرى إلا عظما وتضرما ولا تزداد الشجرة على شدة الحريق إلا خضرة وحسنا فوقف ينظر لا يدري علام يضع أمرها إلا أنه قد ظن أنها شجرة تحترق وأوقد إليها موقد فنالها فاحترقت وأنه إنما يمنع النار شدة خضرتها وكثرة مائها وكثافة ورقها وعظم جذعها فوضع أمرها على هذا فوقف وهو يطمع أن يسقط منها شيء فيقتبسه فلما طال عليه ذلك أهوى إليها بضغث في يده وهو يريد أن يقتبس من لهبها فلما فعل ذلك مالت نحوه كأنها تريده فاستأخر عنها وهاب ثم عاد فطاف بها ولم تزل تطمعه ويطمع بها ثم لم يكن شيء بأوشك من خمودها فاشتد عند ذلك عجبه وفكر في أمرها فقال : هي نار ممتنعة لا يقتبس منها ولكنها تتضرم في جوف شجرة فلا تحرقها ثم خمودها على قدر عظمها في أوشك من طرفة عين فلما رأى ذلك قال إن لهذه لشأنا ثم وضع أمرها على أنها مأمورة أو مصنوعة لا يدري من أمرها ولا بم أمرت ولا من صنعها ولا لم صنعت فوقف متحيرا لا يدري أيرجع أم يقيم فبينما هو على ذلك إذ رمى بطرفه نحو فرعها فإذا أشد ما كان خضرة ساطعة في السماء ينظر إليها تغشى الظلام ثم لم تزل الخضرة تنور وتصفر وتبيض حتى صارت نورا ساطعا عمودا بين السماء والأرض عليه مثل شعاع الشمس تكل دونه الأبصار كلما نظر إليه يكاد يخطف بصره فعند ذلك اشتد خوفه وحزنه فرد يده على عينيه ولصق بالأرض وسمع حينئذ شيئا لم يسمع السامعون بمثله عظما فلما بلغ موسى عليه‌السلام الكرب واشتد عليه الهول كان ما قص الله تعالى. وروي أنه عليه‌السلام كان كلما قرب منها تباعدت فإذا أدبر اتبعته فأيقن أن هذا أمر من أمور الله تعالى الخارقة للعادة ووقف متحيرا وسمع من السماء تسبيح الملائكة وألقيت عليه السكينة وكان ما كان.

وقالوا : النار أربعة أصناف صنف يأكل ولا يشرب وهي نار الدنيا ، وصنف يشرب ولا يأكل وهي نار الشجر الأخضر ، وصنف يأكل ويشرب وهي نار جهنم ، وصنف لا يأكل ولا يشرب وهي نار موسى عليه‌السلام. وقالوا أيضا هي أربعة أنواع : نوع له نور وإحراق وهي نار الدنيا ، ونوع لا نور له ولا إحراق وهي نار الأشجار. ونوع له إحراق بلا نور وهي نار جهنم. ونوع له نور بلا إحراق وهي نار موسى عليه‌السلام بل قال بعضهم : إنها لم تكن نارا بل هي نور من نور الرب تبارك وتعالى. وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذكر ذلك بلفظ النار بناء على حسبان موسى عليه‌السلام وليس في أخباره عليه‌السلام حسب حسبانه محذور كما توهم واستظهر ذلك أبو حيان وإليه ذهب الماوردي.

وقال سعيد بن جبير هي النار بعينها وهي إحدى حجب الله عزوجل واستدل له بما روي عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» ذكر ذلك البغوي وذكر في تفسير الخازن أن الحديث أخرجه مسلم وظاهر الآية يدل على أنه عليه‌السلام حين أتاها (نُودِيَ) من غير ريث وبذلك رد بعض المعتزلة الأخبار السابقة الدالة على تخلل زمان بين المجيء والنداء ، وأنت تعلم أن تخلل مثل ذلك الزمان مما لا يضر في مثل ما ذكر ، وزعم أيضا امتناع تحقق ظهور الخارق عند مجيئه النار قبل أن ينبأ إلا أن يكون ذلك معجزة لغيره من الأنبياء عليهم‌السلام ، وعندنا أن ذلك من الإرهاص الذي ينكره المعتزلة ، والظاهر أن القائم مقام فاعل (نُودِيَ) ضمير موسى عليه‌السلام ، وقيل : ضمير المصدر أي نودي النداء ، وقيل : هو قوله تعالى : (يا مُوسى) إلخ وكأن ذلك على اعتبار تضمين النداء معنى القول وإرادة هذا اللفظ من الجملة وإلا فقد قيل : إن الجملة لا تكون فاعلا ولا قائما مقامه في مثل هذا التركيب إلا بنحو هذا الضرب من التأويل.

وفي البحر مذهب الكوفيين معاملة النداء معاملة القول ومذهب البصريين إضمار القول في مثل هذه الآية أي نودي فقيل : (يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) ولذلك كسرت همزة إن في قراءة الجمهور ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو

٤٨٢

بفتحها على تقدير حرف الجر أي بأني ، والجار والمجرور على ما قال أبو البقاء. وغيره متعلق بنودي والنداء قد يوصل بحرف الجر أنشد أبو علي :

ناديت باسم ربيعة بن مكرم

إن المنوه باسمه الموثوق

ولا يخفى على ذي ذوق سليم حال التركيب على هذا التخريج وإنه إنما يحلو لو لم يكن المنادى فاصلا. وقيل : على تقدير حرف التعليل وتعلقه بفعل الأمر بعد وهو كما ترى. واختير أن الكلام على تقدير العلم أي اعلم أني إلخ ، وتكرير ضمير المتكلم لتأكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة ، واستظهر أن علمه عليه‌السلام بأن الذي ناداه هو الله تعالى حصل له بالضرورة خلقا منه تعالى فيه ، وقيل : بالاستدلال بما شاهد قبل النداء من الخارق ، وقيل : بما حصل له من ذلك بعد النداء ، فقد روي أنه عليه‌السلام لما نودي يا موسى قال عليه‌السلام : من المتكلم؟ فقال : أنا ربك فوسوس إليه إبليس اللعين لعلك تسمع كلام شيطان فقال عليه‌السلام : أنا عرفت أنه كلام الله تعالى بأني أسمعه من جميع الجهات بجميع الأعضاء ، والخارق فيه أمران سماعه من جميع الجهات وكون ذلك بجميع الأعضاء التي من شأنها السماء والتي لم يكن من شأنها ، وقيل : الخارق فيه أمر واحد وهو السماع بجميع الأعضاء ، وهو المراد بالسماع من جميع الجهات ، وأيّا ما كان فلا يخفى صحة الاستدلال بذلك على المطلوب إلا أن في صحة الخبر خفاء ولم أر له سندا يعول عليه ، وحضور الشيطان ووسوسته لموسى عليه‌السلام في ذلك الوادي المقدس والحضرة الجليلة في غاية البعد. والمعتزلة أوجبوا أن يكون العلم بالاستدلال بالخارق ولم يجوزوا أن يكون بالضرورة قالوا لأنه لو حصل العلم الضروري بكون هذا النداء كلام الله تعالى لحصل العلم الضروري بوجود الصانع القادر العالم لاستحالة أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات تكون معلومة بالاستدلال ولو كان وجود الصانع تعالى معلوما بالضرورة لخرج موسى عليه‌السلام عن كونه مكلفا لأن حصول العلم الضروري ينافي التكليف وبالاتفاق أنه عليه‌السلام لم يخرج عن التكليف فعلمنا أن الله تعالى عرفه ذلك بالخارق وفي تعيينه اختلاف.

وقال بعضهم : لا حاجة بنا إلى أن نعرف ذلك الخارق ما هو ، وأخرج أحمد وغيره عن وهب أنه عليه‌السلام لما اشتد عليه الهول نودي من الشجرة ، فقيل : يا موسى فأجاب سريعا وما يدري من دعاه وما كان سرعة إجابته إلا استئناسا بالإنس فقال : لبيك مرارا إني لأسمع صوتك وأحس حسك ولا أرى مكانك فأين أنت : قال : أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك وأقرب إليك من نفسك فلما سمع هذا موسى عليه‌السلام علم أنه لا ينبغي ذلك إلا لربه تعالى فأيقن به فقال : كذلك أنت يا إلهي فكلامك أسمع أم رسولك؟ قال : بل أنا الذي أكلمك ، ولا يخفى تخريج هذا الأثر على مذهب السلف ومذهب الصوفية وأنه لا يحصل الإيقان بمجرد سماع ما لا ينبغي أن يكون إلا لله تعالى من الصفات إذا فتح باب الوسوسة ، ثم إن هذا الأثر ظاهر في أن موسى عليه‌السلام سمع الكلام اللفظي منه تعالى بلا واسطة ولذا اختص عليه‌السلام باسم الكليم وهو مذهب جماعة من أهل السنة وذلك الكلام قديم عندهم. وأجابوا عن استلزام اللفظ الحدوث لأنه لا يوجد بعضه إلا بتقضي بعض آخر بأنه إنما يلزم من التلفظ بآلة وجارحة وهي اللسان أما إذا كان بدونها فيوجد دفعة واحدة كما يشاهد في الحروف المرسومة بطبع الخاتم دون القلم ويلزمهم أن يؤولوا قوله تعالى : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ) إلخ بأن يقولوا : المراد فلما أتاها أسمع النداء أو نحو ذلك وإلا فمجيء النار حادث والمرتب على الحادث حادث ، ولذا زعم أهل ما وراء النهر من أهل السنة القائلين بقدم الكلام أن هذا الكلام الذي سمعه موسى عليه‌السلام حادث وهو صوت خلقه الله تعالى في الشجرة ، وأهل البدعة أجمعوا على أن الكلام اللفظي حادث بيد أن منهم من جوز قيام الحوادث به تعالى شأنه ومنهم من لم يجوز ، وزعم أن الذي سمعه موسى عليه‌السلام خلقه الله عزوجل في جسم من الأجسام كالشجرة أو غيرها.

