(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥))
قوله تعالى : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) : لمّا تمكّن الأعداء في شرّ نفوسهم لم يحتسبوا أن الله سبحانه يقلعهم عن ذلك ، ويخذلهم بنفسه ، وذلك أضراب جسام قهريات في ظهور عظمته على وجودهم ، فاستأصلهم من حيث لا يعرفون ، كقوله : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) ، أتاهم بكشف نعت قهر عظمته عن طريق الأزل الذي أنسه سبيله عن إدراك عقول الغفلة ، ولو رأوه بلسان العظمة هان عليهم المصائب ، لكن ليسوا من أهل معرفته ، فقهرهم بقهر عزته ، فأتاهم ، ولم يروه ، ولم يعرفوه ، ولم يجدوا منه إلا مسّ قهره في قلوبهم ، بقوله : (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) ، فحجبهم الرعب عن مشاهدته ، وذلك الرعب أورث لهم تخريب قلوبهم بمعول الضلالة والغباوة ، فلما وجدوا طعم الرعب هربوا من سلطنته ، كشف العظمة ، وسقطوا في أودية الأهواء وظلماتها ، وهذه سنّة الله على من أدبر عنه بعد الإقبال عليه ، يعذّبهم بنفسه كما هداهم إليه بنفسه ، وهذه أعظم العقوبة ، ألا ترى إلى قوله : (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) ، وفيه إشارة عين الجمع ؛ لأن إتيان حبيبه إليهم هو إتيانه ، فبذلك خوّف العباد المعتبرين بمثل هذه المكريات القهريات ، بقوله : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) : يا أولي المعرفة بي والأبصار والبصيرة التي هي منوّرة بكحل نور مشاهدتي ، وخافوني إن كنتم عارفون بي ، وهذا كما قال : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ)
قال سهل في قوله : (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) أي : قلوبهم بالبدع يا أولي الفهم والعقل عن الله.
قال يحيى بن معاذ : من يعتبر بالمعاينة لم ينتفع بالموعظة ، ومن اعتبر بالمعاينة استغنى عن الموعظة ، قال الله : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ.)