وجنة العقول بستان العرفان ، وجنة الأرواح حديقة البيان ، وجنة الأسرار فردوس العيان ، ولكل جنة منها نهر وشجر وثمر وزهر ، فنهر جنة القلوب ماء حياة الأزل التي تجري بنعت التجلي فيها من عيون الوحدانية ، وهو لا يتغير بكدورات البشرية ، يحيى القلوب بنور اليقين حتى لا يجري عليها موت الجهالة ، وأشجارها أشجار الإيمان ، وثمرها أنوار الإيقان ، ونهر جنة العقول من ألبان القدرة يسقيها الحق منه ؛ ليريها لصفاء أنوار قدرته التي يورث معرفتها بعزته وجلال قدرته وأشجارها الحكمة وأزهارها الفطنة ، ونهر جنة الأرواح نهر كشف الجمال الذي مورده بحر الجلال ، يسقيها الحق منه ليطيبها بلذة الجمال ورؤية الجلال ، وأشجارها المحبة ، وأزهارها الشوق ، وأثمارها العشق ، ونهر جنة الأسرار كشوف الذات المقدس عن انقطاع فيضه المسرمد ، فيقويها الحق بشربة حتى استقامت في وصله ، فهناك أشجارها التوحيد ، وأزهارها التفريد ، وأثمارها التحقيق ، فأصحاب القلوب هم أهل الشهود ، وأصحاب العقول هم أهل الكشوف ، وأصحاب الأرواح هم أهل السكر والوجود ، وأصحاب الأسرار هم أهل المحو والصحو ، فأهل الشهود أصحاب المراقبات ، وأهل الكشوف أهل المقامات ، وأهل الوجود أهل الحالات ، وأهل المحو والصحو أهل الاستقامة ، فطوبى لمن كان له مثل هذه الجنان في دار الامتحان. قال الأستاذ : اليوم للأولياء لهم شراب الوفاء ، ثم شراب الصفة ، ثم شراب الولاء ، ثم شراب في حال اللقاء ، ولكل من هذه الأشربة عمل ، ولصاحبه سكر وصحو ، فمن شرب بكأس الوفاء لم ينظر في غيبته إلى غيره ، كما قيل :
وما سرّ صدري منذ شطت بك النّوى |
|
أنيس ولا كأس ولا متصرف |
ومن شرب بكأس الصفاء خلص له عن كل شرب وكدورة في عهده ، فهو في كل وقت صاف عن نفسه ، خال من مطالبته ، قائم به بلا شغل في الدنيا والآخرة ، ولا أرب ، ومن شرب بكأس الولاء عدم فيه القرار ، ولم يغب سره لحظة لا الليل ولا النهار ، ومن شرب في حال اللقاء أنس على الدوام بقائه ، فلم يطلب مع بقائه شيئا آخر لا من عطائه ولا من لقائه ؛ لاستهلاكه في علائه عند سطوات كبريائه.
(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨))
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) أي : الذين اهتدوا بنور الله سبل الوصول إلى المشاهدة لله ، وطلبوا عرفانه بنية صادقة ، وقلوب شائقة راسخة ، وعقول صافية ، وأسرار طاهرة زادهم الله هدى ، بأنه يعرّفهم طرق معارف صفاته ،