٤٨٣

وقال الأشعري : إن الله تعالى أسمع موسى عليه‌السلام كلامه النفسي الذي ليس بحرف ولا صوت ولا سبيل للعقل إلى معرفة ذلك ، وقد حققه بعضهم بأنه عليه‌السلام تلقى ذلك الكلام تلقيا روحانيا كما تتلقى الملائكة عليهم‌السلام كلامه تعالى لا من جارحة ثم أفاضته الروح بواسطة قوة العقل على القوى النفسية ورسمته في الحس المشترك بصور ألفاظ مخصوصة فصار لقوة تصوره كأنه يسمعه من الخارج وهذا كما يرى النائم أنه يكلم ويتكلم ، ووجه وقوف الشيطان المار في الخبر الذي سمعت ما فيه على هذا بأنه يحتمل أن يكون كذلك ، ويحتمل أن يكون بالتفرس من كون هيئته عليه‌السلام على هيئة المصغي المتأمل لما يسمعه وهو كما ترى ، وقد تقدم لك في المقدمات ما عسى ينفعك مراجعته هنا فراجعه وتأمل ، واعلم أن شأن الله تعالى شأنه كله غريب وسبحان الله العزيز الحكيم (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) أزلهما من رجليك والنعل معروفة وهي مؤنثة يقال في تصغيرها نعيلة ويقال فيها نعل : بفتح العين أنشد الفراء :

له نعل لا يطبى الكلب ريحها

وإن وضعت بين المجالس شمت

وأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك لما أنهما كانتا من جلد حمار ميت غير مدبوغ كما روي عن الصادق رضي الله تعالى عنه وعكرمة وقتادة والسدي ومقاتل والضحاك والكلبي ، وروي كونهما من جلد حمار في حديث غريب. فقد أخرج الترمذي بسنده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان على موسى عليه‌السلام يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف أي قلنسوة صغيرة وسراويل صوف وكانت نعلاه من جلد حمار» ، وعن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وابن جريج أنهما كانتا من جلد بقرة ذكيت ولكن أمر عليه‌السلام بخلعهما ليباشر بقدميه الأرض فتصيبه بركة الوادي المقدس.

وقال الأصم : لأن الحفوة أدخل في التواضع. وحسن الأدب ولذلك كان السلف الصالحون يطوفون بالكعبة حافين ، ولا يخفى أن هذا ممنوع عند القائل بأفضلية الصلاة بالنعال كما جاء في بعض الآثار ، ولعل الأصم لم يسمع ذلك أو يجيب عنه.

وقال أبو مسلم : لأنه تعالى أمنه من الخوف وأوقفه بالموضع الطاهر وهو عليه‌السلام إنما لبسهما اتقاء من الإنجاس وخوفا من الحشرات ، وقيل : المعنى فرغ قلبك من الأهل والمال. وقيل : من الدنيا والآخرة.

ووجه ذلك أن يراد بالنعل كل ما يرتفق به ، وغلب على ما ذكر تحقيرا ، ولذا أطلق على الزوجة نعل كما في كتب اللغة ، ولا يخفى عليك أنه بعيد وإن وجه بما ذكر وهو أليق بباب الإشارة ، والفاء لترتيب الأمر على ما قبلها فإن ربوبيته تعالى له عليه‌السلام من موجبات الأمر ودواعيه ، وقوله تعالى (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) تعليل لموجب الخلع المأمور به وبيان لسبب ورود الأمر بذلك من شرف البقعة وقدسها. روي أنه عليه‌السلام حين أمر خلعهما وألقاهما وراء الوادي (طُوىً) بضم الطاء غير منون.

وقرأ الكوفيون وابن عامر بضمها منونا وقرأ الحسن والأعمش وأبو حيوة وابن أبي إسحاق وأبو السمال وابن محيصن بكسرها منونا وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو بكسرها غير منون ؛ وهو علم لذلك الوادي فيكون بدلا أو عطف بيان ، ومن نونه فعلى تأويل المكان ومن لم ينونه فعلى تأويل البقعة فهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث ، وقيل (طُوىً) المضموم الطاء الغير المنون ممنوع من الصرف للعلمية والعدل كزفر وقثم ، وقيل : للعلمية والعجمة ؛ وقال قطرب : يقال طوى من الليل أي ساعة أي قدس لك ساعة من الليل وهي ساعة أن نودي فيكون معمولا للمقدس ، وفي العجائب للكرماني قيل : هو معرب معناه ليلا وكأنه أراد قول قطرب ، وقيل : هو رجل بالعبرانية وكأنه على هذا منادى ، وقال الحسن : طوى بكسر الطاء والتنوين مصدر كثنى لفظا ومعنى ، وهو عنده معمول للمقدس أيضا أي قدس مرة بعد أخرى ، وجوز أن يكون معمولا لنودي أي نودي نداءين ، وقال ابن السيد : إنه ما يطوى من جلد الحية ويقال : فعل

٤٨٤

الشيء طوى أي مرتين فيكون موضوعا موضع المصدر ، وأنشد الطبرسي لعدي بن زيد :

أعاذل إن اللوم في غير كنهه

على طوى من غيك المتردد

وذكر الراغب أنه إذا كان بمعنى مرتين يفتح أوله ويكسر ، ولا يخفى عليك أن الأظهر كونه اسما للوادي في جميع القراءات (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) أي اصطفيتك من الناس أو من قومك للنبوة والرسالة. وقرأ السلمي وابن هرمز والأعمش في رواية «وإنا» بكسر الهمزة وتشديد النون مع ألف بعدها «اخترناك» بالنون والألف ، وكذا قرأ طلحة وابن أبي ليلى وحمزة وخلف والأعمش في رواية أخرى إلا أنهم فتحوا همزة إن ، وذلك بتقدير أعلم أي واعلم أنا اخترناك ، وهو على ما قيل عطف على «اخلع» ، ويجوز عند من قرأ «أني أنا ربك» بالفتح أن يكون العطف عليه سواء كان متعلقا بنودي كما قيل أو معمولا لا علم مقدرا كما اختير.

وجوز أبو البقاء أن يكون بتقدير اللام وهو متعلق بما بعده أي لأنا اخترناك (فَاسْتَمِعْ) وهو كما ترى ، والفاء في قوله تعالى (فَاسْتَمِعْ) لترتيب الأمر والمأمور به على ما قبلها فإن اختياره عليه‌السلام لما ذكر من موجبات الاستماع والأمر به ، واللام في قوله سبحانه (لِما يُوحى) متعلقة باستمع ، وجوز أن تكون متعلقة باخترناك ، ورده أبو حيان بأنه يكون حينئذ من باب الأعمال ويجب أو يختار حينئذ إعادة الضمير مع الثاني بأن يقال : فاستمع له لما يوحى.

وأجيب بأن المراد جواز تعلقها بكل من الفعلين على البدل لا على أنه من الأعمال. واعترض على هذا بأن قوله تعالى (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) بدل من ما (يُوحى) ولا ريب في أن اختياره عليه‌السلام ليس لهذا فقط والتعلق باخترناك كيفما كان يقتضيه. وأجيب بأنه من باب التنصيص على ما هو الأهم والأصل الأصيل ، وقيل : هي سيف خطيب فلا متعلق لها كما في (رَدِفَ لَكُمْ) [النمل : ٧٢] وما موصولة.

وجوز أن تكون مصدرية أي فاستمع للذي يوحى إليك أو للوحي ، وفي أمره عليه‌السلام بالاستماع إشارة إلى عظم ذلك وأنه يقتضي التأهب له ، قال أبو الفضل الجوهري : لما قيل لموسى عليه‌السلام استمع لما يوحى وقف على حجر واستند إلى حجر ووضع يمينه على شماله وألقى ذقنه على صدره وأصغى بشراشره.

وقال وهب : أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر والإصغاء بالسمع وحضور العقل والعزم على العمل وذلك هو الاستماع لما يحب الله تعالى ، وحذف الفاعل في (يُوحى) للعلم به ويحسنه كونه فاصلة فإنه لو كان مبنيا للفاعل لم يكن فاصلة ، والفاء في قوله تعالى (فَاعْبُدْنِي) لترتيب المأمور به على ما قبلها فإن اختصاص الألوهية به تعالى شأنه من موجبات تخصيص العبادة به عزوجل ، والمراد بها غاية التذلل والانقياد له تعالى في جميع ما يكلفه به ، وقيل : المراد بها هنا التوحيد كما في قوله سبحانه (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] والأول أولى (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) خصت الصلاة بالذكر وأفردت بالأمر مع اندراجها في الأمر بالعبادة لفضلها وإنافتها على سائر العبادات بما نيطت به من ذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره ، وقد سماها الله تعالى إيمانا في قوله سبحانه (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣].

واختلف العلماء في كفر تاركها كسلا كما فصل في محله ، وقوله تعالى (لِذِكْرِي) الظاهر أنه متعلق بأقم أي أقم الصلاة لتذكرني فيها لاشتمالها على الأذكار ، وروي ذلك عن مجاهد ، وقريب منه ما قيل أي لتكون لي ذاكرا غير ناس فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم وتوكيل هممهم وأفكارهم به ، وفرق بينهما بأن المراد بالإقامة على الأول تعديل الأركان ، وعلى الثاني الإدامة وجعلت الصلاة في الأول مكانا للذكر ومقره وعلته ، وعلى الثاني جعلت إقامة الصلاة أي إدامتها علة لإدامة الذكر كأنه قيل أدم الصلاة لتستعين بها على استغراق فكرك وهمك في الذكر كقوله تعالى (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة : ٤٥].

٤٨٥

وجوز أن يكون متعلقا باعبدني أو بأقم على أنه من باب الأعمال أي لتكون ذاكرا لي بالعبادة وإقامة الصلاة ، وإذا عمم الذكر ليتناول القلبي والقالبي جاز اعتبار باب الأعمال في الأول أيضا وهو خلاف الظاهر.

وقيل : المراد (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) خاصة لا ترائي بها ولا تشوبها بذكر غيري أو لإخلاص ذكري وابتغاء وجهي ولا تقصد بها غرضا آخر كقوله تعالى (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) [الكوثر : ٢] أو لأن أذكرك بالثناء أي لأثني عليك وأثيبك بها أو لذكري إياها في الكتب الإلهية وأمري بها أو لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلوات فاللام وقتية بمعنى عند مثلها في قوله تعالى (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) [الفجر : ٢٤] وقولك : كان ذلك لخمس ليال خلون ، ومن الناس من حمل الذكر على ذكر الصلاة بعد نسيانها ، وروي ذلك عن أبي جعفر ، واللام حينئذ وقتية أو تعليلية ، والمراد أقم الصلاة عند تذكرها أو لأجل تذكرها والكلام على تقدير مضاف والأصل لذكر صلاتي أو يقال : إن ذكر الصلاة سبب لذكر الله تعالى فأطلق المسبب على السبب أو أنه وقع ضمير الله تعالى موقع ضمير الصلاة لشرفها أو أن المراد للذكر الحاصل مني فأضيف الذكر إلى الله عزوجل لهذه الملابسة ، والذي حمل القائل على هذا الحمل أنه ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نام عن صلاة الصبح فلما قضاها قال : من نسي صلاة فليقضها إذا ذكرها فإن الله تعالى قال : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) فظن هذا القائل أنه لو لم يحمل هذا الحمل لم يصح التعليل وهو من بعض الظن فإن التعليل كما في الكشف صحيح والذكر على ما فسر في الوجه الأول وأراد عليه الصلاة والسّلام أنه إذا ذكر الصلاة انتقل من ذكرها إلى ذكر ما شرعت له وهو ذكر الله تعالى فيحمله على إقامتها ، وقال بعض المحققين : إنه لما جعل المقصود الأصلي من الصلاة ذكر الله تعالى وهو حاصل مطلوب في كل وقت فإذا فاته الوقت المحدود له ينبغي المبادرة إليه ما أمكنه فهو من إشارة النص لا من منطوقه حتى يحتاج إلى التمحل فافهم.

