فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥))
(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (٢) : أقسم الحق سبحانه بإشارة الألف إلى استواء فردانية أزليته على قلوب المفردين من أهل التفريد ، وبإشارة اللام إلى كشف جماله للأرواح العاشقين الذين استقاموا مع الله بنعت التجريد ، وبإشارة الميم إلى محبة القدمية السابقة لسباق المحبين الذين استغرقوا في بحار التوحيد أنه تعالى لا يدفع من ادّعى محبته ومعرفته في مقام وصاله ، وكشف جماله في الدنيا بوصف السرمدية إلا ويبتليهم بعد التجلي بالاستتار وبعد كشف الأنوار بتعذيب الأسرار ؛ لاستيفاء حق الربوبية من العبودية وغيرة الأزلية على كون الحدث بالأسامي والنعوت في نعوته الأبدية.
قال ابن عطاء : ظن الحق أنهم يتركون مع دعاوى المحبة ، ولا يطالبون بحقائقها ، وحقائق المحبة هي صبّ البلاء على المحب وتلذذه بالبلاء ، فبلاء يلحق جسده ، وبلاء يلحق قلبه ، وبلاء يلحق سره ، وبلاء يلحق روحه ، وبلاء النفس في الظاهر الأمراض والمحن ، وفي الحقيقة منعها عن القيام بخدمة القوي العزيز بعد مخاطبته إياه بقوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، وبلاء القلب تراكم الشوق ومراعاة ما يرد عليه في الوقت بعد الوقت من ربه والمحافظة على أحواله مع الحرمة والهيبة ، وبلاء السر هو المقام مع من لا مقام للخلق معه والرجوع إلى من لا وصول للخلق إليه ، وبلاء الروح الحصول في القبضة والابتلاء بالمشاهدة ، وهذا ما لا طاقة لأحد فيه ، ثم بيّن سبحانه أنه لا ينجو أحد من الأولين والآخرين من دركات الامتحان بقوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (٣) ، ميز بالتبوء بين الصادق والكاذب ؛ فتبين شكر الشاكرين في النعمة وصبر الصابرين في المحنة ودعوى الكاذبين بفرارهم عن البلاء والطاعة.
قال ابن عطاء : يتبين صدق العبد من كذبه في أوقات الرخاء والبلاء ، من شكر في أيام الرخاء وصبر في أيام البلاء فهو من الصادقين ، ومن بطر في أيام الرخاء وجزع في أيام البلاء فهو من الكاذبين ، ثم بيّن سبحانه أن الذين عاشوا في البطالة لم يبلغوا منازل الصديقين بالتمني والتجلي وأبواب مقادير سعادة الآزال مسدودة عليهم ، أيحسبون أن ينقضوا قضيات الحق السالفة فيهم بوصف الشقاوة والطرد والقطيعة ، ويبدلوها بقضياته السابقة بنعت الاصطفائية في حق المحبين المطيعين؟! كلا ليس كما يحسبون ؛ فإن أحكام الأزلية مقدسة من