قال القاسم : أتصبرون عن نظر بعضكم إلى بعض كأنه أمر بالإعراض عما جعل في نظره فتنة ، ويدل عليه قوله : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) (١) [الحجر : ٨٨].
وقال الحسين : كسا كل شيء كسوة فانية لا ينفك عنها إلا من عصمة الله ، وهو اضطرار في الأحوال لا اختبار في التلذذ بالشواهد والأعراض.
وقال الواسطي : ما أوجد موجودا إلا لفتنة ، وما أفقد مفقود إلا لفتنة ، قال الله : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً.)
(وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧))
قوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٢٣) أخبر سبحانه عن العمال ، وأعمالهم التي عملوها بالرياء والسمعة ، واستحسانهم ذلك من قصور نظرهم عن إدراك تنزيه ساحة كبرياء الحق الذي بوجوده مستغنى عن الكون وأهله ؛ فلما استكثروها صارت هباء منثورا برياح الشرك والرياء أين هم من خوالص عبودية العارفين حتى تفنى عند ظهور عظمته وجلاله ؛ فرفعها الحق عن أعينهم ، وبقي في عيونهم أنوار عزته وجلال عظمته.
قال ابن عطاء : أطلعناهم على أعمالهم ؛ فطالعوها بعين الرضا فسقطوا عن أعيننا بذلك ، وجعلنا أعمالهم هباء منثورا.
ثم أخبر سبحانه عن مقامات المخلصين في طاعته في جوار جلاله بقول الله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) يعني أصحاب جنان المشاهدة في مستقر الوصلة ، ومقيل المداناة في ظلال الجمال والجلال أبدا بلا تحويل ولا تبديل.
قال بعضهم : في دار القرار على ميعاد لقاء الجبار من غير خوف ولا زوال ، وأحسن مقيلا استرواحا.
__________________
(١) قال ابن عجيبة : لا تمدن عينيك إلى شهود الحس ، ولا إلى ما متعنا به أصنافا من أهل الحس ، الواققين مع شهود الحس ؛ فإن ذلك يحجبك عن شهود المعاني القائمة بالأواني ، بل المفنية للأواني عند سطوع المعاني ، ولا تحزن عليهم حيث رأيتهم منهمكين في الحس ؛ فإن قيام عالم الحكمة لا يكون إلا بوجود أهل الحس ، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين بخصوصيتك ، البحر المديد (٣ / ٢٤٢).