وإضافة «ذكر» إلى الضمير تحتمل أن تكون من إضافة المصدر إلى مفعوله وأن تكون من إضافة المصدر إلى فاعله حسب اختلاف التفسير.

وقرأ السلمي والنخعي وأبو رجاء «للذكرى» بلام التعريف وألف التأنيث ، وقرأت فرقة «لذكري» بألف التأنيث بغير لام التعريف ، وأخرى «للذكر» بالتعريف والتذكير وقوله تعالى (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) تعليل لوجوب العبادة وإقامة الصلاة أي كائنة لا محالة ، وإنما عبر عن ذلك بالإتيان تحقيقا لحصولها بإبرازها في معرض أمر محقق متوجه نحو المخاطبين (أَكادُ أُخْفِيها) أقرب أن أخفي الساعة ولا أظهرها بأن أقول إنها آتية ولو لا أن في الأخبار بذلك من اللطف وقطع الأعذار لما فعلت ، وحاصله أكاد أبالغ في إخفائها فلا أجمل كما لم أفصل ، والمقاربة هنا مجاز كما نص عليه أبو حيان أو أريد إخفاء وقتها المعين وعدم إظهاره وإلى ذلك ذهب الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم ومن مجيء كاد بمعنى أراد كما قال ابن جني في المحتسب قوله :

كادت وكدت وتلك خير إرادة

لو عاد من لهو الصبابة ما مضى

وروي عن ابن عباس وجعفر الصادق رضي الله تعالى عنهما أن المعنى أكاد أخفيها من نفسي ، ويؤيده أن في مصحف أبي كذلك ، وروى ابن خالويه عنه ذلك بزيادة فكيف أظهركم عليها ، وفي بعض القراءات بزيادة فكيف أظهرها لكم ، وفي مصحف عبد الله بزيادة فكيف يعلمها مخلوق وهذا محمول على ما جرت به عادة العرب من أن أحدهم إذا أراد المبالغة في كتمان الشيء قال : كدت أخفيه من نفسي ومن ذلك قوله :

أيام تصحبني هند وأخبرها

ما كدت أكتمه عني من الخبر

٤٨٦

ونحو هذا من المبالغة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم تحت ظله «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» وبجعل ذلك من باب المبالغة يندفع ما قيل إن إخفاء ذلك من نفسه سبحانه محال فلا يناسب دخول كاد عليه ، ولا حاجة لما قيل : إن معنى من نفسي من تلقائي ومن عندي ، والقرينة على هذا المحذوف إثباته في المصاحف ، وكونه قرينة خارجية لا يضر إذ لا يلزم في القرينة وجودها في الكلام. وقيل : الدليل عليه أنه لا بد لأخفيها من متعلق وهو من يخفى منه. ولا يجوز أن يكون من الخلق لأنه تعالى أخفاها عنهم لقوله سبحانه (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان : ٣٤] فيتعين ما ذكر. وفيه أن عدم صحة تقدير من الخلق ممنوع لجواز إرادة إخفاء تفصيلها وتعيينها مع أنه يجوز أن لا يقدر له متعلق ، والمعنى أوجد إخفاءها ولا أقول : إنها آتية.

وقال أبو علي : المعنى أكاد أظهرها بإيقاعها على أن أخفيها من ألفاظ السلب بمعنى أزيل خفاءها أي ساترها وهو في الأصل ما يلف به القربة ونحوها من كساء وما يجري مجراه. ومن ذلك قول امرئ القيس :

فإن تدفنوا الداء لا نخفه

وإن توقدوا الحرب لا نقعد

ويؤيده قراءة أبي الدرداء وابن جبير والحسن ومجاهد وحميد ورويت عن ابن كثير وعاصم «أخفيها» بفتح الهمزة فإن خفاه بمعنى أظهره لا غير في المشهور ، وقال أبو عبيدة كما حكاه أبو الخطاب أحد رؤساء اللغة : خفيت وأخفيت بمعنى واحد. ومتعلق الإخفاء على الوجه السابق في تفسير قراءة الجمهور والإظهار ليس شيئا واحدا حتى تتعارض القراءتان. وقالت فرقة : خبر كاد محذوف أكاد آتي بها كما حذف في قوله ضابئ البرجمي :

هممت ولم أفعل وكدت وليتني

تركت على عثمان تبكي حلائله

أي وكدت أفعل وتم الكلام ثم استأنف الأخبار بأنه تعالى يخفيها ، واختار النحاس وقالت فرقة أخرى : (أَكادُ) زائدة لا دخول لها في المعنى بل المراد الإخبار بأن الساعة آتية وإن الله تعالى يخفى وقت إتيانها. وروي هذا المعنى عن ابن جبير واستدلوا على زيادة كاد بقوله تعالى : (لَمْ يَكَدْ يَراها) [النور : ٤٠] ويقول زيد الخيل :

سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه

فما أن يكاد قرنه يتنفس

ولا حجة في ذلك كما لا يخفى (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) متعلق بآتية كما قال صاحب اللوامح وغيره وما بينهما اعتراض لا صفة حتى يلزم إعمال اسم الفاعل الموصوف وهو لا يجوز على رأي البصريين أو باخفيها على أن المراد أظهرها لا على أن المراد أسترها لأنه لا وجه لقولك. أسترها لأجل الجزاء ، وبعضهم جوز ذلك ، ووجهه بأن تعمية وقتها لتنتظر ساعة فساعة فيحترز عن المعصية ويجتهد في الطاعة. وتعقب بأنه تكلف ظاهر مع أنه لا صحة له إلا بتقدير لينتظر الجزاء أو لتخاف وتخشى ، وما مصدرية أي لتجزى بسعيها وعملها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وهذا التعميم هو الظاهر ، وقيل : لتجزى بسعيها في تحصيل ما ذكر من الأمور المأمور بها ، وتخصيصه في معرض الغاية لإتيانها مع أنه لجزاء كل نفس بما صدر عنها سواء كان سعيا فيما ذكر أو تقاعدا عنه بالمرة أو سعيا في تحصيل ما يضاده للإيذان بأن المراد بالذات من إتيانها هو الإثابة بالعبادة ، وأما العقاب بتركها فمن مقتضيات سوء اختيار العصاة وبأن المأمور به في قوة الوجوب والساعة في شدة الهول والفظاعة بحيث يوجبان على كل نفس أن تسعى في الامتثال بالأمر وتجد في تحصيل ما ينجيها من الطاعات وتحترز عن اقتراف ما يرديها من المعاصي انتهى.

ولا يخفى ما فيه ، وقيل : ما موصولة أي بالذي تسعى فيه ، وفيه حذف العائد المجرور بالحرف مع فقد شرطه.

وأجيب بأنه يجوز أن يكون القائل لا يشترط ، وقيل : يقدر منصوبا على التوسع (فَلا يَصُدَّنَّكَ) خطاب لموسى

٤٨٧

عليه‌السلام ، وزعم بعضهم أنه لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفظا ولأمته معنى وهو في غاية البعد (عَنْها) أي الساعة ، والمراد عن ذكرها ومراقبتها ، وقيل : عن الإيمان بإتيانها ورجح الأول بأنه الأليق بشأن موسى عليه‌السلام وإن كان النهي بطريق التهييج والإلهاب ورجوع ضمير (عَنْها) إلى الساعة هو الظاهر وكذا رجوع ضمير (بِها) في قوله تعالى (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) وقيل : الضميران راجعان إلى الصلاة ، وقيل : ضمير (عَنْها) راجع إلى الصلاة وضمير بها راجع إلى الساعة وقيل : الضميران راجعان إلى كلمة (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) وقيل : الأول راجع إلى العبادة والثاني راجع إلى الساعة ، وقيل : هما راجعان إلى الخصال المذكورة ، وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر غير مرة من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ولأن في المؤخر نوع طول ربما يخل تقديمه بجزالة النظم الكريم ، والنهي وإن كان بحسب الظاهر نهيا للكافر عن صد موسى عليه‌السلام عن الساعة لكنه في الحقيقة نهي له عليه‌السلام عن الانصداد عنها على أبلغ وجه وآكده فإن النهي عن أسباب الشيء ومبادئه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني وإبطال للسببية عن أصلها كما في قوله تعالى (لا يَجْرِمَنَّكُمْ) [المائدة : ٢ ـ ٨ ـ هود : ٨٩] إلخ فإن صد الكافر حيث كان سببا لانصداده عليه‌السلام كان النهي عنه نهيا بأصله وموجبه وإبطالا له بالكلية ، ويجوز أن يكون نهيا عن السبب على أن يراد نهيه عليه‌السلام عن إظهار لين الجانب للكفرة فإن ذلك سبب لصدهم إياه عليه‌السلام كما في قوله : ـ لا أرينك هاهنا ـ فإن المراد به نهي المخاطب عن الحضور لديه الموجب لرؤيته فكأنه قيل : كن شديد الشكيمة صلب المعجم حتى لا يتلوح منك لمن يكفر بالساعة وينكر البعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه ، وفيه حث على الصلابة في الدين وعدم اللين المطمع لمن كفر (وَاتَّبَعَ هَواهُ) أي ما تهواه نفسه من اللذات الحسية الفانية فصده عن الإيمان (فَتَرْدى) أي فتهلك فإن الإغفال عن الساعة وعن تحصيل ما ينجي عن أحوالها مستتبع للهلاك لا محالة.

وذكر العلامة الطيبي أنه يمكن أن يحمل (مَنْ لا يُؤْمِنُ) على المعرض عن عبادة الله تعالى المتهالك في الدنيا المنغمس في لذاتها وشهواتها بدليل (وَاتَّبَعَ) إلخ ويحمل نهي الصد على نهي النظر إلى متمتعاته من زهرة الحياة الدنيا ليكون على وزان قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً) [الحجر : ٨٧ ، ٨٨] إلخ ، ويحمل متابعة الهوى على الميل إلى الإخلاد إلى الأرض كقوله تعالى (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) [الأعراف : ١٧٦] يعني تفرغ لعبادتي ولا تلتفت إلى ما الكفرة فيه فإنه مهلك فإن ما أوليناك واخترناه لك هو المقصد الأسنى وفي هذا حث عظيم على الاشتغال بالعبادة وزجر بليغ عن الركون إلى الدنيا ونعيمها ، ولا يخلو عن حسن وإن كان خلاف الظاهر. و «تردى» يحتمل أن يكون منصوبا في جواب النهي وأن يكون مرفوعا والجملة خبر مبتدأ محذوف أي فأنت تردى بسبب ذلك. وقرأ يحيى «فتردى» بكسر التاء.

