(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) : بيّن الله سبحانه في أول هذه السورة مقام الانبساط حيث انبسطت المجادلة مع الحبيب ، ثم استحسن الله انبساطها ومجادلتها حين خلصت من الالتفات على غيره بقوله : (وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) أي : لا إلى غير الله ومنزل الشكوى مقام النجوى وبين النجوى والشكوى انبسطت إلى المولى ، ثم زاد الكرم في إظهار فضله عليها حين سمع كلامها وأجابها بخطابه ، فأين أنت من مقام الشكوى عنه عنده به له عليه ، والنجوى في السر وسر السر وبث الحزن والعربدة في الانبساط حتى يسمع منك سبحانه نجواك وانبساطك ، وأعطاك سؤلك ومأمولك أنه سبحانه إذا اصطفى عبدا من عبيده لا ينظر إلى ضعفه وكسبه ونسبه وسببه وحسنه وقبحه وعمله وعلمه ، وأنه رجل أو امرأة ، بل ينظر إلى أسراره المنبسطة على بساط الربوبية بنعت الذلّ والخضوع ، وينظر إلى طلبات سره وهيجان قلبه وحركات روحه ، وتوجهه إليه بنعت الإقبال عليه ، فيقبله بحسن إقباله ، ويراعيه بكشف مشاهدته ، ويصرف عنه هجوم عساكر قهر امتحانه ويومئ قلبه إلى قرب قربه ومعادن جوده ، فيملأ من نور العرفان ، وسنا الإيقان وضياء الإيمان ، ويطيبه بطيب محبته حتى يطير بجناح لطفه في هواء هويته وبساتين مشاهدته ، فيجتني من أشجار حقائقها ثمرات الزلفات والمداناة ، فيقوى بها في حمل واردات التجلّي والتدلّي.
قال الأستاذ : لما صدقت في شكواها إلى الله ، وأيست من استكشاف ضرها من غير الله أنزل الله في شأنها هذه الآية.
(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦))
قوله تعالى : (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) : أخبر الله سبحانه عن عظيم إحاطته بالضمائر والخاطر وذرّات الوجود من الأزل إلى الأبد بحيث لا يعزب عن عمله وإحاطته مثقال ذرة في السماوات والأرض.
قال الله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) : شاهد الأشياء بعلمه الذي شاهده كينونتها في الأزل ، فأوعد العباد ، وحذرهم في مراقبته من اطلاعه بما كان وما يكون ، وبيّن غفلة العباد عن ذلك ؛ حيث نسوا ما فعلوا ، وما حاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا.
قال بعضهم : من نسى جرائمه ، ولم يكثر عليها بكاؤه ، ولم يتأسف عليها بالندم ، وطلب التوبة فقد ضيّع عمره ؛ لأن الله أحصى عليه أعماله وسيرتها إياه في المشهد الأعظم حين لا ينفع توبة تائب ، ولا يسمع دعاء داع ، ولا يقبل معذرة معتذر ، قال الله : (أَحْصاهُ اللهُ