أدع فيه مسألة
لرافضى ولا لحديثى ، ولا لحشوى ، ولا لكافر مباد ، ولا لمنافق مقموع ، ولا لأصحاب
النظام ، ولمن نجم بعد النظام ممن يزعم أن القرآن خلق ، وليس تأليفه بحجة ، وأنه
تنزيل وليس ببرهان ولا دلالة ، فلما ظننت أنى بلغت أقصى محبتك ، وأتيت على معنى
صفتك ، أتانى كتابك تذكر أنك لم ترد الاحتجاج لنظم القرآن وإنما أردت الاحتجاج
لخلق القرآن ، وكانت مسألتك مبهمة ، ولم أك أن أحدث لك فيها تأليفا ، فكتبت لك أشق
الكتابين وأثقلهما ، وأغمضهما معنى وأطولهما» .
ويقرب من كتاب
النظم ما كتبه فى مؤلفه المفقود أيضا (آى القرآن) حيث أشار إلى بعض ما جاء به فى
كتاب الحيوان حين قال تحت عنوان (من إيجاز القرآن) :
«ولي كتاب جمعت
فيه آيا من القرآن لتعرف بها فصل ما بين الإيجاز والحذف ، وبين الزوائد والفضول
والاستعارات ، فإذا قرأتها رأيت فضلها فى الإيجاز ، والجمع للمعانى الكثيرة
بالألفاظ القليلة على الذى كتبته لك فى باب الإيجاز وترك الفضول ، فمنها قوله حين
وصف خمر أهل الجنة :
(لا يُصَدَّعُونَ عَنْها
وَلا يُنْزِفُونَ) ، وقوله ـ عزوجل ـ حين ذكر فاكهة أهل الجنة :
(لا مَقْطُوعَةٍ وَلا
مَمْنُوعَةٍ) جمع بهاتين الكلمتين جميع تلك المعانى. وهذا كثير دللتك
عليه ، فإن أردته فموضعه مشهور .
وقراءة هذين
النصين تدل على ما فقدناه من إفاضة الجاحظ فى هذه المسائل التى تتصل بالإعجاز
بأقوى سبب ، وقد بقيت لنا شذور شتى مما كتبه الجاحظ فى رسالة (حجج النبوة) [التى
نشرها الأستاذ عبد السلام هارون فى الجزء الثالث من رسائل الجاحظ] ، وبها ما يمكن
أن يستدل به على منحى الجاحظ فى ثبوت الإعجاز ، [وسأنقل منها ما يدل على ذلك دون
إطالة] ؛ فمنها قوله :
«إن رجلا من العرب
لو قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة ، طويلة أو قصيرة ، لتبين له فى
نظامها ومخرجها ، وفى نقلها وطبعها ، أنه عاجز عن مثلها ، ولو تحدى بها أبلغ العرب
لظهر عجزه عنها ، وليس ذلك فى الحرف والحرفين ، والكلمة والكلمتين! ألا ترى أن
الناس قد يتهيأ لهم فى طبائعهم ، ويجرى على ألسنتهم أن يقول رجل منهم «الحمد لله ،
وإنا لله ، وربنا الله ، وحسبنا الله ونعم الوكيل» وهذا كله فى القرآن ، غير أنه
متفرق غير مجتمع ، ولو أراد أنطق الناس أن يؤلف من هذا الضرب سورة واحدة طويلة أو