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦)

٤٨٨

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)(٤٤)

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) شروع في حكاية ما كلفه عليه‌السلام من الأمور المتعلق بالخلق إثر حكاية ما أمر به من الشئون الخاصة بنفسه. فما استفهامية في محل الرفع بالابتداء و (تِلْكَ) خبره أو بالعكس وهو أدخل بحسب المعنى وأوفق بالجواب و (بِيَمِينِكَ) متعلق بمضمر وقع حالا من (تِلْكَ) أي وما تلك قارة أو مأخوذة بيمينك والعامل فيه ما فيه من معنى الإشارة كما في قوله عزّ وعلا حكاية (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] وتسميه النحاة عاملا معنويا.

وقال ابن عطية : (تِلْكَ) اسم موصول و (بِيَمِينِكَ) متعلق بمحذوف صلته أي وما التي استقرت بيمينك. وهو على مذهب الكوفيين الذين يقولون إن كل اسم إشارة يجوز أن يكون اسما موصولا. ومذهب البصريين عدم جواز ذلك إلا في ذا بشرطه. والاستفهام تقريري وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى بيان المراد منه (قالَ هِيَ عَصايَ) نسبها عليه‌السلام إلى نفسه تحقيقا لوجه كونها بيمينه وتمهيدا لما يعقبه من الأفاعيل المنسوبة إليه عليه‌السلام. واسمها على ما روي عن مقاتل نبعة. وكان عليه‌السلام قد أخذها من بيت عصى الأنبياء عليهم‌السلام التي كانت عند شعيب حين استأجره للرعي هبط بها آدم عليه‌السلام من الجنة وكانت فيما يقال من آسها. وقال وهب : كانت من العوسج وطولها عشرة أذرع على مقدار قامته عليه‌السلام. وقيل : اثنتا عشرة ذراعا بذراع موسى عليه‌السلام. وذكر المسند إليه وإن كان هو الأصل لرغبته عليه‌السلام في المناجاة ومزيد لذاذته بذلك. وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري «عصي» بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء المتكلم على لغة هذيل فإنهم يقلبون الألف التي قبل ياء المتكلم ياء للمجانسة كما يكسر ما قبلها في الصحيح. قال شاعرهم :

سبقوا هوى وأعنقوا لهواهم

فتخرموا ولكل جنب مصرع

وقرأ الحسن «عصاي» بكسر الباء وهي مروية عن أبي ابن إسحاق أيضا وأبي عمرو ، وهذه الكسرة لالتقاء الساكنين كما في البحر. وعن ابن أبي إسحاق «عصاي» بسكون الياء كأنه اعتبر الوقف ولم يبال بالتقاء الساكنين ، والعصا من المؤنثات السماعية ولا تلحقها التاء ، وأول لحن سمع بالعراق كما قال الفراء : هذه عصاتي وتجمع على عصي بكسر أوله وضمه وأعص وأعصاء (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أي أتحامل عليها في المشي والوقوف على رأس القطيع ونحو ذلك (وَأَهُشُّ بِها) أي أخبط بها ورق الشجر وأضربه ليسقط (عَلى غَنَمِي) فتأكله. وقرأ النخعي كما ذكر أبو الفضل الرازي. وابن عطية «أهشّ» بكسر الهاء ومعناه كمعنى مضموم الهاء ، والمفعول على القراءتين محذوف كما أشرنا إليه.

وقال أبو الفضل : يحتمل أن يكون ذلك من هش يهش هشاشة إذ مال أي أميل بها على غنمي بما يصلحها من السوق وإسقاط الورق لتأكله ونحوهما ، ويقال : هش الورق والكلأ والنبات إذا جف ولان انتهى. وعلى هذا لا حذف.

٤٨٩

وقرأ الحسن وعكرمة «أهشّ» بضم الهاء والسين المهملة من الهس وهو زجر الغنم ، وتعديته بعلى لتضمين معنى الإنحاء يقال : أنحى عليه بالعصا إذا رفعها عليه موهما للضرب أي أزجرها منحيا عليها. وفي كتاب السين والشين لصاحب القاموس يقال : هس الشيء وهشه إذا فته وكسره فهما بمعنى. ونقل ابن خالويه عن النخعي أنه قرأ «أهش» من أهش رباعيا.

وذكر صاحب اللوامح عن عكرمة. ومجاهد «أهش» بضم الهاء وتخفيف الشين المعجمة ثم قال : لا أعرف وجهه إلا أن يكون بمعنى أهش بالتضعيف لكن فر منه لأن الشين فيه تفش فاستثقل الجمع بين التضعيف والتفشي فيكون كتخفيف ظلت ونحوه اه وهو في غاية البعد. وقرأ جماعة «غنمي» بسكون النون. وأخرى «على غنمي» على أن «على» جار ومجرور و «غنمي» مفعول صريح للفعل السابق ، ولم أقف على ذكر كيفية قراءة هذه الجماعة ذلك الفعل وهو على قراءة الجمهور مما لا يظهر تعديه للغنم ، وكذا على قراءة غيرهم إلا بنوع تكلف ، والغنم الشاة وهو اسم مؤنث موضوع للجنس يقع على الذكر والإناث وعليهما جميعا ولا واحد له من لفظه وإنما واحده شاة وإذا صغرته قلت غنيمة بالهاء ويجمع على أغنام وغنوم وأغانم ، وقالوا : غنمان في التثنية على إرادة قطعتين وقدم عليه‌السلام بيان مصلحة نفسه في قوله : أتوكأ عليها وثنى بمصلحة رعيته في قوله : (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) ولعل ذلك لأنه عليه‌السلام كان قريب العهد بالتوكؤ فكان أسبق إلى ذهنه ويليه الهش على غنمه. وقد روى الإمام أحمد أنه عليه‌السلام بعد أن ناداه ربه سبحانه وتحقق أنه جل وعلا هو المنادي قال سبحانه له : ادن مني فجمع يديه في العصا ثم تحامل حتى استقل قائما فرعدت فرائصه حتى اختلفت واضطربت رجلاه وانقطع لسانه وانكسر قلبه ولم يبق منه عظم يحمل آخر فهو بمنزلة الميت إلا أن روح الحياة تجري فيه ثم زحف وهو مرعوب حتى وقف قريبا من الشجرة التي نودي منها فقال له الرب تبارك وتعالى ما تلك بيمينك يا موسى؟ فقال ما قص عزوجل ، وقيل : لعل تقديم التوكؤ عليها لأنه الأوفق للسؤال بما تلك بيمينك ، ثم إنه عليه‌السلام أجمل أوصافها في قوله (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) أي حاجات أخر ومفرده مأربة مثلثة الراء. وعومل في الوصف معاملة مفردة فلم يقل أخر وذلك جائز في غير الفواصل وفيها كما هنا أجوز وأحسن.

ونقل الأهوازي في كتاب الاقناع عن الزهري. وشيبة أنهما قرءا «مأرب» بغير همز وكأنه يعني بغير همز محقق ، ومحصله أنهما سهلا الهمزة بين بين ، وقد روى الإمام أحمد وغيره عن وهب في تعيين هذه المآرب أنه كان لها شعبتان ومحجن تحتهما فإذا طال الغصن حناه بالمحجن وإذا أراد كسره لواه بالشعبتين وكان إذا شاء عليه‌السلام ألقاها على عاتقه فعلق بها قوسه وكنانته ومخلاته وثوبه وزادا إن كان معه وكان إذا رتع في البرية حيث لا ظل له ركزها ثم عرض بالزندين الزند الأعلى والزند السفلي على شعبتيها وألقى فوقها كساءه فاستظل بها ما كان مرتعا ، وكان إذا ورد ماء يقصر عنه رشاؤه وصل بها ، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه.

وذكر بعضهم أنه كان عليه‌السلام يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلوا وتكونان شمعتين في الليل وإذا ظهر عدو حاربت عنه وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت وكان يحمل عليها زاده وسقاء فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء وإذا رفعها نضب وكانت تقيه الهوام وكانت تحدثه وتؤنسه ، ونقل الطبرسي كثيرا مما ذكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

والظاهر أن ذلك مما كان فيها بعد ، وتكلف بعضهم للقول بأنه مما كان قبل. ويحتمل إن صح خبر في ذلك ولا أراه يصح فيه شيء ، وكأن المراد من سؤاله تعالى إياه عليه‌السلام أن يعدد المرافق الكثيرة التي علقها بالعصا

٤٩٠

ويستكثرها ويستعظمها ثم يريه تعالى عقب ذلك الآية العظيمة كأنه جل وعلا يقول : أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى المنسية عندها كل منفعة ومأربة كنت تعتد بها وتحتفل بشأنها فما طالبة للوصف أو يقدر المنفعة بعدها. واختيار ما يدل على البعد في اسم الإشارة للإشارة إلى التعظيم وكذا في النداء إيماء إليه والتعداد في الجواب لأجله ، و (مَآرِبُ أُخْرى) تتميم للاستعظام بأنها أكثر من أن تحصى ، وذكر العصا في الجواب ليجري عليها النعوت المادحة وفيه من تعظيم شأنها ما ليس في ترك ذكرها ، ويندفع بهذا ما أورد من أنه يلزم على هذا الوجه استدراك (هِيَ عَصايَ) إذ لا دخل له في تعداد المنافع.

ويجوز أن يكون المراد إظهاره عليه‌السلام حقارتها ليريه عزوجل عظيم ما يخترعه في الخشبة اليابسة مما يدل على باهر قدرته سبحانه كما هو شأن من أراد أن يظهر من الشيء الحقير شيئا عظيما فإنه يعرضه على الحاضرين ويقول ما هذا؟ فيقولون هو الشيء الفلاني ويصفونه بما يبعد عما يريد إظهاره منه ثم يظهر ذلك فما طالبة للجنس و (تِلْكَ) للتحقير والتعداد في الجواب لأجله (مَآرِبُ أُخْرى) تتميم لذلك أيضا بأن المسكوت عنه من جنس المنطوق فكأنه عليه‌السلام قال : هي خشبة يابسة لا تنفع إلا منافع سائر الخشبات ولذلك ذكر عليه‌السلام العصا وأجرى عليها ما أجرى ، وقيل : إنه عليه‌السلام لما رأى من آيات ربه ما رأى غلبت عليه الدهشة والهيبة فسأله سبحانه وتكلم معه إزالة لتلك الهيبة والدهشة فما طالبة إما للوصف أو للجنس وتكرير النداء لزيادة التأنيس ، ولعل اختيار ما يدل على البعد في اسم الإشارة لتنزيل العصا منزلة البعيد لغفلته عليه‌السلام عنها بما غلب عليه من ذلك ، والإجمال في قوله : (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) يحتمل أن يكون رجاء أن يسأله سبحانه عن تلك المآرب فيسمع كلامه عزوجل مرة أخرى. وتطول المكالمة وتزداد اللذاذة التي لأجلها أطنب أولا ، وما ألذ مكالمة المحبوب ، ومن هنا قيل :

وأملى حديثا يستطاب فليتني

أطلت ذنوبا كي يطول عتابه

ويحتمل أن يكون لعود غلبة الدهشة إليه عليه‌السلام ، وزعم بعضهم أنه تعالى سأله عليه‌السلام ليقرره على أنها خشبة حتى إذا قلبها حية لا يخافها وليس بشيء ، وعلى جميع هذه الأقوال السؤال واحد الجواب واحد كما هو الظاهر ، وقيل : (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) إلخ جواب لسؤال آخر وهو أنه لما قال : (هِيَ عَصايَ) قال له تعالى : فما تصنع بها؟ فقال : (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) إلخ ، وقيل : إنه تعالى سأله عن شيئين عن العصا بقوله سبحانه (وَما تِلْكَ) وعما يملكه منها بقوله عزوجل : (بِيَمِينِكَ) فأجاب عليه‌السلام عن الأول بقوله : (هِيَ عَصايَ) وعن الثاني بقوله : (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) إلخ ، ولا يخفى أن كلا القولين لا ينبغي أن يتوكأ عليهما لا سيما الأخير.

