قصيرة ، على نظم القرآن وطبعه ، وتأليفه ومخرجه لما قدر عليه ولو استعان بجميع قحطان معد بن عدنان» (٥).
وهذا الكلام أصل لقضية النظم ، وكل ما انتمى إليها ينتهى إلى هذا الأصل ، ثم يقول الجاحظ : (٦)
«ولا يجوز أن يكون مثل العرب فى كثرة عددهم ، واختلاف عللهم ، والكلام كلامهم وهو سيد عملهم فقد فاض بيانهم ، وجاشت به صدورهم ، وغلبتهم قوتهم عليه عند أنفسهم .. وقد هجوه من كل جانب ، وهاجى أصحابه شعراءهم ، ونازعوا خطباءهم ، وحاجوه فى المواقف ، وخاصموه فى المواسم ، وبادءوه العداوة ، وناصبوه الحرب ، فقتل منهم وقتلوا منه ، وهم أثبت الناس حقدا ، وأبعدهم مطلبا ، وأذكرهم لخير ولشر وأنفاهم له ، وأهجاهم بالعجز وأمدحهم بالقوة ، ثم لا يعارض معارض ، ولم يتكلف ذلك خطيب ولا شاعر ، (٦) إلى أن يقول :
«فإما أن يكونوا عرفوا عجزهم ، وأن مثل ذلك لا يتهيأ لهم ، فرأوا أن الإضراب عن ذكره ، والتغافل عنه فى هذا الباب ، وإن قرعهم به ، أمثل فى التدبير ، وأجدر ألا ينكشف أمرهم للجاهل والضعيف ، وأجدر أن يجدوا للدعوة سبيلا ، فقد ادعوا القدرة بعد المعرفة بعجزهم عنه ، وهو قوله عز ذكره (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) (٧) وهل يذعن الأعراب وأصحاب الجاهلية للتقريع بالعجز ، والتوقيف على النقص ، ثم لا يبذلون مجهودهم ، ولا يخرجون مكنونهم ، وهم أشد خلق الله أنفة ، وأفرطهم حمية ، وأطلبهم بطائلة ، وقد سمعوه فى كل منهل وموقف ، والناس موكلون بالخطابات ، مولعون بالبلاغات ، فمن كان شاهدا فقد سمعه ، ومن كان غائبا فقد أتاه به من لم يزوّده ، وإما أن يكونوا غير ذلك ، ولا يجوز أن يطبقوا على ترك المعارضة ، وهم قادرون عليها ، لأنه لا يجوز على العدد الكثير من العقلاء والدهاة ، والحلماء مع اختلاف عللهم ، وبعد همهم ، وشدة عداواتهم الإطباق على بذل الكثير ، وصون اليسير». (٨)
على أن الجاحظ هو الذى فتق أكمام الحديث عن الأسلوب القرآنى ، وبيّن من سماته ما جعله الكثيرون مصدرا أولا للإعجاز القرآنى ، فقد نظر الرجل إلى ألفاظ القرآن ومعانيه ليهتدى إلى فطن بارعة فى التحليل والاستنتاج كانت عون البلاغيين فى كثير مما كتبوه عن اللفظ والجملة والصورة ، فما تحدث البلغاء عن فصاحة الكلمة وفصاحة الكلام ، وأسرار الحذف والذكر ، ومواضع الإيجاز والإطناب ، وجمال التشبيه