قوله تعالى : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) : زاد تذكير نعمه على عباده بأن نزّل من سماء قربه مياه المعرفة ، ونور المشاهدة ، وبيان المكاشفة على قلوب المقبلين إليه ، وأنبت فيها نبات العقول والعلوم والحكم والمعارف قوة للمريدين وقوتا لقلوب الطالبين ، قال الله تعالى : (رِزْقاً لِلْعِبادِ.)
قال ابن عطاء : أنزلنا من السماء الفهم والعلم والمعرفة ، فربينا بها قلوب أولى الألباب وأهل المعرفة والفهم ، فهو الخطاب ، واستعملوه ، وألبسوا به ، واتبعوه ، فأنبت الله بذلك الماء في قلوبهم معرفته ، وعلى لسانهم ذكره ، وعلى جوارحهم خدمته : (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠))
(وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) : أراد الله سبحانه ظهور نفسه لعشاقه ، فخلق آدم على ما كان في علمه ، ثم أظهر منه ما غاب عن الوجود من نور غيبه ، وبيّن أنه عالم بما يجري في سره وما توسوس به نفسه ، وكيف يخفى عليه ما خلقه ، وهو مبدئه بجوده ، جلّت عظمته من أن تخفى عليه ذرة من العرش إلى الثرى ، ألا ترى أوّل الخطاب كيف قال : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) ، ذكر الخلق ليعلم المخاطب أن ما توسوس به نفسه أيضا هو مخلوقه ، وتحقيق الإشارة ودقائق الرمز بيان فيه أن نفسه هو ، فيظهر ما كان في مكمن مقاديره الغيبية ، ولو يرى الإنسان نفسه ، فيرى هو أنه نفسه ، ألا ترى كيف أخبر عن كمال قربه بنعت الاتحاد بقوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ؛ ولذلك قال سيد المرسلين صلىاللهعليهوسلم : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» (١) ؛ إذ لا نفس إلا هو إن فهمت ما قلت وإلا فاعلم أن الفعل قائم بالصفة ، والصفة قائمة بالذات ، فمن حيث عين الجمع ما هو إلا هو ، ولا تظن الحلول ؛ فإنه بذاته وصفاته منزّه عن أن يكون له محل في الحوادث ، هذا رمز العاشقين ، ألا ترى إلى قول مجنون العشق الإلهي :
أنا من أهوى ومن أهوى أنا |
|
نحن روحان حللنا بدنا |
__________________
(١) رواه أبو نعيم في الحلية (١٠ / ٢٠٨).