هذا واستدل بالآية على استحباب التوكؤ على العصا وإن لم يكن الشخص بحيث تكون وترا لقوسه وعلى استحباب الاقتصاد في المرعى بالهش وهو ضرب الشجر ليسقط الورق دون الاستئصال ليخلف فينتفع به الغير.

وقد ذكر الإمام فيها فوائد سنذكر بعضها في باب الإشارة لأن ذلك أوفق به (قالَ) استئناف مبني على سؤال ينساق إليه الذهن كأنه قيل : فما ذا قال الله عزوجل فقيل؟ قال : (أَلْقِها يا مُوسى) لترى من شأنها ما ترى ، والإلقاء الطرح على الأرض ، ومنه قوله :

فألقت عصاها واستقرت بها النوى

كما قر عينا بالإياب المسافر

وتكرير النداء لمزيد التنبيه والاهتمام بشأن العصا ، وكون قائل هذا هو الله تعالى هو الظاهر ، وزعم بعضهم أنه يجوز أن يكون القائل الملك بأمر الله تعالى وقد أبعد غاية البعد (فَأَلْقاها) ريثما قيل له ألقها (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) تمشي وتنتقل بسرعة ، والحية اسم جنس يطلق على الصغير والكبير والأنثى والذكر ، وقد انقلبت حين ألقاها عليه‌السلام

٤٩١

ثعبانا وهو العظيم من الحيات كما يفصح عنه قوله تعالى : (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) [الأعراف : ١٠٧ ، الشعراء : ٣٢] وتشبيهها بالجان وهو الدقيق منها في قوله سبحانه : (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ) [النمل : ١٠ ، القصص : ٣١] من حيث الجلادة وسرعة الحركة لا من حيث صغر الجثة فلا منافاة ، وقيل : إنها انقلبت حين ألقاها عليه‌السلام حية صفراء في غلظ العصا ثم انتفخت وغلظت فلذلك شبهت بالجان تارة وسميت ثعبانا أخرى ، وعبر عنها بالاسم العام للحالين ، والأول هو الأليق بالمقام مع ظهور اقتضاء الآية التي ذكرناها له وبعدها عن التأويل. وقد روى الإمام أحمد وغيره عن وهب أنه عليه‌السلام حانت منه نظرة بعد أن ألقاها فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون يرى يلتمس كأنه يبتغي شيئا يريد أخذه يمر بالصخرة مثل الخلفة من الإبل فيلتقمها ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها عيناه توقدان نارا وقد عاد المحجن عرفا فيه شعر مثل النيازك وعاد الشعبتان فما مثل القليب الواسع فيه أضراس وأنياب لها صريف.

وفي بعض الآثار أن بين لحييه أربعين ذراعا فلما عاين ذلك موسى عليه‌السلام ولى مدبرا ولم يعقب فذهب حتى أمعن ورأى أنه قد أعجز الحية ثم ذكر ربه سبحانه فوقف استحياء منه عزوجل ثم نودي يا موسى إليّ ارجع حيث كنت فرجع وهو شديد الخوف فأمره سبحانه وتعالى بأخذها وهو ما قص الله تعالى بقوله عز قائلا (قالَ) أي الله عزوجل ، والجملة استئناف كما سبق (خُذْها) أي الحية وكانت على ما روي عن ابن عباس ذكرا ، وعن وهب أنه تعالى قال له : «خذها بيمينك» (وَلا تَخَفْ) منها ، ولعل ذلك الخوف مما اقتضته الطبيعة البشرية فإن البشر بمقتضى طبعه يخاف عند مشاهدة مثل ذلك وهو لا ينافي جلالة القدر.

وقيل : إنما خاف عليه‌السلام لأنه رأى أمرا هائلا صدر من الله عزوجل بلا واسطة ولم يقف على حقيقة أمره وليس ذلك كنار إبراهيم عليه‌السلام لأنها صدرت على يد عدو الله تعالى وكانت حقيقة أمرها كنار على علم فلذلك لم يخف عليه‌السلام منها كما خاف موسى عليه‌السلام من الحية ، وقيل : إنما خاف لأنه عرف ما لقي من ذلك الجنس حيث كان له مدخل في خروج أبيه من الجنة ، وإنما عطف النهي على الأمر للإشعار بأن عدم المنهي عنه مقصود لذاته لا لتحقيق المأمور به فقط ، وقوله تعالى (سَنُعِيدُها) أي بعد الأخذ (سِيرَتَهَا) أي حالتها (الْأُولى) التي هي العصوية استئناف مسوق لتعليل الامتثال بالأمر والنهي فإن إعادتها إلى ما كانت عليه من موجبات أخذها وعدم الخوف منها ، ودعوى أن فيه مع ذلك عدة كريمة بإظهار معجزة أخرى على يده عليه‌السلام وإيذانا بكونها مسخرة له عليه‌السلام ليكون على طمأنينة من أمره ولا تعتريه شائبة تزلزل عند محاجة فرعون لا تخلو عن خفاء ، وذكر بعضهم أن حكمة انقلابها حية وأمره بأخذها ونهيه عن الخوف تأنيسه فيما يعلم سبحانه أنه سيقع منه مع فرعون ، ولعل هذا مأخذ تلك الدعوى.

قيل : بلغ عليه‌السلام عند هذا الخطاب من الثقة وعدم الخوف إلى حيث كان يدخل يده في فمها ويأخذ بلحييها ، وفي رواية الإمام أحمد ، وغيره عن وهب أنه لما أمره الله تعالى بأخذها أدنى طرف المدرعة على يده وكانت عليه مدرعة من صوف قد خلها بخلال من عيدان فقال له ملك : أرأيت يا موسى لو أذن الله تعالى بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئا؟ قال : لا ولكني ضعيف ومن ضعف خلقت فكشف عن يده ثم وضعها على فم الحية حتى سمع حس الأضراس والأنياب ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها فيه إذا توكأ بين الشعبتين. والرواية الأولى أوفق بمنصبه الجليل عليه‌السلام. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه‌السلام نودي المرة الأولى يا موسى خذها فلم يأخذها ثم نودي الثانية (خُذْها وَلا تَخَفْ) فلم

٤٩٢

يأخذها ثم نودي الثالثة (إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) [القصص : ٣١] فأخذها ، وذكر مكي في تفسيره أنه قيل له في المرة الثالثة : (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) ، ولا يخفى أن ما ذكر بعيد عن منصب النبوة فلعل الخبر غير صحيح.

والسيرة فعلة من السير تقال للهيئة والحالة الواقعة فيه ثم جردت لمطلق الهيئة والحالة التي يكون عليها الشيء ، ومن ذلك استعمالها في المذهب والطريقة في قولهم سيرة السلف ، وقول الشاعر :

فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها

فأول راض سيرة من يسيرها

واختلف في توجيه نصبها في الآية فقيل : إنها منصوبة بنزع الخافض والأصل إلى سيرتها أو لسيرتها وهو كثير وإن قالوا : إنه ليس بمقيس ، وهذا ظاهر قول الحوفي : إنها مفعول ثان لنعيدها على حذف الجار نحو (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف : ١٥٥] وإليه ذهب ابن مالك وارتضاه ابن هشام ، وجوز الزمخشري أن يكون أعاد منقولا من عاده بمعنى عاد إليه ، ومنه قول زهير

فصرم حبلها إذ صرمته

وعادك أن تلاقيها عداء

فيتعدى إلى مفعولين ، والظاهر أنه غير التوجيه الأول لاعتبار النقل فيه والخافض يحذف من أعاد من غير نظر إلى ثلاثيه ؛ وتعدى عاد بنفسه مما صح به النقل ، فقد نقل الطيبي عن الأصمعي أن عادك في البيت متعد بمعنى صرفك ، وكذا نقل الفاضل اليمنى. وفي المغرب العود الصيرورة ابتداء وثانيا ويتعدى بنفسه وبإلى وعلى وفي واللام.

وفي مشارق اللغة للقاضي عياض مثله ، ونقل عن الحديث «أعدت فتانا يا معاذ؟». وقال أبو البقاء : هي بدل من ضمير المفعول بدل اشتمال ، وجوز أن يكون النصب على الظرفية أي سنعيدها في طريقتها الأولى.

وتعقبه أبو حيان قائلا : إن سيرتها وطريقتها ظرف مختص فلا يتعدى إليه الفعل على طريقة الظرفية إلا بوساطة في ولا يجوز الحذف إلا في ضرورة أو فيما شذت فيه العرب ، وحاصله أن شرط الانتصاب على الظرفية هنا وهو الإبهام مفقود ، وفي شرح التسهيل عن نحاة المغرب أنهم قسموا المبهم إلى أقسام منها المشتق من الفعل كالمذهب والمصدر الموضوع موضع الظرف نحو قصدك ولم يفرقوا بين المختوم بالتاء وغيره فالنصب على الظرفية فيما ذكر غير شاذ ولا ضرورة ، وجوز الزمخشري واستحسنه أن يكون (سَنُعِيدُها) مستقلا بنفسه غير متعلق بسيرتها بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصا ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية فسنعيدها بعد الذهاب كما أنشأناها أولا ، و (سِيرَتَهَا) منصوبا على أنه مفعول مطلق لفعل مقدر أي تسير سيرتها الأولى أي سنعيدها سائرة سيرتها الأولى حيث كنت تتوكأ عليها وتهش بها على غنمك ولك فيها المآرب التي عرفتها انتهى.

والظاهر أنه جعل الجملة من الفعل المقدر (١) وفاعله حالا ، ويجوز أن يكون استئنافا ، ولا يخفى عليك أن ما ذكره وإن حسن معنى إلا أنه خلاف المتبادر ، هذا والآية ظاهرة في جواز انقلاب الشيء عن حقيقته كانقلاب النحاس إلى الذهب وبه قال جمع ، ولا مانع في القدرة من توجه الأمر التكويني إلى ذلك وتخصيص الإرادة له ، وقيل : لا يجوز لأن قلب الحقائق محال والقدرة لا تتعلق به والحق الأول بمعنى أنه تعالى يخلق بدل النحاس مثلا ذهبا على ما هو رأي بعض المحققين أو بأن يسلب عن أجزاء النحاس الوصف الذي صار به نحاسا ويخلق فيه الوصف الذي يصير به ذهبا

__________________

(١) قيل مقدرة وفيه نظر اه منه.

