فلما عكس عليهم سناء التنزيه وباشر ذلك سناء وجودهم في إيجادهم تلطفوا بلطفه ، واستلذّوا تلك المباشرة ، وفرحوا بوجدانها ، وسكروا بحلاوتها ، فكادوا أن يدّعون الربوبية ، وذلك سرّ النفس التي سترها في النفس الأمّارة ، وذلك ظهر الفراعنة ، فادّعوا الربوبية ؛ لغلبتها على هواهم ، ومن لم يغلب عليه ذلك لم يدّع ، ولكن ذلك السر مخفيّ في نفسه ، فلما علم الحق منهم ذلك حذّرهم منه بقوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) : أعلمهم أن ما هو عليهم كسوة الربوبية العارية لهم ، فلما ارتفعت الكسوة بقوا في رقّ عبودية الخالق الفرد المنزّه عن مباشرة الخليقة ، أي : لا تظنوا أنها لكم ، فذلك لي حقيقة أزلية إلى أبد الأبد ، كيف لا يكونون عابديه ، وهم في قبضة عزته تكوّنوا وما يجري عليهم بغير اختيارهم ، وهم بذلك مجبورون ، فإذا صحت عبوديتهم ؛ لأن حركاتهم وسكناتهم تقع على وفق مشيئته الأزلية ، فذلك منهم عين العبودية ؛ إذ لا إرادة لهم في حركاتهم وسكناتهم ودخولهم وخروجهم وأنفاسهم وخواطرهم ، فما يظهر منهم فهو محض إرادته القديمة ، ما أراد منهم في الأزل فيكون منهم يظهر وهذا عين العبودية ؛ إذ قامت بمشيئته الكائنات والحركات والسكنات لا بذواتها ، فمن عرف نفسه بالعبودية فقد عرف ربه بالربوبية ، ثم بعد ذلك لا يكون منهم نفس ولا حركة إلا ويكون ساقطا في مشاهد ربوبيته ، فبقي الحق هناك ، ولم يبق العبد في البين ، قال الله سبحانه : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) : يا فهم إذا أمر لسان الأزل يكون لا شيء فتكون بأمره ، وإذا ناداه من بطنان الأزل ودعاه من غيب العدم كيف لا يجيب المكون وهو تعالى سابق بعلمه في الأزل في وجود ذلك المكون ، فإذا أجاب المكوّن المكوّن بكل مادة إما مستحسنا في الظاهر وإما مستقبحا فإن استقباحه واستحسانه يكون بالإضافة إلى الخلق ، وإلا في عين المشيئة كلها مستحسن تكون محض العبودية لربوبية الحق ، وإن خرج في لباس المخالفة من حيث الرسوم ، ومن عرف ما ذكرنا من عين التوحيد قد سقط عن عينه جهد الجاهدين وتكلف السالكين ، وتحير في قبضة الجبروت ، واستغرق في بحار الملكوت ، لا يكون منه نفس إلا ويخرج بشرط الرضا ، ولا يتحرك إلا بوفق الوفاء ، ولا ينظر إلا بحقيقة الصفاء.
قال جعفر : إلا ليعرفوني ، ثم ليعبدوني على بساط المعرفة ؛ ليتبرأوا من الرياء والسمعة.
وقال ابن عطاء : إلا ليعرفوني ، ولا يعرف حقيقته من وصفه بما لا يليق به.
قال الواحدي : مذهب أهل المعاني في ذلك ألا يخضعوا لي ويتذللوا ، ومعنى العبادة في اللغة الذل والانقياد ، وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله ، مذلل بمشيئته ، خلقه على ما أراد ، ورزقه كما قضى ، لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق عليه.