الإيجاز بحذف التّراكيب
هذا النوع من الإيجاز هو أعلى درجاته وصوره ؛ لأن المحذوف فيه أكثر من الجملة ، الواحدة ، فقد يكون المحذوف جملتين أو ثلاثا أو أكثر.
وله حد أدنى ، وهو حذف جملتين ، وأما حده الأعلى فغير منضبط فى عدد معين من الجمل أو التركيب ، وبعض البلاغيين يسمى صور الجمل التى يعتريها الحذف أنها جمل ذكرها غير مفيد ؛ لأن معناها يدرك وهى محذوفة فيكون ذكرها غير محتاج إليه (١).
وهذا النوع من الإيجاز له ورود مستفيض فى القرآن الكريم ، ومن ذلك قوله تعالى :
(قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) (٢). القائل : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) هو مريم رضى الله عنها حين بشرها الملك بعيسى عليهالسلام ، وقد اشتملت هذه الآية على إيجاز بالحذف ، كان المحذوف فيه جملتين.
لأن قوله تعالى : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا) تعليل معلله محذوف ، أو سبب مسببه محذوف والتقدير :
«فعلنا هذا وقدرناه لنجعله آية للناس.
ودليل الحذف هو ذكر السبب ، وهو يقتضى مسببا ؛ لأن بين السبب والمسبب تلازما فى الوجود ، وذكر أحدهما يدل على الآخر المحذوف.
أما الداعى البلاغى ، فهو ـ كما تقدم مرات ـ إحكام العبارة ونفى الفضول عنها ومن ذلك قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) (٣). فى الآية إيجاز بحذف أكثر من جملة ، والتقدير :
«لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل (٤).
والدليل على هذا الحذف هو قوله تعالى :
(أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) فحذف من الأول ، لدلالة الثانى عليه والبلاغيون يسمون هذا الحذف :
«الاحتباك» وله صورة أخرى ، وهى : أن يكون الحذف من الأول لدلالة الثانى عليه (٥) وفى