٤٩٣

على ما هو رأي بعض المتكلمين من تجانس الجواهر واستوائها في قبول الصفات ، والمحال إنما هو انقلابه ذهبا مع كونه نحاسا لامتناع كون الشيء في الزمن الواحد نحاسا وذهبا ، وانقلاب العصا حية كان بأحد هذين الاعتبارين والله تعالى أعلم بأيهما كان ، والذي أميل إليه الثاني فإن في كون خلق البدل انقلابا خفاء كما لا يخفى.

وقوله تعالى : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) أمر له عليه‌السلام بعد ما أخذ الحية وانقلبت عصا كما كانت ؛ والضم الجمع ، والجناح كما في القاموس اليد والعضد والإبط والجانب ونفس الشيء ويجمع على أجنحة وأجنح ، وفي البحر الجناح حقيقة في جناح الطائر والملك ثم توسع فيه فأطلق على اليد والعضد وجنب الرجل.

وقيل : لمجنبتي العسكر جناحان على سبيل الاستعارة وسمي جناح الطائر بذلك لأنه يجنحه أي يميله عند الطيران ، والمراد أدخل يدك اليمنى من طوق مدرعتك واجعلها تحت إبط اليسرى أو تحت عضدها عند الإبط أو تحتها عنده فلا منافاة بين ما هنا ، وقوله تعالى : (أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) [النمل : ١٢] (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) جعله بعضهم مجزوما في جواب الأمر المذكور على اعتبار معنى الإدخال فيه ، وقال أبو حيان وغيره : إنه مجزوم في جواب أمر مقدر وأصل الكلام اضمم يدك تنضم وأخرجها تخرج فحذف ما حذف من الأول. والثاني وأبقى ما يدل عليه فهو إيجاز يسمى بالاحتباك ، ونصب (بَيْضاءَ) على الحال من الضمير في (تَخْرُجْ) والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو حال من الضمير في (بَيْضاءَ) أو صفة لبيضاء كما قال الحوفي أو متعلق به كما قال أبو حيان كأنه قيل : ابيضت من غير سوء أو متعلق بتخرج كما جوزه غير واحد. والسوء الرداءة والقبح في كل شيء ، وكني به عن البرص كما كني عن العورة بالسوأة لما أن الطباع تنفر عنه الأسماع تمجه. وهو أبغض شيء عند العرب ولهذا كنوا عن جذيمة صاحب الزباء وكان أبرص بالأبرش والوضاح. وفائدة التعرض لنفي ذلك الاحتراس فإنه لو اقتصر على قوله تعالى : (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) لأوهم ولو على بعد أن ذلك من برص ، ويجوز أن يكون الاحتراس عن توهم عيب الخروج عن الخلقة الأصلية على أن المعنى تخرج بيضاء من غير عيب وقبح في ذلك الخروج أو عن توهم عيب مطلقا. يروى أنها خرجت بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس يغشي البصر وكان عليه‌السلام آدم اللون (آيَةً أُخْرى) أي معجزة أخرى غير العصا. وانتصابها على الحالية من ضمير (تَخْرُجْ) والصحيح جواز تعدد الحال لذي حال واحد أو من ضمير (بَيْضاءَ) أو من الضمير في الجار والمجرور على ما قيل أو على البدلية من (بَيْضاءَ) ويرجع إلى الحالية من ضمير (تَخْرُجْ) ، ويجوز أن تكون منصوبة بفعل مضمر أي خذ آية وحذف لدلالة الكلام. وظاهر كلام الزمخشري جواز تقدير دونك عاملا وهو مبني على ما هو ظاهر كلام سيبويه من جواز عمل اسم الفعل محذوفا ومنعه أبو حيان لأنه نائب عن الفعل ولا يحذف النائب والمنوب عنه ، ونقض بيا الندائية فإنها تحذف مع أنها نائبة عن أدعوا ، وقيل : إنها مفعول ثان لفعل محذوف مع مفعوله الأول أي جعلناها أو آتيناك آية أخرى ، وجعل هذا القائل قوله تعالى :

(لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) متعلقا بذلك المحذوف. ومن قدر خذ ونحوه جوز تعلقه به ، وجوز الحوفي تعلقه باضمم ، وتعلقه بتخرج وأبو البقاء تعلقه بما دل عليه (آيَةً) أي دللنا بها لنريك. ومنع تعلقه بها لأنها قد وصفت. وبعضهم تعلقه بألق ، واختار بعض المحققين أنه متعلق بمضمر ينساق إليه النظم الكريم كأنه قيل : فعلنا ما فعلنا لنريك بعض آياتنا الكبرى على أن (الْكُبْرى) صفة لآياتنا على حد (مَآرِبُ أُخْرى) و (مِنْ آياتِنَا) في موضع المفعول الثاني ومن فيه للتبعيض أو لنريك بذلك الكبرى من آياتنا على أن (الْكُبْرى) هو المفعول الثاني لنريك و (مِنْ آياتِنَا) متعلق بمحذوف حال منه ومن فيه للابتداء أو للتبعيض. وتقديم الحال مع أن صاحبه معرفة لرعاية الفواصل. وجوز كلا

٤٩٤

الإعرابين في (مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) الحوفي. وابن عطية وأبو البقاء وغيرهم.

واختار في البحر الإعراب الأول ورجحه بأن فيه دلالة على أن آياته تعالى كلها كبرى بخلاف الإعراب الثاني وبأنه على الثاني لا تكون (الْكُبْرى) صفة العصا واليد معا وإلا لقيل : الكبريين. ولا يمكن أن يخص أحدهما لأن في كل منهما معنى التفضيل ، ويبعد ما قال الحسن وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن اليد أعظم في الإعجاز من العصا لأنه ليس في اليد إلا تغيير اللون وأما العصا ففيها تغيير اللون وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة مع عودها عصا بعد ذلك فكانت أعظم في الإعجاز من اليد ، وجوز أن تكون (الْكُبْرى) صفة لهما ولاتحاد المقصود جعلتا آية واحدة وأفردت الصفة لذلك. وأن تكون صفة لليد والعصا غنية عن الوصف بها لظهور كونها كبرى.

وأنت تعلم أن هذا كله خلاف الظاهر. وكذا ما قيل : من أن من على الإعراب الثاني للبيان بأن يكون المراد لنريك الآيات الكبرى من آياتنا ليصح الحمل الذي يقتضيه البيان ولا يترجح بذلك الإعراب الثاني على الأول ولا يساويه أصلا. ولا يخفى عليك أن كل احتمال من احتمالات متعلق اللام خلا من الدلالة على وصف آية العصا بالكبر لا ينبغي أن يعول عليه. ويعتذر بأن عدم الوصف للظهور مع ظهور الاحتمال الذي لا يحتاج معه إلى الاعتذار عن ذلك المقال فتأمل والله تعالى العاصم من الزلل (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) تخلص إلى ما هو المقصد من تمهيد المقدمات السالفة فصل عما قبله من الأوامر إيذانا بأصالته أي اذهب إليه بما رأيته من آياتنا الكبرى وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي.

وقوله تعالى (إِنَّهُ طَغى) تعليل للأمر أو لوجوب المأمور به أي جاوز الحد في التكبر والعتو والتجبر حتى تجاسر على العظيمة التي هي دعوى الربوبية ، قال وهب بن منبه : إن الله تعالى قال لموسى عليه‌السلام : ادن فلم يزل يدنيه حتى شد ظهره بجذع الشجرة فاستقر وذهبت عنه الرعدة وجمع يده في العصا وخضع برأسه وعنقه ثم قال له بعد أن عرفه نعمته تعالى عليه : انطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي وإن معك أيدي ونصري وإني قد ألبستك جنة من سلطاني تستكمل بها القوة في أمري فأنت جند عظيم من جنودي بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي وعبد من دوني وزعم أنه لا يعرفني وإني لأقسم بعزتي لو لا العذر والحجة اللذان وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السموات والأرض والجبال والبحار فإن أمرت السماء حصبته وإن أمرت الأرض ابتلعته وإن أمرت البحار غرقته وإن أمرت الجبال دمرته ولكنه هان علي وسقط من عيني ووسعه حلمي واستغنيت بما عندي وحق لي إني أنا الغني لا غني غيري فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاص اسمي وذكره بأيامي وحذره نقمتي وبأسي وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي وقل له فيما بين ذلك قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة ولا يرو عنك ما ألبسته من لباس الدنيا فإن ناصيته بيدي ليس يطرف ولا ينطق ولا يتنفس إلا بأذني وقل له : أجب ربك فإنه واسع المغفرة وإنه قد أمهلك أربعمائة سنة في كلها أنت مبارزة بالمحاربة تتشبه وتتمثل به وتصد عباده عن سبيله وهو يمطر عليك السماء وينبت لك الأرض لم تسقم. ولم تهرم ولم تفتقر ولم تغلب ولو شاء أن يفعل ذلك بك فعل ولكنه ذو أناة وحلم عظيم في كلام طويل.

وفي بعض الروايات أن الله تعالى لما أمره عليه‌السلام بالذهاب إلى فرعون سكت سبعة أيام ، وقيل : أكثر فجاءه ملك فقال : أنفذ ما أمرك ربك ، وفي القلب من صحة ذلك شيء (قالَ) استئناف بياني كأنه قيل فما ذا قال موسى

٤٩٥

عليه‌السلام حين قيل له ما قيل؟ فأجيب بأنه قال : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) الظاهر أنه متعلق بقوله تعالى (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) إلخ ، وذلك أنه عليه‌السلام علم من الأمر بالذهاب إليه والتعليل بالعلة المذكورة أنه كلف أمرا عظيما وخطبا جسيما يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط وصدر فسيح فاستوهب ربه تعالى أن يشرح صدره ويجعله حليما حمولا يستقبل ما عسى أن يرد عليه في طريق التبليغ والدعوة إلى مر الحق من الشدائد التي يذهب معها صبر الصابر بجميل الصبر وحسن الثبات وأن يسهل عليه مع ذلك أمره الذي هو أجل الأمور وأعظمها وأصعب الخطوب وأهولها بتوفيق الأسباب ورفع الموانع ، فالمراد من شرح الصدر جعله بحيث لا يضجر ولا يقلق مما يقتضي بحسب البشرية الضجر والقلق من الشدائد ، وفي طلب ذلك إظهار لكمال الافتقار إليه عزوجل وإعراض عن الأنانية بالكلية :

ويحسن إظهار التجلد للعدا

ويقبح إلا العجز عند الأحبة

وذكر الراغب أن أصل الشرح البسط ونحوه ، وشرح الصدر بسطه بنور إلهي وسكينة من جهة الله تعالى وروح منه عزوجل ولهم فيه عبارات أخر لعل بعضها سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإشارة. وقال بعضهم : إن هذا القول معلق بما خاطبه الله تعالى به من لدن قوله سبحانه (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) [طه : ١٢] إلى هذا المقام فيكون قد طلب عليه‌السلام شرح الصدر ليقف على دقائق المعرفة وأسرار الوحي ويقوم بمراسم الخدمة والعبادة على أتم وجه ولا يضجر من شدائد التبليغ. وقيل : إنه عليه‌السلام لما نصب لذلك المنصب العظيم وخوطب بما خوطب في ذلك المقام احتاج إلى تكاليف شاقة من تلقي الوحي والمواظبة على خدمة الخالق سبحانه وتعالى وإصلاح العالم السفلي فكأنه كلف بتدبير العالمين والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالآخر فسأل شرح الصدر حتى يفيض عليه من القوة ما يكون وافيا بضبط تدبير العالمين ، وقد يقال : إن الأمر بالذهاب إلى فرعون قد انطوى فيه الإشارة إلى منصب الرسالة المستتبع تكاليف لائقة به منها ما هو راجع إلى الحق ؛ ومنها ما هو منوط بالخلق ، وقد استشعر موسى عليه‌السلام كل ذلك فبسط كف الضراعة لطلب ما يعينه على أداء ذلك على أكمل وجه فلا يتوقف تعميم شرح الصدر على تعلقه بأول الكلام كما لا يخفى ، ثم إن الصدر عند علماء الرسوم يراد منه القلب لأنه المدرك أو مما به الإدراك والعلاقة ظاهرة.

ولعلماء القلوب كلام في ذلك سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإشارة مع بعض ما أطنب به الإمام في تفسير هذه الآية ، وفي ذكر كلمة (لِي) مع انتظام الكلام بدونها تأكيد لطلب الشرح والتيسير بإبهام المشروح والميسر أولا وتفسيرهما ثانيا فإنه لما قال (اشْرَحْ لِي) علم أن ثم مشروحا يختص به حتى لو اكتفى لتم فإذا قيل (صَدْرِي) أفاد التفسير والتفصيل أما لو قيل (اشْرَحْ) واكتفي به فلا وكذا الكلام في (يَسِّرْ لِي). وقيل : ذكر (لِي) لزيادة الربط كما في قوله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) [الأنبياء : ١]. وتعقب بأنه لا منافاة وهو الذي أفاد هذا المعنى. وفي الانتصاف أن فائدة ذكرها الدلالة على أن منفعة شرح الصدر راجعة إليه فإن تعالى لا يبالي بوجوده وعدمه وقس عليه (يَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) روي أنه كان في لسانه عليه‌السلام رتة من جمرة أدخلها فاه في صغره.

وذلك أن فرعون حمله ذات يوم فأخذ خصلة من لحيته لما كان فيها من الجواهر. وقيل : لطمه. وقيل : ضربه ضربة بقضيب في يده على رأسه فتطير فدعا بالسياف فقالت آسية بنت مزاحم امرأته وكانت تحب موسى عليه‌السلام : إنما هو صبي لا يفرق بين الياقوت والجمر فاحضرا وأراد أن يمد يده إلى الياقوت فحول جبريل عليه‌السلام يده إلى الجمرة فأخذها فوضعها في فيه فاحترق لسانه.

٤٩٦

وفي هذا دليل على فساد قول القائلين بأن النار تحرق بالطبيعة من غير مدخلية لإذن الله تعالى في ذلك إذ لو كان الأمر كما زعموا لأحرقت يده. وذكر في حكمة إذن الله تعالى لها بإحراق لسانه دون يده أن يده صارت آلة لما ظاهره الإهانة لفرعون. ولعل تبييضها كان لهذا أيضا وإن لسانه كان آلة لضد ذلك بناء على ما روي أنه عليه‌السلام دعاه بما يدعو به الأطفال الصغار آبائهم. وقيل : احترقت يده عليه‌السلام أيضا فاجتهد فرعون في علاجها فلم تبرأ. ولعل ذلك لئلا يدخلها عليه‌السلام مع فرعون في قصة واحدة فتفقد بينهما حرمة المؤاكلة فلما دعاه قال : إلى أي رب تدعوني؟ قال : إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنه. وكان الظاهر على هذا أن يطرح عليه‌السلام النار من يده ولا يوصلها إلى فيه. ولعله لم يحس بالألم إلا بعد أن أوصلها فاه أو أحس لكنه لم يفرق بين إلقائها في الأرض وإلقائها في فمه وكل ذلك بتقدير الله تعالى ليقضي الله أمرا كان مفعولا. وقيل : كانت العقدة في لسانه عليه‌السلام خلقة. وقيل : إنها حدثت بعد المناجاة وفيه بعد.

واختلف في زوالها بكمالها فمن قال به كالحسن تمسك بقوله تعالى (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) [طه : ٣٦] من لم يقل به كالجبائي احتج بقوله تعالى (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي) [القصص : ٣٤] وقوله سبحانه (وَلا يَكادُ يُبِينُ) [الزخرف : ٥٢].

وبما روي أنه كان في لسان الحسين رضي الله تعالى عنه رتة وحبسة فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه : إنه ورثها من عمه موسى عليه‌السلام. وأجاب عن الأول بأنه عليه‌السلام لم يسأل حل عقدة لسانه بالكلية بل عقدة تمنع الإفهام ولذلك نكرها ووصفها بقوله (مِنْ لِسانِي) ولم يضفها مع أنه أخصر ولا يصلح ذلك للوصفية إلا بتقدير مضاف وجعل (مِنْ) تبعيضية أي عقدة كائنة من عقد لساني فإن العقدة للسان لا منه. وجعل قوله تعالى : (يَفْقَهُوا قَوْلِي) جواب الطلب وغرضا من الدعاء فبحلها في الجملة يتحقق إيتاء سؤله عليه‌السلام. واعترض على ذلك بأن قوله تعالى (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي) قال عليه‌السلام قبل استدعاء الحل على أنه شاهد على عدم بقاء اللكنة لأن فيه دلالة على أن موسى عليه‌السلام كان فصيحا غايته أن فصاحة أخيه أكثر وبقية اللكنة تنافي الفصاحة اللغوية المرادة هنا بدلالة قوله لسانا. ويشهد لهذه المنافاة ما قاله ابن هلال في كتاب الصناعتين : الفصاحة تمام آلة البيان ولذا لا يقال لله تعالى : فصيح وإن قيل لكلامه سبحانه فصيح ولذلك لا يسمى الألثغ والتمتام فصيحين لنقصان آلتهما عن إقامة الحروف وبأن قوله تعالى (وَلا يَكادُ يُبِينُ) معناه لا يأتي ببيان وحجة ، وقد قال ذلك اللعين تمويها ليصرف الوجوه عنه عليه‌السلام ، ولو كان المراد نفي البيان وإفهام الكلام لاعتقال اللسان لدل على عدم زوال العقدة أصلا ولم يقل به أحد ، وبأنا لا نسلم صحة الخبر ، وبأن تنكير (عُقْدَةً) يجوز أن يكون لقلتها في نفسها. ومن يجوز تعلقها باحلل كما ذهب إليه الحوفي واستظهره أبو حيان فإن المحلول إذا كان متعلقا بشيء ومتصلا به فكما يتعلق الحل به يتعلق بذلك الشيء أيضا باعتبار إزالته عنه أو ابتداء حصوله منه ، وعلى تقدير تعلقها بمحذوف وقع صفة لعقدة لا نسلم وجوب تقدير مضاف وجعل من تبعيضية ، ولا مانع من أن تكون بمعنى في ولا تقدير أي عقدة في لساني بل قيل : ولا مانع أيضا من جعلها ابتدائية مع عدم التقدير وأي فساد في قولنا : عقدة ناشئة من لساني. والحاصل أن ما استدل به على بقاء عقدة ما في لسانه عليه‌السلام وعدم زوالها بالكلية غير تام لكن قال بعضهم : إن الظواهر تقتضي ذلك وهي تكفي في مثل هذه المطالب وثقل ما في اللسان لا يخفف قدر الإنسان. وقد ذكر أن في لسان المهدي المنتظر رضي الله تعالى عنه حبسة وربما يتعذر عليه الكلام حتى يضرب بيده اليمنى فخذ رجله اليسرى وقد بلغك ما ورد في فضله. وقال بعضهم : لا تقاوم فصاحة الذات إعراب الكلمات. وأنشد قول القائل :

٤٩٧

سر الفصاحة كامن في المعدن

لخصائص الأرواح لا للألسن

وقول الآخر :

لسان فصيح معرب في كلامه

فيا ليته في موقف الحشر يسلم

وما ينفع الإعراب إن لم يكن تقى

وما ضر ذا تقوى لسان معجم

نعم ما يخل بأمر التبليغ من رتة تؤدي إلى عدم فهم الوحي معها ونفرة السامع عن سماع ذلك مما يجل عنه الأنبياء عليهم‌السلام فهم كلهم فصحاء اللسان لا يفوت سامعهم شيء من كلامهم ولا ينفر عن سماعه وإن تفاوتوا في مراتب تلك الفصاحة وكأنه عليه‌السلام إنما لم يطلب أعلى مراتب فصاحة اللسان وطلاقته عند الجبائي ومن وافقه لأنه لم ير في ذلك كثير فضل ، وغاية ما قيل فيه أنه زينة من زينة الدنيا وبهاء من بهائها والفضل الكثير في فصاحة البيان بالمعنى المشهور في عرف أهل المعاني والبيان وما ورد مما يدل على ذم ذلك فليس على إطلاقه كما بين في شروح الأحاديث. ثم إن المشهور تفسير اللسان بالآلة الجارحة نفسها وفسره بعضهم بالقوة النطقية القائمة بالجارحة. والفقه العلم بالشيء والفهم له كما في القاموس وغيره ، وقال الراغب : هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم.

والظاهر هنا الفهم أي احلل عقدة من لساني يفهموا قولي (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي) أي معاونا في تحمل أعباء ما كلفته على أن اشتقاقه من الوزر بكسر فسكون بمعنى الحمل الثقيل فهو في الأصل صفة من ذلك ومعناه صاحب وزر أي حامل حمل ثقيل ، وسمي القائم بأمر الملك بذلك لأنه يحمل عنه وزر الأمور وثقلها أو ملجأ اعتصم برأيه على أن اشتقاقه من الوزر بفتحتين وأصله الجبل يتحصن به ثم استعمل بمعنى الملجأ مطلقا كما في قوله :

شر السباع الضواري دونه وزر

والناس شرهم ما دونهم وزر

كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع

وما ترى بشرا لم يؤذه بشر

وسمي وزير الملك بذلك لأن الملك يعتصم برأيه ويلتجئ إليه في أمره فهو فعيل بمعنى مفعول على الحذف والإيصال أي ملجوء إليه أو هو للنسب ، وقيل : أصله أزير من الأزر بمعنى القوة ففعيل بمعنى مفاعل كالعشير والجليس قلبت همزته واوا كقلبها في موازر وقلبت فيه لانضمام ما قبلها ووزير بمعناه فحمل عليه وحمل النظير على النظير كثير في كلامهم إلا أنه سمع مؤازر من غير إبدال ولم يسمع أزير بدونه على أنه مع وجود الاشتقاق الواضح وهو ما تقدم لا حاجة إلى هذا الاشتقاق وادعاء القلب. ونصبه على أنه مفعول ثان ل (اجْعَلْ) قدم على الأول الذي هو قوله تعالى (هارُونَ) اعتناء بشأن الوزارة لأنها المطلوبة و (لِي) صلة للجعل أو متعلق بمحذوف وقع حالا من وزيرا وهو صفة له في الأصل و (مِنْ أَهْلِي) إما صفة لوزيرا أو صلة لأجعل ، وقيل : مفعولاه (لِي وَزِيراً) و (مِنْ أَهْلِي) على ما مر من الوجهين و (هارُونَ) عطف بيان للوزير بناء على ما ذهب إليه الزمخشري والرضي من أنه لا يشترط التوافق في التعريف والتنكير ، وقيل : هو بدل من وزيرا. وتعقب بأنه يكون حينئذ هو المقصود بالنسبة مع أن وزارته هي المقصودة بالقصد الأول هنا.

وجوز كونه منصوبا بفعل مقدر في جواب من اجعل؟ أي اجعل هارون ، وقيل : مفعولاه (وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) و (لِي) تبيين كما في سقيا له.

٤٩٨

واعترض بأن شرط المفعولين في باب النواسخ صحة انعقاد الجملة الاسمية منهما ولو ابتدأت بوزيرا وأخبرت عنه بمن أهلي لم يصح إذ لا مسوغ للابتداء به ، وأجيب بأن مراد القائل : إن «من أهلي» هو المفعول الأول لتأويله ببعض أهلي كأنه قيل اجعل بعض أهلي وزيرا فقدم للاهتمام به وسداد المعنى يقتضيه ولا يخفى بعده ، ومن ذلك قيل الأحسن أن يقال : إن الجملة دعائية والنكرة يبتدأ بها فيها كما صرح به النحاة فكذا بعد دخول الناسخ وهو كما ترى ، وقيل : إن المسوغ للابتداء بالنكرة هنا عطف المعرفة وهو (هارُونَ) عليها عطف بيان هو غريب ، وجوز في (هارُونَ) أيضا على هذا القول كونه مفعولا لفعل مقدر وكونه بدلا وقد سمعت ما فيه.

والظاهر أنه يجوز في (لِي) عليه أيضا أن يكون صلة للجعل كما يجوز فيه على بضع الأوجه السابقة أن يكون تبيينا. ولم يظهر لي وجه عدم ذكر هذا الاحتمال هناك ولا وجه عدم ذكر احتمال كونه صلة للجعل هنا. ويفهم من كلام البعض جواز كلّ من الاحتمالين هنا وهناك. وكذا يجوز أيضا أن يكون حالا من (وَزِيراً) ولعل ذلك مما يسهل أمر الانعقاد على ما قيل وفيه ما فيه ، و (أَخِي) على الوجوه عطف بيان للوزير ولا ضير في تعدده لشيء واحد أو لهارون. ولا يشترط فيه كون الثاني أشهر كما توهم لأن الإيضاح حاصل من المجموع كما حقق في المطول وحواشيه. ولا حاجة إلى دعوى أن المضاف إلى الضمير أعرف من العلم لما فيها من الخلاف. وكذا إلى ما في الكشف من أن (أَخِي) في هذا المقام أشهر من اسمه العلم لأن موسى عليه‌السلام هو العلم المعروف والمخاطب الموصوف بالمناجاة والكرامة والمتعرف به هو المعرفة في الحقيقة ثم إن البيان ليس بالنسبة إليه سبحانه لأنه جل شأنه لا تخفى عليه خافية وإنما إتيان موسى عليه‌السلام به على نمط ما تقدم من قوله (هِيَ عَصايَ) إلخ. وجوز أن يكون (أَخِي) مبتدأ خبره (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) وتعقبه أبو حيان بأنه خلاف الظاهر فلا يصار إليه لغير حاجة. والكلام في الأخبار بالجملة الإنشائية مشهور. والجملة على هذا استئنافية. والأزر القوة ، وقيدها الراغب بالشديدة. وقال الخليل وأبو عبيدة : هو الظهر وروي ذلك عن ابن عطية ، والمراد أحكم به قوتي وأجعله شريكي في أمر الرسالة حتى نتعاون على أدائها كما ينبغي.

وفصل الدعاء الأول عن الدعاء السابق لكمال الاتصال بينهما فإن شد الأزر عبارة عن جعله وزيرا وأما الإشراك في الأمر فحيث كان من أحكام الوزارة توسط بينهما العاطف كذا قيل لكن في مصحف ابن مسعود «واشدد» بالعطف على الدعاء السابق وعن أبي «أشركه في أمري واشدد به أزري» فتأمل.

وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والحسن وابن عامر «أشدد» بفتح الهمزة «وأشركه» بضمها على أنهما فعلان مضارعان مجزومان في جواب الدعاء أعني قوله : (اجْعَلْ) ، وقال صاحب اللوامح : عن الحسن أنه قرأ «أشدّد به» مضارع شدد للتكثير والتكرير. وليس المراد بالأمر على القراءة السابقة الرسالة لأن ذلك ليس في يد موسى عليه‌السلام بل أمر الإرشاد والدعوة إلى الحق ، وكان هارون كما أخرج الحاكم عن وهب أطول من موسى عليهما‌السلام وأكثر لحما وأبيض جسما وأعظم ألواحا وأكبر سنا ، قيل : كان أكبر منه بأربع سنين ، وقيل : بثلاث سنين. وتوفي قبله بثلاث أيضا. وكان عليه‌السلام ذا تؤدة وحلم عظيم.

(كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) غاية للأدعية الثلاثة الأخيرة فإن فعل كل واحد منهما من التسبيح والذكر مع كونه مكثرا لفعل الآخر ومضاعفا له بسبب انضمامه إليه مكثر له في نفسه أيضا بسبب تقويته وتأييده إذ ليس المراد بالتسبيح والذكر ما يكون منهما بالقلب أو في الخلوات حتى لا يتفاوت حاله عند التعدد والانفراد بل ما يكون منهما في تضاعيف أداء الرسالة ودعوة المردة العتاة إلى الحق وذلك مما لا ريب في اختلاف حالة في حالتي

٤٩٩

التعدد والانفراد فإن كلا منهما يصدر عنه بتأييد الآخر من إظهار الحق ما لا يكاد يصدر عنه مثله حال الانفراد ، و (كَثِيراً) في الموضعين نعت لمصدر محذوف أو زمان محذوف أي ننزهك عما لا يليق بك من الصفات والأفعال التي من جملتها ما يدعيه فرعون الطاغية ويقبله منه فئته الباغية من الشركة في الألوهية ونصفك بما يليق بك من صفات الكمال ونعوت الجمال والجلال تنزيها كثيرا ووصفا كثيرا أو زمانا كثيرا من جملته زمان دعوة فرعون وأوان المحاجة معه كذا في إرشاد العقل السليم.

وجوز أبو حيان كونه منصوبا على الحال أي نسبحك التسبيح في حال كثرته ، وكذا يقال في الأخير وليس بذاك ، وتقديم التسبيح على الذكر من باب تقديم التخلية على التحلية ، وقيل : لأن التسبيح تنزيه عما يليق ومحله القلب والذكر ثناء بما يليق ومحله اللسان والقلب مقدم على اللسان ، وقيل : إن المعنى كي نصلي لك كثيرا ونحمدك ونثني عليك كثيرا بما أوليتنا من نعمك ومننت به علينا من تحميل رسالتك ، ولا يخفى أنه لا يساعده المقام.

(إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) عالما بأحوالنا وبأن ما دعوتك به مما يصلحنا ويفيدنا في تحقيق ما كلفته من إقامة مراسم الرسالة وبأن هارون نعم الردء في أداء ما أمرت به ، والباء متعلقة ببصيرا قدمت عليه لمراعاة الفواصل ، والجملة في موضع التعليل للمعلل الأول بعد اعتبار تعليله بالعلة الأولى ، وروى عبد بن حميد عن الأعمش أنه سكن كاف الضمير في المواضع الثلاثة ، وجاء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا بمثل هذا الدعاء إلا أنه أقام عليا كرم الله تعالى وجهه مقام هارون عليه‌السلام ، فقد أخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن أسماء بنت عميس قالت : «رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإزاء ثبير وهو يقول أشرق ثبير أشرق ثبير اللهم إني أسألك مما أسألك أخي موسى أن تشرح لي صدري وأن تيسر لي أمري وأن تحل عقدة من لساني يفقه قولي واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا» ، ولا يخفى أنه يتعين هنا حمل الأمر على أمر الإرشاد والدعوة إلى الحق ولا يجوز حمله على النبوة ، ولا يصح الاستدلال بذلك على خلافة علي كرم الله تعالى وجهه بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلا فصل. ومثله فيما ذكر ما صح من قوله عليه الصلاة والسّلام له حين استخلفه في غزوة تبوك على أهل بيته : «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» كما بين في التحفة الاثني عشرية ، نعم في ذلك من الدلالة على مزيد فضل علي كرم الله تعالى وجهه ما لا يخفى ، وينبغي أيضا أن يتأول طلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حل العقدة بنحو استمرار ذلك لما أنه عليه الصلاة والسّلام كان أفصح الناس لسانا (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) أي قد أعطيت سؤلك ففعل بمعنى مفعول كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول ، والإيتاء عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوقوع تلك المطالب وحصولها له عليه‌السلام البتة وتقديره تعالى إياها حتما فكلها حاصلة له عليه‌السلام وإن كان وقوع بعضها بالفعل مرتبا بعد كتيسير الأمر وشد الأزر وباعتباره قيل : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) [القصص : ٣٥] وظاهر بعض الآثار يقتضي أن شركة هارون عليه‌السلام في النبوة أي استنبائه كموسى عليه‌السلام وقعت في ذلك المقام وإن لم يكن عليه‌السلام فيه مع أخيه ، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في قوله : (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) نبئ هارون ساعتئذ حين نبئ موسى عليهما‌السلام ، ونداؤه عليه‌السلام تشريف له بالخطاب إثر تشريف.

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ) استئناف مسوق لتقرير ما قبله وزيادة توطين لنفس موسى عليه‌السلام بالقبول ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعم التامة من غير سابقة دعاء وطلب منه فلأن ينعم عليه بمثلها وهو طالب له وداع أولى وأحرى. وتصديره بالقسم لكمال الاعتناء بذلك أي وبالله لقد أنعمنا (مَرَّةً أُخْرى) أي في وقت غير هذا الوقت على أن أخرى تأنيث آخر بمعنى مغايرة و (مَرَّةً) ظرف زمان والمراد به الوقت الممتد الذي وقع فيه ما سيأتي إن شاء الله

٥٠٠